في عالم الرؤيا
رجوع الحبيب
مرتا البانية1
صفحات مطوية
الشاعر
السيدة وردة الهاني
يوحنا المجنون
في العهد الجديد
لكم لبنانكم ولي لبناني
بنات البحر
صفحة غير معروفة
بين ليل وصباح
البنفسجة الطموحة
حياة الحب
في مدينة الأموات
وعظتني نفسي
المليك السجين
موت الشاعر حياته
الشاعر البعلبكي
الناس عبيد الحياة
الجنية الساحرة
صفحة غير معروفة
قبل الانتحار
الشيطان
على باب الهيكل
حفار القبور
الأمم وذواتها
الجبابرة
في عالم الرؤيا
رجوع الحبيب
مرتا البانية1
صفحات مطوية
صفحة غير معروفة
الشاعر
السيدة وردة الهاني
يوحنا المجنون
في العهد الجديد
لكم لبنانكم ولي لبناني
بنات البحر
بين ليل وصباح
البنفسجة الطموحة
حياة الحب
في مدينة الأموات
صفحة غير معروفة
وعظتني نفسي
المليك السجين
موت الشاعر حياته
الشاعر البعلبكي
الناس عبيد الحياة
الجنية الساحرة
قبل الانتحار
الشيطان
على باب الهيكل
حفار القبور
صفحة غير معروفة
الأمم وذواتها
الجبابرة
في عالم الرؤيا
في عالم الرؤيا
مقالات مختارة لجبران خليل جبران
تأليف
جبران خليل جبران
جمع
محمد محمد عبد المجيد
جبران خليل جبران.
صفحة غير معروفة
كاتب اشتهرت كتاباته في أمريكا وامتاز برقة الشعور وسمو الخيال. أتقن فن التصوير فأصبح يصور بالكلام أو بالألوان ما يجيش في خاطره أجمل تصوير.
في عالم الرؤيا
عندما جن الليل وألقى الكرى رداءه على وجه الأرض، تركت مضجعي وسرت نحو البحر قائلا في نفسي: «البحر لا ينام، وفي يقظة البحر تعزية لروح لا تنام.»
بلغت الشاطئ وكان الضباب قد انحدر من أعالي الجبال وغمر تلك النواحي، مثلما يوشي النقاب الرمادي وجه الصبية الحسناء، فوقفت محدقا بجيوش الأمواج، مصغيا إلى تهاليلها مفكرا بالقوى السرمدية الكامنة وراءها، تلك القوى التي تركض مع العواصف وتثور مع البراكين وتبتسم بثغور الورود وتترنم مع الجداول.
وبعد هنيهة التفت فإذا بثلاثة أشباح جالسين على صخر قريب وأغشية الضباب تسترهم ولا تسترهم، فمشيت نحوهم ببطء كأن في كيانهم جاذبا يستميلني قسر إرادتي.
ولما سرت على بعد خطوات منهم وقفت شاخصا بهم كأن في المكان سحرا أجمد ما بي من العزم وأيقظ ما في روحي من الخيال.
في تلك الدقيقة وقف أحد الأشباح الثلاثة، وبصوت خلته آتيا من أعماق البحر قال: «الحياة بغير حب كشجرة بغير أزهار ولا أثمار، والحب بغير الجمال كأزهار بغير عطر، وأثمار بغير بذور. الحياة والحب والجمال، ثلاثة أقانيم في ذات واحدة مستقلة مطلقة، لا تقبل التغيير ولا الانفصال.» قال هذا وجلس في مكانه، ثم انتصب الشبح الثاني، وبصوت يماثل هدير مياه غزيرة قال: «الحياة بغير تمرد كالفصول بغير ربيع، والتمرد بغير حق كالربيع في الصحراء القاحلة الجرداء. الحياة والتمرد والحق، ثلاثة أقانيم في ذات واحدة لا تقبل الانفصال ولا التغيير»، ثم انتصب الشبح الثالث، وبصوت كقصف الرعد قال: «الحياة بغير الحرية جسم بغير روح، والحرية بغير الفكر كالروح المشوشة. الحياة والحرية والفكر، ثلاثة أقانيم في ذات واحدة أزلية لا تزول ولا تضمحل.»
ثم وقف الأشباح الثلاثة، وبأصوات هائلة قالوا معا: «الحب وما يولده، والتمرد وما يوجده، والحرية وما تنميه. ثلاثة مظاهر من الله، والله ضمير العالم العاقل.»
وحدث إذ ذاك سكوت مفعم بحفيف أجنحة غير منظورة وارتعاش أجسام أثيرية، فأغمضت عيني مصغيا إلى صدى الأقوال التي سمعتها.
ولما فتحتهما ونظرت ثانية لم أر غير البحر متشحا بدثار الضباب، فاقتربت من الصخرة حيث كان الأشباح الثلاثة جالسين، فلم أر إلا عمودا من البخور متصاعدا نحو السماء.
صفحة غير معروفة
رجوع الحبيب
ما جاء الليل حتى انهزمت الأعداء وفي ظهورهم بضع السيوف ووخز الرماح، فعاد الظافرون حاملين ألوية الفخر، منشدين أهازيج النصر على توقيع حوافر خيولهم المتساقطة كالمطارق على حصباء الوادي.
1
أشرفوا على الجبة وقد طلع القمر من وراء فم الميزاب، فظهرت تلك الصخور الباسقة متشامخة مع نفوس القوم نحو العلاء، وبانت غابة الأرز بين تلك البطاح، كأنها وسام مجد أثيل علقته الأجيال الغابرة على صدر لبنان.
ظلوا سائرين وأشعة القمر تتلمع على أسلحتهم والكهوف البعيدة تتقلد تهاليلهم، حتى إذا ما بلغوا جبهة العقبة أوقفهم صهيل فرس واقف بين الصخور الرمادية كأنه قد منها، فاقتربوا إليه مستطلعين، وإذا بجثة هامدة مرتمية على أديم التراب المجبول بنجيع الدماء، فصرخ زعيم القوم قائلا: «أروني سيف الرجل فأعرف صاحبه.»
فترجل بعض الفرسان وأحاطوا بالمصروع مستفسرين، وبعد هنيهة التفت أحدهم نحو الزعيم وقال بصوت أجش: «لقد عانقت أصابعه الباردة قبضة السيف بشدة، فمن العار أن أنزعه.»
وقال آخر: «لقد لبس السيف غمدا من الدماء فاختفى فولاذه.»
وقال آخر: «لقد تجمدت الدماء على الكف والقبضة، وأوثقت الشفرة بالزند فصيرتهما عضوا واحدا.»
فترجل الزعيم واقترب من القتيل قائلا: «أسندوا رأسه ودعوا أشعة القمر ترينا وجهه.»
ففعلوا مسرعين، وبان وجه المصروع من وراء نقاب الموت، ظاهرة عليه ملامح البطش والبأس والتجلد، وجه فارس قوي يتكلم بلا نطق عن شدة رجوليته، وجه متأسف فرح، وجه من لقي العدو عابسا، وقابل الموت باسما، وجه بطل لبناني حضر موقعة ذلك النهار ورأى طلائع الاستظهار، ولكنه لم يبق لينشد مع رفاقه أهازيج النصر.
صفحة غير معروفة
ولما أزاحوا كوفيته ومسحوا غبار المعمعة عن وجهه المصفر، ذعر الزعيم وصرح متوجعا: «هذا ابن الصعبي، فيا للخسارة ...!»
فردد القوم هذا الاسم متأوهين ثم جمدوا في أماكنهم. إن قلوبهم السكرى بخمرة النصر قد فاجأها الصحو، فرأت أن خسارة هذا البطل هي أجسم من مجد التغلب وعز الانتصار. ومثل تماثيل قد أوقفهم هول المشهد وأيبس ألسنتهم فسكتوا، وهذا كل ما يفعله الموت في نفوس الأبطال؛ فالبكاء والنحيب حري بالنساء، والصراخ والعويل خليق بالأطفال، ولا يجمل برجال السيف غير السكوت هيبة ووقارا، ذلك السكوت الذي يقبض على القلوب القوية مثلما تقبض مخالب النسر على عنق الفريسة، ذلك السكوت الذي يترفع عن الدموع فيزيد بترفعه البلية هولا وقساوة، ذلك السكوت الذي يهبط بالنفوس الكبيرة من قمم الجبال إلى أعماق اللجة، ذلك السكوت الذي يعلن مجيء العاصفة، وإن لم تجئ كان هو نفسه أشد فعلا منها.
خلعوا أثواب الفتى المصروع ليروا أين وضع الموت يده، فبانت كلوم الشفار في صدره كأنها أفواه مزبدة تتكلم في هدوء ذلك الليل عن همم الرجال. فاقترب الزعيم وجثا مستفحصا، فوجد دون سواه منديلا مطرزا بخيوط الذهب مربوطا حول زنده، فتأمله سرا، وعرف اليد التي غزلت حريره والأصابع التي حاكت خيوطه، فستره بالأثواب وتراجع قليلا إلى الوراء، حاجبا وجهه المنقبض بيده المرتعشة، تلك اليد التي كانت تزيح بعزمها رءوس الأعداء قد ضعفت وارتجفت وصارت تمسح الدموع؛ لأنها لامست حواشي منديل عقدت أطرافه أصابع محبوبة حول زند فتى جاء ليشهد يوم الكريهة مدفوعا ببسالته فصرع، وسوف يرجع إليها محمولا على أكف رفاقه.
وبينما نفس زعيم القوم تتراوح بين مظالم الموت وخفايا الحب، قال أحد الواقفين: «تعالوا نحفر له قبرا تحت تلك السنديانة، فتشرب أصولها من دمه وتتغذى فروعها من بقاياه، فتزيد قوة وتصير خالدة، وتكون له رمزا فتمثل لهذه الطلول بطشه وبأسه.»
فقال آخر: «لنحملنه إلى غابة الأرز ونقبره بقرب الكنيسة، فتظل عظامه مخفورة بظل الصليب إلى آخر الدهر.»
وقال آخر: «اقبروه ها هنا حيث جبل التراب بدمائه، واتركوا سيفه في يمينه واغرسوا رمحه بجانبه وانحروا حصانه على قبره، ودعوا أسلحته تؤنسه في هذه الوحدة.»
وقال آخر: «لا تلحدوا سيفا مضرجا بدم الأعداء، ولا تنحروا مهرا يخوض المنايا، ولا تتركوا في الوعر سلاحا تعود هز الأكف وعزم السواعد، بل احملوها إلى ذويه لأنها خير ميراث.»
وقال آخر: «تعالوا نجثوا حوله مصلين صلاة الناصري، فتغفر له السماء وتبارك انتصارنا.»
وقال آخر: «لنرفعه على الأكتاف جاعلين له نعشا من الرماح والتروس، فنطوف به في هذا الوادي ناشدين أهازيج النصر، فيشاهد أشلاء الأعداء وتبتسم شفاه جراحه قبل أن يخرسها تراب القبر.»
وقال آخر: «تعالوا نعليه سرج جواده ونسنده بجماجم القتلى ونقلده رمحه وندخله الأحياء ظافرا؛ فهو لم يستسلم إلى المنية إلا بعد أن حملها من أرواح الأعداء حملا ثقيلا.»
صفحة غير معروفة
وقال آخر: «تعالوا نودعه لحف هذا الجبل، فيكون له صدى الكهوف نديما وخرير السواقي مؤنسا، فترتاح عظامه في برية يكون فيها وطء أقدام الليالي خفيف الوقع.»
وقال آخر: «لا تغادروه ها هنا، ففي البرية وحشة مملة ووحدة قاسية، بل تعالوا ننقله إلى جبانة القرية فيكون له من أرواح جنودنا رفاقا يناجونه في سكينة الليل، ويقصون عليه أخبار حروبهم وأحاديث أمجادهم.»
فتقدم الزعيم إذ ذاك إلى وسط رجاله وأسكتهم بإشارة ، ثم قال متنهدا: «لا تزعجوه بذكرى الحروب، ولا تعيدوا على مسامع روحه الحائمة فوق رءوسنا أخبار السيوف والرماح، بل هلموا نحمله ببطء وهدوء إلى مسقط رأسه، ففي ذلك الحي نفس ساهرة تترقب قدومه، نفس حبيبة تنتظر رجوعه من بين الأسنة، فلنعده إليها كي لا تحرم نظرة من وجهه وقبلة من جبينه.»
حملوه على المناكب مطأطئي الرءوس خاشعي العيون، ومشوا ببطء محزن يتبعهم فرسه الكئيب يجر مقوده على الأرض ويصهل من وقت إلى آخر، فتجيبه الكهوف بصداها كأن للكهوف أفئدة تشعر مع البهيم بشدة الضيم والأسى.
بين أضلع ذلك الوادي حيث أشعة القمر تسترق خطواتها، سار موكب النصر وراء موكب الموت، وقد مشى أمامهما طيف الحب جارا أجنحته المكسورة.
مرتا البانية1
1
مات والدها وهي في المهد، وماتت أمها قبل بلوغها العاشرة، فتركت يتيمة في بيت جار فقير يعيش مع رفيقته وصغاره من بذور الأرض وثمارها، في تلك المزرعة المنفردة بين أودية لبنان الجميلة.
مات والدها ولم يورثها غير اسمه وكوخ حقير قائم بين أشجار الجوز والحور، وماتت أمها ولم تترك لها سوى دموع الأسى وذل التيتم، فباتت غريبة في أرض مولدها، وحيدة بين تلك الصخور العالية والأشجار المحتبكة. وكانت تسير في كل صباح عارية الأقدام رثة الثوب وراء بقرة حلوب إلى طرف الوادي حيث المرعى الخصيب، وتجلس بظل الأغصان مترنمة مع العصافير باكية مع الجدول، حاسدة البقرة على وفرة المأكل، متأملة بنمو الزهور ورفرفة الفراش. وعندما تغيب الشمس ويضنيها الجوع ترجع نحو ذلك الكوخ وتجلس مع صبية وليها ملتهمة خبز الذرة مع قليل من الثمار المجففة والبقول المغموسة بالخل والزيت، ثم تفترش القش اليابس مسندة رأسها بساعديها، وتنام متنهدة متمنية لو كانت الحياة كلها نوما عميقا لا تقطعه الأحلام ولا تليه اليقظة، وعند مجيء الفجر ينتهرها وليها لقضاء حاجة، فتهب من رقادها مرتعدة خائفة من سخطه وتعنيفه.
كذا مرت الأعوام على مرتا المسكينة بين تلك الروابي والأودية البعيدة، فكانت تنمو بنمو الأنصاب، وتتولد في قلبها العواطف على غير معرفة منها، مثلما يتولد العطر في أعماق الزهرة، وتنتابها الأحلام والهواجس مثلما تتناول القطعان مجاري المياه، فصارت صبية ذات فكرة تشابه تربة جيدة عذراء لم تلق بها المعرفة بذورا ولا مشت عليها أقدام الاختبار، وذات نفس كبيرة طاهرة منفية بحكم القدر إلى تلك المزرعة حيث تنقلب الحياة مع فصول السنة كأنها إله غير معروف جالس بين الأرض والشمس.
صفحة غير معروفة
نحن الذين صرفوا معظم العمر في المدن الآهلة نكاد لا نعرف شيئا عن معيشة سكان القرى والمزارع المنزوية في أعمال لبنان، قد سرنا مع تيار المدنية الحديثة حتى نسينا أو تناسينا فلسفة تلك الحياة الجميلة البسيطة المملوءة طهرا ونقاوة، تلك الحياة إذا ما تأملناها وجدناها مبتسمة في الربيع، مثقلة في الصيف، مستغلة في الخريف، مرتاحة في الشتاء، متشبهة بأمناء الطبيعة في كل أدوارها. نحن أكثر من القرويين مالا وهم أشرف منا نفوسا. نحن نزرع كثيرا ولا نحصد شيئا، أما هم فيحصدون ما يزرعون. نحن وهم أبناء قناعتهم. نحن نشرب كأس الحياة ممزوجة بمرارة اليأس والخوف والملل، وهم يرتشفونه صافيا.
بلغت مرتا السادسة عشرة وصارت نفسها مثل مرآة صقيلة تعكس محاسن الحقول، وقلبها شبيه بخلايا الوادي يرجع صدى كل الأصوات. ففي يوم من أيام الخريف المملوءة بتأوه الطبيعة جلست بقرب العين المنعتقة من أسر الأرض انعتاق الأفكار من مخيلة الشاعر، تتأمل باضطراب أوراق الأشجار المصفرة وتلاعب الهواء بها مثلما يتلاعب الموت بأرواح البشر، تنظر نحو الزهور فتراها قد ذبلت ويبست قلوبها حتى تشققت وأصبحت تستودع التراب بدورها، مثلما تفعل النساء بالجواهر والحلي أيام الثورات والحروب.
وبينما هي تنظر إلى الزهور وتشعر معها بألم فراق الصيف سمعت حوافر على حصباء الوادي، فالتفتت وإذا بفارس يتقدم نحوها ببطء، ولما اقترب من العين، وقد دلت ملامحه وملابسه على ترف وكياسة - ترجل عن ظهر جواده فحياها بلطف ما تعودته من رجل قط، ثم سألها قائلا: «قد تهت عن الطريق المؤدية إلى الساحل، فهل لك أن تهديني أيتها الفتاة.» فأجابت وقد وقفت منتصبة كالغصن على حافة العين: «لست أدري يا سيدي ، ولكني أذهب وأسأل وليي فهو يعلم.» قالت هذه الكلمات بوجل ظاهر، وقد أكسبها الحياء جمالا ورقة، وإذ همت بالذهاب أوقفها الرجل وقد سرت في عروقه خمرة الشبيبة وتغيرت نظراته وقال: «لا، لا تذهبي.» فوقفت في مكانها مستغربة شاعرة بوجود قوة في صوته تمنعها عن الحراك، ولما اختلست من الحياء نظرة إليه رأته يتأمل بها باهتمام لم تفقه له معنى، ويبتسم لها بلطف سحري يكاد يبكيها لعذوبته، وينظر بمودة وميل إلى أقدامها العاريتين ومعصميها الجميلين وعنقها الأملس وشعرها الكثيف الناعم، ويتأمل بافتتان وشغف كيف قد لوحت الشمس بشرتها وقوت الطبيعة ساعديها. أما هي فكانت مطرقة خجلا لا تريد الانصراف ولا تقوى على الكلام لأسباب لا تعرف مفادها.
في ذلك المساء رجعت البقرة الحلوب وحدها إلى الحظيرة، أما مرتا فلم ترجع. ولما عاد وليها من الحقل بحث عنها بين تلك الوهاد ولم يجدها، فكان يناديها باسمها ولا يجيبه غير الكهوف وتأوه الهواء بين الأشجار، فرجع مكتئبا إلى كوخه وأخبر زوجته، فبكت طول ذلك الليل، وكانت تقول في سرها: «قد رأيتها مرة الحلم بين أظافر وحش كاسر يمزق جسدها، وهي تبتسم وتبكي.» •••
هذا إجمال ما عرفته عن حياة مرتا في تلك المزرعة الجميلة، وقد تخبرته من شيخ قروي عرفها مذ كانت طفلة حتى شبت واختفت من تلك الأماكن، غير تاركة خلفها سوى دموع قليلة في عيني امرأة وليها، وذكرى رقيقة مؤثرة تسيل مع نسيمات الصباح في ذلك الوادي ثم تضمحل كأنها لهات طفل على بلور النافذة.
2
جاء خريف سنة 1900 فعدت إلى بيروت بعد أن صرفت العطلة في شمال لبنان، وقبل دخولي المدرسة قضيت أسبوعا كاملا أتجول مع أترابي في المدينة متمتعين بغبطة الحرية التي تعشقها الشبيبة وتحترمها في منازل الأهل، وبين جدران المدرسة ومثل عصافير رأت أبواب الأقفاص مفتوحة أمامها فصارت تشبع القلب من لذة التنقل وغبطة التغريد. الشبيبة حلم جميل تسترق عذوبته معميات الكتب وتجعله يقظة قاسية، فهل يجيء يوم يجمع فيه الحكماء بين أحلام الشبيبة ولذة المعرفة مثلما يجمع العتاب بين القلوب المتنافرة؟ هل يجيء يوم تصبح فيه الطبيعة معلمة ابن آدم والإنسانية كتابه والحياة مدرسته؟ هل يجيء ذلك اليوم؟ لا ندري، ولكننا نشغله بسيرنا الحثيث نحو الارتقاء الروحي، وذلك الارتقاء هو إدراك جمال الكائنات بواسطة عواطف نفوسنا واستدرار السعادة بمحبتنا ذلك الجمال.
ففي عشية يوم وقد جلست على شرفة النزل أتأمل العراك المستمر في ساحة المدينة، وأسمع جلبة باعة الشوارع ومناداة كل منهم عن طيب ما لديه من السلع والمآكل، اقترب مني صبي ابن خمس سنين يرتدي أطمارا بالية ويحمل على منكبيه طبقا عليه طاقات الزهور، وبصوت ضعيف الذل الموروث والانكسار الأليم قال: «أتشتري زهرا يا سيدي؟» فنظرت إلى وجهه الصغير المصفر، وتأملت بعينيه المكحولتين بخيالات التعاسة والفاقة، وفمه المفتوح قليلا كأنه جرح عميق في صدر متوجع، وذراعيه العاريتين النحيلتين، وقامته الصغيرة المهزولة المنحنية على طبق الزهور كأنها غصن من الورد الأصفر الذابل بين الأعشاب النضيرة. تأملت بكل هذه الأشياء بلمحة، مظهرا شفقتي بابتسامة. أمر من الدموع تلك الابتسامات التي تنبثق من أعماق قلوبنا وتظهر على شفاهنا، ولو تركناها وشأنها لتصاعدت وانسكبت من مآقينا. ثم ابتعت بعض زهوره وبغيتي ابتياع محادثته؛ لأنني شعرت بأن من وراء نظراته المحزنة قلبا صغيرا يستر فصلا من مأساة الفقراء الدائم تمثيلا على مرسح الأيام، وقل من يهتم بمشاهرتها لأنها موجعة. ولما خاطبته بكلمات لطيفة استأمن واستأنس ونظر إلي مستغربا؛ لأنه مثل أترابه الفقراء لم يتعود غير خشن الكلام من الفتافي الذين ينظرون غالبا إلى صبية الأزقة كأشياء قذرة لا شأن لها، وليس كنفوس صغيرة مكلومة بأسهم الدهر. وسألته إذ ذاك قائلا: «ما اسمك؟» فأجاب وعيناه مطرقتان في الأرض: «اسمي فؤاد»، قلت: «ابن من أنت وأين أهلك؟» قال: «أنا ابن مرتا البانية»، قلت: «وأين والدك؟» فهز رأسه الصغير كمن يجهل معنى الوالد، فقلت: «وأين أمك يا فؤاد؟» قال: «مريضة في البيت.»
تجرعت مسامعي هذه الكلمات القليلة من فم الصبي وامتصتها عواطفي مبتدعة صورا وأشباحا غريبة محزنة؛ لأني عرفت بلحظة أن مرتا المسكينة التي سمعت حكايتها من ذلك القروي هي الآن في الآن في بيروت مريضة. تلك الصبية التي كانت بالأمس مستأمنة بين أشجار الأودية هي اليوم في المدينة تعاني مضض الفقر والأوجاع. تلك اليتيمة التي صرفت شبيبتها على أكف الطبيعة ترعى البقر في الحقول الجميلة قد انحدرت مع جرف نهر المدنية الفاسدة، وصارت فريسة بين أظافر التعاسة والشقاء.
كنت أفتكر وأتخيل هذه الأشياء والصبي ينظر إلي وكأنه رأى بعين نفسه الطاهرة انسحاق قلبي، ولما أراد الانصراف أمسكت بيده قائلا: «سر بي إلى أمك لأني أريد أن أراها.» سار أمامي صامتا متعجبا، ومن حين إلى آخر كان ينظر إلى الوراء ليرى ما إذا كنت بالحقيقة متبعا خطواته.
صفحة غير معروفة
في تلك الأزقة القذرة حيث يختمر الهواء بأنفاس الموت. بين تلك المنازل البالية حيث يرتكب الأشرار جرائمهم مختبئين بستائر الظلمة في تلك المنعطفات الملتوية إلى اليمين وإلى الشمال التواء الأفاعي، كنت أشعر بخوف وتهيب وراء صبي له من حداثته ونقاوة قلبه شجاعة لا يشعر بها من كان خبيرا بمكايد أجلاف القوم في مدينة يدعوها الشرقيون عروس سوريا ودرة تاج السلاطين. حتى إذا ما بلغنا أذيال الحي دخل الصبي بيتا حقيرا لم تبق منه السنون غير جانب متداع، فدخلت خلفه وطرقات قلبي تتسارع كلما اقتربت حتى صرت في وسط غرفة رطبة الهواء، ليس فيها من الأثاث غير سراج ضعيف يغالب الظلمة بسهام أشعته الصفراء، وسرير حقير يدل على عوز مبرح وفقر مدقع، منطرحة عليه امرأة نائمة قد حولت وجهها نحو الحائط كأنها تحتمي به من مظالم العالم، أو كأنها وجدت بين حجارته قلبا أرق وألين من قلوب البشر. ولما اقترب الصبي منهما مناديا: يا أماه، التفتت إليه فرأته يومئ نحوي، فتحركت إذ ذاك بين اللحف الرثة، وبصوت موجع يلاحقه ألم النفس والتنهيدات المرة قالت: «ماذا تريد يا رجل؟ هل جئت لتبتاع حياتي الأخيرة وتجعلها دنسة بشهوتك؟ اذهب عني فالأزقة مشحونة بالنساء اللواتي يبعنك أجسادهن ونفوسهن بأبخس الأثمان، أما أنا فلم يبق لي ما أبيعه غير فضلات أنفاس متقطعة عما قريب يشتريها الموت براحة القبر.»
فاقتربت من سريرها وقد آلمت كلماتها قلبي؛ لأنها مختصر حكايتها التعيسة، وقلت لها متمنيا لو كانت عواطف تسيل مع الكلام: «لا تخافي يا مرتا، فأنا لم أجئ إليك كحيوان جائع، بل كإنسان متوجع. أنا لبناني، وقد عشت زمنا في تلك الأودية والقرى القريبة من غابة الأرز. لا تخافي مني يا مرتا.»
سمعت كلماتي وشعرت بأنها صادرة من أعماق نفس تتألم معها، فاهتزت على مضجعها مثل القضبان العارية أمام رياح الشتاء، ووضعت يديها على وجهها كأنها تريد أن تستر ذاتها من أمام الذكرى الهائلة بحلاوتها المرة بجمالها، وبعد سكينة ممزوجة بالتأوه ظهر وجهها من بين كفيها المرتجفتين، فرأيت عينين غائرتين محدقتين بشيء غير منظور منتصب في فضاء الغرفة، وشفتين يابستين تحركهما ارتعاشات اليأس، وعنقا تتردد فيه حشرجة النزع المصحوبة بأنين عميق منقطع. وبصوت يبثه الالتماس والاستعطاف ويسترجعه الضعف والألم قالت: «جئت محسنا مشفقا. فلتجزك السماء عني إن كان الإحسان على الخطأة برا والشفقة على المرذولين صلاحا. ولكني أطلب إليك أن تعود من حيث أتيت؛ لأن وقوفك في هذا يكسبك عارا ومذمة، وحنانك علي يثمر لك عيبا ومهانة. ارجع قبل أن يراك أحد في هذه الغرفة الدنسة المملوءة بأقذار الخنازير، وسر مسرعا ساترا وجهك بأثوابك كي لا يعرفك عابر الطريق. إن الشفقة التي تملأ نفسك لا تعيد إلي طهارتي ولا تمحو عيوبي، ولا تزيل يد الموت القوية عن قلبي. أنا منفية بحكم تعاستي وذنوبي إلى هذه الأعماق المظلمة، فلا تدع شفقتك تدنيك من العيوب، أنا كالبرص الساكن بين القبور، فلا تقترب مني لأن الجامعة تحسبك دنسا وتقصيك عنها إن فعلت. ارجع الآن، ولا تذكر اسمي في تلك الأودية المقوسة؛ لأن النعجة الجرباء ينكرها راعيها خوفا على قطيعه، وإذا ذكرتني قل قد ماتت مرتا البانية ولا تقل غير ذلك.» ثم أخذت يدي ابنها الصغيرتين وقبلتهما بلهفة وقالت متنهدة: «سوف ينظر الناس إلى ولدي بعين السخرية والاحتقار قائلين: هذا ثمرة الإثم. هذا ابن مرتا الزانية. هذا ابن العار. هذا ابن الصدف. سوف يقولون عنه أكثر من ذلك؛ لأنهم عميان لا يبصرون، وجهلاء لا يدرون بأن أمه قد طهرت طفوليته بأوجاعها ودموعها، وكفرت عن حياته بتعاسته وشقائها. سوف أموت وأتركه يتيما بين صبيان الأزقة، وحيدا في هذه الحياة القاسية، غير تاركة له سوى ذكرى هائلة تخجله إن كان جبانا خاملا، وتهيج دمه إن كان شجاعا عادلا. فإن حفظته السماء وشب رجلا قويا ساعد السماء على الذي جنى عليه وعلى أمه، وإن مات وتملص من شبكة السنين وجدني مترقبة قدومه هناك حيث النور والراحة.»
فقلت وقلبي يوحي إلي: «لست كالأبرص يا مرتا وإن سكنت بين القبور، ولست دنسة وإن وضعتك الحياة بين أيدي الدنسين. وإن أدران الجسد لا تلامس النفس النقية، والثلوج المتراكمة لا تميت البذور الحية، وما هذه الحياة سوى بيدر أحزان تدرس عليه أغمار النفوس قبل أن تعطى غلتها، ولكن ويل للسنابل المتروكة خارج البيدر؛ لأن تمل الأرض بحملها وطيور السماء تلتقطها فلا تدخل أهراء رب الحقل. أنت مظلومة يا مرتا، وظالمك هو ابن القصور ذو المال الكثير والنفس الصغيرة. أنت مظلومة ومحتقرة.»
صفحات مطوية
من دفاتر حفار القبور
في هذه الغرفة المنفردة الهادئة قد جلست بالأمس المرأة التي أحبها قلبي.
إلى هذه المساند الوردية الناعمة قد ألقت رأسها الجميل، ومن هذه الكأس البلورية قد شربت جرعة من الخمر ممزوجة بقطرة من العطر.
كل ذلك قد كان بالأمس، والأمس حلم لا يعود، أما اليوم فقد ذهبت المرأة التي أحبها قلبي إلى أرض بعيدة خالية مقفرة باردة، تدعى بلاد الخلو والنسيان.
إن آثار أصابع المرأة التي أحبها قلبي لم تزل ظاهرة على بلور مرآتي، وعطر أنفاسها ما برح متضوعا بين طيات أثوابي، وصدى صوتها لم يضمحل بعد من زوايا منزلي، ولكن المرأة نفسها - المرأة التي أحبها قلبي - قد رحلت إلى مكان قصي يدعى وادي الهجر والسلوان، أما آثار أصابعها وعطر لهاثها وأشباح روحها فستبقى في هذه الغرفة حتى صباح الغد، وعند ذلك أفتح نوافذ منزلي لتدخل أمواج الهواء وتجرف بتيارها كل ما تركته لي تلك الساحرة الحسناء.
صفحة غير معروفة
إن رسم المرأة التي أحبها قلبي لم يزل معلقا بجانب مضجعي، ورسائل الحب التي بعثت بها إلي ما برحت في العلبة الفضية المرصعة بالعقيق والمرجان، وذؤابة الشعر الذهبية التي حبتني بها تذكارا، لم تخرج قط من الغلاف الحريري المبطن بالمسك والبخور. جميع هذه الأشياء ستبقى في أماكنها حتى الصباح، وعندما يجيء الصباح أفتح نوافذ منزلي ليدخل الهواء ويحملها إلى ظلمة العدم إلي حيث تقطن السكينة الخرساء.
إن المرأة التي أحبها قلبي شبيهة بالنساء اللواتي أحبتهن قلوبكم أيها الفتيان. هي مخلوقة عجيبة، صنعتها الآلهة من وداعة الحمامة، وتقلبات الأفعى، وتيه الطاوس، وشراسة الذئب، وجمال الوردة البيضاء، وهول الليلة السوداء، مع قبضة من الرماد، وغرفة من زبد البحر.
وقد عرفت المرأة التي أحبها قلبي أيام الطفولية، فكنت أركض وراءها في الحقول وأتمسك بأذيالها في الشوارع.
وعرفتها أيام الصبا، فكنت أرى خيال وجهها في وجوه الكتب والأسفار، وأشاهد خطوط قامتها بين غيوم المساء، وأسمع نغمة صوتها متصاعدة مع خرير السواقي.
وعرفتها أيام الرجولية، فكنت أجالسها محدثا وأسألها مستفتيا، وأقترب منها شاكيا ما في قلبي من الأوجاع، باسطا ما في روحي من الأسرار.
كل ذلك كان بالأمس، والأمس حلم لا يعود. أما اليوم فقد ذهبت تلك المرأة إلى أرض بعيدة خالية مقفرة باردة، تدعى بلاد الخلو والنسيان. •••
أما اسم المرأة التي أحبها قلبي، فهو الحياة.
فالحياة امرأة حسناء تستهوي قلوبنا وتستفدي أرواحنا وتغمر وجداننا بالوعود، فإن أمطلت أماتت فينا الصبر، وإن أبرت أيقظت فينا الملل.
الحياة امرأة تستحم بدموع عشاقها، وتتعطر بدماء قتلاها. الحياة امرأة ترتدي بالأيام البيضاء المبطنة بالليالي السوداء. الحياة امرأة ترضى بالقلب البشري خليلا وتأباه حليلا. الحياة امرأة غاوية ولكنها جميلة، ومن ير غوايتها يكره جمالها.
الشاعر
صفحة غير معروفة
أنا غريب في هذا العالم.
أنا غريب وفي الغربة وحدة قاسية ووحشة موجعة، غير أنها تجعلني أفكر أبدا بوطن سحري لا أعرفه، وتملأ أحلامي بأشباح أرض قصية ما رأتها عيني.
أنا غريب عن أهلي وخلاني، فإذا ما لقيت واحدا منهم أقول في ذاتي: «من هذا؟ وكيف عرفته؟ وأي ناموس يجمعني به؟ ولماذا أقترب منه وأجالسه؟»
أنا غريب عن نفسي، فإذا ما سمعت لساني متكلما تستغرب أذني صوتي. وقد أرى ذاتي الخفية ضاحكة باكية، مستبسلة خائفة، فيعجب كياني بكياني، وتستفسر روحي روحي. ولكنني أبقى مجهولا، مستترا، مكنفا بالضباب، محجوبا بالسكوت.
أنا غريب عن جسدي، وكلما وقفت أمام المرآة أرى في وجهي ما لا تشعر به نفسي، وأجد في عيني ما لا تكنه أعماقي. أسير في شوارع المدينة فيتبعني الفتيان صارخين: «هو ذا الأعمى، فلنعطه عكازا يتوكأ عليها.» فأهرب منهم مسرعا. ثم ألتقي بسرب من الصبايا فيتشبثن بأذيالي قائلات: «هو أطرش كالصخر، فلنملأ أذنيه بأنغام والغزل.» فأتركهن راكضا. ثم ألتقي بجماعة من الكهول، فيقفون حولي قائلين: «هو أخرس كالقبر، فتعالوا نقوم اعوجاج لسانه.» فأغادرهم خائفا. ثم ألتقي برهط من الشيوخ، فيومئون نحوي بأصابع مرتعشة قائلين: «هو مجنون أضاع صوابه في مسارح الجن والغيلان.»
أنا غريب في هذا العالم.
أنا غريب وقد جبت مشارق الأرض ومغاربها، فلم أجد مسقط رأسي، ولا لقيت من يعرفني ولا من يسمع بي.
أستيقظ في الصباح فأجدني مسجونا في كهف مظلم، تتدلى الأفاعي من سقفه وتدب الحشرات في جنباته، ثم أخرج إلى النور فيتبعني خيال جسدي، أما خيالات نفسي فتسير أمامي إلى حيث لا أدري، باحثة عن أمور لا أفهمها، قابضة على أشياء لا حاجة لي بها، وعندما يجيء المساء أعود وأضطجع على فراشي المصنوع من ريش النعام وشوك القتاد، فتراودني أفكار غريبة، وتتناولني أميال مزعجة مفرحة موجعة لذيذة. ولما ينتصف الليل تدخل علي من شقوق الكهف أشباح الأزمنة الغابرة وأرواح الأمم المنسية، فأحدق بها وتحدق بي، وأخاطبها مستفهما فتجيبني مبتسمة، ثم أحاول القبض عليها فتتوارى مضمحلة كالدخان.
أنا غريب في هذا العالم.
أنا غريب وليس في الوجود من يعرف كلمة من لغة نفسي.
صفحة غير معروفة
أسير في البرية الخالية فأرى السواقي تتصاعد متراكمة من أعماق الوادي إلى قمة الجبل، وأرى الأشجار العارية تكتسي وتزهو وتثمر وتنثر في دقيقة واحدة، ثم تهبط أغصانها إلى الحضيض وتتحول إلى حيات رقطاء مرتعشة، وأرى الأطيار تنتقل متصاعدة هابطة مغردة مولولة، ثم تقف وتفتح أجنحتها وتنقلب نساء عاريات محلولات الشعر ممدودات الأعناق، ينظرن إلي من وراء أجفان مكحولة بالعشق، ويبتسمن إلي بشفاه وردية مغموسة بالعسل، ويمددن نحوي أيادي بيضاء ناعمة معطرة بالمن واللبان، ثم ينتفضن ويختفين عن ناظري ويضمحللن كالضباب، تاركات في الفضاء صدى ضحكهن مني واستهزائهن بي.
أنا غريب في هذا العالم.
أنا شاعر أنظم ما تنثره الحياة وأنثر ما تنظمه؛ ولهذا أنا غريب، وسأبقى غريبا حتى تخطفني المنايا وتحملني إلى وطني.
السيدة وردة الهاني
1
ما أتعس الرجل الذي يحب صبية من بين الصبايا ويتخذها رفيقة لحياته، ويهرق على قدميها عرق جبينه ودم قلبه، ويضع بين كفيها ثمار أتعابه وغلة اجتهاده، ثم ينتبه فجأة فيجد قلبها الذي حاول ابتياعه بمجاهدة الأيام وسهر الليالي قد أعطي مجانا لرجل آخر ليتمتع بمكنوناته ويسعد بسرائر محبته!
ما أتعس المرأة التي تستيقظ من غفلة الشبيبة فتجد ذاتها في منزل رجل يغمرها بأمواله وعطاياه، ويسربلها بالتكريم والمؤانسة، لكنه لا يقدر أن يلامس قلبها بشعلة الحب المحيية، ولا يستطيع أن يشبع روحها من الخمرة السماوية التي يسكبها الله من عيني الرجل في قلب المرأة! •••
عرفت رشيد بك نعمان منذ حداثتي، وهو رجل لبناني الأصل بيروتي المولد والدار، متحدر من أسرة قديمة غنية موصوفة بالمحافظة على ذكر الأمجاد الغابرة، فكان مولعا بسرد الحوادث التي تبين نبالة آبائه وجدوده، متبعا بمعيشته عقائدهم وتقاليدهم، منصرفا إلى تقليدهم عن العادات والأزياء الغربية المرفرفة كأسراب الطيور في فضاء الشرق.
وكان رشيد بك طيب القلب كريم الأخلاق، لكنه ليس كالكثيرين من سكان سوريا لا ينظر إلى ما وراء الأشياء، بل إلى الظاهر منها، ولا يصغي إلى نغمة نفسه بل يشغل عواطفه باستماع الأصوات التي يحدثها محيطه، ويلهي أمياله ببهرجة المرئيات التي تعمي البصيرة عن أسرار الحياة، وتحول النفس عن إدراك خفايا الكيان إلى ملاحقة الملذات الوقتية. وكان من أولئك الرجال الذين يتسرعون بإظهار محبتهم أو مقتهم للناس وللأشياء، ثم يندمون على تسرعهم بعد فوات الوقت، عندما تصير الندامة مجلبة للسخرية والاستهزاء بدلا من العفو والغفران. •••
هذه هي الصفات والأخلاق التي جعلت رشيد بك نعمان يقترن بالسيدة وردة الهاني، قبل أن تضم نفسها نفسه في ظل المحبة الحقيقية التي تجعل الحياة الزوجية نعيما.
صفحة غير معروفة
غبت عن بيروت بضعة أعوام ولما رجعت إليها ذهبت لزيارة رشيد بك، فوجدته ضعيف الجسد مكمد اللون، تتمايل على سحنته المنقبضة أشباح الأحزان، وتنبعث من عينيه الحزينتين نظرات موجوعة تتكلم بالسكينة عن انسحاق قلبه وظلمة صدره. وبعيد أن بحثت في محيطه ولم أجد أسباب نحوله وانقباضه سألته قائلا: ما أصابك أيها الرجل؟ وأين تلك البشاشة التي كانت تنبعث كالشعاع من وجهك؟ وأين ذهب ذاك السرور الذي كان ملاصقا شبيبتك؟ هل فصل الموت بينك وبين صديق عزيز؟ أم سلبتك الليالي السوداء مالا جمعته في الأيام البيضاء؟ قل لي بحق الصداقة، ما لهذه الكآبة المعانقة نفسك وهذا النحول المالك جسدك؟ •••
فنظر إلي نظرة متأسف أرته الذكرى رسوم أيام جميلة ثم حجبتها، وبصوت تتموج في مقاطعه معاني اليأس والقنوط قال: إذا فقد المرء صديقا عزيزا والتفت حوله يجد الأصدقاء الكثيرين فيتصبر ويتعزى، وإذا خسر الإنسان مالا وفكر قليلا رأى النشاط الذي أتى بالمال سيأتي بمثله فينسى ويسلو. لكن إذا أضاع الرجل راحة قلبه فأين يجدها وبم يستعيض عنها؟ يمد الموت يده ويصفعك بشدة فتتوجع، ولكن لا يمر يوم وليلة حتى تشعر بملامس أصابع الحياة فتبتسم وتفرح. يجيئك الدهر على حين غفلة ويحدق بأعين مستديرة مخيفة، ويقبض على عنقك بأظافر محددة، ويطرحك بقساوة على التراب ويدوسك بأقدامه الحديدية ويذهب ضاحكا، ثم لا يلبث أن يعود إليك نادما مستغفرا، فينتشلك بأكفه الحريرية ويغني لك نشيد الأمل فيطربك. مصائب كثيرة ومتاعب أليمة تأتيك مع خيالات الليل، وتضمحل أمامك بمجيء الصباح، وأنت شاعر بعزيمتك متمسك بآمالك. •••
ولكن إذا كان نصيبك من الوجود طائرا تحبه وتطعمه حبات قلبك، وتسقيه نور أحداقك، وتجعل ضلوعك له قفصا ومهجتك عشا، وبينما أنت تنظر إلى طائرك وتغمر ريشه بشعاع نفسك إذا به قد فر من بين يديك وطار حتى حلق السحاب، ثم هبط نحو قفص آخر وما من سبيل إلى رجوعه. فماذا تفعل إذ ذاك أيها الرجل؟ قل لي، وأين تجد الصبر والسلوان؟ وكيف تحيي الآمال والأماني؟
لفظ رشيد بك الكلمات الأخيرة بصوت مخنوق متوجع، ووقف على قدميه مرتجفا كقصبة في مهب الريح، ومد يديه إلى الأمام كأنه يريد أن يقبض بأصابعه المعوجة على شيء ليمزقه إربا إربا، وقد تصاعد الدم إلى وجهه وصبغ بشرته المتجعدة بلون قاتم، وكبرت عيناه وجمدت أجفانه، وأحدق دقيقة كأنه رأى أمامه عفريتا قد انبثق من العدم وجاء ليميته، ثم نظر إلي وقد تغيرت ملامحه بسرعة، وتحول الغضب والحنق في جسده المهزول إلى التوجع والألم، وقال باكيا:
هي المرأة. المرأة التي أنقذتها من عبودية الفقر وفتحت أمامها خزائني، وجعلتها محسودة بين النساء على الملابس الجميلة والحلي الثمينة والمركبات الفخيمة والخيول المطهمة.
المرأة التي أحبها قلبي وسكب على قدميها عواطفه، ومالت إليها نفسي فغمرتها بالمواهب والعطايا.
المرأة التي كنت لها صديقا ودودا ورفيقا مخلصا وزوجا أمينا، قد خانتني وغادرتني وذهبت إلى بيت رجل آخر لتعيش معه في ظلال الفقر، وتشاركه بأكل الخبز المعجون بالعار، وشرب الماء الممزوج بالذل والعيب.
المرأة التي أحببتها، الطائر الجميل الذي أطعمته حبات قلبي وأسقيته نور أحداقي، وجعلت ضلوعي له قفصا ومهجتي عشا، قد فر من بين يدي وطار إلى قفص آخر محبوك من قضبان العوسج، ليأكل فيه الحسك والديدان، ويشرب من جوانبه السم والعلقم. الملاك الطاهر الذي أسكنته فردوس محبتي وانعطافي قد انقلب شيطانا مخيفا، وهبط إلى الظلمة لتعذب بآثامه ويعذبني بجريمته.
وسكت الرجل وقد حجب وجهه بكفيه كأنه يريد أن يحمي نفسه من نفسه، ثم تنهد قائلا: «هذا كل ما أقدر أن أقوله، فلا تسألني أكثر من ذلك، ولا تجعل لمصيبتي صوتا صارخا، بل دعها مصيبة خرساء لعلها تنمو بالسكينة فتميتني وتريحني.»
فقمت من مكاني والدموع تراود أجفاني والشفقة تسحق قلبي، ثم ودعته ساكتا لأنني لم أجد في الكلام معنى يعزي قلبه الجريح، ولا في الحكمة شعلة تنير نفسه المظلمة.
صفحة غير معروفة
2
بعد أيام التقيت لأول مرة بالسيدة وردة الهاني في بيت حقير محاط بالزهور والأشجار، وكانت قد سمعت لفظ اسمي في منزل رشيد بك نعمان، ذلك الرجل الذي داست قلبه وتركته ميتا بين حوافر الحياة. ولما رأيت عينيها المنيرتين وسمعت نغمة صوتها الرخيمة قلت في ذاتي: «أتقدر هذه المرأة أن تكون شريرة؟ وهل بإمكان هذا الوجه الشفاف أن يستر نفسا شنيعة وقلبا مجرما؟ أهذه هي الزوجة الخائنة؟ هذه هي المرأة التي جنيت عليها مرات عديدة بتصويرها لفكري كثعبان مخيف مخشي في جسم طائر بديع الشكل؟» ولكني رجعت وهمست في سري قائلا: «إذا أي شيء جعل ذلك الرجل تعيسا إذا لم يكن هذا الوجه الجميل؟ أولم تسمع وتر أن المحاسن الظاهرة كانت سببا لمصائب خفية هائلة وأحزان عميقة أليمة؟ أوليس القمر الذي يسكب في قرائح الشعراء شعاعا هو القمر الذي يهيج سكينة البحار بالمد والجزر.»
جلست وجلست السيدة وردة وكأنها قد سمعتني مفتكرا، فلم ترد أن يطول الصراع بين حيرتي وظنوني، فأسندت رأسها الجميل بيدها البيضاء، وبصوت يحاكي نغمة الناي رقة قالت: «لم ألتق بك قبل الآن أيها الرجل، ولكني سمعت صدى أفكارك وأحلامك من أفواه الناس، فعرفتك شفيقا على المرأة المظلومة، رءوفا بضعفها، خبيرا بعواطفها وأميالها؛ من أجل ذلك أريد أن أبسط لك قلبي وأفتح أمامك صدري لترى مخبآته، وتخبر الناس إن شئت بأن وردة الهاني لم تكن قط امرأة خائنة شريرة.
كنت في الثامنة عشرة من عمري عندما قادني القدر إلى رشيد بك نعمان، وكان هو إذ ذاك قريبا من الأربعين، فشغف بي ومال إلي ميلا شريفا كما يقول الناس، ثم جعلني زوجة له وسيدة في منزله الفخيم بين خدامه الكثيرين، فألبسني الحرير وزين رأسي وعنقي ومعصمي بالجواهر والحجارة الكريمة، وكان يعرضني كتحفة غريبة في منازل أصدقائه ومعارفه، ويبتسم ابتسامة الفوز والانتصار عندما يرى عيون أترابه ناظرة إلي بإعجاب واستحسان، ويرفع رأسه تيها وافتخارا إذ يسمع نساء أصحابه يتكلمون عني بالإطراء والمودة. لكنه لم يكن يسمع قول السائل: «أهذه زوجة رشيد بك أم هي صبية تبناها؟» وقول الآخر: «لو تزوج رشيد بك في زمن الشباب لكان بكره أكبر سنا من وردة الهاني.»
جرى كل ذلك قبل أن تستيقظ حياتي من سبات الحداثة العميق، وقبل أن توقد الآلهة شعلة المحبة في قلبي، وقبل أن تنبت بزور العواطف والأميال في صدري. نعم، جرى ذلك عندما كنت أحسب منتهى السعادة في ثوب جميل ومركبة فخيمة تجرني ورياش ثمينة تحيط بي، ولكن كلما استيقظت عندما استيقظت وفتح النور أجفاني وشعرت بألسنة النار المقدسة تلسع أضلعي وتحرقها، وبالمجاعة الروحية تقبض على نفسي فتوجعها. عندما استيقظت ورأيت أجنحتي تتحرك يمينا وشمالا وتريد النهوض بي إلى سماء المحبة، ثم ترتجف وترتخي عجزا بجانب سلاسل الشريعة التي قيدت جسدي قبل أن أعرف كنه تلك القيود ومقاد تلك الشريعة. عندما استيقظت وعرفت بهذه الأشياء عرفت بأن سعادة المرأة ليست بمجد الرجل وسؤدده، ولا بكرمه وحلمه، بل هي بالحب الذي يضم روحها إلى روحه، ويسكب عواطفها في كبده، ويجعلها عضوا واحدا من جسم الحياة، وكلمة واحدة على شفتي الله.
عندما بانت هذه الحقيقة الجارحة لبصيرتي رأيتني في منزل رشيد نعمان مثل لص سارق، يأكل خبزه ثم يستتر بظلام الليل، وعرفت أن كل يوم أصرفه بقربه هو كذبة هائلة يخطها الرياء بأحرف نارية ظاهرة على جبهتي أمام الأرض والسماء؛ لأنني لم أقدر أن أهب له محبة قلبي لقاء كرمه، ولا أن أمنحه انعطاف نفسي ثمنا لإخلاصه وصلاحه. وقد حاولت أن أتعلم محبته فلم أتعلم؛ لأن المحبة هي قوة تبتدع قلوبنا، وقلوبنا لا تقدر أن تبتدعها.
ثم صليت وتضرعت وباطلا تضرعت، وصليت في سكينة الليالي أمام السماء لتولد في أعماقي عاطفة روحية تقربني من الرجل الذي اختارته رفيقا لي، فلم تفعل السماء؛ لأن المحبة تهبط على أرواحنا بإيعاز من الله لا بطلب البشر. وهكذا بقيت عامين كاملين في منزل ذلك الرجل أحسد عصافير الحقل على حريتها، وبنات جنسي يحسدنني على سجني، وكالثكلى الفاقدة وحيدها كنت أندب قلبي الذي ولد بالمعرفة واعتل بالشريعة، وكان يموت في كل يوم جوعا وعطشا.
ففي يوم من تلك الأيام السوداء نظرت من وراء الظلمة فرأيت شعاعا لطيفا ينسكب من عيني فتى يسير وحده على سبل الحياة، ويعيش منفردا بين أوراقه وكتبه في هذا البيت الحقير، فأغمضت عيني كيلا أرى ذلك الشعاع وقلت لنفسي: «نصيبك يا نفس ظلمة القبر، فلا تطمعي بالنور.» ثم أصغيت فسمعت نغمة علوية تهز جوارحي بعذوبتها وتمتلك كليتي بطهرها، فأغلقت أذني وقلت: «نصيبك يا نفس صراخ الهاوية، فلا تطمعي بالأغاني.»
أغمضت أجفاني كيلا أرى وغلقت أذني كيلا أسمع، لكن عيني ظلتا تريان ذلك الشعاع وهما مطبقتان، وأذني تسمعان تلك النغمة وهما مغلقتان، فخفت لأول وهلة خوف فقير وجد جوهرة بقرب قصر الأمير، فلم يجسر أن يلتقطها لخوفه، ولم يقدر أن يتركها لفاقته، وبكيت بكاء ظامئ رأى الينبوع العذب محاطا بكواسر الغاب، فارتمى على الأرض مترقبا جازعا.»
وسكتت السيدة وردة دقيقة وقد أغمضت عينيها الكبيرين، كأن ذلك الماضي قد انتصب أمامها فلم تجسر أن تحدق به وجها لوجه، ثم عادت وقالت: «هؤلاء البشر الذين يجيئون من الأبدية ويعودون إليها قبل أن يذوقوا طعم الحياة، الحياة الحقيقية، لا يمكنهم أن يدركوا كنه أوجاع المرأة عندما تقف نفسها بين رجل تحبه بإرادة السماء، ورجل تلتصق به بشريعة الأرض. هي مأساة أليمة مكتوبة بدماء الأنثى ودموعها، يقرؤها الرجل ضاحكا لأنه لا يفهمها، وإن فهمها انقلب ضحكه فجورا وقساوة، وأنزل على رأس المرأة من غضبه نارا وكبريتا، وملأ أذنيها لعنا وتجديفا. هي رواية موجعة تمثلها الليالي السوداء بين ضلوع كل امرأة تجد جسدها مقيدا بمضجع رجل عرفته زوجا قبل أن تعرف ما هي الزيجة، وترى روحها مرفرفة حول عنق رجل آخر تحبه بكل ما في الروح من المحبة، وبكل ما في المحبة من الطهر والجمال. هو نزاع مخيف قد ابتدأ منذ ظهور الضعف في المرأة والقوة في الرجل، ولا ينتهي حتى تنقضي أيام عبودية الضعف للقوة.
صفحة غير معروفة
هي حرب هائلة بين شرائع الناس الفاسدة وعواطف القلب المقدسة، قد طرحت بالأمس في ساحتها وكدت أموت جزعا وأذوب دموعا، لكنني وقفت ونزعت عني جبانة بنات جنسي، وحللت جناحي من ربط الضعف والاستسلام، وطرت في فضاء الحب والحرية، وأنا سعيدة الآن بقرب الرجل الذي خرج وخرجت شعلة واحدة من يد الله قبيل ابتداء الدهور، ولا توجد قوة في هذا العالم تستطيع أن تسلبني سعادتي؛ لأنها منبثقة من عناق روحين يضمهما التفاهم ويظللهما الحب.»
ونظرت إلي السيدة وردة نظرة معنوية كأنها تريد أن تخترق صدري بعينيها لترى تأثير كلامها في عواطفي، وتسمع صدري صوتها من بين ضلوعي، لكنني بقيت صامتا كيلا أوقفها عن الكلام، فقالت وقد قارن صوتها بين مرارة الذكرى وحلاوة الخلاص والحرية: «يقول لك الناس إن وردة الهاني امرأة خائنة جحودة، قد اتبعت شهوة قلبها وهجرت الرجل الذي رفعها إليه وجعلها سيدة في منزله. ويقولون لك هي زانية عاهرة، قد أتلفت بمقابضها القذرة إكليل الزواج المقدس الذي ضفرته الديانة، واتخذت عوضا عنه إكليلا وسخا محبوكا من أشواك الجحيم، وألقت عن جسدها ثوب الفضيلة وارتدت بلباس الإثم والعار. ويقولون لك أكثر من ذلك؛ لأن أشباح جدودهم ما زالت حية في أجسادهم، فهم مثل كهوف الأودية الخالية يرجعون صدى الأصوات ولا يفهمون معناها، هم لا يعرفون شريعة الله في مخلوقاته، ولا يفقهون مفاد الدين الحقيقي، ولا يعلمون متى يكون الإنسان خاطئا أو بارا، بل ينظرون بأعينهم الضئيلة إلى ظواهر الأعمال ولا يرون أسرارها، فيقضون بالجهل ويدينون بالعماوة ويستوي أمامهم المجرم والبريء والصالح والشرير، فويل لمن يقضي وويل لمن يدين.
أنا كنت زانية وخائنة في منزل رشيد نعمان؛ لأنه جعلني رفيقة مضجعه بحكم العادات والتقاليد قبل أن تصيرني السماء قرينة له بشريعة الروح والعواطف، وكنت دنسة ودنيئة أمام نفسي وأمام الله عندما كنت أشبع جوفي من خيراته ليشبع أمياله من جسدي. أما الآن فصرت طاهرة نقية؛ لأن ناموس الحب قد حررني، وصرت شريفة وأمينة لأنني أبطلت بيع جسدي بالخبز وأيامي بالملابس . نعم، كنت زانية ومجرمة عندما كان الناس يحسبونني زوجة فاضلة، واليوم صرت طاهرة وشريفة وهم يحسبونني عاهرة دنسة؛ لأنهم يحكمون على النفوس من مآتي الأجساد، ويقيسون الروح بمقاييس المادة.»
والتفتت السيدة وردة نحو النافذة وأشارت بيمينها نحو المدينة ورفعت صوتها عن ذي قبل، وقالت بلهجة الاحتقار والاشمئزاز، كأنها رأت بين الأزقة وعلى السطوح وفي الأروقة أشباح المفاسد وخيالات الانحطاط: «انظر إلى هذه المنازل الجميلة والقصور الفخيمة العالية، حيث يسكن الأغنياء والأقوياء من البشر، فبين جدرانها المكسوة بالحرير المنسوج تقطن الخيانة بجانب الرياء، وتحت سقوفها المطلية بالذهب المذوب يقيم الكذب بقرب التصنع.
انظر وتأمل جيدا بهذه البنايات التي تمثل لك المجد والسؤدد والسعادة، فهي ليست سوى مغاير يختبئ فيها الذل والشقاء والتعاسة. هي قبور مكلسة يتوارى فيها مكر المرأة الضعيفة وراء كحل العيون واحمرار الشفاه، وتنحجب في زواياها أنانية الرجل وحيوانيته بلمعان الفضة والذهب. هي قصور تتشامخ جدرانها تيها وافتخارا نحو العلاء، ولو كانت تشعر بأنفاس المكاره والغش السائلة عليها لتشققت وتبعثرت وهبطت إلى الحضيض. هي منازل ينظر إليها القروي الفقير بأعين دامعة، ولو علم بأنه لا يوجد في قلوب سكانها ذرة من تلك المحبة العذبة التي تملأ صدر رفيقته لابتسم مستهزئا وعاد إلى حقله مشفقا.
وأمسكت السيدة وردة بيدي وقادتني إلى جانب النافذة التي كانت تنظر منها نحو تلك المنازل والقصور، وقالت:
تعال فأريك خفايا هؤلاء الناس الذين لم أرض أن أكون مثلهم. انظر إلى ذلك القصر ذي الأعمدة الرخامية والجوانح النحاسية والنوافذ البلورية، ففيه يسكن رجل غني ورث ماله عن والده البخيل، واكتسب أخلاقه من جوانب الأزقة المفعمة بالمفاسد، وقد تزوج منذ عامين بامرأة لم يعرف عنها شيئا سوى أن لوالدها شرفا موروثا ومنزلة رفيعة بين نبلاء البلاد. ولم ينقض شهر العسل حتى ملها متضجرا وعاد إلى مسامرة بنات الهوى، وتركها في هذا القصر مثلما يترك السكير جرة خمر فارغة، فبكت وتوجعت لأول وهلة، ثم تصبرت وسلت سلو من عرف خطأه، وعلمت بأن دموعها هي أثمن من أن تهرق على خسارة رجل مثل زوجها، وهي الآن مشغولة عن كل شيء بعشق فتى جميل الوجه حلو الحديث، تسكب في راحتيه عواطف قلبها وتملأ جيوبه من ذهب بعلها، الذي يغض الطرف عنها لأنها تغض الطرف عنه.
ثم انظر إلى ذلك البيت المحاط بالحديقة الغناء، فهو مسكن رجل ينتمي إلى أسرة شريفة حكمت البلاد مدة طويلة، وقد انخفض مقامها اليوم بتوزيع ثروتها وانصراف أبنائها إلى التواني والكسل، وقد اقترن هذا الرجل منذ أعوام بفتاة قبيحة الصورة لكنها غنية جدا، وبعد استيلائه على ثروتها الطائلة نسي وجودها واتخذ له خليلة حسناء، وغادرها تنهش أصابعها وتذوب شوقا وحنينا، وهي الآن تصرف الساعات بتجعيد شعرها وتكحيل عينيها، وتلوين وجهها بالمساحيق والعقاقير، وتزيين قامتها بالأطلس والحرير لعلها تحظى بنظرة من أحد زائريها، لكنها لا تحصل إلا على نظرات شبحها في المرآة.
ثم انظر إلى ذلك المنزل الكبير المزين بالنقوش والتماثيل، فهو منزل امرأة جميلة الوجه خبيثة النفس، قد مات زوجها الأول فاستأثرت بأمواله وأملاكه. ثم اختارت من بين الرجال رجلا ضعيف الجسم والإرادة اتخذته بعلا لتحتمي باسمه من ألسنة الناس وتدافع بوجوده عن منكراتها، وهي الآن بين مريديها كالنحلة، تمتص من الزهور ما كان حلوا ولذيذا.
وانظر إلى تلك الدار ذات الأروقة الوسيعة والقناطر البديعة، فهي مسكن رجل مادي الأميال كثير المشاغل والمطامع، وله زوجة كل ما في جسدها جميل وحسن، وكل ما في روحها حلو ولطيف، وقد تمازجت في شخصها عناصر النفس بدقائق الجسد مثلما تتألف في الشعر نغمة الوزن برقة المعاني، فهي قد كونت لتعيش بالحب وتموت به. لكنها كالكثيرات من بنات جنسها، قد جنى عليها والدها قبل بلوغها الثامنة عشرة من عمرها ووضع عنقها تحت نير الزيجة الفاسدة، وهي الآن سقيمة الجسم تذوب كالشمع بحرارة عواطفها المقيدة، وتضمحل على مهل كالرائحة الزكية أمام العاصفة، وتفنى حبا بشيء جميل تشعر به ولا تراه، وتصبو حنينا إلى معانقة الموت لتتخلص من حياتها الجامدة، وتتحرر من عبودية رجل يصرف الأيام بجمع الدنانير والليالي يعدها، ويصر أسنانه مجدفا على الساعة التي تزوج فيها بامرأة عاقر لا تلد له ابنا ليحيي اسمه ويرث ماله وخيراته.
صفحة غير معروفة
ثم انظر إلى ذلك البيت المنفرد بين البساتين، فهو مسكن شاعر خيالي سامي الأفكار روحي المذهب، له زوجة غليظة العقل خشنة الطباع، تسخر بأشعاره لأنها لا تفهمها، وتستهزئ بأعماله لأنها غريبة. وهو الآن مشغول عنها بمحبة امرأة أخرى متزوجة تتوقد ذكاء وتسيل رقة، وتولد في قلبه النور بانعطافها، وتوحي إليه الأقوال الخالدة بابتساماتها ونظرتها.»
وسكتت السيدة وردة هنيهة وقد جلست على مقعد بجانب النافذة، كأن نفسها قد تعبت من التجول في مخادع تلك المنازل الخفية، ثم عادت تقول بهدوء: «هذه هي القصور التي لم أرض أن أكون من سكانها. هذه هي القبور التي لم أرد أن أدفن حية طي لحودها. هؤلاء هم الناس الذين تخلصت من عوائدهم وخلعت عني نير جامعتهم. هؤلاء المتزوجون الذين يقترنون بالأجساد ويتنافرون بالروح، ولا شفيع بهم أمام الله سوى جهلهم ناموس الله.
أنا لا أدينهم الآن بل أشفق عليهم، ولا أكرههم بل أكره استسلامهم عفوا إلى الرياء والكذب والخيانة. ولم أكشف أمامك خفايا قلوبهم وأسرار معيشتهم لأنني لا أحب الاغتياب والنميمة، بل فعلت ذلك لأريك حقيقة قوم كنت في الأمس مثلهم فنجوت، وأبين لك معيشة بشر يقولون عني كل كلمة شريرة لأنني خسرت صداقتهم لأربح نفسي، وخرجت عن سبيل خداعهم المظلمة، وحولت عيني نحو النور حيث الإخلاص والحق والعدل.
وقد نفوني الآن من جامعتهم وأنا راضية؛ لأن البشر لا ينفون إلا من تمردت روحه الكبيرة على الظلم والجور، ومن لا يؤثر النفي على الاستعباد لا يكون حرا بما في الحرية من الحق والواجب. أنا كنت بالأمس مثل مائدة شهية، وكان رشيد بك يقتات مني عندما يشعر بحاجة إلى الطعام، أما نفسانا فتظلان بعيدتين كخادمين ذليلين، ولما رأيت المعرفة كرهت الاستخدام، وقد حاولت الخضوع لما يدعونه نصيبا فلم أقدر؛ لأن روحي أبت أن أصرف العمر كله راكعة أمام صنم مخيف، أقامته الأجيال المظلمة ودعته الشريعة. فكسرت قيودي، لكنني لم ألقها عني حتى سمعت الحب مناديا ورأيت النفس متأهبة للمسير، فخرجت من منزل رشيد خروج الأسير من سجنه، تاركة خلفي الحلي والحلل والخدم والمركبات، وجئت بيت حبيبي الخالي من الرياش المملوء من الروح، وأنا عالمة بأنني لم أفعل غير الحق والواجب؛ لأن مشيئة السماء ليست بأن أقطع جناحي بيدي وأرتمي على الرماد، حاجبة رأسي بساعدي، ساكبة حشاشتي من أجفاني، قائلة: هذا نصيبي من الحياة.
إن السماء لا تريد أن أصرف العمر صارخة متوجعة في الليالي قائلة متى يجيء الفجر، وعندما يجيء الفجر أقول: متى ينقضي هذا النهار. إن السماء لا تريد أن يكون الإنسان تعيسا؛ لأنها وضعت في أعماقه الميل أن السعادة؛ لأنه بسعادة الإنسان يتمجد الله.
هذه هي حكايتي أيها الرجل، وهذا احتجاجي أمام السماء والأرض، وأنا أردده وأترنم به، والناس يغلقون آذانهم ولا يسمعون لأنهم يخشون ثورة أرواحهم، ويخافون أن تتزعزع أسس جامعتهم وتهبط على رءوسهم.
هذه هي العقبة التي سرت عليها حتى بلغت قمة سعادتي، ولو جاء الموت واختطفني الآن لوقفت روحي أمام العرش الأعلى بلا خوف ولا وجل، بل بفرح وأمل، وانحلت لفائف ضميري أمام الديان الأعظم وبانت نقية كالثلج؛ لأنني لم أفعل غير مشيئة النفس التي فضلها الله عن ذاته، ولم أتبع غير نداء القلب وصدى أغاني الملائكة.
هذه هي روايتي التي يحسبها سكان بيروت لعنة من فم الحياة، وعلة في جسم الهيئة الاجتماعية، ولكنهم سوف يندمون عندما تنبه الأيام محبة المحبة في قلوبهم المظلمة، مثلما تستنبت الشمس الزهور من بطن الأرض المملوء من بقايا الأموات، فيقف إذ ذاك عابر الطريق بجانب قبري ويلقي عليه السلام قائلا: «ها هنا رقدت وردة الهاني التي حررت عواطفها من عبودية الشرائع البشرية الفاسدة، لتحيا بناموس المحبة الشريفة، وحولت وجهها نحو الشمس كيلا ترى ظل جسدها بين الجماجم والأشواك».» •••
ولم تنته السيدة وردة من كلامها حتى فتح الباب ودخل علينا فتى نحيل القوام، جميل الوجه، تنسكب من عينيه أشعة سحرية وتسيل على شفتيه ابتسامة لطيفة، فوقفت السيدة وردة وأمسكت بذراعه بانعطاف كلي وقدمته إلي بعد أن لفظت اسمي مذيلا بكلمة لطيفة، واسمه مشفوعا بنظرة معنوية، فعرفت بأنه ذلك الشاب الذي أنكرت العالم وخالفت الشرائع والتقاليد من أجله.
ثم جلسنا جميعا صامتين لانشغال كل منا بمعرفة رأي الآخر فيه، حتى إذ مرت دقيقة مملوءة من السكينة التي تستميل النفوس إلى الملأ الأعلى نظرت إليهما وقد جلسا أحدهما بجانب الآخر، فرأيت ما لم أره قط، وعرفت بلحظة معنى حكاية السيدة وردة، وأدركت سر احتجاجها على الهيئة الاجتماعية التي تضطهد الأفراد المتمردين على شرائعها قبل أن تستفحص دواعي تمردهم.
صفحة غير معروفة
رأيت روحا واحدة سماوية متمثلة أمامي بجسدين، يجملهما الشباب ويسربلهما الاتحاد، وقد وقف بينهما إله الحب باسطا جناحيه ليحميهما من لوم الناس وتعنيفهم. وجدت التفاهم الكلي منبعثا من وجهين شفافين ينيرهما الإخلاص ويحيط بهما الطهر، وجدت لأول مرة من حياتي طيف السعادة منتصبا بين رجل وامرأة يرذلهما الدين وتنبذهما الشريعة.
وبعد هنيهة وقفت وودعتهما مظهرا بغير الكلام تأثيرات نفسي، وخرجت من ذلك المنزل الحقير الذي جعلته العواطف هيكلا للحب والوفاق، وسرت بين تلك القصور والمنازل التي أظهرت لي خفاياها السيدة وردة، مفكرا بحديثها وبكل ما ينطوي تحته من المبادئ والنتائج. لكنني لم أبلغ أطراف ذلك الحي حتى تذكرت رشيد بك نعمان، فتمثلت لبصيرتي لوعة قنوطه وشقائه، فقلت في ذاتي: «هو تعيس مظلوم، ولكن هل تسمعه السماء إذا وقف أمامها متظلما شاكيا وردة الهاني؟ هل جنت عليه تلك المرأة عندما تركته واتبعت حرية نفسها؟ أم هو الذي جنى عليها عندما أخضع جسدها بالزواج قبل أن يستميل روحها بالمحبة؟»
فمن هو الظالم من الاثنين ومن هو المظلوم؟ من هو المجرم ومن هو البريء يا ترى؟ ثم عدت قائلا لذاتي مستفتيا أخبار الأيام مستقصيا حوادثها: «كثيرا ما أباح الغرور للنساء أن يتركن رجالهن الفقراء ويتعلقن بالرجال الأغنياء؛ لأن شغف المرأة ببهرجة الملابس ونعومة العيش يعمي بصيرتها ويقودها إلى العار والانحطاط، فهل كانت وردة الهاني مغرورة وطامعة عندما خرجت من قصر رجل غني مفعم بالحلي والحلل والرياش والخدم، وذهبت إلى كوخ رجل فقير لا يوجد فيه سوى صف من الكتب القديمة؟ وكثيرا ما يميت الجهل شرف المرأة ويحيي شهواتها، فتترك بعلها مللا وتضجرا، وتطلب ملذات جسدها بقرب رجل آخر أكثر منها انحطاطا وأقل شرفا، فهل كانت وردة الهاني جاهلة راغبة بالملذات الجسدية، عندما أعلنت استقلالها على رءوس الأشهاد وانضمت إلى فتى روحي الأميال، وقد كان في إمكانها أن تشبع حواسها سرا في منزل زوجها من هيام الفتيان الذين يستميتون ليكونوا عبيد جمالها وشهداء غرامها؟ وردة الهاني كانت امرأة تعيسة، فطلبت السعادة فوجدتها وعانقتها، وهذه هي الحقيقة التي تحتقرها الجامعة الإنسانية وتنفيها الشريعة.»
همست تلك الكلمات في مسامع الأثير، ثم قلت مستدركا: «ولكن أيسوغ للمرأة أن تشتري سعادتها بتعاسة بعلها؟» فأجابتني نفسي قائلة: «وهل يجوز للرجل أن يستعبد عواطف زوجته ليبقى سعيدا؟» •••
وظللت سائرا وصوت السيدة وردة يتموج في مسامعي، حتى بلغت أطراف المدينة والشمس قد مالت إلى الغروب، وابتدأت الحقول والبساتين تتشح بنقاب السكينة والراحة، والطيور تنشد صلاة المساء، فوقفت متأملا ثم تنهدت قائلا: «أمام عرش الحرية تفرح هذه الأشجار بمداعبة النسيم، وأمام هيبتها تبتهج بشعاع الشمس والقمر. على مسامع الحرية تتناجى هذه العصافير وحول أذيالها ترفرف بقرب السواقي. في فضاء الحرية تسكب هذه الزهور عطر أنفاسها وأمام عينيها تبتسم لمجيء الصباح. كل ما في الأرض يحيا بناموس طبيعته، ومن طبيعة ناموسه يستمد مجد الحرية وأفراحها، أما البشر فمحرومون هذه النعمة لأنهم وضعوا لأرواحهم الإلهية شريعة عالمية محدودة، وسنوا لأجسادهم ونفوسهم قانونا واحدا قاسيا، وأقاموا لأميالهم وعواطفهم سجنا ضيقا مخيفا، وحفروا لقلوبهم وعقولهم قبرا عميقا مظلما، فإذا ما قام واحد من بينهم وانفرد عن جامعتهم وشرائعهم قالوا: هذا متمرد شرير خليق بالنفي، وساقط دنس يستحق الموت. ولكن هل يظل الإنسان عبدا لشرائعه الفاسدة إلى انقضاء الدهر؟ أم تحرره الأيام ليحيا بالروح وللروح؟ أيبقى الإنسان محدقا بالتراب؟ أم يحول عينيه نحو الشمس كيلا يرى ظل جسده بين الأشواك والجماجم؟»
يوحنا المجنون
1
في أيام الصيف كان يوحنا يسير كل صباح إلى الحقل سائقا ثيرانه وعجوله، حاملا محراثه على كتفه، مصغيا لتغاريد الشحارير وحفيف أوراق الغصون، وعند الظهيرة كان يقترب من الساقية المتراكضة بين منخفضات تلك المروج الخضراء، ويأكل زاده تاركا على الأخشاب ما بقي من الخبز للعصافير، وفي المساء عندما ينتزع المغرب دقائق النور من الفضاء، كان يعود إلى البيت الحقير المشرف على القرى والمزارع في شمال لبنان، ويجلس بسكينة مع والديه الشيخين مصغيا لأحاديثهما المملوءة بأخبار الأيام، شاعرا بدنو النعاس والراحة معا.
وفي أيام الشتاء كان يتكئ مستدفئا بقرب النار، سامعا تأوه الأرياح وندب العناصر، مفكرا بكيفية تتابع الفصول، ناظرا من الكوة الصغيرة نحو الأودية المكتسية بالثلوج والأشجار العارية من الأوراق، كأنها جماعة من الفقراء تركوا خارجا بين أظافر البرد القارص والرياح الشديدة.
وفي الليالي الطويلة كان يبقى ساهرا حتى ينام والده، ثم يفتح الخزانة الخشبية ويأتي بكتاب العهد الجديد، ويقرأ منه سرا على نور مسرجة ضعيفة، متلفتا بحذر بين الآونة والأخرى نحو والده النائم الذي منعه عن تلاوة الكتاب؛ لأن الكهنة ينهون بسطاء القلب عن استطلاع خفايا تعاليم يسوع، ويحرمونهم من «نعم الكنيسة» إذا فعلوا.
صفحة غير معروفة