ولكن الوحش القديم لا يزال للأسف حيا في الإنسان، فما زلنا نفكر في التنازع بدلا من أن نفكر في التعاون، ولا يزال التنازع للآن خطة التعامل الرسمية بين الدول، وأفظع ضروب هذا التنازع هو الحرب، ولكن العالم كله يسير من التباغض إلى التحاب ومن التنازع إلى التعاون وينهزم الوحش في الإنسان رويدا رويدا، ففي العالم الآن محاكم تحاكم أمامها الدول، وفي كل أمة متمدينة جمعيات تتعاون على البر وتنشر العلم والصحة وترفع الكرامة الإنسانية.
ولا عبرة بعد ذلك بأن تبقى في عصرنا أشياء من متخلفات الماضي، كالاستعمار والسجون والرق الاقتصادي، فإن كل هذا سيزول لأن الحب سيتغلب على البغض وسنرى، أو يرى أولادنا يوما ما، حل الإمبراطورية البريطانية واستحالة السجون إلى مدارس ومستشفيات وارتقاء العامل إلى حيث يملك كل ثمرات عمله بدون أن يكون فوقه واحد يعيش من كده ولا يعمل شيئا لفائدة الناس.
ولكن الحب للأفراد فيما بينهم ليس في ذاته صدقة يتصدق بها الواحد على الآخر، بل خطة تعود بالراحة والسعادة على من يمارسه، فهو لذلك يستحق الثمن الذي ندفعه بما نكلف أنفسنا من معاونة الناس وإبداء الحب لهم بخدمتهم الخدمة النزيهة التي تدل على أن ما نظهره لهم هو طبق ما نبطنه.
الفصل الأربعون
الحكم بالإعدام
كتب بعضهم وصفا للطرق الشائعة في إعدام المجرمين على المشنقة فأجاد الوصف وأوجع القراء وأوسعهم ألما وخجلا.
ولا أظن أني أنفرد في الشعور بالألم والخجل كلما قرأت هذا الوصف، فإني لا أعتقد أني أرق إحساسا من القراء، فالحكم بالإعدام، وتنفيذ الإعدام، عملان لا يمكن أن يؤديهما إنسان إلا وهو مضطر. بل لقد حدث من مدة قريبة أن الجلاد في باريس قد أقيل من منصبه فرغب في الظهور على المسرح فطرده الجمهور ولم ينفعه اعتذاره بأن الحكومة لم تعين له معاشا بعد إقالته، وذلك لأننا في أعماق نفوسنا نكره كل من يلطخ يده بالدم.
ومع أن العادة تيسر كل شيء وتسهل الصعب فإننا ما زلنا نتألم، على الرغم من تعودنا قراءة أخبار الإعدام، كلما ذكرت الصحف إعداما جديدا لأحد الأشقياء، ونحن جديرون بالفخر لهذا الألم لأنه يدل على أننا قد ارتقينا حتى صار يأبى ضميرنا أن يقنع بحجة العدالة في هذا الانتقام الصريح.
فليس شك في أن الإعدام انتقام، وأنه برهان على العجز في معالجة القاتل، فنحن بالطبع لا نقصد إلى ترقية القاتل بإعدامه، وإنما نقصد إلى المقاصة التي نقول إننا تركناها للأسلاف القدماء، وبقاء الإعدام إلى زماننا هذا وصمة لكل إنسان، وخاصة إذا علمنا أنه ألغى في عدة أمم فلم تزد جرائم القتل بإلغائه.
وإذا كان كل إنسان منا يتألم كلما سمع بخبر الإعدام، وإذا كان جميع من يزاولون تنفيذ الحكم أو يحضرونه يشعرون بالخجل ويخرجون وأعصابهم ممزقة من منظر يغم على أذهانهم ويملأ نفوسهم بالكرب، كأنهم هم المسئولون عن هذه الجناية، فلم لا نلغي هذه العقوبة؟
صفحة غير معروفة