فإذا تم الخلع، ونصب السلطان الجديد، أعلن الدستور، وأطلقت الحريات الديمقراطية المعروفة، دعيت الرعية إلى انتخاب مجلس نيابي يمثلها ويشارك السلطان في الحكم.
ولكن هذا كله ليس إلا مرحلة من المراحل، بل هو بدء الطريق؛ هكذا قالت طليعة من أدبائنا ومفكرينا رأت أن الانقلاب العثماني وقف عند هذه الغاية؛ فلقد نسخ الانقلاب العثماني الصفحة الأولى من الثورة الفرنسية واكتفى، ولم تكن له جماهير تؤيده في الشوارع كما كانت الحال في الثورة الفرنسية.
وكان الدكتور شبلي الشميل وأمين الريحاني وغيرهما في مقدمة الطليعة من أدبائنا ومفكرينا الذين لمسوا التقصير في الانقلاب العثماني وأحسوا طبيعته السطحية، وأدركوا أن الانقلاب يجب أن تكون له أهداف ومقاصد تعليمية ثقافية وصناعية زراعية تجارية.
إن إعلان الدستور وإحداث المجلس النيابي إنما هو إصلاح - إذا وقع كما وقع الانقلاب العثماني بقوة الجيش واشتراك فئة قليلة فيه - لا تتم فائدته إلا إذا سيق إلى أذهان الشعب بالتثقيف المتواصل المخلص، وإلا إذا طهر جهاز الدولة القديم، فإن موظفا قبل الدستور يعمل بروح ما قبل الدستور لا ينقلب بسرعة ما تصله القوانين الجديدة والتعليمات الجديدة.
كان هذا رأيا في نقد الانقلاب العثماني أخذت به الطليعة من أدبائنا ومفكرينا فدلت على أنها فهمت طبيعة ذلك الانقلاب السطحية، وأكدت - كما أكد مفكرو القرن الثامن عشر في فرنسا - ضرورة تعليم الأمة، وتنقية جهاز الدولة، وتربية القائمين بأعمال الحكومة تربية جديدة.
أما من حيث الصناعة والزراعة والتجارة، فلعل الرأي الاقتصادي السائد كان يعتبر نشاط الدولة في إنشاء الصناعات أمرا غير مرغوب فيه، بل محظورا.
31
وهو رأي مستعار من مفكري النهضة الصناعية الأوروبية الحديثة في مفتتح شأنها، ومستعار أيضا من الثورة الفرنسية واعتمادها بالنتيجة على قاعدة ما نسميه «الاقتصاد الطليق». غير أن دولة كالإمبراطورية العثمانية، تأخرت في إحداث انقلابها الدستوري إلى أول القرن العشرين، وهي جد متأخرة في بنائها الاقتصادي نصف الإقطاعي، وعرضة لمآرب الدول الاستعمارية، ما كان لها أن تكتفي بالنشاط الفردي في ميدان الصناعة (ولا سيما الصناعة!) والزراعة والتجارة اعتقادا منها بأن مجرد إعلان الدستور وإحداث المجلس النيابي كفيل بسير كل شيء على ما يرام؛ فالنشاط الفردي الاقتصادي، وإطلاق الحرية لهذا النشاط الفردي، كله واجب ومثمر أيضا، إلا أنه وحده لا يكفي للوثب بدولة أفاقت متأخرة على السباق الاقتصادي العالمي.
على أننا قد نكون، هنا، جاوزنا بعض الشيء ما قاله أدباؤنا ومفكرونا في نقد الانقلاب العثماني. والواقع أن ثقافة أدبائنا ومفكرينا من الوجه الاقتصادي كانت ولا تزال ضعيفة في الغالب. ولكن يجب القول: إن أدباءنا ومفكرينا إذا كانوا قد مالوا إلى مذهب الاقتصاد الطليق، وآثروا أن ترفع الدولة - ولو كانت منبثقة من الأمة - يدها عن البناء الاقتصادي، فقد أدركوا كل الإدراك هذه الحقيقة الأساسية، وهي: أن وجود حكومة شورية (أو دستورية أو ديمقراطية) تطلق الحريات وتحميها، حاجة أولية لا بد منها لتقدم الشعب ونهضة البلاد.
وهكذا دعوا إلى العناية بمسألة السلطة وأيدوا الاهتمام الكلي بها؛ لأنها مفتاح كل شيء. وكأنما جعلوا شعارهم أن «المرء الذي لا يكترث لأمور حكومته يعد خاملا.»
صفحة غير معروفة