وسكت رياض أسبوعين وهو يحاول إقناع الضباط بسحب العريضة، ولكنهم أصروا عليها وتوالت اجتماعاتهم بمنزل عرابي، وغضب الخديو أشد الغضب وأمر بمعاقبة الضباط الثلاثة. ثم دعاهم رفقي إلى وزارة الجهادية بقصر النيل بحجة الاستعداد لحفلات زفاف إحدى الأميرات.
وما كادوا ثلاثتهم يدخلون الوزارة وكان ذلك في أول فبراير سنة 1881، حتى وجدوا أنفسهم بين صفوف مسلحة من الشراكسة فقبض عليهم وانتزعت منهم سيوفهم وأودعوا السجن، وهم يسمعون عبارات السب يقذفهم بها هؤلاء الشراكسة.
الضباط الثلاثة
وكانت كلمة «فلاح» أكثر ما أطلق به ألسنتهم هؤلاء السفهاء. ولبث الضباط في السجن ينتظرون المحاكمة أمام مجلس عسكري، وقد عزلوا بادئ ذي من مناصبهم.
وشاع الخبر في الجند الوطنيين فثارت ثائرتهم، وكان أكثرهم جرأة وإقداما ووفاء الضابط الباسل محمد عبيد بطل معركة التل الكبير فيما بعد، فقد هجم بجنوده وكان في ألاي علي فهمي بحرس عابدين، على قصر النيل، ولاذ رفقي بالفرار من إحدى النوافذ في صورة مخزية وهرب أعضاء محكمته، وحطم الجند الأثاث والمكاتب ثم حطموا الأبواب، وأخرجوا الضباط الثلاثة من السجن وفك عبيد قيودهم وحياهم هو وجنوده.
وتوجه الجميع إلى عابدين وجددوا طلب عزل رفقي، فأجابهم الخديو إلى مطلبهم وأعادهم إلى مناصبهم، ثم عين محمود سامي البارودي وزيرا للجهادية وهو يضمر في نفسه الانتقام.
وأدى انتصار عرابي وزملائه على هذه الصورة إلى ذيوع صيته لا في القاهرة وحدها بل في القرى كذلك. ولقد عجب الأعيان والفلاحون أن يجرؤ رجل هو منهم على تحدي الخديو والرؤساء والشراكسة على هذا النحو، وأحبه الناس وإن لم يروه. وجاء كثيرون إلى القاهرة يحبونه ويشكرونه. يقول بلنت في كتابه عن هذا الحادث وقد كان في مصر عند وقوعه: «ولست أتذكر أني سمعت اسم عرابي قبل ذلك، ولكن الدور الذي لعبه في ذلك اليوم قد أكسبه شهرة سريعة، وأصبح مقامه في بضعة أسابيع مقام رجل ذي نفوذ وقوة في مصر، أو على الأقل أصبح يعزى إليه القوة. وصارت تتقاطر عليه كما هي العادة في مصر الظلامات من أناس عانوا الظلم، ولقد أذاع صيته خارج القاهرة ظهوره بمظهر من يحمي الفلاحين من جور الحكام الشراكسة، واتصل به كثيرون من الأعيان وأشياخ البلاد، وكان يرد على كل بما يسمعه من رد حسن أو بما يدخل في طوقه المحدود من عون، وكان يؤثر الناس تأثيرا حسنا أينما لقوه بحسن محضره وبابتسامته الجذابة وفصاحته في الحوار. ويجب أن نذكر أنه في تاريخ مصر لم يبرز في مدى ثلاثة قرون على الأقل فلاح بسيط إلى حد أن يصبح ذا مكانة سياسية لها خطرها، أو إلى حد أن يصبح داعية إصلاح أو إلى أن يهمس بكلمة تدعو حقا إلى الثورة» وقال في موضع آخر: «وأخذ الناس في الأقاليم يذكرونه بقولهم: «الوحيد»، ولقد استحق هذه التسمية حقا».
بهذا الذي فعله عرابي أصبح بيته مقصد الكثيرين من الأحرار من المدنيين، ومن العلماء ومن رجال الجيش. والحق أن عمله يومذاك كان بالغ الجرأة كما كان عظيم الأهمية، فإن الخطوة الأولى في كل حركة تتطلب إقداما، هي التي تنقل التاريخ من صفحة إلى صفحة.
رأى الوطنيون ما نال رجال الجيش من ظفر سريع بينما قد لحقهم هم الفشل، وقد شدد عليهم رياض الرقابة وراح يلغي الصحف ويصادرها، فسرعان ما تقربوا من عرابي وأخذ شريف يراسله ، وحذا حذو شريف زعماء الإصلاح في الأزهر وزعماء النواب مثل سلطان باشا الذي كان يمثل الأعيان كذلك؛ لأنه منهم.
وما الثورة العرابية في معناها الصحيح إلا التقاء الوطنيين والعسكريين على غرض موحد، هو إزالة ما كانت تشكو منه البلاد من أسباب الفساد، ولسوف يغدو عرابي زعيم المدنيين والعسكريين جميعا.
صفحة غير معروفة