وعظتني نفسي فعلمتني استنشاق ما لا تبثه الرياحين ولا تنشره المجامر، وقبل أن تعظني نفسي كنت إن اشتهيت عطرا طلبته من البساتين أو من القوارير والمباخر. أما الآن فقد صرت أشم ما لا يحرق ولا يهرق، وأملأ صدري من أنفاس زكية لم تمر بجنة من جنات هذا العالم، ولم تحملها نسمة من نسمات هذا الفضاء.
وعظتني نفسي فعلمتني أن أقول «لبيك» عندما يناديني المجهول والخطير. وقبل أن تعظني نفسي كنت لا أنهض إلا لصوت مناد عرفته، ولا أسير إلا على سبل خبرتها فاستهونتها. أما الآن فقد أصبح المعلوم مطية أركبها نحو المجهول، والسبل سلما أتسلق درجاته لأبلغ الخطر. •••
وعظتني نفسي فعلمتني ألا أقيس الزمن بقولي: «كان بالأمس وسيكون غدا.» وقبل أن تعظني نفسي كنت أتوهم الماضي عهدا لا يرد، والآتي عصرا لن أصل إليه. أما الآن فقد عرفت أن في الهنية الحاضرة كل الزمن بكل ما في الزمن مما يرجى وينجز ويحقق.
وعظتني نفسي فعلمتني أن لا أحد المكان بقولي: «هنا، وهناك، وهنالك.» وقبل أن تعظني نفسي كنت إذا ما صرت في موضع في الأرض ظننتني بعيدا عن كل موضع آخر. أما الآن فقد علمت أن مكانا أحل فيه هو كل مكان، وأن فسحة أشغلها هي كل المسافات. •••
وعظتني نفسي فعلمتني أن أسهر وسكان الحي راقدون، وأن أنام وهم منتبهون. وقبل أن تعظني نفسي كنت لا أرى أحلامهم في هجعتي ولا يرصدون أحلامهم في غفلتهم. أما الآن فلا أسبح مرفرفا في منامي إلا وهم يرقبونني، ولا يطيرون في أحلامهم إلا وفرحت بانعتاقهم. •••
وعظتني نفسي فعلمتني أن لا أطرب لمديح ولا أجزع لمذمة. وقبل أن تعظني نفسي كنت أظل مرتابا في قيمة أعمالي وقدرها، حتى تبعث إليها الأيام بمن يقرظها أو يهجوها. أما الآن فقد عرفت أن الأشجار تزهو في الربيع وتثمر في الصيف ولا مطمع لها بالثناء، وتنثر أوراقها في الخريف وتتعرى في الشتاء ولا تخشى الملامة. •••
وعظتني نفسي فعلمتني وأثبتت لي أنني لست بأرفع من الصعاليك ولا أدنى من الجبابرة. وقبل أن تعظني نفسي كنت أحسب الناس رجلين؛ رجلا ضعيفا أرق له أو أزدري به، ورجلا قويا أتبعه أو أتمرد عليه. أما الآن فقد علمت أنني كونت فردا مما كون البشر منه جماعة، فعناصري عناصرهم، وطويتهم طويتي، ومنازعي منازعهم، ومحجتي محجتهم. فإن أذنبوا فأنا المذنب، وإن أحسنوا عملا فاخرت بعملهم، وإن نهضوا نهضت وإياهم، وإن تقاعدوا تقاعدت معهم. •••
وعظتني نفسي فعلمتني وأفهمتني أن السراج الذي أحمله ليس لي، والأغنية التي أنشدها لم تتكون في أحشائي، فأنا وإن سرت بالنور لست بالنور، وأنا وإن كنت عودا مشدود الأوتار فلست بالعواد. •••
وعظتني نفسي يا أخي وعلمتني. ولقد وعظتك نفسك وعلمتك. فأنت وأنا متشابهان متضارعان، وما الفرق بيننا سوى أنني أتكلم عما بي وفي كلامي شيء من اللجاجة، وأنت تكتم ما بك، وفي تكتمك شيء من الفضيلة.
المليك السجين
صفحة غير معروفة