أعني أن الموجود عندنا أو عند غيرنا هو ثقافة لا غزو فيها، فإذا أضفتم إليها صفة الغزو، انتقلت هي بعد هذه الإضافة من الوجود إلى العدم! ومن هنا جاءت ضرورة أن يتحول الجسم الحي إلى شبح كالذي رأيته ليلة أمس يا مولاي.
وبعد أن فرغ زائري من روايته لما قصه عليه صديقه الرحالة ضحك ضحكة هادئة وسألني: هل خرجت من هذه القصة بشيء؟ قلت له: نعم، بالتأكيد فقد كنت أتابع ما نقلته عن صديقك، فأشعر كأنني أتابع قصة الثقافة في مصر إبان تاريخها الحديث، أو على الأقل خلال فترات من ذلك التاريخ، منها هذه الفترة الراهنة التي نجتازها اليوم. فأدهشت إجابتي الأخ الزائر دهشة انفعل بها حتى أخرجته من هدوئه، فسألني بما يشبه الصياح، وهو يمد ذراعيه أمامه ويطوح بهما ذات اليمين وذات اليسار مرة وإلى أعلى وإلى أسفل مرة أخرى قائلا في ذهوله: ماذا تقول يا أخانا؟ أقص عليك خرافة عاشتها جزيرة نائية حينا من دهرها، فتجعلها أنت تصويرا للثقافة المصرية في بعض مراحل تاريخها الحديث، كيف كان ذلك يا مولانا قل لي بربك كيف كان ذلك؟
قلت: اهدأ قليلا يا أخي، فليس الصياح برهانا ولا اضطراب الأعصاب يزيدنا شيئا في توضيح المعاني، سأبين لك الآن كيف أن ما أسميته أنت بخرافة أهل الجزيرة هو في الوقت نفسه تصوير لحياتنا نحن الثقافية اليوم، فلنفرض أن أحدا جاءني وأراد الاستعانة بي في تفسير حلم له رآه في نومه، ثم أخذ يقص علي هذه القصة ذاتها التي رويتها لي عن الجزيرة وأهلها نقلا عن صديقك الرحالة، فكيف كنت لأفسرها، كنت لأقول له شيئا كالآتي: أما الجزيرة الصغيرة النائية، فترمز هنا للعزلة المميتة التي نحيا اليوم في ظلمتها، وأعني بها عزلتها الثقافية؛ وذلك لأن المعول في الحكم على حياتنا الثقافية ليس هو تلك العشرات القليلة من صفوة المثقفين الذين يتابعون تيارات الفكر والفن في العالم المتقدم، الذي شاء له الله في هذا العصر أن يكون مبدع الحضارة الجديدة، والثقافة الجديدة معا، بل المعول هو على ما ينشره أصحاب الصوت المسموع لجماهير الشعب ولتسعة أعشار المتعلمين أيضا، فإذا رأيت هؤلاء جميعا في واد، وما يعج به العالم المتقدم في واد آخر، فاعلم إذن أن خير تصوير لهذه الحالة هو جزيرة نائية في جنوبي المحيط الهادي لا تسمع عن أحد ولا يسمع عنها أحد.
وأما سلطان الجزيرة - والحديث هنا عن حياتنا الثقافية بوجه عام - فهو يرمز إلى أولئك الذين أمسكوا بزمام الجماهير، يكتبون للجماهير ويذيعون للجماهير، فتسمع الآذان جميعا، وتقرأ الأعين القارئة، فذلك السلطان المتسلطن على عرشه، لم تكفه عزلة الشعب في جزيرة فينعزل معه، بل أمعن في العزلة فسكن برجا مصمت الجدران، لا تبصر فيه العين بابا ولا نافذة حتى لتعجب من أين يكون الدخول والخروج، اللهم إلا أن يكون السقف مفتوحا نحو السماء.
وأما الشبح البشع المخيف، الذي هاجم سلطان «الثقافة» الشعبية، فليس هو في الحقيقة بذي وجود وإلا لما كان شبحا، وإنما هو موجود في أوهام السلطان وأعوانه وأشباهه ومريديه. إن الشبح إذا كان قد هدد السلطان بغزو وشيك لجزيرته فما ذلك إلا انعكاس للسمادير الهائمة في تلافيف دماغ السلطان وأدمغة الحاشية، وصورة من الهلوسة التي تفزعهم بالنهار ويرونها في كوابيس الليل، أما الموجود حقا عبر المحيط، والذي يتسلل إلى الجزيرة رغم أنف الكارهين، فهو «ثقافة» تأتي لتنفتح الأبصار وترهف الآذان.
هنا قاطعني زائري بقوله: وما الذي يدعوهم إلى أن يظنوا بالثقافة «غزوا» إذا لم يكونوا قد رأوا تلك الثقافة خطرا على حياتهم.
قلت له: نعم، لقد صدقت، فالثقافة العصرية بعلومها وفنونها وآدابها، هي بالفعل خطر على «حياتهم»؛ لأنها تحمل من العلم ما لا يعلمون، ومن الفن ما لا يقدرون، ومن الأدب ما لا يتذوقون، إن الأمر - يا سيدي - لا يزيد ولا يقل عن دفاع غريزي عن النفس تماما كما يفزع الكائن الحي أينما كان، لأخف حركة غير مألوفة يحس بها، وقد فاجأته فتسري في بدنه رعدة الخوف، وتفرز له الغدد المختصة ما تفرزه داخل جسمه وينسحب الدم من رأسه حتى ليصفر وجهه، وذلك ليتجه ذلك الدم المنسحب إلى الأذرع والأرجل استعدادا إما لمواجهة القتال وإما للفرار، هو أمر طبيعي يا أخي لا غرابة فيه ولا شذوذ، والسلطان و«حاشيته وأشباهه» في حياتنا الثقافية قد حفظ أشياء حفظا أصم وهو مستعد لإخراجها كلما دعت الحاجة، ثم يطويها في صندوقها انتظارا للحظة أخرى يطلب منه فيها إعادة تسميعها، ومن هذا يكسب رزقه الحلال، فلماذا يعرض نفسه لخطر الجديد الوافد كائنا ما كان نفعه عند أصحابه؟ من هنا رأيته يرى في أية «ثقافة» ترد إلى أرضه «غزوا».
قال زائري: ومتى، يا ترى، ولماذا أخذ أصحابنا هذا الموقف؟ أم كانت تلك هي الحال دائما معنا ومع غيرنا؟
أجبته قائلا: إنها حالة تنتاب الرءوس في مراحل الضعف، لكنها تختفي اختفاء تاما في مراحل القوة، انظر إلى العرب الأوائل عندما بلغوا من القوة ما بلغوا في صدر الإسلام، لقد فتحوا ثغورهم جميعا لكل ثقافة تأتي من خارج حدودهم، أيا ما كان مصدرها. وهي إن لم تأتهم من تلقاء نفسها أتوا بها عامدين، جاءتهم «ثقافة» وأرسلوا رسلهم ليجيئوا لهم بثقافة ولم يخطر لأحد منهم - إلا نادرا - أن يقول قائل منهم إنه «غزو ثقافي»؛ وذلك لأنهم كانوا أصحاء أشداء لا يخشون على أنفسهم لفحة البرد ، أو حتى ضربات الصقيع.
ولماذا نطوي القرون القهقرى أكثر من ألف عام بحثا عن مثال لما قد كان بين الأسلاف، إنه لتكفينا بضع عشرات من السنين، لنرسل أبصارنا إلى ساحة الرجال، فهذا هو الشيخ محمد عبده يقرأ ما كتبه هانوتو ليرد عليه، ثم يسافر إلى إنجلترا ليلتقي وجها لوجه مع شيخ فلاسفة بريطانيا في ذلك العهد، وهو هربرت سبنسر، ثم ها هم أولاء رجالنا في العشرات الأربع الأولى من هذا القرن: قاسم أمين، لطفي السيد، طه حسين، العقاد، الدكتور هيكل، سلامة موسى، أحمد شوقي، طلعت حرب ... إلى آخر ذلك الرعيل الرائد من أقوياء فتحوا لكل ما عند العصر من فكر وأدب وفن، فتحوا له صدورهم وقلوبهم وعقولهم في غير خوف، فلا بارك الله أنفس الجبناء.
صفحة غير معروفة