بين تلك الأودية المغمورة بالسكون، الموشاة بنقاب الليل، سار الخوري سمعان نحو قريته منحني الظهر تحت هيكل عار، وقد تلطخت ملابسه السوداء، وحليته المسترسلة بقطرات الدم السائلة من كلومه.
على باب الهيكل
قد طهرت شفتي بالنار المقدسة لأتكلم عن الحب، ولما فتحت شفتي للكلام وجدتني أخرس.
كنت أترنم بأغاني الحب قبل أن أعرفه، ولما عرفته تحولت الألفاظ في فمي إلى لهاث ضئيل، والأنغام في صدري إلى سكينة عميقة. وكنتم أيها الناس فيما مضى تسألونني عن غرائب الحب وعجائبه، فكنت أحدثكم وأقنعكم. أما الآن وقد غمرني الحب بوشاحه، فجئت بدوري أسألكم عن مسالكه ومزاياه، فهل بينكم من يجيبني؟ جئت أسألكم عما بي، وأستخبركم عن نفسي، فهل بينكم من يستطيع أن يبين قلبي لقلبي؟ ويوضح ذاتي لذاتي؟ ألا فأخبروني، ما هذه الشعلة التي تتقد في صدري وتلتهم قواي وتذيب عواطفي وأميالي؟
وما هذه الأيدي الخفية، الناعمة، الخشنة، التي تقبض على روحي في ساعات الوحدة والانفراد، وتسكب في كبدي خمرة ممزوجة بمرارة اللذة وحلاوة الأوجاع؟
وما هذه الأجنحة التي ترفرف حول مضجعي في سكينة الليل، فأسهر مترقبا ما لا أعرفه، مصغيا إلى ما لا أسمعه، محدقا بما لا أراه، مفكرا بما لا أفهمه، شاعرا بما لا أدركه، متأوها لأن في التأوه غصات أحب لدي من رنة الضحك والابتهاج، مستسلما إلى قوة غير منظورة تميتني وتحييني، ثم تحييني وتميتني حتى يطلع الفجر ويملأ النور زوايا غرفتي، فأنام إذ ذاك وبين أجفاني الذابلة ترتعش أشباح اليقظة، وعلى فراشي الحجري تتمايل خيالات الأحلام؟ أخبروني ما هذا السر الخفي الكامن خلف الدهور، المختبئ وراء المرئيات، الساكن في ضمير الوجود؟ ما هذه الفكرة المطلقة التي تجيء سببا لجميع النتائج، وتأتي نتيجة لجميع الأسباب؟
ما هذه اليقظة التي تتناول الموت والحياة، وتبتدع منها حلما أقرب من الحياة وأعمق من الموت؟
أخبروني أيها الناس، أخبروني هل بينكم من لا يستيقظ من رقدة الحياة إذا ما لمس الحب روحه بأطراف أصابعه؟
هل بينكم من لا يترك أباه وأمه ومسقط رأسه عندما تناديه الصبية التي أحبها قلبه؟
هل فيكم من لا يمخر البحر، ويقطع الصحارى، ويجتاز الجبال والأودية، ليلتق بالمرأة التي اختارتها روحه؟
صفحة غير معروفة