ثم مثال هذا النبيل الفرنسي يخفف عنا أيضا ما نجده في أيامنا من قوى تعمل للشر وتناهض ما فينا من خير وبر، فإن صيحة الإصلاح التي تصيح بها على ما فيها الآن من ضعف ووهن ستفوز في النهاية؛ لأن الرقي طبيعة البشر التي لا محيد عنها، وليس البرهان على ذلك بعيدا عن الإثبات أو مستعصيا على الأفهام، فإن نظرية التطور نفسها هي نظرية الرقي؛ ولذلك أطلق عليها اسم «نظرية النشوء والارتقاء» عند ما نقلت إلى لغتنا، فإذا كان تاريخ ألف مليون من السنين يدل على الرقي في الماضي فمن التعسف أن نحسب أنه انتهى وانقطع بوجودنا، فإن عناصر هذا الرقي كامنة في كل منا، حتى المنتحر نفسه إنما ينتحر لأن نفسه تنزع إلى الرقي، والمجنون نفسه يجن بأشياء تحمله على أجنحة الرقي والعظمة فيتصور نفسه ملكا أو أميرا أو عظيما.
فالرقي كامن في نفوسنا ينطق به تاريخنا الماضي، وهذا هو ما يؤنس قلوبنا ويجعلنا نرضى بالتضحيات كلما سمعنا عن الاستبداد يبطش بالدستور، أو الظلم يجور على الحق، أو البغض ينتصر على الحب، أو الأثرة تفوز على الإيثار، وسنرى هذا الوطن كما نرى غيره من أوطان العالم حرا تعيش فيه الأمهات حرائر متعلمات ويعيش فيه الرجال علماء أيقاظا يدرسون هذا العالم ويتمتعون به ويقصرون همومهم على إسعاده، ولولا هذا الإيمان بأن العالم يرتقي لما كان لحياتنا معنى أو مبرر للبقاء، وفي هذا الإيمان قوة تؤاتينا على الخير والبر. ثم في ذلك كله شعور بالسعادة لأننا نؤدي عملا يرتاح إليه ضميرنا ويتفق وما في صميم نفوسنا من نزعات، وهذا بخلاف ما إذا عملنا للشر وناهضنا التقدم، فإننا نشعر بأننا نكافح في نفوسنا نوازع الرقي؛ فيأخذ اليأس مكان الرجاء، ونقيم حياتنا على مضض وعنت.
فكلنا يجب أن يكون هذا المركيز دوكو ندرسيه يعمل لرقي الشعب ويؤمن بهذا الرقي، فإنه حقيقة لا شك فيها، وأول ما نرى برهانه في أنفسنا؛ إذ لا يمكننا أن نفكر في ترقية الناس ما لم نرق نحن أولا، ولا عبرة بعد ذلك بالعوائق فإن النهر العظيم لينحرف بعض الانحراف في مجراه ولكنه بالغ مصبه.
الفصل التاسع والثلاثون
في الحب
من القصص العظيمة التي مثلها المستر اتكنز في القاهرة قصة «تاجر البندقية» وفيها يخاطب اليهودي المسيحيين الذي يتعصبون عليه ليهوديته فيقول موضحا لهم أن اليهودي لا يختلف عن المسيحي: «أليس لليهودي عينان؟ أليس لليهودي يدان وأعضاء وحواس وعواطف وشهوات؟ أليس يطعم بالطعام ويجرح بالسلاح نفسه وتنزل به الأمراض نفسها ويشفى بالوسائل، ويدفأ ويبرد في الصيف والشتاء كالمسيحي؟ أليس يخرج منا الدم إذا وخزنا؟ وألسنا نضحك إذا جمشنا ونموت إذا سممنا؟»
وما أحرانا بأن نذكر كلمة هذا اليهودي حين يطمو بنا التعصب القومي أو الديني؛ فنحن كلنا إخوان في هذه الدنيا، وخير لنا أن نتحاب من أن نتكاره؛ لأننا بالحب نستطيع أن نتعاون، وبالحب نستطيع أن نعمل ما لا نعمله بالبغض والكراهية.
ويقص الإنجليز قصة يستخرجون منها عبرة الحب، وهي أن أحدهم خرج في يوم قد كثف ضبابه، والأشباح تتجسم في الضباب حتى يهول منظرها على بعد، فرأى وهو سائر في طريقه شبحا كبيرا مخيفا فارتاع منه، فلما اقترب منه قليلا تبين له أنه رجل، فلما واجهه عرف أنه أخوه، وهكذا نحن في هذه الدنيا، نحسب الناس غرباء عنا فنخشاهم ونتوجس منهم، ولكن الواقع أننا نحن وهم إخوان بل أخوة قد اتصلت دماؤنا بدمائهم، فإذا حسب المصري مثلا وأحصى مقدار ما دخله من دماء الأمم الأجنبية في نحو أربعين قرنا مضت لوجد أنه خليط من الدم الروماني والعربي والإنجليزي والفرنسي والسوري والصيني والتركي.
فنحن لسنا أبناء مصر فقط بل أبناء هذه الدنيا، وإذا كانت مصر وطننا الأصغر فالعالم وطننا الأكبر، ويجب لذلك أن يكون الحب والتعاون وسيلة التعارف والمعاملة بيننا وبين الناس، سواء أكانوا مصريين أم غير مصريين، وبهذه المناسبة نذكر كلمة للمشترع الإنجليزي المعروف بنتام حيث يقول: «إن سبيل الراحة لنا هو أن نعمل لراحة الآخرين، وسبيل الراحة للآخرين إنما يكون بأن نبدو لهم كأننا نحبهم ، وإنما نبدو لهم كأننا نحبهم إذا أحببناهم بالفعل.»
وهذا كلام صريح وحقيقة تتضح لكل من اختبر الناس، فإننا لا يمكننا أن نرتاح إلى الدنيا والناس ما لم تكن علاقتنا بهم علاقة الحب، وراحتنا لا تقوم إلا براحتهم.
صفحة غير معروفة