والسور الذي كانت هذه المباني قائمة فيما وراءه والذي يحيط بالمدينة القديمة ما يزال قائما إلى اليوم، ولقد كان عضد الدولة أبو شجاع وزير الطائع لله أول من أنشأه في سنة 360ه اتقاء لغزو الأعراب المدينة، ثم كان الأمراء يقيمونه كلما تداعت أركانه، حتى عمره محمد علي باشا بعد انتصار جيوشه على الوهابيين، وجدده السلطان عبد العزيز سنة 1285ه، وبنى فيه أربعين برجا تشرف على ضواحي المدينة للدفاع عنها؛ وما تزال القلاع قائمة في بعض نواحيه اليوم على قلة ما ينتظر من فائدتها في الدفاع ضد الأسلحة الحديثة.
أويصبو شباب المدينة كما يصبو شباب مكة إلى الحياة الحديثة في التفكير والعيش؟ هذا الأمر لا ريب فيه، لكن الناس من أهل المدينة لا تنفسح مطامعهم لما تنفسح إليه مطامع المكيين وبلدهم عاصمة الحجاز ومقر الحكم والسلطان، على أن طبيعة المدينة أدنى إلى الحضر، وموقعها أدنى إلى مواطن الحضارة من مكة، وشبان المدينة شديدو التوق لذلك إلى المعرفة والتزيد منها، لولا أنهم لا يجدون إليها الوسيلة، ولو أنهم وجدوها، ولو أن المدينة اتصلت بالعالم اتصالها قبيل الحرب، لكان لها في الاندفاع إلى الحياة الحديثة ما يزيد على ما لمكة فيما أظن.
أما وحالها الحاضرة ما رأيت والحكم فيها للنجديين القريبين من البداوة، فالحديث عن هذا التفوق وعن اندفاع المدنيين إلى الحضارة أدنى إلى أمنية لا يدري أحد ما كتب القدر لها في لوحه، وإذا ذكرت حكم النجديين بالمدينة فلا تقس إليه حكمهم بمكة، هم بمكة في عاصمة أكثر الأمر فيها إلى أبناء الحجاز وليس للنجديين فيها إلا الرياسة العليا، وهؤلاء النجديون لا يقيمون بمكة إلا أيام الحج وبعض أيام أخرى من السنة، وفيما خلا ذلك تصفو مكة لأهلها، أما أمير المدينة النجدي فيقيم بها طول العام، وهو فيها الحاكم المباشر النافذ الكلمة المطاع، من ثم يرتقب أهل المدينة إرادته، وتدعوهم دماثة أخلاقهم إلى مصانعته، إنه يود من ناحيته لو استطاع أن يدرك الحياة الحديثة وأن يجمع بينها وبين عقائده وميوله النجدية، وهو بذلك يدنو منهم بعض الشيء، لكن مكانته، بوصفه ولي الأمر في البلد، وطبيعته البدوية الصميمة، تمسكانه دون بلوغ الكثير من ذلك، وتدعوان أهل المدينة إلى متابعته أكثر مما يتابعهم.
زرت الأمير عبد العزيز بن إبراهيم غير مرة، زرته في ديوان الحكم، وزرته في داره، وتناولت طعام الغداء على مائدته، وشاركته في طعام خفيف آخر الأمسية دعاني إليه ابنه إبراهيم، ولم يدهشني ما رأيت من مظهر حياته النجدية بدار الحكم ولا في غرفة استقباله بالمدينة، فقد ألفت أن أرى من ذلك في مصر وفي غير مصر ما لا يدع للدهشة موضعا، وأنت لا ترى على باب الوزير من مظاهر البأس العسكري المتبجح ما تراه على باب مأمور المركز، وأنت كذلك لا ترى من مظاهر هذا البأس على باب قصر الملك أو دار وزير المالية أو أمين العاصمة بمكة ما تراه في مجلس أمير المدينة، ففي هذا المجلس جند من النجديين علمهم الأمير الحرص على أن يظهروا للناس بأسه وبطشه، فإذا دعا أحدهم دعاه في شدة كما يدعو المأمور أحد جنود المركز، ولبى الجندي في اندفاع وتطلع واستعداد لتنفيذ أي أمر، ولقد تناولت على مائدته طعام الغداء فكانت مائدة بدوية يجلس الناس حولها ويتناولون طعامهم بأيديهم، فيجدون منه طعاما لذيذا، فوق شبعهم، أما يوم دعاني ابنه في الأمسية فقد صعدنا إلى دار الأمير وتناولنا «بسكويتا» ومربات وحلوى، وقد حرص الأمير على أن يتناول الطعام بالشوكة ليدل بذلك على حسن استعداده لحياة العصر، وأهل المدينة يجارونه في بداوته وفي محاولته الحضارة، وإن كان أكثرهم قد عرف أيام حكم العثمانيين من مظاهر الحضارة ما لم تعرف نجد البعيدة عن الحضارة العثمانية.
وإبراهيم ابن الأمير فتى لما يجاوز الخامسة عشرة فيما أرى، وهو وسيم الطلعة في زيه العربي، حاد النظرة من عينين سوداوين فيهما حور، ممشوق القوام، رقيق المظهر، ليس فيه شيء من هذه الخشونة وهذا البأس اللذين يبدوان في نظرة أبيه وفي حديثه، واللذين جعلا منه مثل القسوة الباطشة في الحجاز كله، ولم أسمع حديث الفتى لأقف على مبلغه من العلم، وإن رأيت منه صرامة في توجيه الأوامر إلى تابعيه، هي لا ريب بعض ما ورث عن أبيه وبعض ما يقضي به مركزه وهو ابن الأمير الباطش الشديد.
وتناولت طعام الغداء يوم سفري من المدينة على مائدة أحد أعيانها، فرأيت فيها من نظامنا الحديث ما لا يتفق مع هذا الذي رأيت عند الأمير وما أذكرني أن القوم لم ينسوا بعد أيام الأتراك، وهذا الرجل من أعيان المدينة ليس في سعة من الثروة تعاونه على المبالغة في بسط العيش، هذا ما قصه علي بعض من وثقت بهم ممن عرفت بالمدينة، وإني لأقرأ يوما في كتاب «برخارت» إذ وقفت فيه على ما يقال من أن أهل المدينة أحرص على التظاهر من أهل مكة، وأنهم يميلون إلى شظف المأكل في حياتهم الخاصة، لكنهم ينفقون على أثاث منازلهم وعلى ملابسهم التي يقابلون الناس بها نفقات طائلة.
ترى هل تطوع الأقدار للمدينة أن تبلغ غايتها فيما تتوق إليه من الحياة الحديثة ومظاهرها ؟ وما عسى أن يكون أمرها إذا بلغت هذه الغاية؟ إنهم ليتحدثون عن إعادة سكة الحجاز الحديدية سيرتها الأولى، وأهل المدينة يشرئبون بأعناقهم إلى هذا اليوم ويدعون الله من كل قلوبهم أن يكون قريبا، وإني لأشاركهم في هذا الدعاء، وأرجو أن تسمو تقديرات الساسة حين النظر في هذا الأمر إلى الاعتبارات الإنسانية، وألا تقف في حدود التفكير الاستعماري والتنظيم الحربي، ولئن تأثرت في هذه الدعوة بأن المدينة من الأماكن الإسلامية المقدسة؛ لأنها مهاجر النبي العربي؛ ولأن بها قبره، إنني لشديد الرجاء ألا يبلغ تأثر ساسة الغرب بميولهم المسيحية حدا يحول دون بلوغ المدينة ما يمكن أن تبلغه من أسباب الرخاء والتقدم مما يطوع لأبنائها أن يشاركوا بمجهودهم في العمل المثمر لرخاء الإنسانية وتقدمها.
ما أشد شوقي أن يتحقق هذا الرجاء وأن يتاح لي إذا أعيد طبع هذا الكتاب أن أشير إلى نجاح المسعى لإعادة السكة الحديدية التي تعاون المسلمون من أقطار الأرض جميعا على إنشائها! يومئذ يتاح للمدينة أن تخطو نحو حضارة العصر خطوة واسعة، وأن تتصل بسائر أنحاء العالم كما اتصلت من قبل بها، وأن تجد في موقعها الطبيعي عونا على تقدمها السريع في الاضطلاع بأعباء الحضارة، فهذا الموقع الطبيعي على ما رأيت حضر كل الحضر، لا يدانيه موقع مكة من هذه الناحية ولا يقاس إليه؛ وهو لذلك صالح لمقام عدد عظيم جدا من السكان يستطيع التعاون والعمل المثمر والاعتماد على خيرات هذه الطبيعة الخصبة الجواد، ومبادلة العالم مبادلة لا تقف عند المنتجات التي تجود بها هذه الطبيعة، بل تتعداها إلى نتاج العقل الإنساني وآثار الفن والفكر، وتكون بذلك عظيمة الأثر جليلة الفائدة.
لم أشر إلى شيء من ذلك وأنا أتحدث في هذا الفصل عن المدينة الحديثة؛ لأن حال المدينة وحظها ما رأيت، لكن رقعتها قد اتسعت حين ابتسم الدهر لها لثمانين ألفا يقيمون بها ويعيشون فيها عيش رخاء وسعة، لم ينقصها الغذاء يومئذ وقد كان حولها من البساتين والمزارع ما طوع لأهلها أن يعيشوا عيش الترف، وأن يقيموا القصور الشاهقة وأن يحيطوها بالحدائق الغناء، ولا يزال الأثر الباقي من قصر سعيد بن العاص شهيدا بذلك، والتاريخ يذكر قصورا بوادي العقيق خلد الشعر على حقب العصور أسماءها، ولم ينقص الماء المدينة والعيون والآبار فيها بالغة من الكثرة حدا يثير تطلع «الجيولوجيين» إلى معرفة طبقات الأرض وما تحتوي عليه فيها، ولئن بقيت العين الزرقاء مصدر الماء لسقيا أهل المدينة إلى هذا الوقت الحاضر.
لقد يقف الإنسان أمام العيون والآبار المنثورة داخل المدينة وفيما حولها دهشا متسائلا عن منابع هذا الماء أين تكون؟! وكيف تختلف كل هذا الاختلاف الذي يعيد إلى الذاكرة صورة من بلاد المياه المعدنية بأوروبا؟! وأنت تقف من هذه الآبار اليوم عند بئر أريس بجوار مسجد قباء، وبئر رومة الواقعة بالعقيق قريبة من مجمع الأسيال، وبئر غرس، وبئر حاء، وبئر بضاعة، وبئر السقيا، وبئر أبي أيوب، وبئر ذروان، وبئر عروة بن الزبير، ويذكر البتانوني في رحلته بئر الأعواف، وبئر أنس بن مالك، وبئر القويم، وبئر العباسية، وبئر صفية، وبئر البويرة، وبئر فاطمة، ولعل من هذه الأسماء التي ذكرها البتانوني ما يتفق في مدلوله مع أسماء الآبار التي وقفت عندها، وإنما اختلفت التسمية باختلاف العصور.
صفحة غير معروفة