قلت: أريد أن نعكس اتجاه السير، فنبدأ طريقنا بلمسة الواقع.
صورة جديدة لأفكار قديمة
هن أفكار ثلاث كانت للإنسان - ولم تزل - هي كبرى قضاياه، فتذهب به الأيام وتجيء. وهو عندها، يغزلها خيوطا وينسجها ثيابا، فإذا تبدلت عصوره واحدا بعد واحد، تبدل معها، فبعد أن كان في عصر مضى يغزل خيوطه من هذه قبل تلك تراه، وقد جاءه عصر جديد، يغزلها من تلك قبل هذه، فالأفكار الثلاث جميعا هي محاوره التي يدور حولها، لا غناء له عنها مجتمعة وفرادى، وذلك لأنه لا يصطنعها اصطناعا، ولا يتكلفها أو يدعيها لأنها صادرة له عن فطرته، ولا حيلة له في فطرة صنعت له ولم يصنعها لنفسه، وأما تلك الأفكار الثلاث، التي تلازمه ما نبض له قلب وتنفست رئتان، فهي فكرته عن إله خلقه وسواه، وفكرته عن كون يعيش فيه، وفكرته عن نفسه. وحول هذه الأقطاب الثلاثة تدور به الرحى: دينا وعلما وأدبا وفنا. ومما يقوله ويؤمن به عن تلك الميادين الثلاثة. في عصر معين من عصور تاريخه، ينسج له نسيج، هو الذي يقول عنه في ذلك العصر المعين إنه «ثقافته».
لكن الإنسان في دورانه حول تلك الأقطاب الثلاثة، تتغير وجهة نظره في ترتيبها، فمن أيها يبدأ؟ وإلى أيها ينتهي؟
على أن مدار الحكم هنا لا يكون الأولوية «في القيمة». وإنما تكون الأولوية لمنطق السير في تتابع خطواته، وتشبيه ذلك أن تكون ذاهبا من منزلك إلى المسجد، فتختار هذا الطريق مرة لأنه أقصر ويناسب وقتك الضيق، ثم تختار ذلك الطريق مرة ثانية لأنه أهدأ، وقد تختار طريقا ثالثا في مرة ثالثة، لتمر في طريق عودتك على صديق مريض تعوده، ومن هذا القبيل ما يحدث حين تأخذ الإنسان حيرة، في هذا العصر أو ذاك بأي الأفكار الثلاث يبدأ وبأيها ينتهي؟ أيبدأ من فكرته عن خالقه وخالق الكون معا، بمعنى أن يوجه اهتمامه الأول والأكبر إلى ما قد ورد في كتاب عقيدته الدينية، ليكون ذلك هو مصدر الضياء الذي على هداه يفهم الكون ويفهم نفسه؟ أم يأخذ ذلك الكتاب - في أول الأمر - من ناحية التدين والتعبد، مرجئا ناحية المعرفة والفهم حتى يدرس نفسه ويدرس الكون معا، وعندئذ فقط يكون أقدر ما يكون معرفة وفهما لحقيقة الخالق الذي خلقه وخلق الكون جميعا؟ والحق أن ثمة فرقا بعيدا بين الحالتين: حالة تعرف بها نفسك والكون على ضوء ما ورد في تعاليم الدين ومبادئه، وحالة أخرى تعرف فيها تلك التعاليم والمبادئ؛ على ضوء ما تدرسه دراسة متعمقة عن نفسك وعن ظواهر الكون معا؟ ولعلك قد لاحظت في هذا الذي بسطناه، أننا قد أدرنا الحديث وكأنه ليس هناك إلا طرفان: الله (سبحانه وتعالى) ثم الكون والإنسان مجتمعين معا في طرف آخر. لكن حيرة الترتيب تعود هي نفسها بين هذين العنصرين: الكون والإنسان، فيكون السؤال في هذه الحالة هو: أندرس الإنسان مرورا بدراسة الكون؟ أم ندرس الكون مرورا بدراسة الإنسان؟
والإجابة عن هذه الأسئلة، في أي عصر من العصور هي التي - فيما يظن كاتب هذه السطور - تحدد العصب الأساسي فيما يطلق عليه بعد ذلك اسم ثقافة ذلك العصر. وغني عن البيان، أن أمثال هذه الأسئلة لا يلقيها الناس بعضهم على بعض مقدما، لكي يبدءوا خطوات السير في طريق حياتهم العملية، بعد أن تتقرر الإجابة بأغلبية الأصوات إنما هي - أعني الإجابة - وأسئلتها تكون مضمرة في طبيعة الحياة التي أصبح الناس يعيشونها بحكم ظروف قامت ولم يعد في الأمر خيار للناس أحبوا تلك الظروف الطارئة أم كرهوها، تاركين مهمة التحليلات النظرية للموقف الجديد، لمن كان لهم مزاج وقدرة تميل بهم نحو أن ينتبذوا من صخب الحياة العملية ركنا هادئا، يراجعون فيه ما هو كائن على أرض الواقع، ليردوه إلى أصوله ومنابعه؟ فإذا ما عرضوا على الناس نتائج تحليلاتهم تلك وجدوا أنفسهم أوضح فهما لحياتهم، فإن رأوها تستوجب التعديل والإصلاح بدلوها وأصلحوها.
إننا في هذه المرحلة الحاضرة من حياتنا، نكثر الحديث المشوب بالقلق عن ثقافتنا وإلى أي وجهة نريد لها أن تتجه؟ وحتى أصحاب النظرة العجلى، يستطيعون أن يروا ثلاث وجهات للنظر متفاوتة القوة متفاوتة الذيوع، فوجهة منها، وهي الأوسع انتشارا بين الناس، وإن لم تكن بالضرورة أقواها حجة وأنضجها فكرا، لا تتردد في دعوة الناس إلى أن يحيوا في حاضرهم ثقافة هي نفسها الثقافة التي استظل بظلها أسلافهم في التاريخ العربي الإسلامي على وجه التحديد، فإذا أحاطتهم حياتهم القائمة بمشكلة كانوا على يقين من أنفسهم، بأنهم واجدون الحل الأفعل، بين ما خلفه لنا أولئك الأسلاف، فهناك سوف نجد السؤال وجوابه، على نحو ما يفعل التلميذ الصغير وهو يراجع دروسه استعدادا للامتحان، فإذا لم يكن السؤال ذاته موجودا في مخلفات السلف ، بحثنا عن سؤال يشبهه لنقيس الشبيه إلى شبيهه، ووجهة نظر ثانية، هي أقل الوجهات الثلاث قبولا وانتشارا بين الناس كما أنها في الوقت نفسه في - رأي هذا الكاتب - أضعفها حجة وأبعدها عن الصواب وهي وجهة نظر يميل أصحابها إلى أخذ ثقافتنا الآن بضاعة جاهزة من منتجات الغرب الحديث والمعاصر، تماما كما نفعل عندما نستورد منه الطيارات والسيارات، وكأننا أمة خرجت صباح اليوم لأول مرة من العدم. وأما وجهة النظر الثالثة فتقع وسطا بين الطرفين؛ بمعنى أنها تريد لنا حياة ثقافية تظل معها السحنة العربية بعامة - والمصرية بخاصة - سليمة من الأذى، على أن نلتمس لتلك الثقافة بعض غذائها من الغرب، وذلك فيما يمس نبض الحياة المعاصرة. ولا أظن أن ذلك طلب منا للمحال؛ لأنه أمر وقع في حياتنا بالفعل، في بعض جوانب حياتنا، وعند نفر من أعلامنا، ولم يبق إلا أن نعمق ليشمل جوانب الحياة بأسرها وأبناء الشعب جميعا في رؤيتهم العامة للدنيا وأهلها وأحداثها.
وأغلب ظني هو أننا إذا ما أمعنا النظر في هذا الاختلاف بين وجهات النظر الثلاث، وجدنا أنها في أساسها أنما تختلف على أولويات الترتيب بين المحاور الثلاثة التي قدمناها، فأصحاب وجهة النظر الأولى يرون أن نبدأ بمعرفة الدين في مصادره وأصوله لكي نفهم الكون والإنسان على أساسه، وأصحاب وجهة النظر الثانية، جريا على نموذج الثقافة الغربية القائمة، يرون أن العلم بالكون والإنسان يهيئ لنا النضج الفكري والروحي معا، الذي يعيننا بعد ذلك على أن نكون أقدر على فهم ديننا فهما لا يتصادم مع أسس الحياة، كما تفرضها ظروف عصرنا. وأما أصحاب وجهة النظر الثالثة، وهي التي تلتمس لنفسها طريقا وسطا يجمع الطرفين ولا يرفضهما، فالظن عند أصحابها - أو هكذا يرى كاتب هذه السطور - أن الأولوية إنما تكون للإنسان؛ نربيه على أسس تستثمر فطرته كما هي واقعة، وكما خلقها خالقها ومصورها وباريها؟ على نحو ما يرعى الزارع طبيعة النبات الذي يتعهده، فالأولويات لا يقررها هو للنبات، بل النبات هو الذي يمليها عليه. وكذلك يكون الإنسان في نشأته ونموه؛ له في كل مرحلة من مراحل عمره حاجات تتطلب الإشباع فيتولاها ولي أمره بما هي في حاجة إليه دينا كان، أو علما أو بحثا عن نفقة نفسه، حتى إذا ما اكتمل له النمو الناضج، عرف كيف يكون عالما مع الدين أو كيف يكون متدينا مع علم بحسب ما تقتضيه وقفته من دنياه.
وقبل أن أضع بين يدي القارئ مقارنة بين دنيانا اليوم وما نستوجبه، وبين دنيا أسلافنا في التاريخ العربي الإسلامي (وأتعمد أن أضع هذا التحفظ لأن لكل بلد من الوطن العربي أسلافا آخرين يؤخذون أيضا في الاعتبار عند تكويننا لوجهة نظر معينة) أفضل أن أسوق مثلا مأخوذا من غيرنا، لنرى كيف يحدث الانتقال الثقافي عند الشعوب، استجابة لتغير ظروف الحياة، فكيف تحولت أوروبا من ثقافة عصورها الوسطى إلى ثقافة عصورها الحديثة، فالمعاصرة؟ فلقد تم لها ذلك التحول خلال ما يقرب من قرنين، هما الخامس عشر والسادس عشر، فما الذي كان قبل ذلك وما الذي أصبح بعده؟ ونعود إلى الأفكار الثلاث الكبرى التي ذكرناها: الله والكون والإنسان، فنرى أن ما قد حدث هو - أساسا - تغير في ترتيب تلك الأفكار في بناء الحياة الثقافية، فقد كان الترتيب خلال العصور الوسطى كلها (امتدت من القرن الخامس إلى القرن الخامس عشر) يعطي الأولوية المطلقة للدين ورجاله، حتى لقد كانت الأكثرية الغالبة من العلماء، من رجال الدين؟ كما كانت الأكثرية الغالبة من موضوعات البحث مما يتصل بالفكر الديني من قريب، بل وكانت الأكثرية الغالبة من مراكز البحث العلمي في الأديرة، وترتب على هذا المناخ العام أن تنحصر شئون الدنيا - من ناحية البحث العلمي - في أقل حيز ممكن؛ إذ لماذا يعنى الباحثون العلماء بدنيا الناس هذه، إذا كانت هذه الدنيا بكل ما فيها شيئا مزهودا فيه، لا يزيد على أن يكون معبرا ليس منه بد كل أمره هو أن يوصل الإنسان إلى لقاء ربه؟ ولا عجب ألا يجد المنقب لآثار العصور الوسطى في ربوع أوروبا، إلا عمارة الكنائس والأديرة وإلا فنونا من تصوير ونحت يتصل كلها - أو معظمها - بموضوعات دينية مأخوذة من الكتاب المقدس، وهكذا قل في شتى جوانب الحياة الثقافية من رجال أعلام ومؤلفات وتيارات لفكر الفلسفي وغيرها، وأظن أن ذاكرتنا نحن في الشرق الإسلامي، تحفظ جيدا معاناة أمتنا وبلادنا - في تلك العصور الوسطى - من الحروب الصليبية التي شنها علينا ملوك أوروبا بدفعة من الروح الدينية الضيقة الأفق إبان تلك الفترة من تاريخ أوروبا.
لكن القلق أخذ يسري في نفوس الناس وأخذت الرغبة في الانطلاق تشتد بهم شيئا فشيئا حتى رأينا الإنسان الأوروبي عندئذ يغامر هنا وهنا وهناك وطلبا لمعرفة هذا العالم الذي إنما خلق ليعيش فيه، فغامر في المحيطات المجهولة عندئذ ليكشف عما وراءها ويكفي أن نذكر من تلك الرحلات رحلة كرستوفر كولومبس، التي انتهت إلى كشف القارة الأمريكية، وكلنا يعلم كم نتج عن ظهور تلك القارة - أو القارتين - من أثر في تغيير وجه الحضارة الإنسانية كلها بعد ذلك، ولست أنسى تلك المحاضرة العلمية التي سمعتها في شبابي حين قال المحاضر في سياق حديثه: إن نتائج رحلة كولومبس عبر المحيط الأطلنطي لم تظهر كلها بعد، قاصدا بذلك إلى أنه ما دامت حضارة الولايات المتحدة الأمريكية هي نتيجة ذلك الكشف الجغرافي ثم ما دامت هذه الحضارة العلمية الجديدة لم تستكمل شوطها بعد إذن تكون رحلة كولومبس ما زالت منطوية على مجهولات فيما قد ينتج عنها.
صفحة غير معروفة