ولم تكن انطلاقة الإنسان الأوروبي من سجن الحياة في عصوره الوسطى مقصورة على مغامرات المغامرين في البحار حول الكرة الأرضية شرقا وغربا بل جاوزت ذلك لتكون انطلاقة شاملة لم تترك مغلقا خارج الإنسان وداخله إلا حاولت كشف الستار عن أسراره ما وسعها ذلك، فانطلق الفلكيون نحو السماء يرصدونها، وانطلق المفكرون نحو جوف الإنسان لعلهم يرفعون عنه خبيئة الغطاء الذي يخفيه؟ ولو تتبعت مؤلفات الفلاسفة الأوروبيين خلال قرنين في ذلك الزمان، لوجدت بينها عددا ملحوظا خصصه أصحابه للبحث المفصل في حقيقة العقل الإنساني؛ كيف يدرك ما يدركه، وإلى أي مدى يستطيع أن يدرك، وما هي جوانب القصور في إدراكه . وأظنها مجموعة من المؤلفات الكاشفة عن حقيقة الإنسان من داخل، ستبقى لها مكانتها العليا في كل ما أنتجه الإنسان بعد ذلك في هذا الصدد، ولا أقول «قبل ذلك»؛ لأن غاية الباحثين قبل ذلك فيما يختص بحقيقة الحياة الإنسانية من الداخل لم تجاوز الأوليات الأولى التي تنقصها الدقة كما ينقصها الشمول.
هكذا كان الإنسان حبيس فكره الديني قبل نهضته، وهكذا انطلق في كل اتجاه ليخرج من جدران محبسه ثم أخذ يبني بعد ذلك خلال القرون الأربعة التي باءت بعد نهضته حتى يومنا هذا، أخذ يبني هذا البناء الحضاري العلمي الشاهق الذي نراه اليوم فتغير ترتيب الأفكار الثلاث الكبرى في هذه الانتقالة الحضارية الثقافية بل إنها انتقالة حدثت نتيجة للتغير الذي طرأ في نفوس الناس عن ذلك الترتيب. والذي أريد له أن يكون واضحا في أذهاننا كل الوضوح، هو أن المسألة لم تكن إهمالا للدين، بل هي ترتيب جديد للطريق الفكري وخطواته بحيث يضمن للإنسان أن يكون على معرفة بالدين أدق وأوضح، وعلى معرفة بنفسه وقدراتها، وعلى معرفة عالية بالكون وما فيه. فالسؤال الكامن هنا هو هذا: أيكون الدين طريقنا إلى العلم بأنفسنا وبالكون وكائناته، أم يكون هذا العلم طريقنا إلى إيمان ديني أكثر استنارة وأشد حيوية وأوسع أفقا؟!
تلك هي صورة موجزة لما أحدثته انطلاقة الإنسان الأوروبي في نهضته مما أدى إلى انتقاله من مركب ثقافي كان يعيشه في عصوره الوسطى إلى مركب ثقافي آخر هو الذي يعيشه بصفة أساسية حتى اليوم، وكان جوهر الحركة الانتقالية، كما أسلفنا، تغييرا في ترتيب المحاور الثلاثة الأساسية في البناء الثقافي، والحق أني أحس في نفسي أني أكتب هذه الكلمات بشيء من القلق خشية أن يتعجل قارئها فيسيء فهمها، فلعل الفكرة ما زالت في حاجة إلى مزيد من الشرح؛ حتى لا يتسرب إلى ذهن قارئ ظن بأن أولوية فكرة على أخرى بين الأفكار الكبرى الثلاث؛ معناها أولوية في القيمة الذاتية وليس الأمر كذلك، على الأقل بالنسبة لهذا السياق الذي نتحدث فيه. افرض، مثلا ، أنك تدرس شجرة الإنسان ووشائج القربى لأسرة ما، فعندئذ الجد والجدة هما اللذان منهما بدأ التسلسل؟ وإن هذا التسلسل ليتدرج معك أبناء فأحفادا، فأبناء أحفاد ثم أحفاد هؤلاء الأحفاد، وهكذا تتوالى درجات التسلسل إلى أن تبلغ الغاية التي يكفيك الوقوف عندها؟ فماذا أنت قائل لمن يسألك: أيهما أجدى في دراسة شجرة الأنساب هذه، أن نبدأ من الجدود إلى أحفاد الأحفاد؟ أم نبدأ من هؤلاء الأحفاد صعودا إلى الجدود؟ فبماذا تجيب، ألا يكون جوابك هو أن أمر الأولوية هنا متوقف على ما يهدف إليه الباحث: أيهدف إلى رد الفروع إلى جذورها؟ أم يهدف إلى تعقب الجذور إلى فروعها؟ فأولوية البدء لا تعني شيئا بالنسبة إلى الأهمية والقيمة الذاتية؟ وكذلك الحال في الأولوية بين المحاور الثلاثة التي قلنا إنها تشكل الإطار الذي يقام عليه البناء الثقافي لجماعة معينة في عصر معين، فمن المألوف عند من أراد رسم صورة تبين العلاقات الرابطة بين مختلف المكونات العقلية التي منها تتألف المعرفة أن يرسم تلك الصورة على شكل هرم قاعدته عريضة ثم تتسلسل الدرجات صعودا مع ضيق في الاتساع، حتى يبلغ الذروة في نقطة صغيرة المساحة عظيمة القيمة، وذلك لأن هذه الذروة هي بمثابة المبدأ الأعلى الذي تتوالد منه سائر أفكار الإنسان درجة بعد درجة حتى تصل آخر الأمر إلى التفصيلات الجزئية على أرض الواقع المحسوس، فلو سئلنا هنا أيضا، كما سئلنا في شجرة الأنساب لأسرة ما، لو سئلنا هنا: أتكون الأولوية في تحصيل المعرفة للمبدأ العام الذي ينسل سائر الأفكار بكل درجاتها؟ أم تكون تلك الأولوية في التحصيل للأفكار التفصيلية ليصعد منها الدارس درجة بعد درجة حتى يصل إلى المبدأ العام المجرد الذي يضمها جميعا؟ وأحسب أن الجواب هنا هو كالجواب في المثل السابق وهو أن الأولوية تتوقف على نوع الدارس وهدفه، دون أن يكون لتلك الأولوية أي أثر على أهمية الموضوع وقيمته الذاتية.
وبعد هذا التوضيح فلنتجه بأبصارنا نحو حياتنا الثقافية، لنرى كيف يقوم بناؤها في إطار الأفكار الثلاثة الكبرى ثم كيف نريد له أن يكون؟ وأحسب أن الأمر في ذلك أوضح من أن يثير الجدل؟ فإذا كانت الدعوة إلى ثقافة سلفية هي الغالبة، كانت أولوية الترتيب بالتالي، هي أن الفكرة الدينية يجب أن تأتي أولا وعلى هديها تكون صورة العلم وصورة الإنسان؟ وما دام ذلك هو كذلك، كان بناؤها الثقافي - كما هو قائم بالفعل - على مبعدة بعيدة عن الصورة التي اقتضاها روح هذا العصر ممن هم بناة حضارته إذ إن هؤلاء البناة - كما أسلفنا - قد كانوا على ترتيب يشبه ما هو قائم عندنا اليوم ثم أبدلوا به ترتيبا آخر يبدأ هنا من الكون ودراسته وحينا آخر بالإنسان ودراسة مقوماته لينتهي السير في كلتا الحالتين إلى رؤية دينية تبنى على نور المعرفة. وإنه لسؤال ألقاه في أوروبا العصور الوسطى، أيام كانت في مخاض التحول إلى عصرها الحديث وهو: هل يعرف الإنسان ليؤمن، أو هو يؤمن ليعرف؟ وهكذا - في اختصار شديد - يكون الفرق بين من يريد تحديثا لحياتنا الثقافية الراهنة وبين من يريد بها سلفية. فالأول هو بمثابة من يقول: لا بد لي أن أعرف ليجيء إيماني على أساس بصير، وأما الثاني فهو بمثابة من يقول: بل لا بد لي من إيمان أولا؛ لكي تجيء المعرفة بعد ذلك في حدود ذلك الإيمان.
فإذا أردت أن تتخذ لنفسك موقفا تطمئن إليه من هذين الموقفين قارن بين رجلين وهما يتلوان قول الله سبحانه وتعالى قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي. فأما أول الرجلين فقد قرأ الآية وحفظها ثم خرج بما حفظه إلى الكون الفسيح تأمل ظواهره. وأما الرجل الثاني فقد أتيح له أن يدرس دراسة علمية دقيقة لبعض تلك الظواهر كظاهرة الضوء أو الكهرباء أو المغناطيسية أو الجاذبية أو أتيح له أن يدرس مثل تلك الدراسة العلمية لظاهرة من ظواهر الحياة في النبات أو في الحيوان أو في الإنسان نفسه، فمثل هذا الرجل الدارس من سيرى في كل نقطة من نقاط هذا الكون اللامتناهي كلمة من كلمات ربه تملؤه بالتعظيم والإجلال والخضوع لخالق هذه المعجزات. إن عالم النبات مثلا لو تقصى جزئيات نبتة واحدة صغيرة كيف تتغذى وكيف ترتوي وكيف تنمو وكيف تدفع عن نفسها الأخطار التي قد تهدد وجودها، لوجد ذلك العالم في تلك النبتة الصغيرة من كلمات ربه ما يحتاج مجلدا ضخما يشرح شيئا من تفصيلاته، فانظر إلى الفرق بين الرجلين: الرجل الأول الذي حفظ الآية الكريمة وخرج بها إلى الكون؛ فلا يكون في وسعه إلا أن يعلم بأن الله سبحانه وتعالى خالق قادر عليم دون أن نعلم تفصيلة واحدة فوق ذلك الموقف المبهم المجرد؟ وأما الرجل الثاني بعد أن يزود نفسه بتفصيلات ظاهرة كونية واحدة وما فيها من أعاجيب تثير الدهشة والذهول، فإنه إذا ما عاد إلى الآية الكريمة، أحس أعماقها، فحقا إنه لو كان وراء البحر سبعة أبحر كلها مداد لنفد المداد قبل أن ينفد الحديث عن كلمات ربي.
وقد يقوم في ذهن قارئ هذه السطور سؤال يسأل به: أينتظر المؤمن حتى يتزود بالعلم ثم يبدأ في الإلمام بدينه أصولا وفروعا؛ وجوابنا عن سؤال كهذا هو أن نؤكد وجوب التفرقة بين أمرين: أولهما أن يتلقى المتدين عقيدته إيمانا منذ طفولته الواعية وأن يتعلم طرق العبادة ويمارسها، كل جانب منها في موعده المناسب، وأما الأمر الثاني فهو استخلاص حياة ثقافية من ذلك الدين، بالإضافة إلى ما نستخلصه من مصادر أخرى، ونحن في هذا الحديث، إنما نتناول الدين - والمصادر الأخرى - من حيث هو مقوم من مقومات البناء الثقافي.
كان أسلافنا الأولون في التاريخ العربي الإسلامي يجعلون اهتمامهم الأول في نشاطهم الفكري لموضوعات تفرعت لهم عن العقيدة الدينية ذاتها، ولم يكن لهم من ذلك بد لأنهم وجدوا أنفسهم أمام دين جديد آمنوا به، وحسبنا أن نستعرض مدارس الفكر ماذا كانت، وفي أي الموضوعات كسبوا فاعليتهم العقلية، ولنا في هذا الصدد أن نأخذ بما ذكره الإمام الغزالي في كتابه «المنقذ من الضلال» عن تلك المدارس إذ قال إنها أربع: الفلاسفة والمتكلمون والباطنية (ويسميهم التعليميين) والمتصوفة، فأما الفلاسفة فكلنا يعلم أن طريقهم في التفكير هو أن يوازنوا بين ما ورد في فلسفة اليونان الأقدمين، وبين ما جاء به الإسلام في مبادئه وعقائده، ليروا إن كان ما بينهما اتفاقا أو اختلافا، وذلك ليخلصوا لأنفسهم برؤية فلسفية عربية إسلامية، فإذا كان هذا هكذا، فلماذا لا يصنع فلاسفتنا اليوم صنيع أسلافهم لكنهم في هذه الحالة لا بد أن يضيفوا إلى فلسفة اليونان القدماء، ما استحدث بعدهم من فلسفات في الغرب الحديث والمعاصر، ومعنى ذلك قصور الدعوة السلفية عن إشباع الحاجة عندنا نحن العرب في يوم الناس هذا، وأما عن جماعة المتكلمين فقد كان هدفهم هو أن يقيموا الأدلة العقلية على موضوعات وردت في العقيدة الإسلامية مثل وجود الله ووحدانية الله، والصفات الإلهية وعلاقتها بالذات كالعلم والإرادة والعدل وغيرها والقضاء والقدر، وهكذا. فتلك الموضوعات وما يشبهها كانت هي الشغل الشاغل لجماعة المتكلمين، ونحن اليوم نسأل السؤال الذي ذكرناه فيما قدمناه وأجبنا عنه، نسأل أيهما أوصل بالمؤمن إلى الصورة الواضحة: أن نبحث في يومنا هذا تلك الموضوعات ذاتها التي أشبعها القدماء بحثا أم نجعل طريقنا إلى فهمها معرفة علمية دقيقة وواسعة بما في هذا الكون العظيم من كائنات، وعندئذ تتسع آفاقنا بمقدار ما درسنا لنفهم عن علم الله سبحانه وقدرته ووحدانيته وغير ذلك من صفاته سبحانه وتعالى فهما أدق وأعمق. وما قلناه عن جماعة الفلاسفة وجماعة المتكلمين في أقسام الغزالي الأربعة، نقول ما يشبهه عن «التعليميين» «جماعة الباطنية» من المتصوفة، فكل تلك الجماعات في الحياة الفكرية عند أسلافنا بحثت عن المعرفة في الموضوعات الدينية بادئة بها ومنتهية بها، فهل نجيء نحن في عصرنا لنكرر الشيء نفسه أو أن الطريق الأمثل بالنسبة لعصرنا أن نصل إلى الهدف ذاته عن طريق آخر؟
إن أولئك الذين يتمنون لنا أن تجيء حياتنا الثقافية اليوم صورة كربونية من حياة أسلافنا يفوتهم أن هؤلاء الأسلاف أنفسهم لم يكونوا على رأي واحد، بل اعتركوا بعضهم مع بعض فتكونت منهم فرق (جمع فرقة) على نحو ما نتشعب نحن اليوم تيارات ومدارس، فاقرأ - مثلا - كتاب ابن رشد «مناهج الأدلة في عقائد الملة» لترى صورة حية عن مجادلاتهم بعضهم مع بعض، فكما يدلك عنوان كتابه نرى ابن رشد يستعرض مناهج التفكير عند جماعات المتكلمين من معتزلة وأشعرية وغيرهما، كما يتناول كذلك مناهج المتصوفة ليبين في جلاء ناصع كيف أن أولئك وهؤلاء قد ضلوا سواء السبيل منهجيا حينما تناولوا عقائد المسلمين بالبحث والتدليل، وكان من طريف ما ذكره ابن رشد في هذا الكتاب - وكان ذلك قرب نهاية الكتاب - أن تلك الجماعات كلها قد انحرفت عن ظاهر النص القرآني الكريم قليلا أو كثيرا؛ وقال ما معناه: إن الموقف يشبه أن يكون طبيبا ماهرا قد ركب دواء يصلح لشفاء علة يمرض بها كثيرون؛ فيجيء مريض معين ليجد أن الدواء العظيم لم يلائم حالته الخاصة؛ فيدخل تعديلا في تركيب الدواء بحذف بعض عناصره التي ظن أنها هي التي باعدت بينه وبين الشفاء، فلا يلبث أن تلتف حوله جماعة تأخذ عنه هذا التعديل إلى أن تسوق الأيام مريضا آخر من هذه الجماعة الجديدة، لا يجد ملاءمة بين مرضه الخاص وبين الدواء المعدل فيلجأ بدوره إلى تعديل التعديل ويخرج إلى الناس بوصفة جديدة وتبعه فيها من يتبعه وهكذا دواليك. وذلك بعينه هو ما قد حدث - هكذا يقول ابن رشد ما معناه - للجماعات الفكرية، ثم يقول في آخر عبارته تلك ما نصه: وأول من غير هذا الدواء الأعظم هم الخوارج ثم المعتزلة بعدهم ثم الأشعرية، ثم الصوفية ثم جاء أبو حامد (الغزالي) فطم الوادي على القرى، واستطرد ابن رشد في حديثه عن الغزالي ليبين كيف أخطأ السبيل وكلنا نعرف شيئا عن تلك المواجهة الفكرية بين الرجلين حتى لتعد نموذجا فريدا لليقظة العلمية الثقافية، كيف يكون الأخذ والرد بين رءوس الأمة القوية، وذلك برغم أن الرجلين الإمام أبو حامد الغزالي والفيلسوف ابن رشد كان بينهما في الزمن بضع عشرات من السنين، فقد ألف الغزالي كتابه المشهور تهافت الفلاسفة ليبين فيه كيف أن فلسفة اليونان متمثلة في أرسطو وانعكست عند العرب في ابن سينا إنما هي كالبناء المتداعي لما تشتمل عليه من متناقضات وتمضي بضع عشرات من السنين بعد موت الغزالي في المشرق الإسلامي ليظهر ابن رشد في المغرب الإسلامي - في الأندلس - فيخرج بدوره كتابه «تهافت التهافت» قاصدا أن يبين أن المتناقض المتداعي بناؤه هو أبو حامد الغزالي في مؤلفه، وليس هو أرسطو اليوناني كما انعكست صورته في كتب ابن سينا.
فمن من هؤلاء المتعاركين في ساحة الفكر بين أسلافنا، هو من يريد أصحاب الدعوة إلى ثقافة سلفية أن يعودوا إليه أو أن يعيدوه حيا إليهم؟ كلا إنه عصر جديد لنا لا بد أن نعيشه قولا وتعديلا؟ ولكن ذلك يقتضي بحكم الضرورة أن تكون لنا في ترتيب الأفكار الثلاث الكبرى صورة جديدة.
أفكار تحيا وأفكار تموت
صفحة غير معروفة