وهذا أمين الريحاني يبحث في «الثورة الحقيقية» فيقول: «الثورة الحقيقية، ونحن من أنصارها، من رسلها، إنما هي التي يزرع الزمان بذورها في قلوب الناس وفي عقولهم ... هي الثورة التي يتقدمها ري العراق مثلا، وسكة الحجاز، وحرية الطباعة والتجارة والتعليم ... الثورة الحقيقية، أو بالحري الانقلاب العظيم، هو الذي يساعد في ارتقاء الأشياء والحياة إلى ما ينبغي أن تكون.» وواضح أن أمين الريحاني لا يصدق الثورة المرتجلة التي لم «يزرع الزمان بذورها في قلوب الناس وفي عقولهم.» فإذا قام مفكر أو مفكرون مثلا تضم أفكارهم بذور ثورة، فإن ذلك لا يكفي، إذ لا بد من «الزمان» الذي يزرع البذور، ولا بد من «التربة» التي هي القلوب والعقول، قلوب الناس وعقولهم. والناس هم الكثرة، لا عشرون ولا مائة. ثم لا بد أيضا من أن تكون البذور صالحة والتربة قابلة؛ أي لا بد من أن تكون الأفكار الثورية تجاوب مطالب قلوب الناس وعقولهم في العهد الذي تلقى فيه إليهم. ناهيك عن أن الثورة ليست أفكارا في أفكار، ولكنها أيضا تقوم على دعائم مادية عمرانية، كسكة الحجاز مثلا وري العراق، وتظهر في مظاهر قانونية نظامية تفسح في المجال للنشاط الحر في ميادين ثقافية واقتصادية، كالطباعة والتعليم والتجارة، و«تساعد» بالنتيجة «في ارتقاء الأشياء والحياة إلى ما ينبغي أن تكون!»
وفي قول الريحاني: «يتقدمها ري العراق، مثلا، وسكة الحجاز، وحرية الطباعة والتجارة والتعليم ...» أمر يجب أن يستوقفنا. فما الذي أراده كاتبنا بكلمة «يتقدم»؟ فالمعروف أن الثورات تقوم لكسب حرية، كحرية الطباعة والتجارة والتعليم، والمشهور أن الثورات تهب لخلق أحوال يتيسر فيها إنشاء المشاريع العمرانية؛ فهل قصد الريحاني وهو يتحدث عن الثورة الحقيقية أن يصفها باعتبار ما يكون من نتائجها، فذكر في مقدمتها بعض نتائجها زيادة في التأكيد، لكيلا يخال أن حادث الثورة غاية في ذاته لا وسيلة إلى غاية؟ أم إنها فلتة من فلتات القلم؟
نرجح أن الريحاني أراد ضمنا أن يفرق بين نوعين أو مرحلتين من الثورة؛ فهو في خطبة عنوانها «روح الثورة» ألقاها في «جمعية تهذيب الشبيبة» سنة 1913، يبحث في الإصلاح، ثم يقول: «ولكن هذا الإصلاح لا يتم بلا انقلاب في الأحكام، ولا يتم انقلاب بلا ثورة سياسية.» والذي يقصده بالثورة السياسية استيلاء العناصر الجديدة على السلطة توفيرا لأحوال يصبح فيها الإصلاح ممكنا، بل واجبا؛ إذ إن الثورة إذا اكتفت بالاستيلاء على السلطة لم تكن في الحقيقة ثورة، بل كانت كما قال الدكتور الشميل عن الانقلاب العثماني: «تغييرا يقتصر على ثورة الهيئة الحاكمة.»
وهذا يخرج بنا إلى معالجة السؤال الذي طرحناه سابقا: ما هي مقاصد الثورة وأهدافها؟ (مع العلم طبعا أننا نسوق الحديث عن أدبائنا ومفكرينا، والدروس التي تلقوها من الثورة الفرنسية.)
يؤخذ من مغزى كلمات الريحاني السابقة ومن أقوال لغيره، أن الثورة تتدرج من مقصد إلى مقصد، ومن هدف إلى آخر. ويكون أحد المقاصد والأهداف في وقت ما هو الغاية، ولكنه إذا تحقق بات وسيلة إلى مقصد وهدف آخر يصبح هو الغاية عندئذ، وهكذا حتى تتحقق الغاية النهائية.
فأما المقصد الأول، والهدف الأول، فهو أن تعمل العناصر الجديدة، الثورية، في سبيل «انقلاب في الأحكام» أو «ثورة سياسية» أو «استيلاء على السلطة». ولما كان أدباؤنا ومفكرونا يواجهون سلطة مطلقة في نظام الحكم العثماني، ولا سيما أيام عبد الحميد، فقد غلب عليهم رأي الاستيلاء بالقوة على زمام الأحكام.
29
وكان «شاهد» الثورة الفرنسية قدوة لهم؛ وكان الاستيلاء على السلطة بالقوة معناه في نظرهم خلع السلطان ونصب سلطان يوافقهم ويسلم بمطالب الانقلاب. وقليلون جدا منهم من كانوا يريدون الجمهورية؛
30
فالرأي الأعم الأغلب كان طلب الملكية أو السلطنة المقيدة بالدستور.
صفحة غير معروفة