فترى من ذلك أن «ثاكري» لم يكد يوسع من نطاق القصة شيئا، وكل فضله عليها أنه ثبت لها عناصرها الواقعية، وأضاف إليها هذه القبسات الخيالية، التي تلمع بين صفحاتها آنا بعد آن. أما من وجه القصة توجيها جديدا تحتفظ فيه بواقعيتها، وتضيف إلى تلك الواقعية رحابا فسيحة من الخيال، فأخوات ثلاث: «إملي» و«شارلوت» و«آن»، وينسبن إلى أسرتهن «برونتي»؛ فقد جعلن موضوع القصة ما يألفه الناس جميعا من شئون الحياة، لكنهن يخترنه بحيث يصلح، مع ذلك، لأن يحتمل أغرب النواحي وأبعثها على الدهشة والعجب، فموضوع القصة عندهن هو العاطفة الإنسانية، لا كما تبدو في المدينة التي تزخر بأوجه الحضارة، بل في الريف وسهول الرعي التي تقف من المدينة عند هامشها، فهي متصلة بالحضارة منفصلة عنها في آن معا، تتصل بها اتصالا بعيدا لا يغمسها في لجتها، ولا يجعلها في عزلة تامة عنها. لقد اختار الشعراء في أوائل القرن التاسع عشر موضوعات لقصائدهم من الريف النائي؛ لكي يجدوا الطبيعة البشرية على صفائها ونقائها، ولكن الريف النائي عن ألوان الحضارة لا يصلح للقصة الواقعية، فتوسط «أخوات برونتي» بين الطرفين، ووقعن على حياة ريفية لا تتصل بحياة المدينة الصناعية اتصالا تاما، ولا تنفصل عنها انفصالا تاما. والعاطفة عند «أخوات برونتي» هي لب الحياة وصميمها؛ فهي من مقدمات الإنسان كائنا من كان، تكمن في كل منا ولا تنفك شديدة الصلة بنفوسنا، هي معنا في الدار والمصنع والملهى، فهي عنصر مألوف لا غرابة فيه ولا شذوذ، لكنها في الوقت نفسه قابلة للثوران العنيف، فتبدي فيه أعجب القوى. هذه العاطفة هي أهم جوانب الطبيعة البشرية غير العاقلة، والجانب غير العاقل من الإنسان، هو بذرة العنصر الخيالي في الحكاية القديمة، وهو ما كان أصحاب القصة في القرن التاسع عشر يحاولون أن يضعوه مع العنصر الواقعي جنبا إلى جنب. فالعاطفة - إذا - تستطيع أن تشبع رغبة الإنسان في الصورة الواقعية، ورغبته في فتنة الخيال سواء بسواء. وهكذا شق أخوات برونتي طريقا جديدا في تاريخ القصة ، إذ أدرنها حول العاطفة الإنسانية، ولهن قصص - منها «جين أير» و«مرتفعات وذرنج» - تبدأ في القصة عصرا جديدا. ولك أن تقول وأنت بمنجاة من الزلل، إن الشطر الأعظم من الأدب القصصي منذ أيامهن، مدين لقصص هؤلاء الأخوات بما فيه من قوة العاطفة.
ولسنا بالطبع نعني أن العواطف البشرية، لم تدخل القصة إلا على أيدي أخوات برونتي، فنحن نعلم أنه حيثما كان إنسان كانت عاطفة بشرية، أما ما صنعنه في القصة، ولم يكن قبلهن معروفا ولا محققا، فهو مقدار ما يكمن في عاطفة الشخص العادي، من قوة وقدرة على الخيال والسحر. ولم تكن الغضبات العاطفية قبل هؤلاء الكاتبات، تتجلى إلا في الشواذ، ولكنهن جئن فبين هذه القوة في أوساط الناس وعامتهم. نعم كانت العاطفة قبلهن أداة يستغلها القصصيون؛ فمعظم القصص يدور حول الحب، ولكن ذلك لا ينفي ما زعمناه لهن من مكانة؛ لأن الكثرة العظمى ممن جاء قبلهن، عالج عاطفة الحب في وجهها العاطفي الخيالي، وعالجها الآخرون من حيث هي عنصر في بناء الأسرة، أي أنهم عالجوها من جانبها الواقعي، فكاد أخوات برونتي أن يكن أول من وحد بين هذين الجانبين، فعالجن عاطفة الحب من وجهيها الخيالي والواقعي في آن معا، فضلا عن أنهن تناولن ألوانا أخرى من العواطف البشرية، فأظهرن ما لها من قوة توجه الإنسان في حياته.
وسنختم هذا الفصل بكلمة نوضح بها ما نريده بلفظة «الواقعية» التي طال ترديدها، لا سيما وقد فسرت جماعة من قادة الأدب القصصي في عصرنا الحاضر هذه الكلمة تفسيرا عجيبا، فراحوا يحشدون حوادث القصة في خلط وفوضى، لتجيء قصتهم مطابقة للحياة؛ لأن حوادث الحياة لا تسير على نظام معلوم، تراهم لا يجعلون لقصتهم بداية ولا نهاية؛ لأن الحياة لا تبدأ عند نقطة وتنتهي عند أخرى، ولا بد لهم أن يصوروا الواقع في قصصهم ما داموا يؤمنون بالواقعية، فيضعون حقيقة في إثر حقيقة، لا تربطهما صلة؛ لأن حقائق الحياة تتتابع على هذا النحو بغير صلة لازمة بين السابقة واللاحقة. ومن هذا القبيل أيضا ما يتجه إليه بعض رجال القصة المعاصرين ، من سوق حكايات قصيرة متعاقبة، أو محادثات متقطعة تفصل بينها الفواصل، وقد بلغ هذا الاتجاه الجديد في القصة، أبلغ مداه عند «جويس»
Joyce
و«مس رتشردسن»، فتراهما يخرجان القصة في خلط عجيب، زاعمين أنهما يصوران الحياة تصويرا واقعيا. والحقيقة أننا نطالب كاتب القصة بأن يترك في نفوسنا، بقصته أثرا نحس معه واقعية الحياة، لكن ذلك لا يعني أن يترك فينا هذا الأثر، على نفس الصورة التي تتركه بها الحياة نفسها؛ ففي القصة يجب أن يتلقى القارئ هذا الأثر، وهو شاعر به مدرك له، أما في الحياة نفسها بما فيها من اضطراب في تتابع للحوادث، ومجال للمصادفة العمياء في سيرها، فإننا لا نحس الأشياء، إلا إحساسا غامضا مهوشا مضطربا، ونشعر بها شعورا ناقصا، وندركها إدراكا ليس فيه كل الوعي لصفاتها وخصائصها، كأننا نتلقاها ونحن غافلون. وواجب القصة أن تقدم لنا هذه الأشياء، على صورة تشعرنا بها شعورا كاملا قويا، واجب القصصي أن يخلق من فوضى الحياة نظاما متسقا في قصته، وإن ما نسميه بالحبكة القصصية، ما هو إلا عملية اختيار وتقديم وتأخير للحوادث، فالقصصي يختار الحوادث الصالحة، ويضع هذه قبل تلك وتلك قبل هذه، بحيث يجيء السياق والتتابع موفيا بالغرض المقصود. ولو خلت القصة من «الحبكة» لم تعد قصة فنية، ولو كان لنا أن نختم هذا الفصل بنصح نسديه للقارئ، فذاك أن نوصيه بقراءة قصة إنجليزية حديثة لجولز ورذي، عنوانها «فورسايت ساجا»
Forsyte Sega ، وهي تدور كلها حول أسرة تسمى بهذا الاسم، تصف حياتها وتصور أشخاصها، ففي هذه القصة تتمثل كل عناصر القصة الفنية، التي أشرنا إليها فيما سلف.
الفصل الخامس
الرواية المسرحية
الرواية المسرحية كالقصة؛ ضرب من ضروب الأدب، لأن الألفاظ وسيلتها إلى التصوير، لكن ظروف الألفاظ في الرواية المسرحية تختلف عنها في القصة، وأول ما يلمحه النظر بينهما من فروق، هو أن المسرحية تكتب لتمثل، وأما القصة فتكتب لتقرأ، أو بعبارة أخرى، المسرحية والقصة كلتاهما تمثلان «أفعالا»، لكن الأفعال التي تصلح الرواية المسرحية لتصويرها، تختلف عن الأفعال التي تصلح لها القصة؛ ذلك لأن لكل فن مجاله، الذي تتجلى فيه قدرته وروعته، فما الذي تتميز به المسرحية من سائر فنون الأدب؟ ما خامتها وما مداها في قوة التعبير؟
أما طابعها المميز فهو بغير شك أنها أدب يراد به التمثيل، لكن التمثيل متعدد العناصر، فيه الممثلون وفيه الملابس، وفيه المسرح، وفيه المناظر، وفيه النظارة وفيه البناء الذي يجتمع فيه النظارة ليشاهدوه، فكل هؤلاء عناصر تتكون من مجموعها الخامة التي تتألف منها المسرحية، فإذا ما تضافرت هذه العناصر كلها في اتساق وانسجام، كان لنا بذلك نتاج فني من الطراز الأول، وعلامة المسرحية الرديئة أن ترى هذه العناصر متنافرة، يضرب كل منها على وتر غير ما يضرب عليه الآخر، أو بعبارة أخرى يفصح كل منها عن قوته المعبرة مستقلا عن سواه، وتلك هي الحال حين تأخذ صورة جديدة من المسرحية في التكون، فعندئذ تكون هذه العناصر في تنافرها، وكلما سارت الصورة الفنية الجديدة خطوة في مجرى تطورها، تحللت العناصر وتداخل بعضها في بعض، بحيث يتكون منها في النهاية صوت واحد متناغم النبرات، وهنا يتكامل للمسرحية الجديدة تكوينها، والفنان البارع هو الذي أرهف حسه لعناصر فنه، بحيث يدرك من فوره كيف يستطيع أن يستغل تلك العناصر إلى أقصى مداها. وأما من لم يهبه الله ملكة الفن الصحيح، فيعمى عن القوة الكامنة في عناصر فنه، ومن ثم لا يسعه استغلالها وإخراجها، فيجيء إنتاجه خلقا شائها ناقص التكوين مبتور الأعضاء. ولعلك تذكر حديث المقطوعة الأربع عشرية، وكيف تطورت هذه المقطوعة في الأدب الإنجليزي، وكيف كان الشعراء الإنجليز بادئ الأمر يحسون رغبة غامضة، ولا يجدون لها التعبير الملائم، حتى قيض الله لعبقري أن يحس الرغبة عينها، وأن يعبر عنها في هذه المقطوعة بأوزانها وقوافيها، تعبيرا تنفث فيه النفس كل ما يجيش بها، فتبعه الشعراء جميعا، وهكذا توجد العناصر اللازمة، وتظل متنافرة فيكون النقص والعجز، حتى إذا ما أتيح لها من يوفق بينها ويضعها في مواضعها الصحيحة، بحيث تتفق وتتسق كان لها الكمال، وهذا ما يحدث في كل خلق فني جديد .
صفحة غير معروفة