فقلت: «ممن تعلمت الحكمة؟ ومن ذا الذي باح لك بأسرار الحياة، وبواطن الوجود؟» قال: «لست بحكيم؛ فالحكمة صفة من صفات البشر الضعفاء، بل أنا مجنون قوي ، أسير فتميد الأرض تحت قدمي، وأقف فتقف معي مواكب النجوم. وقد تعلمت الاستهزاء بالبشر من الأبالسة، وفهمت أسرار الوجود والعدم بعد أن عاشرت ملوك الجن، ورافقت جبابرة الليل.»
فقلت: «وماذا تفعل في هذه الأودية الوعرة؟ وكيف تصرف أيامك ولياليك؟» قال: «في الصباح أجدف على الشمس، وعند الظهيرة ألعن البشر، وفي المساء أسخر بالطبيعة، وفي الليل أركع أمام نفسي وأعبدها.» فقلت: «وماذا تأكل، وماذا تشرب، وأين تنام؟»
قال: «أنا والزمان والبحر لا ننام؛ ولكننا نأكل أجساد البشر، ونشرب دماءهم، ونتحلى بلهاتهم.»
وانتصب إذ ذاك مكبلا ذراعيه على صدره، ثم أحدق بعيني وقال بصوت عميق هادئ: «إلى اللقاء؛ فأنا ذاهب إلى حيث تلتئم الغيلان والجبابرة.»
فهتفت قائلا: «أمهلني دقيقة، فلي سؤال آخر.»
فأجاب وقد انحجب بعض قامته بضباب الليل: «إن الآلهة المجانين لا يمهلون أحدا، فإلى اللقاء.»
واختفى عن بصري وراء ستائر الدجى، وتركني خائفا، طائشا، محتارا به وبنفسي. ولما حولت قدمي عن ذلك المكان سمعت صوته متموجا بين تلك الصخور الباسقة قائلا: «إلى اللقاء، إلى اللقاء.» •••
وفي اليوم التالي طلقت امرأتي، وتزوجت صبية من بنات الجن، ثم أعطيت كل واحد من أطفالي رفشا ومحفرا، وقلت لهم: «اذهبوا وكلما رأيتم ميتا واروه في التراب.» •••
ومن تلك الساعة إلى الآن وأنا أحفر القبور وألحد الأموات، غير أن الأموات كثيرون، وأنا وحدي وليس من يسعفني!
الأمم وذواتها
صفحة غير معروفة