قال: كلا، فإنها لا تدخل هذا البيت أبدا. قالت: إذن دعني ألقاها في بيتها ... ولو سرا. قال: إن الذنب الذي لا يغتفر يوجب العقوبة التي لا عفو لها ولا رأفة. قالت: ومن يدري إذا كانت مذنبة حقا أو إذا كان ذنبها لا يغتفر؟ فأجابها: إن الزوجة الخائنة لا تعذر أبدا، فصمتت لا تحير جوابا، وفكرت كثيرا إلى أن ساءلت نفسها قائلة: هل ترى أيحسبونني زوجة خائنة، لا تستحق الرحمة، إذا اكتشفوا يوما ما سري الدفين؟ وكم وكم من الزوجات المثاليات اللواتي دفن مع ماضيهن أسرارا لو انبعثت من قبورها لسببت من الشقاء والتعاسة ما يحول الحياة البشرية الخاضعة للأنظمة الاجتماعية القاسية إلى جحيم ناره أشد تأججا من نار جهنم. •••
فاتنا أن نقول إن بوليت زارت جديها الأميرال وزوجته بعد المحادثة التي أوردناها بنحو أسبوع، فالتقت الحفيدة بجدتها، وكانت كل نظرة من الواحدة إلى الأخرى تشف عن فكرة وحيدة تتعلق بالزوجة المطلقة، وكان الكونت قد اشترط على ابنته أن لا تذكر أمها، كما اشترط الأميرال على زوجته أن لا تذكر ابنتها، فلم تطل مدة تلك الزيارة، ثم انصرفت بوليت واعدة بالعودة في مثل ذلك اليوم من الأسبوع القادم.
فلما وافى اليوم المعين قبل ساعة واحدة من موعد الزيارة، دخل خادم على الأميرال يحمل بطاقة عليها اسم السير إيليا دراك، فنظر فيها الأميرال وقال: هذا اسم مجهول عندي، فليدخل السير، وأشار على زوجته بأن تكفكف عبراتها؛ لأنها كانت تبكي، فلما أقبل السير دراك ورآه الأميرال تذكر أنه رآه قبلا تذكرا مبهما، فقال: أظن أننا تلاقينا قبل اليوم، إنما لست أذكر أين كان ذلك التلاقي. فأجابه الإنكليزي: أما أنا فأذكر أنني رأيتك أيها الأميرال في كلكتا، وكنت تاجرا صغيرا فيها وفي منصب قنصل إيطاليا فيها.
قال الأميرال: هذا صحيح، وكان ذلك في حفلة أقيمت لضباط أسطولي. قال دراك: وقد عزمت بعد التروي على ترك شئون العامة واعتزال الأعمال والاستراحة بعد أن أقضي المهمة الدقيقة التي وافيتك لأجلها. قال الأميرال: من قبل من يا ترى؟ أجاب: من قبل الآنسة دي موري أيها الأميرال.
فقالت زوجة الأميرال: وهل تعرف حفيدتي؟ أجاب: لقد صحبتها أثناء سفرها، وأوصلتها إلى باريس لما تعذر على عمتها مواصلة السفر معها. قال الأميرال: وهل علمت أن العمة باسيليك قد توفيت في مرسيليا؟ أجاب: نعم، وهذا النبأ السيئ تلقيته من الآنسة بوليت. قالت زوجة الأميرال: هل رأيت ابنتي اليوم؟ وهل أرسلتك هي إلى هنا؟ أجاب: نعم، والآنسة بوليت تزعم أنني أسديت لها يدا جليلة، وتريد أن أشفعها بأخرى، وأنا ضعيف الخلق فطاوعتها ... قالت: لا شك أنها أنبأتك بعزمها على زيارتنا؟ قال: عفوا، فليس ذا كل الغرض من هذه المقابلة، ولا بد من الاعتراف بأنني خالفت الحقيقة بقولي إنها هي التي أرسلتني؛ لأن الحقيقة هي أنني أتيت متطوعا من تلقاء نفسي، واستعرت اسمها لأنبهكم إلى شخصي هنيهة.
فبدأ الأميرال يتململ وقال: إذن ما غرضك من هذه الزيارة؟
أجاب: غرضي أن أكلمك عن والدة الآنسة بوليت؛ وأعني الكونتة دي موري، والحق يقال إن السير إليا دراك كان كفئا لأن يخدم بلاده بسياسته؛ لأنه كان رجلا سياسيا حقا، ولا يدلك على ذلك مثل تمكنه من التلفظ باسم ابنة الأميرال في بيته بعد أن مهد ذلك التمهيد. فبهت الأميرال وقال: هل أتيت لتكلمني عن والدة بوليت؟ وقالت زوجته: عن لورانس، عن ابنتنا.
أجاب: نعم، والراجح عندي أنكما تجهلان أن الكونت دي موري منع ابنته من مقابلة أمها وهذا أمر فظيع. قال الأميرال بلهجة جافية: أما أنا فأستصوب ذلك الأمر لأنه عادل. قال السير دراك: لقد قلت في نفسي إنه عادل، لكنه في الحقيقة صارم قاس، فنحن على اتفاق بهذا المعنى، وكذلك يكون الحال إذا أنت منعت السيدة زوجتك من أن تزورها ابنتها ... قال الأميرال: وقد وقع ذلك فعلا، ولست أفهم كيف تسوغ لنفسك الاعتراض ... فقال دراك بسكينة عجيبة: وأنا كذلك أيها الأميرال لا أفهم لماذا أتعرض لما لا يعنيني من شئون الناس؛ ولكنني كمن ينفر من الماء البارد ويقع في النهر، ولا بد له من السباحة حتى ينجو ... ولما كانت الآنسة بوليت غير حاصلة على إذن من أبيها الوصي عليها بمقابلة أمها، خطر لي خاطر ولا تعجب منه أيها الأميرال، فإن من كان مثلي قنصلا تخطر له خواطر كثيرة، قد قلت اليوم للسيدة لورانس إن ابنتك ذاهبة لترى جدها فاذهبي أنت أيضا وهناك تقبلين ابنتك؛ إذ تكونين في أرض على الحياد.
فرفع الأميرال صوته الجهوري وقال: اعلم يا هذا أنني لا أريد أن أرى المخلوقة التي تتكلم عنها ... أجاب: أعلم هذا وبأكثر منه أيها الأميرال، وقد أدركت وفهمت المراد تماما، ولكن هل تأملت صفاء الجو في هذا النهار؟ ولو كنت على قيادة أسطولك لأمكنك إطلاقه حتى يسير أسرع من بساط الريح في مثل هذا الوقت الجميل، فلماذا لا تذهب للتنزه في غابة بولونيا؟ إنها قريبة إليك، وفي أثناء غيابك ودون علمك تلقى زوجتك ابنتها وحفيدتها معا.
فقال الأميرال: بل أنا أمنع زوجتي من مقابلة تلك المخلوقة. فأجاب الإنكليزي ببروده العادي المشهور: عافاك الله، فزوجتك تذهب معك للنزهة في غابة بولونيا، وفي أثناء ذلك تلتقي مدام لورانس بابنتها ها هنا على انفراد، ولا بد أنك تستصوب هذا العمل الحسن؛ إذ تتلاقى الأم بابنتها بعد فراق عام كامل، فكلتاهما تائقة إلى هذا اللقاء.
صفحة غير معروفة