وكان محمود سامي البارودي هو الرائد الأول في حركة الإحياء الشعري ثم تبعه أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وخليل مطران الذي وفد من سوريا ليقيم في مصر، وعلى أيدي هؤلاء جميعا عاد الشعر العربي إلى سابق مجده، مع تغذيته بغذاء من الثقافة الأوروبية التي اكتسبها بعض هؤلاء الشعراء من صلتهم بالغرب وثقافته.
لكن هذه الحركة - برغم قوتها - كانت حركة «إحياء» للقديم، ولم تكن في صميمها «تجديدا» يساير العصر الحديث؛ ولهذا سرعان ما جاء جيل جديد يتهمها بالقصور عن بلوغ ما ينبغي للشعر الجديد أن يبلغه، ومن أهم الخصائص التي كانت تنقص شعر هؤلاء في نظر الجيل الجديد، وحدة القصيدة من حيث الشكل، وذاتية التعبير من حيث المضمون، بعد أن كانت القصيدة العربية تجعل لكل بيت منها كيانا مستقلا، ولا تهتم بأن تنسكب أبيات القصيدة الواحدة في تجربة شعورية واحدة، وكذلك بعد أن كان الشاعر العربي يعبر عن الجماعة قبل أن يعبر عن ذات نفسه الفريدة، أو يدفعه طغيان الحكم واستبداد المال أن ينفق جهده الشعري في مدح وهجاء وفي تهنئة ورثاء، بحسب ما تقتضيه المناسبات.
وكان رواد الحركة الجديدة التي لم ترد أن يقف التجديد عند حد إحياء القديم، بل أرادت أن تضيف قيما جديدة من شأنها أن تئول بالمجتمع إلى التحرر من قيوده جميعا، لا فرق في هذه القيود بين ما يجيء مع إحياء التراث، وما يجيء عن ضعف الحياة في عصورها المتأخرة؛ أقول إن رواد حركة التجديد هذه، كانوا ثلاثة هم: عبد الرحمن شكري، والعقاد، والمازني، الذين أخذوا ينظمون الشعر خلال العشرة الأعوام الثانية من القرن، على النهج الذي كانوا يروجون له، لكن أنصار الإحياء - برغم هذا - لبثوا يسدون أمامهم الفضاء، فكان لا بد من زلزلة عنيفة تهد البناء القائم، فكان أن صدر الكتاب الذي ذكرناه: «الديوان في الأدب والنقد» يوجه به صاحباه (العقاد والمازني ) حملة مدمرة نحو أمير الشعراء عندئذ «أحمد شوقي» لعلهما بذلك أن يزيلا عن الوجود الأدبي صفحة، ليفتحا للناس صفحة جديدة.
وكأنما سنة الحركات الفكرية أن تسير في خطوات مثلثة، فمن طرف إلى نقيضه إلى مرحلة تجمع بين النقيضين، فرأينا رواد المدرسة الجديدة في الشعر يقفون موقفا عنيدا من شعراء البعث، لكن العقد الرابع من هذا القرن لم يكد يبدأ، حتى ظهرت جماعة أطلقت على نفسها «جماعة أبولو»، وكان صاحب فكرتها والداعي لها أحمد زكي أبو شادي، وقد تألفت هذه الجماعة الأدبية في خريف عام 1932م، لتجمع بين أعضائها كل من أراد من الشعراء، فلا تفرقة هنا بين مذهب ومذهب من مذاهب الشعر، فرأينا من أعضائها من يجري مع التقليد في شعره - مثل رجال حركة البعث أنفسهم: شوقي، ومطران - كما رأينا من أعضائها كذلك من انتحوا بالشعر منحى جديدا متأثرين بما قرءوه لشعراء الغرب - والرومانسيين منهم بصفة خاصة - وعلى رأس هؤلاء إبراهيم ناجي (وهو طبيب) وعلي محمود طه (وهو مهندس)، ولم تكن هذه آخر الحركات في تطور الشعر، لكننا سنرجئ المرحلة الجديدة التالية إلى موضع آخر من هذا المقال.
ومن معالم الطريق فيما بين الحربين، حركة عقلانية، نزع أصحابها نحو الاحتكام إلى منطق العقل قبل أي شيء آخر، وقد تمثلت هذه الحركة في كثير من البحوث والكتب والمواقف، منها كتاب «الإسلام وأصول الحكم» لمؤلفه علي عبد الرازق (1924م) فقد كادت مصر حينئذ أن تتورط بدافع من أطماع حاكمها (الملك أحمد فؤاد) في أن يجتمع في شخص ذلك الحاكم لقب «الخليفة» - خليفة المسلمين - إلى جانب لقب «الملك»، وذلك بعد أن ألغت تركيا الخلافة من عندها - وكان سلاطين تركيا هما أيضا خلفاء المسلمين - على أثر ثورتها السياسية الاجتماعية بزعامة مصطفى كمال، وإنما أراد ملك مصر أن يرث الخلافة بعد زوالها عن الأتراك؛ لتجتمع في يديه رياسة الدين ورياسة الدولة معا، وفي هذا الجمع خطورة كبرى على حركة التقدم الذي كانت مصر قد أخذت بأسبابه؛ لأن تستر الحاكم وراء قناع من الدين، من شأنه أن يطلق يده في فرض ما شاء من قيود، بحجة أنها قيود تفرضها مبادئ الإسلام، فكان لا بد أن يظهر منا مفكر باحث، ليقول للناس عن دراسة وتحقيق، إن الإسلام لا يحتم أن يكون للدولة خليفة، وما أغنانا عن الوقوع في مشكلات كالتي وقعت فيها أوروبا حين جمعت الدين والدولة في يد واحدة.
وفي سنة 1925م أنشئت جامعة القاهرة، وأدمجت فيها الجامعة الأهلية التي كانت قد نشأت سنة 1908م، كما أدمجت فيها كذلك مجموعة المعاهد العليا التي كانت تتفاوت أعمارها بين قرن كامل لبعضها - مثل كلية الطب - وبعض القرن لبعضها الآخر، فجاء إنشاء جامعة القاهرة علامة من أبرز العلامات الدالة على نهوض الشعب بثورة عقلية تتمم الثورة السياسية، ولم يكد يمضي عام على إنشائها، حتى أخرجت المطبعة للدكتور طه حسين كتابه في «الأدب الجاهلي»، الذي ظهر وكأنه إعلان بقيام منهج علمي جديد، يترسم خطوات المنهج الديكارتي في البحث، فيفرض الخطأ فيما توارثناه من معرفة، حتى يثبت صوابه بالبرهان العلمي، صوابا لا يرتكز على تحيز سابق لفكرة معينة، فإذا كان المعلوم الشائع المتوارث هو أن الشاعر الفلاني قد عاش في العصر الفلاني ونظم القصائد الفلانية، فلنفرض بادئ ذي بدء أن لم يكن لهذا الشاعر وجود، ومن ثم لا يكون هو ناظم القصائد المنحولة له، ثم نمضي في البحث على هذا الأساس الحر، لننتهي إلى ما يؤدي إليه السير المنهجي من نتائج ... وإنها لقفزة طويلة نحو البعث الفكري، أن تدعو الناس إلى ضرورة الشك في صحة النصوص الموروثة، قبل أن تعيد إليها الصواب عن طريق البحث العقلي المجرد.
وإنه لمما يدل على سريان الروح العقلية إبان الفترة التي نتحدث عنها أن نظرية التطور الداروينية، وما يتشعب عنها من فروع بعد أن كان الجهر بها في نهايات القرن التاسع عشر، يستدعي من رجال الفكر يقظة ليردوا على ما كان يظن أنه خطر على العقيدة الدينية - كما حدث عندما نشر جمال الدين الأفغاني كتابه في «الرد على الدهريين» - أصبحت الآن مادة شائعة بين طبقات المثقفين، ففي سنة 1924م أصدر إسماعيل مظهر كتابه «ملقى السبيل » (وكان مظهر قد ترجم إلى العربية قبل ذلك كتاب أصل الأنواع لداروين)؛ ليكون هذا الكتاب الجديد تطبيقا للنظرية على موضوعات عامة مما كان يعنى به الكتاب المصلحون عندئذ، وهو يقول في مقدمته لهذا الكتاب «إن لمذهب النشوء والارتقاء من الأثر في فروع العلوم الحديثة، ما يجعلني أعتقد تمام الاعتقاد بأن هذا المذهب جدير بأن يقف الإنسان أكبر شطر من حياته وجهوده في سبيل درسه ونقله إلى العربية، وأبناء الضاد على أبواب انقلاب علمي أدبي، أخذت معاوله تهدم في بناء أساليبنا القديمة، لتحل محلها أساليب حديثة للتفكير» ويهمنا من هذا النص هذه الجملة الأخيرة لأنها تؤيد ما نصف به فترة ما بين الحربين في مصر، من الناحية الفكرية، وهو أنها فترة انقلاب علمي وأدبي، تهدم أسلوبا قديما لتحل محلها أسلوبا جديدا، هو الأسلوب العلمي العقلاني القائم على الدرس والتمحيص.
وهنا نذكر كاتبا آخر أصدر سنة 1925م كتابا آخر عن «نظرية التطور» - مما يدل على أن الفكرة كانت عندئذ تشعل الأذهان - لكن هذا الكتاب من هذا الكاتب لم يكن عرضا طارئا في حياته الفكرية؛ بل كان جزءا لا يتجزأ من طريق واحد عاشه الكاتب ليبلغ به هدفا واحدا جعله نصب عينه، وأما هذا الكاتب فهو سلامة موسى، وأما طريق حياته الفكرية فهو الإيمان بالعلم الحديث وما يقتضيه من ضرورة تطوير الأدب والحياة بأسرها، وأما الهدف المقصود بهذا كله فهو أن يقيم بناء جديدا على أنقاض بناء قديم، فلم يأل سلامة موسى جهدا في كل ما كتب، ليقاوم الأسلوب القديم في التفكير وفي الكتابة، فإذا كان التقليديون يعنون بصقل العبارة اللفظية عناية تستنفد كل طاقتهم بحيث لا يبقى شيء منها لأي معنى ينقلونه إلى القارئ، فقد أراد هو بما أسماه «الأسلوب التلغرافي» في الكتابة أن تجيء العبارة خادمة للمعنى المراد نقله، بحيث لا تحشر فيها لفظة واحدة لا تخدم المعنى المقصود.
لقد تميزت فترة ما بين الحربين بكثير من القلق الفكري، الناتج عن إحساس المثقفين بضرورة الجمع بين طرفين كانا ما يزالان يبدوان وكأنهما نقيضان لا يجتمعان، وهما: الثقافة التقليدية الموروثة من جهة، والثقافة الأوروبية المنقولة من جهة أخرى، وكان السؤال قد بدأ يطرح نفسه على رجال الفكر، وهو: هل من سبيل إلى الجمع بين الثقافتين في وحدة عضوية واحدة، لا تتخلى عن الطابع المحلي المميز، ولا تقصر في مسايرة العالم المعاصر؟ هنا كنت تجد ثلاث إجابات تصدر عن ثلاث فئات من المفكرين، وتستتبع ثلاث أساليب في الكتابة: فإجابة يتمسك بها أصحابها بالقديم الموروث فكرا وأسلوبا، ومن هؤلاء مصطفى صادق الرافعي، وإجابة يريد بها أصحابها القضاء الكامل على القديم الموروث والأخذ عن الثقافة الأوروبية - علما وأدبا وأسلوب كتابة وطريقة حياة - أخذا مطلقا غير مشروط بشرط ولا مقيد بقيود، ومن هؤلاء: سلامة موسى؛ وإجابة ثالثة يحاول بها أصحابها أن يجدوا موقفا وسطا يجمع بين الطرفين، فهم إذا كتبوا جاءت عبارتهم ملتزمة قواعد الأسلوب العربي المتين، وهم إذا فكروا حاولوا المزج بين موضوعات القديم وموضوعات الجديد، وكان من حسن الطالع أن وقعت في هذه الطائفة جمهرة الأعلام من رجال الفكر والأدب: العقاد، طه حسين، هيكل، المازني ... وغيرهم، فلهؤلاء جميعا مجموعات من مقالات كتبوها خلال الفترة التي نتحدث عنها، ثم جمعوها في كتب يكفي أن تطالع أي كتاب منها، لتجد ثقافة الغرب قد جاورت ثقافة العرب الأقدمين في تآلف وانسجام، إذ قد تجد فصلا عن هومر أو شكسبير أو شلي، يعقبه فصل عن امرئ القيس أو ابن الرومي أو المتنبي، وهكذا.
للعقاد في هذه الفترة «مطالعات في الأدب والحياة» (1924م)، و«ساعات بين الكتب» (1929م) وللمازني «حصاد الهشيم» (1924م) و«قبض الريح» (1927م) و«صندوق الدنيا» (1929م) وإن القارئ ليدرك من مجرد المقارنة بين عنوانات الكتب عند الأول وعنوانات الكتب عند الثاني، أن هذين الزميلين الصديقين، وإن يكونا قد اتفقا على الهدف (وهو الجمع بين الثقافتين) فقد اختلفا في طريقة التناول: الأول جاد إلى درجة التزمت فكرا وأسلوبا، والثاني جاد في فكرته ساخر تملؤه روح الفكاهة في طريقة عرضه، ولهيكل من أمثال هذه المجموعات الجامعة بين الثقافتين «في أوقات الفراغ» (1925م) سبقه كتاب من جزأين عن جان جاك روسو (1921-1923م) أسهم به في إثراء الفكر السياسي الذي صاحب الثورة السياسية، ليكون الفعل مقرونا بالنظر، وهو في طريقة كتابته وسط بين العقاد والمازني، فهو لا يبلغ من الأسلوب العابس مبلغ العقاد، ولا من الأسلوب الضاحك مبلغ المازني، ويكتفي بروح سمحة منبسطة الأسارير تسري بين أسطره.
صفحة غير معروفة