فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة
الناشر
دار الفكر
رقم الإصدار
الخامسة والعشرون
سنة النشر
١٤٢٦ هـ
مكان النشر
دمشق
تصانيف
وأنت خبير أن رسول الله ﷺ لما استبشر بما رآه مرة من دلائل إقبال بعض زعماء قريش على فهم الدين، انصرف إليهم بكليته مبتهجا يكلمهم ويشرح لهم ما يستفسرون عنه من حقائق الإسلام، حتى دعاه ذلك الاستبشار والطمع في هدايتهم إلى أن يعرض عن الصحابي الضرير عبد الله بن أم مكتوم حينما مرّ بهم فوقف إلى جانبهم يستمع، وأخذ هو الآخر يسأل رسول الله ﷺ، وكان ذلك منه ﵊ حرصا على الفرصة أن لا تفوته وأملا في أن يجيب عبد الله بن أم مكتوم في أي وقت آخر.
فعاتبه الله على ذلك في سورة: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى [عبس ٨٠/ ١، ٢]، وأنكر عليه اجتهاده هذا، وإن كانت غايته مشروعة ونبيلة، ذلك لأن الوسيلة قد انطوت على كسر خاطر مسلم أو ما يدل على الإعراض عنه وعدم الالتفات إليه من أجل اجتذاب قلوب المشركين.
فهي ليست بمشروعة ولا مقبولة.
والخلاصة، أنه ليس لأحد من الناس أن يغير شيئا من أحكام الإسلام ومبادئه، أو يتجاوز شيئا من حدوده أو يستهين بها، باسم اتباع الحكمة في النصيحة والدعوة، لأن الحكمة لا تعتبر حكمة إلا إذا كانت مقيدة ومنضبطة ضمن حدود الشريعة ومبادئها وأخلاقها.
الدلالة الثالثة: ونستفيدها من موقف الرسول ﵊ من تلك المطالب التي طلبتها قريش منه ﷺ شرطا لاتباعها له. وهو موقف أيده الله فيه، ففيه- كما ذكر عامة المفسرين- نزل قوله تعالى: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيرًا، أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا
[الإسراء ١٧/ ٩٠- ٩٣] .
وليس السبب في عدم استجابة الله لهم ذلك، ما قد يظنه البعض من أن الرسول ﷺ ما أوتي من المعجزات إلا معجزة القرآن، ولذلك لم تستجب لهم مطالبهم، وإنما السبب أن الله ﷿ علم أنهم إنما يطالبون بذلك كفرا وعنادا وإمعانا في الاستهزاء بالنبي ﷺ، كما هو واضح في أسلوب طلبهم ونوع المطالب التي عرضوها. ولو علم الله ﷿ فيهم صدق الطلب وحسن النية وأنهم مقبلون في ذلك على محاولة التأكد من صدق النبي ﵊، لحقق لهم ذلك. ولكن أمر قريش في ذلك مطابق لما وصفه الله تعالى في آية أخرى وهي قوله: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بابًا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الحجر ١٥/ ١٤، ١٥]، وإذا علمت ذلك، أدركت أنه لا تنافي بين هذا وما ثبت من إكرام الله لنبيه ﵊ بالمعجزات الكثيرة المختلفة مما سنفصل القول فيه قريبا إن شاء الله.
1 / 85