بنات البحر
في أعماق البحر الذي يحيط بالجزائر القريبة من مطلع الشمس، هنالك في الأعماق حيث الدر الكثير، جثة فتى هامدة بقربها بنات البحر ذوات الشعور الذهبية، قد جلسن بين بنات المرجان ينظرن إليها بعيونهن الزرقاء الجميلة ويتحدثن بأصوات موسيقية، حديثا سمعته اللجة فحملته الأمواج إلى الشاطئ، فجاء به النسيم الى نفسي.
قالت واحدة: «هذا بشري هبط بالأمس إذ كان البحر حانقا.»
قالت الثانية: «لم يكن البحر حانقا، ولكن الإنسان - وهو الذي يدعي بأنه من سلالة الآلهة - كان في حرب حامية أهرقت فيها الدماء حتى صار لون الماء قرمزيا، وهذا البشري هو قتيل الحرب.»
فقالت الثالثة: «لا أدري ما هي الحرب. ولكني أعلم أن الأنسان بعد أن تغلب على اليابسة طمع بالسيادة على البحر؛ فابتدع الآلات الغريبة، ومخر العباب، فدرى نبتون إله البحار وغضب من هذا التعدي، فلم ير الإنسان بدا إذ ذاك من إرضاء مليكنا بالذبائح والهدايا، فالأشلاء التي رأيناها بالأمس هابطة هي آخر تقدمة من الإنسان إلى نبتون العظيم.»
قالت الرابعة: «ما أعظم نبتون! ولكن ما أقسى قلبه! لو كنت أنا سلطانة البحار لما رضيت بالذبائح الدموية. تعالين لنرى جثة هذا الشاب، فربما أفادتنا شيئا عن طائفة البشر.»
اقتربت بنات البحر من جثمان الشاب وبحثن في جيوب أثوابه، فعثرن على رسالة في الثوب الملاصق قلبه، فأخذت الرسالة واحدة منهن وقرأت:
يا حبيبي، ها قد انتصف الليل وأنا ساهرة، وليس لي مسل غير دموعي ولا معز سوى أملي برجوعك إلي من بين مخالب الحرب، ولا أقدر أن أفتكر إلا بما قلته لي عند الوداع بأن عند كل إنسان أمانة من الدم لا بد من ردها يوما. لا أدري يا حبيبي ماذا أكتب؟ بل أترك نفسي تسيل على الورق، نفس يعذبها الشقاء ويعزيها الحب الذي يجعل الألم لذة والأحزان مسرة. لما وحد الحب قلبينا وصرنا نتوقع ضم جسمين تجول فيهما روح واحدة نادتك الحرب، فاتبعتها مدفوعا بعوامل الواجب والوطنية. ما هذا الواجب الذي يفرق المحبين ويرمل النساء وييتم الأطفال؟ ما هذه الوطنية التي من أجل أسباب صغيرة تدعو الحرب لتخريب البلاد؟ ما هذا الواجب المحتوم على القروي المسكين، والذي لا يحفل به القوي وابن الشرف الموروث؟ إذا كان الواجب ينفي السلم من بين الأمم، والوطنية تزعج سكينة حياة الإنسان فسلام على الواجب والوطنية. لا لا يا حبيبي، لا تحفل بكلامي بل كن شجاعا ومحبا لوطنك، ولا تسمع كلام ابنة أعماها الحب وأضاع بصيرتها الفراق. إذا كان الحب لا يرجعك إلي في هذه الحياة، فالحب يضمني إليك في الحياة الآتية.
وضعت بنات البحر تلك الرسالة تحت أثواب الشاب، وسبحن بسكينة محزنة، ولما بعدن قالت واحدة منهن: «إن قلب الإنسان أقسى من قلب نبتون.»
بين ليل وصباح
صفحة غير معروفة