وبلغ المتنبي هذا النقد فذهب إلى سيبويه وسمعه منه فتبسم وانصرف؛ فصاح سيبويه: «انبكم!»
ومع هذا فلما سمع قول المتنبي:
ما كنت آمل قبل نعشك أن أرى
رضوى على أيدي الأنام تسير. إلخ
صاح سيبويه: لبيك لبيك أنا عبد هذه الأبيات.
مما يدل على ذوق حسن ونقد صحيح وتقدير للأدب.
ولقد كان عالي النفس، دقيق الحس، يرى الناس كلهم دونه، فلا يذل لعظيم، ولا يهين لكبير. طلبه أبو جور بن الإخشيد أمير مصر لينادمه، فقال: على شرط أن أنزل حيث تنزل، وأركب حيث تركب، وأجلس متكئا. فأجابه إلى شرطه.
وكان سيبويه يحدث عظيما فجاء خادم يسر حديثا إلى هذا الجليس فسمع له وقطع الاستماع لسيبويه. فقام سيبويه مغضبا، فسأله: إلى أين؟ قال: لا تجالسن من لا يرى مجالستك رفعة، ولا تحدثن من لا يرى حديثك متعة، ولا تسألن من لا تأمن منعه، ولا تأمرن من لا تأمن طوعه.
ولما ماتت أم سيبويه حضر في جنازتها كل كبير في مصر إلا ابن المادراني الوزير، وعاد والناس حوله، فأخذ سيبويه يطلق لسانه في هجاء ابن المادراني، وما نجاه من لسانه إلا أن لقيه في الطريق يأتي مسرعا ليدرك الجنازة.
وعلى الجملة كان سيبويه طرفة مصر في عصره علما وأدبا وفكاهة وجنونا - كان يقوم فيهم مقام العالم والواعظ والأديب، ومقام الجريدة السيارة الناقدة اللاذعة، وكان منظره بديعا، يدور في الأسواق على حماره أو حمار غيره، وما أكثر من كان يتقي لسانه بتقديم حماره!
صفحة غير معروفة