وكانت المدينة تسقى من هذه العيون إلى أن جرت فيها العين الزرقاء بأمر معاوية بن أبي سفيان في مستهل النصف الثاني من القرن الأول للهجرة، في ذلك الوقت أمر معاوية عامله على المدينة مروان بن الحكم فأجرى هذه العين التي سميت الزرقاء؛ لأن مروان كان أزرق العينين فيما يقول المؤرخون، يقول الأستاذ عبد القدوس الأنصاري في كتابه «آثار المدينة المنورة»: و«أصل العين من بئر الأزرق في بستان الجعفرية غربي مسجد قباء، وقد أضيفت إليها آبار في أوقات متفاوتة، كبئر أريس، وبئر الرياض، وبئر بويرة، كما أنها مدت بينابيع حفرت في جنوبي بئر الأزرق أيضا، وتسير من مصادرها المذكورة إلى بئر الشلالين فتفيض فيها، ثم إلى بئر الغربال، فبئر جديلة، وهنا تمدها بئر السرارة وبئر القلعجية وبئر السيد عبد الرحيم السقاف، ومن هنا تأتي إلى المدينة ولها بها عدة مناهل، وتخرج من المدينة إلى الشمال، وحذاء بستان داود باشا تنقطع ويسير فائضها مع الماء الملح الآتي معها مع بئر جديلة إلى البركة شمال الجرف وهناك مغيضها.»
لم ينقص الماء ولا نقص الغذاء المدينة في أبهى عصورها وأكثرها سكانا بل كان الأمر على الضد من ذلك؛ فكانت أيام الوفرة في السكان أيام رخاء ونعيم، ولسنا في حاجة إلى الإيغال في التاريخ التماسا للدليل على هذا وإن كان التاريخ خير دليل عليه، وحسبنا ما يذكره أهل المدينة اليوم عن رخائها بين سنة 1907 وسنة 1914 حين سارت سكة الحجاز الحديدية، فهم يتحدثون عن هذه الأيام القريبة منا وملء قلوبهم الحسرة على ذهابها والرجاء الحار في عود مثلها لتعود لمدينة الرسول بهجتها، وللذين يجاورون الرسول ابتسامة الحياة.
وهم يتحدثون كذلك عما كان لمصر في عصور كثيرة من شرف المعاونة لبلوغ مدينة الرسول غاية ما ترجو، فقد كانت التكية المصرية بها مصدرا من مصادر خيرها وتقدمها، وهي تقوم اليوم بهذا الواجب كما تقوم تكية مكة بمثله، والمصريون القائمون بأمرها يشاركون أهل المدينة في رجائهم الحار أن يعود إليها الرخاء وأن يعود اتصالها بالعالم.
وإنا كرة أخرى لنشاركهم جميعا في هذا الرجاء، ولو أن العالم الإسلامي كان مسموع الكلمة اليوم كما كان شأنه أيام معاوية وفي العصور الإسلامية الزاهرة الأولى، وكما كان شأنه أيام بني عثمان حين كانت للمسلمين عاصمة تتجه إليها أنظارهم، إذن لما أصاب مدينة الرسول ما أصابها بعد أن تشتتت أهواء المسلمين وتفرقت كلمتهم بما أطمع فيهم الاستعمار إذ جعل قلوبهم شتى، أفيجيب السميع العليم رجاءنا ويعيد إلى مدينة الرسول مكانتها، أم أنه - جلت حكمته - يريد أن يري المسلمين من آياته حتى يدركوا أنه لا تبديل لسنته وأنه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم؟!
إن لنا في رحمة الله لأملا أعظم الأمل، ومن رحمته أن يبعث المسلمين بعد طول رقدتهم إلى الحياة، لقد وعد رسوله - ووعده الحق - أنه سينصر دينه على الدين كله، والمسلمون يتوجهون اليوم إلى ربهم من أقطار العالم جميعا تائبين منيبين يدعونه تضرعا أن يهديهم سبيل رضاه، وأن يلهمهم الهدى، وأن يفيض عليهم من فضله، وأن يسبغ على مدينة الرسول نعماءه، إنه سميع مجيب.
آثار المدينة
لما اختار رسول الله الرفيق الأعلى اختلف أصحابه أين يدفن؟ قال جماعة من المهاجرين: يدفن في مكة مسقط رأسه وبين أهله، وقال غيرهم: بل يدفن في بيت المقدس حيث دفن الأنبياء قبله، ثم رأوا أن يدفن بالمدينة التي آوته ونصرته والتي استظلت قبل غيرها بلواء الإسلام، ترى لو رجح الرأي الأول ودفن بمكة إلى جوار البيت العتيق، أو رجح الرأي الثاني ودفن ببيت المقدس، أفكان الناس يزورون المدينة اليوم؟! وهل كان المسلمون يفكرون في سكة حديدية تصل بين المدينة والشام ويكتتبون لها بمئات الألوف من الجنيهات وينشئونها، فإذا عطلتها الحرب في سنة 1914 عادوا إلى التفكير في أمرها؟! أم كانت المدينة تصير إلى ما صارت إليه الطائف وغير الطائف من مدائن بلاد العرب فلا يقيم بها إلا من تكفي مواردها لقوتهم في حدود قدرتهم البدوية على استغلال هذه الموارد، وقل أن يزورها أحد من غير أهلها، وبذلك يبقى أهلها عربا خلصا بدل أن يمتوا بأصولهم إلى بلاد العالم الإسلامي المختلفة في الهند والجاوة وفي مصر والشام وفي تركيا وأوروبا وفي غير هذه من البلاد التي يقيم بها المسلمون شأن أهل المدينة اليوم؟!
لست في حاجة إلى الإجابة عن هذا السؤال، وليس يختلف فيها اثنان، على أن السؤال لذاته فرض جدلي، فدفن النبي بالمدينة كان أمرا مقدورا كما كانت هجرته إليها أمرا مقدورا، وأحدث الآراء في العلم تثبت هذا المقدور كما تثبته الآراء المقررة في الدين، فما يحدث في الكون أثر من سنة الكون التي لا تبديل لها والتي تنتظم كل عوامل الحياة فيه، ولو أننا ذهبنا نتقصى النتائج التي تترتب على هذا الفرض لطال بنا الجدل، أفكانت الخلافة الإسلامية تقوم بالمدينة إذا دفن النبي بمكة أم كانت العاصمة تنقل إلى أم القرى؟ أفكان ما حدث من الفتح الإسلامي يسير في الاتجاه الذي سار فيه أم في اتجاه غيره؟ وإنما أردنا من هذا السؤال في أول حديثنا عن آثار المدينة أن يذكر القارئ أن ما بهذه البقعة المباركة من الآثار يتصل كله بهجرة الرسول إليها ومقامه بها ودفنه فيها، واتخاذ خلفائه الأولين إياها عاصمة للإسلام كما اتخذها هو له منذ الهجرة مقرا.
والحق أن ما بالمدينة اليوم من آثار يتصل كله بالرسول، فهو له ولأهله وأصحابه، والقليل القليل منه لخصومه من اليهود الذين كانوا أولي ثروة وسلطان بالمدينة يوم هاجر إليها، ثم لم يلبث أن أجلاهم عنها إلا من آمن به منهم واتبعه، وأنت إذ تسير في المدينة أو بظاهرها تشعر بأن الحياة الباقية لهذه الآثار هي التي تقف نظرك وتسترعي انتباهك ويهتز لها قلبك، وهي التي جذبتك إليها لتزورها، وهي التي أمسكتك لتقيم حولها، أما حياة الحاضر بالمدينة فتتعلق بآثارها وتكاد تكون حميلة عليها، من ثم كان تفكير الناس وحديثهم بالمدينة منصرفا إلى هذه الآثار الخالدة على الزمن، لا يغير منها تفاوت حظ المدينة بين الرخاء والشدة والبؤس والنعمى.
أوتحسب أن لهذه الآثار شواهد عليها عني الناس بإقامتها وأسبغوا عليها من صور الفن قوة وفخامة تتفق مع ما تثيره في النفس من ألوان الذكرى؟! لقد تحدثت عن المسجد النبوي وعمارته وما أضيف من الزيادات إليه، والمسجد كل ما في المدينة من أثر الفن في العمارة والنقش، فأما ما سواه من شواهد الآثار القديمة فلا يعدو أكثره هذا النمط للمساجد القائمة بمكة، والتي لا تزيد على مربع من الأرض تحيط به جدران غاية في البساطة، يعلوه من ناحية المحراب سقف ساذج يستند إلى عمد ليست دونه سذاجة في بنائها، أما بعضها فخير من مساجد مكة بناء، ولبعض هذه المساجد الحسنة البناء قباب ومآذن، وفي بعضها تقام الصلاة أحيانا، على حين تقام في المسجد النبوي دائما، لما أثر عن النبي
صفحة غير معروفة