في حياتنا العقلية
في حياتنا العقلية
تأليف
زكي نجيب محمود
تيارات الفكر والأدب في مصر المعاصرة
لم يكن قد بقي على ختام الحرب العالمية الأولى إلا وقت قصير، حين نظم عباس محمود العقاد قصيدته العظيمة «ترجمة الشيطان»، التي جاءت - كما يقول الشاعر نفسه عنها في مقدمة نثرية قدمها بها - لفحة من نار الحرب، وغيمة من دخانها، فكأنما جاءت هذه القصيدة - والعشرة الأعوام الثانية من هذا القرن تدنو من ختامها - لتصور حالة من اليأس، استولت على شعب ظل يطالب بحريته السياسية من الحاكم المستبد تارة، ومن المستعمر البريطاني الدخيل تارة، فجاءت الحرب العالمية الأولى لتكمم الأفواه، وتكتم الأنفاس حينا؛ إذ لم تكن الدولة المستعمرة لتأذن لمفكر أو أديب بالمضي فيما كان قد بدأه المفكرون والكتاب منذ احتلت بريطانيا مصر سنة 1882م، من حملات يشعلون بها النفوس ويحركون العقول، طلبا للحرية، ولما أن طالت أعوام الحرب، أخذ القلق يدب في أنفس الشعب الصامت إلى حين، الصابر بمطلبه حتى تزول محنة الحرب، وجاءت قصيدة العقاد تعبيرا عن هذا القلق، وهي قصيدة تستطيع أن تستبدل فيها بالمواجهة التي تمت بين الله والشيطان، مواجهة أخرى بين الحاكم والمستعمر من ناحية، والمفكر الحر من ناحية أخرى، لتتحول القصيدة بين يديك إلى ترجمة لكل مفكر حر لا يريد لحريته أن تحدها قيود.
فإذا كانت العشرة الأعوام الأولى من هذا القرن، قد شهدت طائفة من أعلام الأدب والفكر، تصوغ للناس قضية الحرية من بعض نواحيها: الإمام محمد عبده بمقالاته الإصلاحية وبدفاعه عن الإسلام، يوضح كيف يمكن أن يلتقي تراثنا الفكري والديني مع روح العصر التي يسودها العلم، وهو بهذا قد وضع أمامنا المشكلة الرئيسية في حياتنا الثقافية كلها خلال أعوام هذا القرن، وإلى يومنا هذا، وهي: كيف نوحد بين تراثنا القومي والإسلامي من جهة، وعوامل الفكر والحضارة في هذا العصر من جهة أخرى، توحيدا يدمج الجانبين معا في وحدة عضوية واحدة، تحمل الطابع المحلي والطابع العالمي في آن معا، وقاسم أمين بكتابيه «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة» يمد من نطاق الحرية المنشودة حتى تشمل مع الحرية السياسية حرية اجتماعية للمرأة المغلولة بقيد السنين، وأحمد لطفي السيد الذي أصدر صحيفة «الجريدة» سنة 1907م؛ لتكون منبرا للفكر العصري الحر، ولسانا يطالب بالاستقلال وبالدستور، وكان لطفي السيد ممن علموا على إنشاء الجامعة الأهلية سنة 1908م، إيمانا منهم بضرورة الروح العلمية الجامعية لتدعيم حركة التحرر الشامل؛ أقول إنه إذا كانت العشرة الأعوام الأولى من هذا القرن قد حفلت بطائفة من المفكرين والأدباء، ينشرون في الناس دعواتهم صريحة في الصحف والكتب، فإن العشرة الأعوام الثانية التي شهدت هول الحرب العالمية الأولى، والتي كان من نتائجها السياسية في مصر، أن أعلنت الأحكام العرفية ثم أعلنت حماية بريطانيا لمصر، قد اضطرت رجال الفكر والأدب أن يغيروا من أوجه نشاطهم: أحمد لطفي السيد يعتزل في الريف ليترجم إلى العربية كتاب الأخلاق لأرسطو، وطه حسين ينصرف إلى دراسته الأكاديمية لينجز رسالته عن «ذكرى أبي العلاء»، و«محمد حسين هيكل» يكتب أول قصة طويلة في أدبنا الحديث وهي قصة «زينب»، والعقاد ينظم القصائد المعبرة عن ذات نفسه ليبلغ بها الذروة في قصيدة «ترجمة شيطان».
دعوات إلى الحرية السياسية والحرية الاجتماعية لبثت تنبعث من أقلام المفكرين والأدباء، منذ القرن التاسع عشر، وأخذت آثارها تتراكم في النفوس ، حتى انفجرت ثورة سياسية عقب الحرب العالمية الأولى مباشرة سنة 1919م، ثم لم تلبث هذه الثورة إلا قليلا، حتى اتسعت رقعتها لتصبح ثورة تتعدى حدود السياسة والحرية السياسية والاستقلال عن بريطانيا، وتكون ثورة فكرية عامة، تشمل الأدب بكل فنونه، والنقد، والفلسفة، والتعليم، وغير ذلك من جوانب الحياة العقلية، وحسبنا في هذا البعث الشامل، أن نلتمس على الطريق معالمه الرئيسية، متمثلة في مؤلفات أو في حركات تشير إلى الاتجاه الجديد.
وأول ما نصادفه من معالم الطريق، في العشرة الأعوام الثالثة من هذا القرن، كتاب «الديوان في الأدب والنقد» الذي أخرجه العقاد مع صديقه إبراهيم عبد القادر المازني سنة 1921م، ليوجها به حملة نقدية في مجال الشعر، يبغيان بها التحرر من قيود التقليد، والدعوة إلى شعر جديد، يكفل لصاحبه التعبير الحر عن ذات نفسه الفريدة؛ حتى لا تنطمس معالمها في سواها فينمحي وجودها، وإن الشاعر بتقريره لوجوده الفردي المتميز، ليضع حجر الأساس في بناء الحرية الإنسانية المنشودة.
ولكي نرى الصورة في مجال الشعر على حقيقتها، ينبغي أن نذكر حالة الضعف الشديد التي ألمت به في النصف الأول من القرن التاسع عشر، نتيجة لعصور الظلمة إبان الحكم التركي، وهي عصور امتدت ثلاثة قرون، إذا عددنا الحملة الفرنسية على مصر، واستيلاء محمد علي على حكم البلاد، نهاية حقيقية - إن لم تكن نهاية شرعية - للعهد التركي، فلما انسلخ من القرن التاسع عشر ثلثاه، ونكبت البلاد بالاحتلال البريطاني فوق نكبتها بالأسرة الحاكمة، اشتدت الرغبة عند المصريين في أن يلتمسوا ملامح شخصيتهم الضائعة، وكانت أولى خطواتهم نحو هذا الهدف أن يعيدوا إلى الأذهان كل ما يذكرهم بمجدهم الماضي؛ ومن ثم نشأت حركة في الشعر، يتخلص بها أصحابها من ركاكة العهد التركي، ويعودون إلى النماذج العربية القديمة في قوتها ورصانتها، وساعدهم على ذلك ما كانت المطبعة العربية قد أخرجته خلال القرن الماضي من دواوين الشعراء القدامى، فرأوا أمامهم نماذج تحتذى، ذلك فضلا عن أساتذة للأدب في الأزهر تولوا حركة الإحياء الأدبي ونخص منهم بالذكر الشيخ حسين المرصفي بكتابه «الوسيلة الأدبية » الذي أوضح فيه بأسلوب جديد قواعد اللغة والنحو والبلاغة والعروض، وعرض هذه القواعد في نماذج مختارة من الأدب القديم.
صفحة غير معروفة