إني متيقن أنه لولا أمر واحد، لكان قد اختار أحدهما في سفرته الأولى إلى باريس، بل لكان قبل كل ما عرضه عليه كليمنصو، أمر واحد تخلل معقوله وأضعف فيه القوة الحاكمة، أمر واحد هز منه القلب والمخيلة، وأشعل فيهما مصباح أمل هو أقرب إلى الأحلام منه إلى أحكام الأيام، فخدع الأمير وخدع غيره ممن هم أكبر منه، أجل قد خدع به أحد «الثلاثة الكبار»؛
3
الرئيس ولسون نفسه، وهو الذي خدع الأمير، كما خدع غيره من الناس ومن الأمم والشعوب، بما ظنه مظهرا لسياسات الدول كلها وبلسما لجروح الأمم جمعاء. «تقرير المصير»، «حق الشعوب بتقرير مصيرها»؛ إنها لكلمات فتانة! ولكنها لم تكن لتستطيع أن تخدع الأمير لولا مساعي هاورد بليس في سبيلها. ولا أظن أن ما صوره وتصوره الدكتور بليس، وما ضج به سوريو المهجر، كان يقنع الأمير كل الإقناع، ويحمله على عمل يخالف الحكومتين البريطانية والفرنسية، لولا - وها هنا رأس الخدعة وإكليلها - لولا اللجنة التي طلب تشكيلها الرئيس ولسون لتستفتي الأمة السورية. من من الناس لا تخدعه هذه المناورات السياسية، وبالأحرى هذه النظريات والأحكام من رئيس إحدى الأمم العظمى، بل أعظم في تلك الأيام.
عاد الأمير إلى سوريا وفي صدره، ولا ريب، أمل بالتخلص من الحكومتين البريطانية والفرنسية، بل في صدره أمل بتحقيق أمانيه الوطنية العربية على يد الحكومة الأميركية. وصل إلى بيروت في 30 نيسان، وكانت الأمة تنتظر قدومه وهي تائقة إلى أخباره وتصريحاته. تركها منذ خمسة أشهر وآماله راقدة، فعاد إليها وآماله تغرد في قفص الأحلام. تركها أميرا عربيا قد يفلح وقد لا يفلح في مساعيه، فعاد إليها أميرا خطيرا، أوسع شهرة، وأعظم ثقة بنفسه، وأرفع مقاما، فاستقبل في بيروت استقبالا ملكيا ترأسه القائدان الفرنسي والبريطاني فيها، وخطب في الناس فأدهش الناس. «الاستقلال يؤخذ ولا يعطى ... حرية الأمة بيدها ... لنسع متحدين فنحي حياة عزيزة ... الاستقلال التام في الاتحاد التام.» ثم قال إكراما للفرنسيين والبريطانيين: «لا أنكر أننا في حاجة إلى المساعدات المادية والاقتصادية والعلمية، ولكننا سنطلب هذه المساعدات بأجرتها، ستستخدم الحكومة الأخصائيين من الأجانب وتدفع رواتبهم من مال الأمة.»
وقد كان الأمير أشد لهجة في دمشق: «الأمة السورية تروم الاستقلال التام الناجز، ولا تقبل بغيره بديلا.» فرددت الشام ومدن سوريا كافة صدى هذه الكلمات: الاستقلال التام الناجز!
وصل الأمير قبل اللجنة الاستفتائية الأميركية فبشر بقدومها، وحث الشعب على أن يطلب الاستقلال التام بدون شرط ولا قيد: «برهنوا على أنكم لستم كأنعام تباع وتشترى ... الاستقلال بدون حدود البتة، الحرية بدون قيود أجنبية ... من يطلب فرنسا أو إنكلترا أو أميركا أو إيطاليا فهو ليس منا.»
ثم زار المجلس التشريعي في 7 أيار، فرحب به أعضاؤه ونادوا به زعيما - الزعيم الأكبر! - «لك الأمر وعليك بعد الله الاتكال.»
ووقف نوري الشعلان يعاهد بالطاعة والولاء: «حنا كلنا، عرب الرولا، أطوع لك من يمينك، ومن لا يكون مثلنا فليس من دين الإسلام.»
وفي هذا الشهر تنازل الأمير عن الخطة السياسية التي كان من شأنها أن تربط سوريا بالحجاز ، بل تجعلها تابعة لحكومة والده، فقبل جلالة الملك حسين ذلك حبا بما بدأ يتبلور من الآمال، فأرسل الأمير إلى مؤتمر الصلح يقول: «إن الحجاز لا تعترض أن تكون تابعة سياسيا لسوريا. وقد قال لي جلالة الحسين هذا القول مرارا.»
أما فيما يختص بسوريا نفسها، فقد كان لفيصل رأي في تقسيم البلاد إلى مقاطعات، وفقا لحالاتها الطبيعية والاجتماعية، صرح به خصوصا للوفد اللبناني الذي جاء إلى دمشق ليهنئه بعودته سالما من باريس، وليؤكد له أن فريقا كبيرا من اللبنانيين يتمنون الانضمام إلى سوريا، فرحب الأمير بهم وخطب فيهم خطبة بليغة، فقال: «إنه يجب أن يضم إلى لبنان القسم اللازم الوافي لحياة أهاليه الزراعية، فيستفيدوا من توسيع أرضهم كما تستفيد هذه البلاد من ذكائهم ونشاطهم ... أقول بكل حرية إن لبنان مستقل داخليا وإداريا، ويلزم أن يبقى ما يلحق به مستقلا وممتازا ... مع المحافظة على الارتباط بالوحدة السورية، ولكن هذا الانضمام لا يكون إجبارا بل اختيارا ... إني مستعد أن أعطي الضمانة الخطية بكل ما أقول. وليعلم اللبنانيون - وهم إخواننا، بل قلوبنا التي بها نحس، وعقولنا التي بها نفكر - أننا نحن وإياهم واحد لا يفصلنا فاصل طبيعي أو مادي ... ما كان عندنا، ولا يكون، أدنى فرق بين لبناني ودمشقي، أو بين مسلم ودرزي.»
صفحة غير معروفة