أردت بهذا كله أن أقول إن الكشف عن الحقائق، وحلول ما يعرض لنا من مشكلات، هو من شأن العلم لا من شأن السياسة، ولم يكن بيكون في كتابه «أطلنطس الجديدة» شاطحا بخياله في عالم المستحيل، ولا كانت فكرته عن قيام حكومة العلماء حلما بعيد المنال، ففي حالات كثيرة، حدث بالفعل عندنا وعند غيرنا، أن عين وزير هو من «العلماء» في المجال الذي نيطت به وزارته، وأظن أن ما أسموه بالمعجزة الألمانية، والتي قصدوا بها إحياء ألمانيا الغربية بعد أن خربتها الحرب العالمية الثانية تخريبا، ظن أن لن يكون لها قيام بعده، إنما ترجع إلى جماعة «العلماء» الذين تولوا الحكم في ألمانيا الغربية بعد الحرب، فكان كل منهم أعلم الناس بما يعيد الحياة إلى المجال الذي تولى شئونه.
وهنا أعود بحديثي مرة أخرى إلى السياسة والسياسيين، محاولا أن أعيد رسم الخريطة كما يمكن أن أتصورها، لعلي أفهم ما لم أستطع فهمه من قبل، فليس الأمر كله - في الواقع الفعلي - هو أمر وزراء يتولون بعلومهم رسم الطريق نحو ما هو أرقى وأفضل، إذ يبقى السؤال: ومن الذي يحدد ذلك الذي عددناه أرقى وأفضل؟ بعبارة أخرى: إذا كانت حكومة العلماء من شأنها شق الطريق المؤدي إلى تحقيق الأهداف، فمن الذي يضع للأمة أهدافها؟ وما كدت أضع السؤال أمامي في هذه الصورة، حتى ازددت وضوحا لحقيقة الموقف، فالذي يضع الأهداف هو - جمهور الشعب - في مجموعه. إن صدور الناس - عامة الناس - تنطوي على أمنيات ورغبات يود الناس لو وجدوها محققة، والأمنيات والرغبات ليست تحتاج من أصحابها إلى «علم»؛ إذ هي شعور مباشر بما ينقص حياتهم، فالجائع لا يحتاج إلى علم يبين له أنه جائع، والمقيدة حريته لا ينتظر علوم الفلك والكيمياء لتشعره بأن حريته مغلولة بقيودها، وهكذا تجيء الأمنيات والرغبات لتضطرب بها صدور الناس، علماء وغير علماء على السواء.
لكن القدرة على صياغة تلك الأمنيات والرغبات صياغة محددة تتخذ شكل «المبادئ» التي يمكن قراءتها وتصورها بالعقل، قدرة لا تستطيعها إلا قلة قليلة، فلنا أن نقول عن هؤلاء إنهم هم رجال السياسة، أو هم الأعلام من هؤلاء الرجال، لأن الكثرة الغالبة من المشتغلين بالسياسة، لم يكونوا هم الذين استقطبوا ما يدور في أفئدة الناس من أمنيات ورغبات، وصاغوها في مبادئ ونظريات، بل إن هذه الكثرة منهم تتبع ما صاغه لهم أعلام المفكرين في ميادين الفكر السياسي. وعلى أية حال، فالنتيجة العملية هي أن من تميزوا بتصورهم النظري الواضح للأمنيات والرغبات التي تموج في نفوس جمهور الناس غائمة غامضة، هم أنفسهم الذين تصدق عليهم صفات «السياسي»، وهم بالتالي الذين يتقدمون لينوبوا عن الشعب في المجالس النيابية. ولما كانت تلك الأمنيات والرغبات، التي يحسها أفراد الشعب ويعبر عنها نوابه من السياسة، قد لا تكون على صورة واحدة عند الجميع، فمن الناس من هو أسرع من الآخرين طيرانا إلى مستقبل جديد، ومنهم من هو أشد استمساكا من غيره بما هو قائم، أو حتى بما قد كان قائما في الماضي، أقول إنه لما كان جمهور الناس ليسوا على صورة واحدة فيما يتمنونه لحياتهم، نشأت «الأحزاب» ليعبر السياسيون في كل حزب منها، عن الصورة كما يريدونها هم، أصالة عن أنفسهم، ونيابة عن جمهور الشعب الذي يشاركونه ذلك التصور، وكل الفرق بين الجمهور ونوابه - نظريا - هو أن الجمهور يحس الرغبة إحساسا لا يستطيع ترجمته إلى مبادئ وأفكار، وأما ساسته فذلك التعبير عما يحسونه هو في مستطاعهم.
بهذا الفهم رسمت الخريطة - كما تجلت - أمامي، وخلاصتها إطار قائم على دعامتين: دعامة تحس الأهداف المنشودة وتعبر عنها، وذلك هو الجانب النيابي من الدولة، والدعامة الأخرى هي أولئك الذين يناط بهم رسم الطريق إلى تلك الأهداف حتى تتحقق وتصبح حقيقة واقعة، وتلك هي الحكومة التي أتمنى لها، كما تمنى بيكون في أطلنطس الجديدة، أن تكون كلها من «العلماء» بأدق معنى لهذه الكلمة، أي إنني لا أعني بالعلماء من حفظوا مادة علمية معينة، بل أعني بتلك الكلمة أولئك القادرين على البحث العلمي، بمناهج ذلك البحث التي يعرفها العلماء المبدعون، وذلك لأن عضو الحكومة مطالب بما تطالب به مراكز البحث العلمي، بالنسبة إلى ما سوف يجده في ميدان وزارته من مشكلات تريد الحل.
الشعب هو الذي يضع الأهداف التي يريد تحقيقها في حياته، وذلك عن طريق نوابه وسائر القادرين على التفكير والتعبير من أعضاء الحزب المعين؛ إذ أهداف الشعب - كما قلنا - قد تتعدد صورها، وبالتالي تتعدد الأحزاب، على أن نتذكر هنا أن اختلاف الناس إنما يقع على الأهداف القريبة، التي هي بدورها وسائل تؤدي إلى هدف قومي بعيد وفي هذا الهدف القومي ينبغي أن تلتقي آمال الأمة بكل أحزابها.
إنه كثيرا ما يقال إن الوزير رجل سياسي في المقام الأول، وله أن يستعين بمن يستطيعون العون من «العلماء»، لكنني بهذا التصور الذي عرضته أقلب الترتيب، فالوزير «عالم» في ميدان وزارته، ولكنه لا بد أن يستعين بالسياسي - من المجلس النيابي أو من خارجه - في معرفة الأهداف التي يتمناها أفراد الشعب، فالأهداف - كما ذكرت - هي من حق الشعب، وأما خطط تحقيقها فهي واجب العلماء، أو هي - في هذه الحالة - واجب الوزراء العلماء.
إنه ليلفت نظري فرق لغوي، أراه ذا دلالة مفيدة، بين الكلمة الإفرنجية، إنجليزية وفرنسية، وقد يكون في لغات أوروبية أخرى كذلك، التي تقابل كلمتنا العربية «سياسة»، فذلك الاسم عندهم يبدأ بمقطع معناه المدينة، ثم تمتد الإشارة طبعا إلى من يسكنون المدينة، وهم الجمهور، وبهذا يكون معنى اللفظة عندهم هو: ما يتصل بحياة الناس، وأما الاسم العربي «سياسة» فيثير عندي أسئلة كثيرة، أولها (وأنا هنا أسأل عما لست أعرفه) هل استعملت كلمة سياسة أو سياسي في العصور العربية الأولى، وإذا لم تكن، فمتى دخلت باستعمالها المعروف الآن؟ والسؤال الثاني - وهو أهم - هل يراد بالسياسي أن يقوم بما يقوم به من يسوس الجياد، وبهذا المعنى يكون المراد بالسياسي «ترويض» الشعب على سلوك معين؟ أخشى أن يكون هذا المعنى كامنا في نفوسنا، عندما استخدمنا هذه اللفظة فيما نستخدمها لتؤديه؛ لأنه لو كان الأمر كذلك، لكان للسياسة عندنا عكس ما للسياسة عند شعوب أوروبا، فبينما هي هناك تعني النظر فيما يتصل بحياة الناس، جعلناها نحن ترويضا للناس على ما ليس يرغبون فيه، ومن يدري ربما كان من أجل هذا المعنى ل «السياسة» قال الشيخ محمد عبده - فيما روي عنه - لعن الله السياسة وساس ويسوس وسائسا ومسوسا.
وللكاتب الناقد الفني «هربرت ريد» مقال عنوانه «سياسة بغير سياسيين» يرحب فيه بالسياسة إذا جاءت راعية للشعب في أمور حياته، لكنه يرفض رجال السياسة الذين يحولون المسألة إلى حرفة يكسبون منها المال والمجد، ويحيطونها بكهنوت يوهمون به الناس، أنهم مستطيعون ما لا يستطيعه كثيرون.
وخلاصة الخلاصة، هي أني لو سئلت في دنيا السياسة: أي المذاهب تختار؟ لأجبت بأني أختار كل اتجاه يجعل من رغبات الشعب أهدافا، ومن الحكومة علماء يحققون بمنهجهم العلمي تلك الأهداف.
«يانوس» بين عامين
صفحة غير معروفة