فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة
الناشر
دار الفكر
رقم الإصدار
الخامسة والعشرون
سنة النشر
١٤٢٦ هـ
مكان النشر
دمشق
تصانيف
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربّنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأسأل الله أن يهدينا سواء صراطه المستقيم.
1 / 5
مقدمة الطبعة الجديدة
قيّض الله لهذا الكتاب من الانتشار ومن إقبال الناس عليه، ما لم يقيضه لأيّ من الكتب الأخرى التي وفقني الله لتأليفها وإخراجها.
ومرد ذلك، في يقيني، إلى المنهج الذي سلكته في كتابة السيرة النّبوية، والذي تضمن تصحيحا للأخطاء، بل للانحرافات، التي وقع فيها كثير من الكتّاب العصريين، لا سيما أولئك الذين يتعاملون مع الشعار العصري المشبوه: (قراءة معاصرة) .
ولقد تحدثت عن هذه الأخطاء وعن العوامل الخفية والمصطنعة التي أدت إليها، كما تحدثت عن المنهج العلمي الذي يجب أن يتبع في كتابة السيرة النّبوية، مقارنا بالمدارس والمناهج الأخرى، وذلك في فصل أضفته، في إحدى الطبعات الأخيرة لهذا الكتاب، إلى المقدّمات الهامة التي افتتحته بها؛ وعنوانه (السّيرة النّبوية، كيف تطورت دراستها وكيف يجب فهمها اليوم) .
كثيرون هم الذين حلّلوا حياة رسول الله ﷺ في كتاباتهم، على أنها عظمة إنسانية مجردة، كالتي اتّصف بها كثير من القادة والرجال الذين خلوا من قبله وجاؤوا من بعده؛ وكثيرون هم الذين أصرّوا على أن يفهموا الناس أن الفتح الإسلامي الذي قاده رسول الله؛ إنما هو ثورة يسار اقتصادي ضدّ يمين متطرف! .. وكثيرون هم الذين أوهموا الناس، أو حاولوا أن يوهموهم، أن الدوافع الخفية التي قادت رسول الله ومن معه إلى ما صنع، إنما تتمثل في الرغبة الطامحة إلى نقل الزعامة والسيادة من أيدي الأعاجم إلى أيدي العرب. وجنّدت لهذه الأغراض أقلام، ونثرت ابتغاء تحقيق ذلك أعطيات وأموال؛ ورشح مؤلف هذا الكتاب ذاته في يوم من الأيام، لسلوك هذا الطريق وكتابة سيرة رسول الله بالطريقة التي تخدم هذه الأغراض، وطلب منه ذلك مباشرة وعلانية.
غير أن التّجربة أثبتت أن كلّا من الأسلوب أو المنهج أو حوك التصورات المصطنعة، لا يقوى على تحويل الحق إلى باطل أو الباطل إلى حق. فلقد انقشعت سحب هذه الكتابات كلها، على الرغم من كثافتها، وعادت شمس الحقيقة ساطعة من ورائها كما هي. وبقي الناس عامة والمثقفون خاصة، على يقين بأن عظمة رسول الله ثمرة من ثمار نبوته، قبل أن تكون من نسيج إنسانيته. وبأن الفتح الذي تمّ على يده، كان قياما بأمر الله، ولم يكن لحاقا وراء مال.. وبأن السيادة فوق هذه الأرض- فيما علّمنا إيّاه رسول الله- إنما هي للإنسان من حيث هو، فهو
1 / 7
المستخلف عن الله، وهو المكرّم بحكم الله؛ فإن تفاوت الناس وراء هذه السيادة، فإنما يتفاوتون بالتقوى والعمل الصالح، لا بأي من الامتيازات الأخرى التي قد يتباهى بها بعض الناس.
لا جرم أن شدة إقبال الناس على ما كتبته من تصحيح لتلك الأغلاط أو الانحرافات، تعود إلى سبب واحد لا ثاني له، هو تعلّق الفطرة الإنسانية الأصيلة بالحق أينما لاح وأيّا كان المنادي به؛ وثقل الباطل عليها واشمئزازها منه، مهما كانت المغريات التي أنيط بها أو الزينة التي غمس فيها.
ولعل هذا من بعض معنى قول الله ﷿: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ، وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ.
هذا، إلى جانب ما هو بيّن واضح، من أن عقول أكثر الناس تتجه اليوم إلى البحث عن الحقيقة.. الحقيقة الصافية عن الشوائب والمتحررة من سلطان الأغراض والأسبقيات، لا سيما بعد أن ظهر للعيان كيف مني الإنسان بالمصائب الفادحة من جراء التلاعب بالحقائق والسعي إلى إخضاعها لحكم الرعونات والمصالح والأهواء. ولعل هذا من بعض العوامل الكامنة وراء ما نشاهده جميعا من الصحوة الإسلامية، على سائر الأصعدة، وبين جميع الفئات.
*** أما هذه الطبعة، فإنها تمتاز- بعد العناية التي وفقنا الله لها في التّنضيد والإخراج- بقسم سابع يتضمن بيانا موجزا للخلافة الراشدة، وقد كان لا بدّ أن نسير في ذلك على المنهج المتّبع ذاته، فنتبع الحديث عن حياة كل خليفة وأهم الأحداث التي جرت في عهده بالعبر والعظات التي تؤخذ من ذلك.
وبهذا نكون قد وفقنا لجعل هذا الكتاب مصدرا وافيا لسيرة رسول الله ﷺ وخلفائه الراشدين، مع التحليل الذي يضع القارئ أمام فقه ذلك كله، ويصله بالمعاني والمبادئ التي تعدّ ثمرة هذه الدراسة، وأهم الأغراض التي ينبغي أن تقصد من ورائها.
والفضل أولا وآخرا في هذا التوفيق لله ﷿ وحده.
كل ما أرجوه من الله ﷿، بعد أن أكرمني بهذا التوفيق، أن يزيد من إنعامه فيكرمني بالإخلاص لوجهه الكريم، ويطهّر قلبي عما دون ذلك من الدوافع والأغراض.
ويقيني الذي لا يدخله ريب، أن الأمر كله بيد الله، وأن لا حول ولا قوة إلا بالله.
دمشق ١٥ رمضان ١٤١١ هـ ١ نيسان ١٩٩١ م محمد سعيد رمضان البوطي
1 / 8
مقدمة الطبعة الثانية
١- هذه الطبعة الثانية لكتاب فقه السّيرة، أقدمها إلى الذين تعنيهم دراسة سيرة المصطفى ﷺ، ويهمهم الوقوف على فقه السّيرة ودروسها وعظاتها، بعد أن زدت في كثير من أبحاثه، وعدت بالتهذيب والتنقيح إلى بعض فصوله، رجاء أن يزداد الكتاب بذلك قربا إلى الكمال، مع اليقين بأن الكمال المطلق غاية لا تدرك، والعصمة من الزلل مستوى لا يصار إليه، اللهم إلا ما أكرم الله به من ذلك أنبياءه المقربين، فتلك مزية لهم لم تعط لغيرهم، وإنما أكرمهم الله بها لكي يتضح للناس الفرق بين من يعمل عقله في المسائل تأملا واجتهادا، وبين من أرشده الله إلى الحق فيها وحيا وإلهاما، مع ما أولاهم من العقل الكامل والبصيرة النيرة الصافية.
٢- وما كنت أتوقع، يوم ظهرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب أن تنفد نسخها في هذه المدة اليسيرة، وأن تجد ما وجدته من الإقبال في مختلف البلاد العربية والإسلامية، وإن كنت أعلم أنني قد سلكت في كتابة السّيرة النّبوية والتعليق عليها مسلكا من شأنه أن يصحح أغلاط كثير ممن كتبوا فيها في هذا العصر، وأن يميط الغشاء عن المغالطات التي كانت ولا تزال تدسها أقلام كثير من الكاتبين والمستشرقين والمستغربين وهي أغلاط ومغالطات قامت لتغذيتها ورعايتها وترويجها مدرسة فكرية معينة نشأت في أواخر القرن التاسع عشر وراحت تمد من آثارها وظلالها، إلى أيامنا هذه.
٣- ولقد أدركت، مما بلغني من حمد القراء للطريقة التي كتبت بها هذه الفصول، أن تلك المدرسة لم تعد تخدع إلا قلة من بقايا المفتونين باسمها واسم مؤسسيها ودعاتها، وأن الحقائق الناصعة في حياة المصطفى ﵊ تظل هي المشرقة السائدة، ويظل العقل الحر نزاعا إليها موقنا بها غير مطمئن إلى أي تأويل أو تحليل يهدف إلى تحويرها أو التلاعب بها.
٤- ولقد علم عامة الباحثين والمفكرين أن من أهم أسباب نشأة تلك المدرسة في حينها، ذلك الانبهار الذي أصيب به كثير من العقول العربية المسلمة من أنباء النهضة العلمية في أوربا. فقد راحت تلك العقول تتوهم- تحت تأثير ذلك الانبهار- أنه ليس بين المسلمين وبين أن ينهضوا مثل تلك النهضة إلا أن يفهموا الإسلام هنا كما فهمت أوربا النّصرانية هناك، وأن يضعوا حقائق الإسلام الغيبية من وراء اكتشافات العلوم المادية، فلا يؤمنوا بغيب لم يدركه علم، ولا يعرجوا على معجزة لم يؤيدها اكتشاف أو اختراع. فإذا فعلوا ذلك نهضوا نهضة أوربا في علومها ولحقوها في رقيها وفنونها.
1 / 9
ومن هنا أنشأ أقطاب تلك المدرسة ما زعموه (الإصلاح الديني)، والدين الصحيح ما كان يوما ليفسد حتى يحتاج إلى مصلح أو إصلاح، وكان من مظاهر هذا (الإصلاح) ظهور أول تجربة تحاول تحليل حياة الرسول ﷺ تحليلا يسير في خضوع منكسر وراء العقلية الأوربية وتحت لواء ما زعموه (العلم الحديث) . أجل فلقد كان كتاب (حياة محمد) لحسين هيكل التجربة الرائدة في هذا المضمار أعلن فيه الرجل أنه لا يريد أن يفهم حياة محمد ﵊ إلا كما يأمر به (العلم)، ولذلك فلا خوارق ولا معجزات في حياته ﵊؛ إنما هو القرآن، والقرآن فقط. وتذكر الكاتب أن يستشهد في هذا بقول البوصيري:
لم يمتحنا بما تعي العقول به ... حرصا علينا فلم نرتب ولم نهم
ونسي أن يقف عند قوله في القصيدة ذاتها:
جاءت لدعوته الأشجار ساجدة ... تمشي إليه على ساق بلا قدم
وانبرى الشيخ المراغي شيخ الأزهر إذ ذاك، يقرظ الكتاب ويبارك الخطوة الرائدة، وانطلق محمد فريد وجدي هو الآخر ينشر سلسلة مقالاته داعيا فيها إلى فهم الإسلام والسّيرة النّبوية عن طريق (العلم)، ولو اقتضى ذلك الإعراض عن الخبر الصادق الذي ثبت في الكتاب أو السّنة، وإنما كان يقصد ب (طريق العلم) أن لا يستسلم العقل للغيبيات ولا الخوارق والمعجزات وإن جاء بها الخبر الصادق المتواتر، كأن العلم إنما يتحقق بإنكار كل ما لم يقع تحت حسك وشعورك!!
٥- ومعلوم كيف استغل الاحتلال البريطاني في مصر إذ ذاك، هذا الفهم الجديد للإسلام عند طائفة من أقطاب الفكر وحملة القلم، استغله في إضعاف الوازع الديني في أفئدة المسلمين، (وأي وازع ديني يبقى في نفس من أنكر فكرة المعجزة من أساسها في الدين، وهل الدين شيء غير معجزة الوحي الإلهي إلى رسله وأنبيائه؟) فراحت التربية الاستعمارية تباعد بين المسلمين ومنهجهم الإسلامي، وتقيم بينهم وبينه منهجا آخر، كل ما فيه من المؤيدات أنه منهج أوربي عريق! ..
٦- ثم مرت الأزمنة وتوالت السّنوات، فتبيّن لكل باحث منصف، أن تلك المدرسة لم تكن على شيء من التأمل الفكري الحر ولا من البحث العلمي النّزيه، وإنما كانت ردّ فعل أثاره الانبهار والشعور بالضعف لدى طائفة من المسلمين، تهيأ لها بسبب ظروف خاصة أحاطت بها، أن تطلع على الحياة الأوربية فتستهويها زخرفها وملذّاتها، فاتّخذوا من نزوات نفوسهم حاكما مسلطا على عقولهم واصطنعوا بذلك مدرسة فكرية ظاهرها (الإصلاح الديني) وباطنها الاستخذاء النفسي والانبهار الفكري بين يدي نهضة الغرب.
1 / 10
وتبين لكل باحث أيضا أن تلك المدرسة لم تكسب أربابها ودعاتها أي نهضة علمية كالتي نهضتها أوربا كما كانوا يوهمون أو يتوهمون. كل ما جنته أيدي ذلك (الإصلاح الديني) فقدان الحقيقتين معا، فلاهم على حقيقتهم الدينية أبقوا ولا على النهضة العلمية عثروا «١» .
٧- من أجل ذلك أردت أن يكون أهم عملي في هذا الكتاب هو الإقدام على إزالة بقية الأطلال القائمة لتلك المدرسة المذكورة.
إن المسلم لا ينبغي أن يحاول لحظة واحدة، فهم حياة رسول الله ﷺ على أنه عبقري عظيم أو قائد خطير أو داهية محنّك. فمثل هذه المحاولة ليست إلا معاندة أو معابثة للحقائق الكبرى التي تزخر بها حياة محمد ﵊. فلقد أثبتت هذه الحقائق الجلية الناصعة أن النّبي ﷺ كان متّصفا بكل صفات السّمو والكمال الخلقي والعقلي والنفسي، ولكن كل ذلك كان ينبع من حقيقة واحدة كبرى في حياته ﵊، ألا وهي أنه نبي مرسل من قبل الله ﷿. وإن من العبث الغريب أن نضع الفروع في موضع الأصل ثم نتجاهل وجود الأصل مطلقا!. ولا ريب أن الرّد على ذلك لا يكون إلا بلفت النظر إلى الأصل. بل إلى الأصل وحده.
كما أن المسلم لا ينبغي له أن يتصور أن المعجزة الوحيدة في حياته ﷺ إنما هي القرآن، مادام أنه لا ينكر أن له ﵊ سيرة يحاول أن يفهم حياته من خلالها. أما إن كان ينكر وجود هذه السّيرة فإن عليه أن ينكر معجزة القرآن أيضا. إذ لم تبلغنا معجزات رسول الله المختلفة إلا من حيث بلغتنا منه معجزة القرآن. والإقدام على تأويل هذا وتسليم ذاك طبق ما يستهوي النفس ويتفق مع الغرض، إسفاف غريب في تصنع البحث والفهم، لا يقدم عليه من كان كريما على نفسه معتزا بعقله.
٨- وكان فيما رأيته من الرضا والحماس اللذين استقبل بهما القرّاء عملي هذا، أعظم دليل على أن كل هذا الذي أنفقه دعاة السوء ومحترفو الغزو الفكري من مستشرقين ومستغربين وأذناب وجهال، من وقت طويل وجهد عظيم وكتابات مستفيضة متلاحقة، لا يمكنه أن يتسبب في تحويل شيء من الحق إلى الباطل أو من الباطل إلى الحق، وعلى أن الحقيقة الفكرية لا يمكن أن تغتال، ولئن أمكن مخادعتها أو التلبيس عليها، فلن يكون ذلك إلا إلى أمد.. ثم ينحسر الخداع ويزول التلبيس وتشرق الحقيقة مرة أخرى من جديد. ويستفيد المتأملون والباحثون من ذلك عبرة تمدّ أفكارهم بمزيد من الحذر والوعي.
_________
(١) أفردت للحديث عن هذه المدرسة ونقدها وتفصيل القول فيها فصلا مستقلا في هذه الطبعة ستجده بين المقدمات التي جعلتها مدخلا لهذا الكتاب.
1 / 11
ومهما يكن صحيحا ما يقوله الناس من ابتعاد المسلمين عن منهجهم الإسلامي العظيم في هذه السنوات الأخيرة، فإن الذي أعتقده أن الناشئة المسلمة اليوم تملك من الوعي الإسلامي ودقة التأمل والملاحظة ما لم يكن يملكه المسلمون في أي عهد (قريب) مضى. ولن يمر زمن طويل حتى تجد أن هذا الوعي قد انقلب إلى حركة إيجابية عاملة، تصلح الانحراف، وتقوم الاعوجاج، وتعيد البناء الإسلامي من جديد.
٩- ومن ناحية أخرى فقد فضلت أن أسير في كتابة هذه البحوث على المنهج المدرسي القائم على استنباط القواعد والأحكام، مبتعدا عن المنهج الأدبي التحليلي المجرد، وإن كان لكلّ مزيته وفائدته، ذلك لأن المجال الذي أقدم فيه الكتاب (وهو المجال الجامعي) إنما ينسجم ويتفق مع الطريقة الأولى. ولقد وجدت من رضا القرّاء عن هذا المنهج- على اختلافهم- ما دفعني إلى مزيد من التوسع في ذلك والدقة فيه. وإن كنت أعلم أنني لم أستوف البحث حقه ولم أعالج كل ما ينبغي معالجته. ومردّ ذلك: أولا، إلى عجزي وقصوري ولا شك. ثانيا، إلى أنني لا أريد أن أفيض في ذكر المسائل والأحكام ومتعلقاتها إلى الحد الذي يشق معه على القارئ أن يقرأ الكتاب كله لقاء جهد يسير. فإن الكتاب إذا تجاوز إلى هذا الحد، قلّت فائدته بنظري وأصبح مرجعا يستعان به عند المناسبات، بدلا من أن يكون كتابا سهلا سائغا يقتنى للقراءة والدرس في أعمّ الأحوال.
*** ١٠- غير أن هنالك فئة أخرى من الناس، لم يعجبها هذا الذي صنعت، بل ذهب بعض أفرادها في نقده مذهبا تسربل فيه بلباس الضغينة والحقد، بدلا من أن يظهر في مظهر البحث العلمي المتجرد.
ولوددت لو أنني نبهت إلى خطأ انحرفت إليه لدى البحث، أو غفلة أصابتني عند بيان حكم أو دليل من قبل أخ مخلص، لأشكر له تنبيهه وأدعو له بالمثوبة والأجر، ولكنني لم أقع بدلا من ذلك إلا على ما لا حصيلة له من القول المنبعث عن رغبة واضحة في الإساءة والتّشفي والانتصار للعصبة والعصبية.
١١- فلقد وجدت- مثلا- في هدي رسول الله ﷺ وعمل أصحابه ما أوضح بشكل لا خفاء فيه مشروعية التوسل برسول الله ﷺ حيّا وميتا، فقررت ذلك بعد أن عرضت بين يديه ما لا يمكن ردّه من الأدلة والبراهين.
ووجدت في سيرته ﷺ ما أوضح مشروعية القيام إكراما للقادم، فذكرت هذه الأدلة وأوضحت ما ذكره العلماء من الفرق بين القيام للقادم والقيام على الرجل الجالس، وما أوضحته
1 / 12
السّنة في ذلك، ثم قررت مشروعية هذا القيام إذا انضبط بشروطه وقيوده التي بينتها السّنة الصحيحة، وقواعد الأصول والأحكام.
ووجدت فيها ما أوضح مشروعية قضاء الصلاة الفائتة سواء فاتت بسهو أو عمد فعرضت الأدلة ثم قررت الحكم على ضوئها.
ولو وجدت الأدلة قاضية بغير الذي اعتمدته، لقلت غير ذلك، ولا تبعت ما يرشد إليه الأصل والدليل، ولكنني لا أستطيع بأي حال أن أغمض العين عن مدرك الأحكام وأدلتها، لأقلد فئة من الناس اليوم، طاب لها أن تتخذ من مخالفة الأئمة وجمهور العلماء مذهبا جديدا، وألا يتورع الكثير منها عن انتقاصهم، بل عن لعنهم على رؤوس الأشهاد.
ونعوذ بالله من أن ينقلب لدينا البحث العلمي في العقل، إلى مثل هذه العصبية المستحكمة في النفس! ..
١٢- ولوددت والله، لو أن هذه الفئة التي تظل تشغل أفكار الناس وأوقاتهم بآرائها واجتهاداتها الفرعية، حاولت أن تشتغل هي الأخرى بهذا الذي وقع الناس فيه من أمور ومشكلات جسيمة خطيرة تحتاج إلى بذل الطاقات الهائلة وحصر الجهود العظيمة في سبيل معالجتها وتخليص المسلمين من آفاتها. ولكنها تظل ويا للعجب متنكرة متجاهلة لكل هذا الذي يفور به الزمن من أحداث، ويحوم حول العقل من قوانص الدين والإيمان، لتضمن لنفسها العكوف الهادئ على هذا الذي تسعى لإثارته بين الناس من مسائل لا جديد فيها أكثر مما وقع من خلاف قديم، ولا فائدة ترجى من الخصومة فيها أكثر من إثارة الضغائن في النفوس.
ولقد كان بوسع هذه الفئة أيضا- لو أنها كانت مخلصة لوجه الله في دأبها هذا- أن تعتنق الرأي الذي تطمئن إليه، ثم تترك الآخرين لما اطمأنوا هم أيضا إليه من المذهب والرأي، وتقلع عن الاستمرار في محاولة بسط سلطانها على الناس بالخصومة والعنف وتسفيه الأفكار. فلقد ظل جمهور المسلمين من قبلنا يجتمعون على التمسك بالأمور القطعية من اعتقادية وعملية، ويضفرون الجهود للاهتمام بها والذود عنها، فإذا ما بحثوا بعد ذلك في الأمور الاجتهادية الظنية لم يبالوا أن يختلفوا في صدد كثير منها إلى مذاهب متعددة دون أن يندفع أحد فيهم إلى محاولة بسط سلطانه على الآخرين واستعبادهم لما انقدح في ذهنه من الرأي.
ولو أنهم ﵃ فعلوا شيئا من هذا، لقضي على الوحدة الإسلامية قبل أن تدرج من المهد، ولما عثرنا في تاريخنا الإسلامي على شيء مما نظل نزهى به اليوم من مظاهر القوة والحضارة والمجد.
١٣- وأنا إنما أدعو القارئ بصدد البحث في هذه المسائل التي خالفت فيها هذه الفئة المذكورة، والتقيت في فهمها بمذهب جمهور المسلمين إلى أن يمعن النظر في الدليل وسلامته وقوته،
1 / 13
بعد أن يكون على بيّنة منه ومن طريقة الاستدلال به. ولا عليه بعد ذلك أن يركن إلى ما يطمئن إليه فكره وعقله، دون أن يجعل لأي تعصب فكري إلى نفسه من سبيل.
وإنما الخطورة كل الخطورة في أن يتحول الرأي في العقل إلى عصبية مستكنة في النفس، وليست الخطورة في أن يختلف اثنان حول مسألة انقدح لكل منهما فيها دليل مقنع.
وأسأل الله سبحانه أن يجمعنا على الحق ويهدينا سواء السبيل، وأن يجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهه إنه سميع مجيب.
دمشق محمد سعيد بن ملا رمضان البوطي ١٧ جمادى الأولى ١٣٨٨ ١٠ أيلول ١٩٦٨ م
1 / 14
القسم الأوّل مقدّمات
أهميّة السّيرة النبويّة في فهم الإسلام
ليس الغرض من دراسة السيرة النبوية وفقهها، مجرد الوقوف على الوقائع التاريخية، ولا سرد ما طرف أو جمل من القصص والأحداث ولذا فلا ينبغي أن نعتبر دراسة فقه السيرة النبوية من جملة الدراسة التاريخية، شأنها كشأن الاطلاع على سيرة خليفة من الخلفاء أو عهد من العهود التاريخية الغابرة.
وإنما الغرض منها؛ أن يتصور المسلم الحقيقة الإسلامية في مجموعها متجسدة في حياته ﷺ، بعد أن فهمها مبادئ وقواعد وأحكاما مجردة في الذهن.
أي إن دراسة السيرة النبوية، ليست سوى عمل تطبيقي يراد منه تجسيد الحقيقة الإسلامية كاملة، في مثلها الأعلى محمد ﷺ.
وإذا أردنا أن نجرئ هذا الغرض ونصنّف أجزاءه، فإن من الممكن حصرها في الأهداف التفصيلية التالية:
١- فهم شخصية الرسول ﷺ (النبوية) من خلال حياته وظروفه التي عاش فيها، للتأكد من أن محمدا ﵊ لم يكن مجرد عبقري سمت به عبقريته بين قومه، ولكنه قبل ذلك رسول أيّده الله بوحي من عنده وتوفيق من لدنه.
٢- أن يجد الإنسان بين يديه صورة للمثل الأعلى في كل شأن من شؤون الحياة الفاضلة، كي يجعل منها دستورا يتمسك به ويسير عليه ولا ريب أن الإنسان مهما بحث عن مثل أعلى في ناحية من نواحي الحياة فإنه واجد كل ذلك في حياة رسول الله ﷺ على أعظم ما يكون من الوضوح والكمال. ولذا جعله الله قدوة للإنسانية كلها إذ قال: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب ٣٣/ ٢١] .
1 / 15
٣- أن يجد الإنسان في دراسة سيرته ﵊ ما يعينه على فهم كتاب الله تعالى وتذوق روحه ومقاصده، إذ إن كثيرا من آيات القرآن إنما تفسرها وتجلّيها الأحداث التي مرت برسول الله ﷺ ومواقفه منها.
٤- أن يتجمع لدى المسلم من خلال دراسة سيرته ﷺ، أكبر قدر من الثقافة والمعارف الإسلامية الصحيحة، سواء ما كان منها متعلقا بالعقيدة أو الأحكام أو الأخلاق، إذ لا ريب أن حياته ﵊ إنما هي صورة مجسدة نيرة لمجموع مبادئ الإسلام وأحكامه.
٥- أن يكون لدى المعلم والداعية الإسلامي نموذج حيّ عن طرائق التربية والتعليم، فلقد كان محمد ﷺ معلما ناصحا ومربيا فاضلا لم يأل جهدا في تلمس أجدى الطرق الصالحة إلى كل من التربية والتعليم خلال مختلف مراحل دعوته.
وإن من أهم ما يجعل سيرته ﷺ وافية بتحقيق هذه الأهداف كلها أن حياته ﵊ شاملة لكل النواحي الإنسانية والاجتماعية التي توجد في الإنسان من حيث إنه فرد مستقل بذاته أو من حيث إنه عضو فعال في المجتمع.
فحياته ﵊ تقدم إلينا نماذج سامية للشاب المستقيم في سلوكه، الأمين مع قومه وأصحابه، كما تقدم النموذج الرائع للإنسان الداعي إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، الباذل منتهى الطاقة في سبيل إبلاغ رسالته، ولرئيس الدولة الذي يسوس الأمور بحذق وحكمة بالغة، وللزوج المثالي في حسن معاملته، وللأب في حنو عاطفته، مع تفريق دقيق بين الحقوق والواجبات لكل من الزوجة والأولاد، وللقائد الحربي الماهر والسياسي الصادق المحنك، وللمسلم الجامع- في دقة وعدل- بين واجب التعبد والتبتل لربه، والمعاشرة الفكهة اللطيفة مع أهله وأصحابه.
لا جرم إذن، أن دراسة سيرة النبي ﷺ ليست إلا إبرازا لهذه الجوانب الإنسانية كلها مجسدة في أرفع نموذج وأتم صورة.
1 / 16
السّيرة النبويّة كيف تطوّرت دراستها وكيف يجب فهمها اليوم
السيرة النبوية والتاريخ:
لا ريب أن سيرة سيدنا محمد ﷺ تشكل الركيزة الأساسية لحركة التاريخ العظيم الذي يعتز به المسلمون على اختلاف لغاتهم وأقطارهم.
وانطلاقا من هذه السيرة دون المسلمون التاريخ ... ذلك لأن أول ما دونه الكاتبون المسلمون من وقائع التاريخ وأحداثه، هو أحداث السيرة النبوية، ثم تلا ذلك تدوين الأحداث التي تسلسلت على أثرها إلى يومنا هذا.
حتى التاريخ الجاهلي الذي ينبسط منتشرا وراء سور الإسلام في الجزيرة العربية، إنما وعاه المسلمون من العرب وغيرهم، واتجهوا إلى رصده وتدوينه، على هدي الإسلام الذي جاء فحدد معنى الجاهلية، وعلى ضوء المعلمة التاريخية الكبرى التي تمثلت في مولد أفضل الورى سيدنا محمد ﷺ وسيرة حياته.
إذن، فالسيرة النبوية تشكل المحور الذي تدور حوله حركة التدوين لتاريخ الإسلام في الجزيرة العربية. بل هي العامل الذي أثر في أحداث الجزيرة العربية أولا، ثم في أحداث سائر العالم الإسلامي ثانيا.
ولقد امتلك فن الرواية لأحداث التاريخ عند العرب والمسلمين منهجا علميا دقيقا لرصد الوقائع وتمييز الصحيح منها عن غيره، لم يملك مثله غيرهم. غير أنهم لم يكونوا ليكتشفوا هذا المنهج، ولم يكونوا لينجحوا في وضعه موضع التنفيذ في كتاباتهم التاريخية، لولا السيرة النبوية التي وجدوا أنفسهم أمام ضرورة دينية تحملهم على تدوينها تدوينا صحيحا، على نحو لا يشوبها وهم ولا يتسلل إليها خلط أو افتراء.. ذلك لأنهم علموا أن سيرة سيدنا رسول الله ﷺ وسنته هما المفتاح الأول لفهم كتاب الله تعالى. ثم هما النموذج الأسمى لكيفية تطبيقه والعمل به. فكان أن نهض بهم دافع اليقين بنبوة رسول الله ﷺ، وبأن القرآن كلام الله تعالى، وبأنهم يحملون مسؤولية العمل بمقتضاه، وأن الله محاسبهم على ذلك حسابا دقيقا- نهض بهم اليقين بكل ذلك إلى تحمل أقسى الجهد في سبيل الوصول إلى منهج علمي تحصن فيه حقائق السيرة والسنة النبوية المطهرة.
وإنما أقصد بالمنهج العلمي قواعد مصطلح الحديث، وعلم الجرح والتعديل. فمن المعلوم أن
1 / 17
ذلك إنما وجد أولا لخدمة السنة المطهرة التي لا بد أن تكون السيرة النبوية العامة قاعدة لها. ثم إنه أصبح بعد ذلك منهجا لخدمة التاريخ عموما، وميزانا لتمييز حقائقه عن الأباطيل التي قد تعلق به.
يتبين لك من هذا أن كتابة السيرة النبوية، كانت البوابة العريضة الهامة التي دخل منها المسلمون إلى دراسة التاريخ وتدوينه عموما، وأن القواعد العلمية التي استعانوا بها لضبط الروايات والأخبار، هي ذاتها القواعد التي أبدعتها عقول المسلمين شعورا منهم بالحاجة الماسة إلى حفظ مصادر الإسلام وينابيعه الأولى من أن يصيبها أي دخيل يعكرها.
كيف بدأت ثم تطورت كتابة السيرة:
تأتي كتابة السيرة النبوية- من حيث الترتيب الزمني- في الدرجة الثانية بالنسبة لكتابة السنة النبوية. فلا جرم أن كتابة السنة، أي الحديث النبوي، كانت أسبق من كتابة السيرة النبوية عموما. إذ السنة بدأت كتابتها، كما هو معلوم، في حياة رسول الله ﷺ، بإذن، بل بأمر منه ﵊. وذلك بعد أن اطمأن إلى أن أصحابه قد تنبهوا للفارق الكبير بين أسلوبي القرآن المعجز والحديث النبوي البليغ، فلن يقعوا في لبس بينهما.
أما كتابة حياة رسول الله ﷺ ومغازيه بصورة عامة، فقد جاء ذلك متأخرا عن البدء بكتابة السنة، وإن كان الصحابة يهتمون بنقل سيرته ومغازيه شفاها..
ولعل أول من اهتم بكتابة السيرة النبوية عموما، هو عروة بن الزبير المتوفى ٩٢ هـ ثم أبان بن عثمان المتوفى ١٠٥ هـ ثم وهب بن منبه المتوفى ١١٠ هـ ثم شرحبيل بن سعد المتوفى ١٢٣ هـ ثم ابن شهاب الزهري المتوفى ١٢٤ هـ.
إن هؤلاء يعدون، ولا ريب، في مقدمة من اهتموا بكتابة السيرة النبوية، كما تعد كتاباتهم طليعة هذا العمل العلمي العظيم، بل تعد الخطوة الأولى- كما ألمحنا- إلى كتابة التاريخ والاهتمام به عموما، هذا بقطع النظر عن أن الكثير من أحداث السيرة منثور في كتاب الله تعالى، وفي بطون كتب السنة التي تهتم من سيرته ﷺ بأقواله وأفعاله، لا سيما ما يتعلق منها بالتشريع.
غير أن جميع ما كتبه هؤلاء قد باد وتلف مع الزمن، فلم يصل إلينا منه شيء. ولم يبق منه إلا بقايا متناثرة، روى بعضها الطبري. ويقال إن بعضها الآخر- وهو جزء مما كتبه وهب بن منبه- محفوظ في مدينة هايدلبرج بألمانيا.
ولكن جاء في الطبقة التي تلي هؤلاء من تلقف كل ما كتبوه، فأثبتوا جلّه في مدوناتهم التي وصل إلينا معظمها بحمد الله وتوفيقه. ولقد كان في مقدمة هذه الطبقة محمد بن إسحاق المتوفى عام ١٥٢ هـ. وقد اتفق الباحثون على أن ما كتبه محمد بن إسحاق يعدّ من أوثق ما كتب في السيرة
1 / 18
النبوية في ذلك العهد «١» ولئن لم يصل إلينا كتابه (المغازي) بذاته، إلا أن أبا محمد عبد الملك المعروف بابن هشام قد جاء من بعده، فروى لنا كتابه هذا مهذبا منقحا، ولم يكن قد مضى على تأليف ابن إسحاق له أكثر من خمسين سنة.
يقول ابن خلكان: «وابن هشام هذا، هو الذي جمع سيرة رسول الله ﷺ، من المغازي والسير لابن إسحاق، وهذبها، ولخصها، وهي السيرة الموجودة بأيدي الناس والمعروفة بسيرة ابن هشام» «٢» .
وعلى كل، فإن مصادر السيرة النبوية التي اعتمدها سائر الكتاب على اختلاف طبقاتهم محصورة في المصادر التالية:
أولا- كتاب الله تعالى. فهو المعتمد الأول في معرفة الملامح العامة لحياة النبي ﷺ، وفي الاطلاع على المراحل الإجمالية لسيرته الشريفة، بقطع النظر عن أسلوب القرآن في بيان ذلك.
ثانيا- كتب السنة النبوية، وهي تلك التي كتبها أئمة الحديث المعروفون بصدقهم وأمانتهم، كالكتب الستة وموطأ الإمام مالك ومسند الإمام أحمد وغيره، وإن كانت عناية هذه الكتب الأولى إنما تنصرف إلى أقوال رسول الله وأفعاله من حيث إنها مصدر تشريع، لا من حيث هي تاريخ يدوّن. ولذلك رتبت أحاديث كثير من هذه الكتب على الأبواب الفقهية، ورتب بعضها على أسماء الصحابة الذين رووا هذه الأحاديث، ولم يراع فيها التتابع الزمني للأحداث.
ثالثا- الرواة الذين اهتموا بسيرة النبي ﷺ وحياته عموما، وقد كان في الصحابة الكثير ممن اهتم بذلك، بل ما من صحابي كان مع رسول الله ﷺ في مشهد من مشاهد سيرته إلا ورواه لسائر الصحابة ولمن بعده أكثر من مرة. ولكن دون أن يهتم واحد منهم في بادئ الأمر بجمع هذه السيرة وتدوينها. وأحب أن ألفت النظر هنا إلى الفرق بين عموم ما يسمى كتابة وتقييدا، وخصوص ما يسمى تأليفا أو تدوينا. أما الأول فقد كان موجودا بالنسبة للسنة في حياة رسول الله ﷺ كما ذكرنا آنفا، وأما الثاني، ويراد به الجمع والتنسيق بين دفتين، فقد ظهر فيما بعد، عندما ظهرت الحاجة إلى ذلك.
المنهج العلمي في رواية السيرة النبوية:
من المعلوم أن كتابة السيرة النبوية، تدخل في عموم ما يسمى تأريخا، وإن كانت السيرة النبوية، - كما أوضحنا- منطلقا للتأريخ وحافزا على رصد الوقائع والأحداث التي خلت قبلها والتي جاءت متسلسلة على أعقابها.
_________
(١) انظر ما كتبه ابن سيد الناس في مقدمة كتابه عيون الأثر عن ابن إسحاق وترجمته.
(٢) وفيات الأعيان: ١/ ٢٩٠ الطبعة الميمنية.
1 / 19
ولكن على أيّ منهج اعتمد كتّاب السيرة في تاريخها وتدوينها؟
لقد كان منهجهم المعتمد في ذلك اتباع ما يسمى اليوم بالمذهب الموضوعي في كتابة التاريخ، طبق قواعد علمية سنشير إليها.
ومعنى هذا أن كتّاب السيرة النبوية وعلماءها، لم تكن وظيفتهم بصدد أحداث السيرة، إلا تثبيت ما هو ثابت منها، بمقياس علمي يتمثل في قواعد مصطلح الحديث المتعلقة بكل من السند والمتن، وفي قواعد الجرح والتعديل المتعلقة بالرواة وتراجمهم وأحوالهم.
فإذا انتهت بهم هذه القواعد العلمية إلى أخبار ووقائع، وقفوا عندها، ودونوها، دون أن يقحموا تصوراتهم الفكرية أو انطباعاتهم النفسية أو مألوفاتهم البيئية إلى شيء من تلك الوقائع بأي تلاعب أو تحوير.
لقد كانوا يرون أن الحادثة التاريخية التي يتم الوصول إلى معرفتها، ضمن نفق من هذه القواعد العلمية التي تتسم بمنتهى الدقة، حقيقة مقدسة، يجب أن تجلى أمام الأبصار والبصائر كما هي، كما كانوا يرون أن من الخيانة التي لا تغتفر أن ينصب من التحليلات الشخصية والرغبات النفسية التي هي في الغالب من انعكاسات البيئة ومن ثمار العصبية، حاكّم مسلّط يستبعد منها ما يشاء ويحوّر فيها كما يريد.
ضمن هذه الوقاية من القواعد العلمية، وعلى ذلك الأساس من النظرة الموضوعية للتاريخ، وصلت إلينا سيرة المصطفى ﷺ بدءا من ولادته ونسبه، إلى طفولته، فصبوته اليافعة، إلى الإرهاصات الخارقة التي صاحبت مراحل طفولته وشبابه، إلى بعثته وظاهرة الوحي التي تجلت في حياته، إلى أخلاقه وصدقه وأمانته، إلى الخوارق والمعجزات التي أجراها الله تعالى على يده، إلى مراحل الدعوة التي سار فيها لتلبية أمر ربه؛ من سلم، فدفاع، فجهاد مطلق حيثما طاف بالدعوة إلى الله تعالى أيّ تهديد، إلى الأحكام والمبادئ الشرعية التي أوحي بها إليه، قرآنا معجزا يتلى، وأحاديث نبوية تشرح وتبين.
لقد كان العمل التاريخي إذن بالنسبة إلى هذه السلسلة من سيرته ﷺ، ينحصر في نقلها إلينا محفوظة مكلوءة، ضمن تلك الوقاية العلمية التي من شأنها ضبط الرواية من حيث الإسناد واتصاله، ومن حيث الرجال وتراجمهم، ومن حيث المتن أو الحادثة وما قد يطوف بها من شذوذ ونحوه.
أما عملية استنباط النتائج والأحكام والمبادئ والمعاني من هذه الأخبار (بعد القبول التام لها) فعمل علمي آخر لا شأن له بالتاريخ، وما ينبغي أن يمزج به بحال من الأحوال.
إنه عمل علمي متميز، ومستقل بذاته، ينهض بدوره على منهج وقواعد أخرى، من شأنها أن
1 / 20
تضبط عملية استنباط النتائج والمبادئ من تلك الأحداث، ضمن قالب علمي يقصيها عن سلطان الوهم وشهوة الإرادة النفسية التي يعبر عنها أمثال وليم جيمس بإرادة الاعتقاد.
من هذه القواعد: القياس الاستقرائي، وقانون الالتزام بأنواعه المختلفة، والدلالات بأنواعها.. إلخ.
ولقد استنبطت من أحداث السيرة النبوية طبقا لهذه القواعد أحكام كثيرة، منها ما يتعلق بالاعتقاد واليقين، ومنها ما يتعلق بالتشريع والسلوك. والمهم في هذا الصدد أن نعلم بأنها جاءت منفصلة عن التأريخ وتدوينه، بعيدة عن معناه ومضمونه، وإنما كانت نتيجة معاناة علمية أخرى نهضت في حد وجودها على البنيان التاريخي الذي قام بدوره على القواعد العلمية التي ذكرناها.
السيرة النبوية على ضوء المذاهب الحديثة في كتابة التاريخ:
في القرن التاسع عشر ظهرت طرائق كثيرة متنوعة في كتابة التاريخ وتدوينه، إلى جانب الطريقة الموضوعية، أو ما يسمونه بالمذهب العلمي، وقد تلاقى معظم هذه المذاهب فيما أطلق عليه اسم المذهب الذاتي. ويعد (فرويد) من أكبر الدعاة إليه والمتحمسين له.
ولا يرى أقطاب هذا المذهب من ضير في أن يقحم المؤرخ نزعته الذاتية أو اتجاهه الفكري والديني أو السياسي، في تفسير الأحداث وتعليلها والحكم على أبطالها.. بل إنهم يرون أن هذا هو واجب المؤرخ، لا مجرد وصف الأخبار وتجميع الوقائع العارية.
وهذه الطريقة تجعل كتابة التاريخ وتدوينه عملا فنيا مجردا، ولا تسمح بعدّه نهوضا بعمل علمي دقيق.
ونحن، وإن كنا لسنا بصدد الحديث عن المذاهب التاريخية ونقدها، فإن علينا ألّا نخفي أسفنا من أن يجد هذا المذهب- في عصر العلم والاعتزاز به وبمنهجيته- دعاة إليه ومؤمنين به. ذلك لأن هذا المذهب كفيل أن يمزق جميع الحقائق والأحداث التي يحتضنها الزمن في هيكله القدسي القديم الماثل أمام الأجيال، بفعل سبحات من أخيلة التوسم وشهوة الذات وعصبية النفس والهوى.
وكم من حقيقة مسخت، وأحداث نكّست، وأمجاد دثرت، وبرءاء ظلموا، تحت سلطان هذه المحكمة الوهمية الجائرة.
فهل كان لهذا المذهب الجديد من تأثير على كتابة السيرة وطريقة تحليلها؟
والحقيقة أن هذا المذهب الجديد في كتابة التاريخ قد أصبح أساسا لمدرسة جديدة في دراسة السيرة النبوية وفهمها عند طائفة من الباحثين. فكيف نشأت هذه المدرسة؟ .. وما هي عوامل نشأتها؟ .. وما مصيرها اليوم؟ ..
تعود نشأة هذه المدرسة إلى أيام الاحتلال البريطاني لمصر، لقد كانت مصر آنذاك منبر العالم
1 / 21
الإسلامي كما نعلم، يعنو إليه بتفكيره وعقله كلما أراد أن يعلم عن الإسلام علما، كما يعنو إلى كعبة الله بوجهه كلما أراد حجا أو صلاة.
وكان في استمرار هذا الصوت العظيم من جانب، وفي استمرار إنصات العالم الإسلامي إليه من جانب آخر، ما لا يدع للاحتلال البريطاني فرصة هدوء أو استقرار. ومهما أخضعت بريطانيا لنفسها الوادي كله تحت سلطان من قوة الحديد والنار. فإنه خضوع موقوت لا يطمأن إليه، ما بقيت للأزهر هذه القيادة الحية.
لذا فقد كان لابد للاحتلال البريطاني من الإقدام على أحد علاجين لا ثالث لهما:
أولهما: أن يقطّع ما بين الأزهر والأمة، بحيث لا يبقى له عليها من سلطان.
ثانيهما: أن يتم التسلل إلى مركز العمليات القيادية في الأزهر ذاته، فتوجّه قيادته الوجهة التي ترضي مصالح الاحتلال وتهيئ له أسباب الطمأنينة والاستقرار.
ولم تتردد بريطانيا في اختيار العلاج الثاني، نظرا إلى أنه أقرب منالا وأبعد عن الملاحظة والانتباه «٣» .
وكان السبيل الوحيد إلى هذا التسلل نحو القيادة العلمية والفكرية داخل الأزهر، الاعتماد على نقطة ضعف أليمة كانت تعاني منها مشاعر الأمة الإسلامية عامة، بما فيها مصر وغيرها. وهي إحساس المسلمين بما انتابهم من الضيعة والتخلف والشتات، إلى جانب ملاحظتهم للنهضة العجيبة التي نهضها الغرب في شتى المجالات الفكرية والعلمية والحضارية! .. لقد كان المسلمون يتطلعون ولا ريب إلى اليوم الذي يتحررون فيه من الأثقال التي خلفتهم إلى الوراء، ليشتركوا مع الآخرين في رحلة الحضارة والمدنية والعلم الحديث.
من هذا السبيل تسلل الهمس، بل الكيد الاستعماري إلى صدور بعض من قادة الفكر في مصر. ولقد كان مؤدى هذا الهمس أن الغرب لم يتحرر من أغلاله، إلا يوم أخضع الدين لمقاييس العلم ... فالدين شيء والعلم شيء آخر، ولا يتم التوفيق بينهما إلا بإخضاع الأول للثاني. وإذا كان العالم الإسلامي حريصا حقا على مثل هذا التحرر فلا مناص له من أن يسلك الطريق ذاته، وأن يفهم الإسلام هنا، كما فهم الغرب النصرانية هناك. ولا يتحقق ذلك إلا بتخلص الفكر الإسلامي من سائر الغيبيات التي لا تفهم ولا تخضع لمقاييس العلم الحديث.
وسرعان ما خضع لهذا الهمس، أولئك الذين انبهرت أبصارهم بمظاهر النهضة الأوربية الحديثة. ممن لم تترسخ حقائق الإيمان بالله في قلوبهم، ولا تجلت حقائق العلم الحديث وضوابطه في
_________
(٣) انظر مذكرات اللورد كرومر، والاتجاهات الوطنية في الأدب الحديث للدكتور محمد محمد حسين.
1 / 22
عقولهم. فتنادوا فيما بينهم إلى التحرر من كل عقيدة غيبية لم تصل إليها اكتشافات العلم الحديث، ولم تدخل تحت سلطان التجربة والمشاهدة الإنسانية.
فكان أن قاموا بما أسمي فيما بعد بالإصلاح الديني. واقتضى منهم ذلك، أمورا عديدة، منها تطوير كتابة السيرة النبوية وفهمها، واعتماد منهج جديد في تحليلها، يتفق وما قصدوا إليه من الإعراض عن كل ما يدخل في نطاق الغيبيات والخوارق التي لا يقف العلم الحديث منها موقف فهم أو قبول.
ولقد كان لهم في الطريقة الذاتية في كتابة التاريخ خير ملجأ يعينهم على تحقيق ما قصدوا إليه.
وبدأت تظهر كتب وكتابات في السّيرة النّبوية، تستبدل بميزان الرواية والسند وقواعد التحديث وشروطه، طريقة الاستنتاج الشخصي، وميزان الرّضا النفسي، ومنهج التوسم الذي لا يضبطه شيء إلا دوافع الرغبة، وكوامن الأغراض والمذاهب التي يضمرها المؤلّف.
واعتمادا على هذه الطريقة أخذ يستبعد هؤلاء الكاتبون، كل ما قد يخالف المألوف، مما يدخل في باب المعجزات والخوارق، من سيرته ﷺ. وراحوا يروجون له صفة العبقرية والعظمة والبطولة وما شاكلها، شغلا للقارئ بها عن صفات قد تجره إلى غير المألوف من النّبوة والوحي والرسالة ونحوها مما يشكل المقومات الأولى لشخصية النّبي ﷺ.
ويعدّ كتاب (حياة محمد) لحسين هيكل أبرز نموذج لهذا الاتجاه في كتابة السّيرة النّبوية.
ويعبر مؤلّفه عن اتجاهه هذا بصراحة وفخر عندما يقول:
«إنني لم آخذ بما سجلته كتب السّيرة والحديث، لأنني فضلت أن أجري في هذا البحث على الطريقة العلمية» ! ..
ومن نماذج هذه الطريقة الحديثة في كتابة السّيرة وفهمها، تلك المقالات المتتابعة التي نشرها المرحوم محمد فريد وجدي في مجلة نور الإسلام تحت عنوان: (السّيرة المحمدية تحت ضوء العلم والفلسفة) والتي يقول في بعض منها:
«وقد لا حظ قرّاؤنا أننا نحرص فيما نكتبه في هذه السّيرة، على ألا نسرف في كل ناحية إلى ناحية الإعجاز، ما دام يمكن تعليلها بالأسباب العادية حتى ولو بشيء من التّكلف» .
ومن نماذج هذه الطريقة أيضا تلك الكتابات الكثيرة التي ظهرت لطائفة من المستشرقين عن حياة سيّدنا محمد ﷺ، في نطاق أعمالهم وكتاباتهم التاريخية التي قامت على المنهج الذاتي الذي ألمحنا إليه آنفا.
إنك لتراهم يمجدون شخص محمد ﷺ، وينوهون بعظمته وصفاته الحميدة، ولكن بعيدا عن
1 / 23
كل ما قد ينبّه القارئ إلى شيء من معنى النّبوة أو الوحي في حياته، وبعيدا عن الاهتمام بالأسانيد والروايات التي قد يضطرهم الأخذ بها إلى اليقين بأحداث ووقائع ليس من صالحهم اعتمادها أو الاهتمام بها.
وهكذا وجد أبطال هذه المدرسة الجديدة، في اتّباع المذهب الذاتي في كتابة التاريخ، الميدان الفسيح الذي يمكنهم من نبذ كل ما لا يعجبهم من حقائق السّيرة النّبوية مهما جاءت مدعومة بدلائل العلم واليقين، متّخذين من ميولهم النفسية، ورغباتهم الشخصية وأهدافهم البعيدة، حاكما مطلقا على حقائق التاريخ وتحليل ما وراءه من العوامل، وحكما مطلقا لقبول ما ينبغي قبوله ورفض ما يجب رفضه.
لقد رأينا- مثلا- أن كل خارقة مما قد جاء به متواتر السّنة، وربما صريح القرآن تؤول، ولو بتكلف وتمحل، بما يعيدها إلى الوفاق مع المألوف، وبما يجعلها تنسجم مع الغرض المطلوب.
فطير الأبابيل يؤول- على الرغم من أنف الآية الصريحة الواضحة- بداء الجدري.
والإسراء الذي جاء به صريح القرآن، يحمل على سياحة الروح وعالم الرؤى.
والملائكة الذين أمدّ الله المسلمين بهم في غزوة بدر يؤولون بالدّعم المعنوي الذي أكرمهم الله به! ...
وآخر المضحكات العجيبة التي جاءت على هذا الطريق، تفسير النّبوة في حياة سيّدنا رسول الله ﷺ وإيمان الصحابة به وعموم الفتح الإسلامي، بأن جميعه لم يكن إلا ثورة يسار ضد يمين، أثارتها النوازع الاقتصادية انتجاعا للرزق وطلبا للتوسع، وألهبتها ردود الفعل لدى الفقراء ضد الأغنياء وأصحاب الإقطاع! ..
وبعد، فقد كانت هذه الطريقة في دراسة السّيرة النّبوية خصوصا، والتاريخ الإسلامي عموما، مكيدة خطيرة عشيت عن رؤيتها أعين البسطاء من بعض المسلمين وصادفت هوى وقبولا حسنا عند طائفة أخرى من المنافقين وأصحاب الأهواء.
لقد غاب عن أعين أولئك البسطاء، أن ذلك الهمس الاستعماري الذي يدعو المسلمين إلى ما أسموه بثورة إصلاحية في شؤون العقيدة الإسلامية، إنما قصد في الحقيقة نسف هذه العقيدة من جذورها.
وغاب عنهم أن تفريغ الإسلام من حقائقه الغيبية، إنما يعني حشوه بمنجزات ناسفة تحيله أثرا بعد عين. ذلك لأن الوحي الإلهي- وهو ينبوع الإسلام ومصدره- يعدّ قمة الخوارق والحقائق الغيبية كلها. ولا ريب أن الذي يسرع إلى رفض ما قد جاء في السّيرة النّبوية من خوارق العادات، بحجة اختلافها عن مقتضى سنن الطبيعة ومدارك العلم الحديث، يكون أسرع إلى رفض
1 / 24
الوحي الإلهي كله بما يتبعه ويتضمنه من إخباراته عن النشور والحساب والجنة والنار بالحجة الطبيعية ذاتها.
كما غاب عنهم أن الدين الصالح في ذاته لا يحتاج في عصر ما إلى مصلح يتدارك شأنه، أو إصلاح يغيّر من جوهره.
غاب عن هؤلاء الناس هذا كله، مع أن إدراكهم له كان من أبسط مقتضيات العلم. لو كانوا يتمتعون بحقيقته وينسجمون مع منطقيته. لكن أعينهم عشيت في غمرة انبهارها بالنهضة الأوربية الحديثة وما قد حفّ بها من شعارات العلم وألفاظه، فلم تبصر من حقائق المنطق والعلم إلا عناوينها وشعاراتها، وقد كانوا بأمس الحاجة إلى فهم كامل لما وراء تلك العناوين وإلى هضم صحيح لمضمون تلك الشعارات. فلم يعد يستأثر بتفكيرهم إلا خيال نهضة (إصلاحية) تطور العقيدة الإسلامية هنا كما تطورت العقيدة النصرانية هناك.
وهكذا، فقد كان عماد هذه المدرسة الحديثة التي أشرنا إليها بإيجاز، هياجا في النفس، أكثر من أن يكون حقيقة علمية مدروسة استحوذت على العقل.
مصير هذه المدرسة اليوم:
والحقيقة أن الاهتمام بهذه المدرسة في كتابة السّيرة وفهمها، والحماسة التي ظهرت يوما ما لدى البعض في الأخذ بها- إنما كان منعطفا تاريخيا ومرّ.. وعذر أولئك الذين كتب عليهم أن يمروا بذلك المنعطف أو يمر هو بهم، أنهم كانوا- كما قلنا- يفتحون أعينهم إذ ذاك على خبر النهضة العلمية في أوربا، بعد طول غفلة وإغماض. وإنه لأمر طبيعي أن تنبهر العين عند أول لقياها مع الضياء، فلا تتبين حقائق الأشياء، ولا تتميز الأشباه عن بعضها. حتى إذا مرّ وقت، واستراحت العين إلى الضياء، أخذت الأشياء تتمايز وبدت الحقائق واضحة جلية لالبس فيها ولا غموض.
وهذا ما قد تمّ فعلا. فقد انجابت الغاشية، وصفت أسباب الرؤية السليمة أمام الأبصار؛ أبصار الجيل الواعي المثقف اليوم. فانطلق يتعامل مع حقيقة العلم وجوهره، بعد أولئك الذين أخذوا بألفاظه وانخدعوا بشعاراته، ثم عادوا وقد أيقنوا ببصيرة الباحث العليم والمفكر الحر، بأن شيئا مما يسمى بالخوارق والمعجزات لا يمكن أن يتنافى في جوهره مع حقائق العلم وموازينه.
ذلك لأن هذه الخوارق سميت كذلك لخرقها لما هو مألوف أمام الناس. وما كان للإلف أو العادة أن يكون مقياسا علميا لما هو ممكن وغير ممكن. وهيهات أن يقضي العلم يوما ما بأن كل ما استأنست إليه عين الإنسان مما هو مألوف هو وحده ممكن الوقوع، وأن كل ما استوحشت منه عين الإنسان مما هو غير مألوف له غير ممكن الوقوع.
ولقد علم كل باحث ومثقف اليوم بأن أحدث ما انتهت إليه مدارك العلماء في هذا الصدد،
1 / 25