(1) بحث في الحرية
بينما كان الفيلسوف مواصلا خطابه، كان الملك والملكة شاخصين فيه بأعين يخامرها الذكاء والإصغاء، مستوعبين معانيه بكل اتضاع ودعة. وغب نهاية مقالته جعلت الملكة تقول له هكذا: إننا قد عرفنا عدم إمكان وجود حرية للإنسان بل ولا لسائر الأنواع، وأن جميع الأشياء لكونها مرتبطة بخدمة بعضها البعض فهي مقيدة أيضا بعبودية بعضها البعض، ولكن عندما تكون هذه العبودية غريبة عن الفائدة أو مضرة لصالح الأمور فالاجتهاد بإبطالها ضرب من اللزوم وقانون صوابي؛ وبناء على ذلك عندما نظرنا دولة الاستعباد تتداخل ما بين شعوبنا تحت طرق مختلفة حيثما لا ينجم عن هذا التداخل سوى الإضرار بهم وفساد طبائعهم السليمة، نهضنا حالا ضدها وسطونا عليها سطوة إسكندر على داريوس وسجناهم كما علمت.
أما حصول الشخص على لذة الحياة معتوقة من كل حاكم وصافية من كل مكدر، فهو أمر لا يمكنه البتة ولو تطبع على تتبع تلك النواميس التي ذكرتها والتي تصعب في الإجراء بمقدار سهولتها في التصور حسب كل الأعمال الفلسفية؛ لأن التطبع لا ينقلب طبعا، وما كان هكذا فهو غير لذيذ عند الطبيعة وبعيد عن السهولة. وإذا أمكن الإنسان السلوك كما أشرت فلا يكون ذلك إلا لمن وسمته العناية بسمة الانفراد، وهذا شاذ وليس حكم الشاذ إلا الحفظ وعدم القياس عليه.
وعلى كل حال إن الإنسان إذا كان متعبدا لأحكام دولة التمدن والصلاح، يكون داخلا في حقيقة الحرية التي تطلبها الواجبات الإنسانية. على أنه إذا كان ذلك التعبد لازما، فتلك الحرية ملزومة؛ لأن اعتناق الإنسان واجباته لا يدعى عبودية، ولكن إذا كان الشخص معتوقا من رق تلك الدولة فهو يكون بالضرورة داخلا في عبودية ضدها تبعا لمقتضى الحال.
ولكون الدخول في أحكام دولة الخشونة والبربرية يفسد أحوال البشر وينثر عظام جمعيتهم نازعا عنهم كل الصفات الحميدة والسلوك السليم، وذلك هو الأمر الذي لا يوجد أضر منه لمملكة التمدن والصلاح، وجب علينا دفعا لوقوع البلبال والوبال فيما بين رعايانا أن نثور على تلك الدولة الآبقة التي إذا لم نمح آثارها لم تقم حرية الإنسان المطلوبة أصلا، وهي الحرية التي لا يمكنك إنكارها مهما رددت الهواجس والأوهام الفلسفية التي لا وجود لها إلا في العقل الذي قد يخطر فيه ما لا حقيقة له في الظاهر.
فأردف الفيلسوف كلامه قائلا: أنا لم أمنع إمكان الحرية الأدبية بل الطبيعية. ولا شك أنا إذا أطلقنا أنظارنا إلى عالم الآداب وتبصرنا بشرائع الحكمة نعاين أقواما أحرارا وآخرين عبيدا حسبما تقتضي أحوالهم وكيفياتهم. وعلى كل حال إن الاجتهاد في عتق العبيد وهدم مباني العبودية هو أمر ضروري وواجب.
فطرح الملك أنظاره على الفيلسوف وقال: إذن مشروعنا في محاربة مملكة العبودية واستنقاذ شعوبنا من قيودها لا يستحق الملام. - كلا، بل هو حسن وواجب يا أيها الملك المعظم؛ لأن الاستعباد مكروه عقلا وطبعا، وقد نهض العالم بأسره ضد هذه العادة المستهجنة وما سواها فحاربوا من ظلم واعتدى وأعدوا له سلاسل وأغلالا. (2) حالة الصلح العام
إن أهم دواعي السياسة وأعظم بواعثها هو النظر الدائم إلى الصالح العام وتواصل السهر عليه؛ بحيث مهما أتقنت السياسة نظامها وأحكمته ولم تلتفت إلى هذا الصلح أو تغافلت عنه فلا تعتبر إلا كمساعد على نثر عقد الهيئة الاجتماعية الذي لا يمكن دوامه منظوما ما لم تكن الملاحظة السياسية عاصمة له؛ إذ إن إهمال ما يسبب العمار هو تسبيب لوقوع الخراب، وهذه الملاحظة تنحصر جميعها في توقيع ما يئول نفعه إلى العامة إجمالا وأفرادا ودفع ما يفضي إلى الضرر.
وذلك يستريح على خمسة أركان، وهي: تمهيد سبل العلوم، وتسهيل طرائق التجارة، وتقوية وسائط الصنائع والأشغال، ومساعدة الزراعة والفلاحة، وقطع أسباب التعدي.
أما الركن الأول:
صفحة غير معروفة