تمهيد
لماذا حدثت الثورة؟
الثورة
جهاد مصر ضد المعتدين
تمهيد
لماذا حدثت الثورة؟
الثورة
جهاد مصر ضد المعتدين
فصل في تاريخ الثورة العرابية
فصل في تاريخ الثورة العرابية
تأليف
محمود الخفيف
تمهيد
كانت الثورة العرابية حركة وطنية قومية انبعثت في مصر في أواخر القرن الماضي، حين ثار الوطنيون من مدنيين وعسكريين على تدخل الأجانب في شؤون مصر، وعلى فساد الحكم الذي كانت تخضع له البلاد وما آلت إليه من فساد أحوالها جميعا، وقد انتهت زعامة هذه الحركة القومية العظيمة التي عمل الاحتلال البريطاني على تشويهها والحط من قيمتها إلى الزعيم الوطني أحمد عرابي أحد ضباط الجيش المصري، ويجدر بنا قبل أن نذكر أسباب هذه الثورة، وقبل أن نسرد حوادثها أن نلم بنشأة هذا الزعيم المصري العظيم.
نشأة أحمد عرابي
ولد أحمد عرابي في شهر مارس سنة 1841 في قرية «هرية رزنة»، وهي قرية صغيرة بالشرقية تقع غير بعيد من مدينة الزقازيق.
نشأ في هذه القرية الصغيرة ذلك الصبي الذي قدر له أن يقترن اسمه بحركة من أكبر الحركات الإصلاحية في تاريخ مصر الحديث، والذي صارت حياته وأعماله فصلا من تاريخ وطنه، والذي كان أول مصري فلاح واجه حاكم مصر المطلق في شجاعة وإباء فأسمعه أن المصريين لم يعودوا عبيدا، وأنهم جديرون بأن يعيشوا أحرارا «وأنهم لن يورثوا بعد اليوم».
وكان أبوه محمد عرابي شيخ هرية رزنة، ويذكر عرابي عن أبيه في مذكراته التي كتبها في أواخر حياته أنه كان «شيخا جليلا رئيسا على عشيرته عالما ورعا تقيا نقيا موصوفا بالعفة والأمانة»، ويذكر كذلك فيما يذكر من أنباء والده قوله: «وكان قد أمر والدي بترتيب درس فقه في المسجد الذي جدده للعامة بعد عصر كل يوم وبعد صلاة العشاء، فتفقه عامة أهل البلد في دينهم وصحت عبادتهم، وحسن حالهم بفضل قيام المرحوم والدي على تعليم قومه وأهل بلده».
وأدخله أبوه مكتب القرية وهو كما يقول من منشآته فيها؛ وفي هذا المكتب فتحت عينا الصبي على نور العلم فحفظ شيئا من القرآن الكريم وتعلم مبادئ القراءة والكتابة.
وعرف الصبي في المكتب بفصاحة اللسان وسرعة الحفظ وبهما تحدث معلمه إلى أبيه. وتعهده صراف القرية ميخائيل غطاس، فعلمه مبادئ الحساب وتحسين الخط.
ومات أبوه وهو في الثامنة من عمره، ولكن يتمه لم يحل بينه وبين أن ينال قسطا من التعليم في الأزهر، فقد أرسله أخوه الأكبر محمد عرابي إلى هناك عسى أن يكون عالما من علمائه، ولكن الصبي لم يلبث بالأزهر إلا أربع سنوات تعلم فيها على طريقة الأزهر يومئذ شيئا من الفقه والتفسير والنحو، وحفظ الصبي القرآن بالضرورة كما يفعل من يلتحقون بهذا الجامع العتيد.
وعاد الصبي إلى قريته ولا ندري ما الذي حمله على العودة. وكان من الممكن أن يعيش هذا الصبي القروي بقية عمره في تلك القرية يعمل في الزراعة أو غيرها، ثم يموت فيها كما يعيش ويموت سواه من الفلاحين.
ولكنه سوف يخرج بعد قليل من القرية؛ ليخطو أجرأ خطوة في تاريخ مصر حتى ذلك الوقت؛ وليصبح زعيمها وقائد ثورتها على الفساد والاستبداد والباطل.
خرج الفتى من القرية إلى الجندية، فإن سعيدا باشا حين أراد أن ينهض بالجيش المصري قد أمر أن يكون في صفوفه أبناء المشايخ والأعيان؛ كيلا يحتقر الجندي في نظر الناس إذ كانوا لا يرون إلا المستضعفين والفقراء يحشدون ويساقون إلى الجيش ليكونوا عساكره، أما ضباطه وقواده فكان أكثرهم من الشركس.
وكان عرابي يومئذ في الرابعة عشرة من عمره، وقد عين أول الأمر «جاويشا» في عمل كتابي «بالأورطة الرابعة من آلاي المشاة الأول»، وما لبث أن رقي بعد سنتين إلى رتبة ملازم ثان ثم إلى رتبة ملازم أول، ثم إلى يوزباشي بعد سنة، ولم يمر عامان بعد ذلك حتى وصل إلى رتبة قائمقام، وكان أول مصري وصل إلى هذه الرتبة.
وكان سلاح عرابي في هذا الرقي ذلك القدر من التعليم، الذي حصل عليه فيه تمكن من دراسة القوانين العسكرية واجتياز الامتحانات في تفوق، ولا شك أن هذا الترقي السريع قد بث في نفس هذا الفتى القروي كثيرا من الطموح والإقدام.
وأول ما عرف عن عرابي الجندي كراهته للعنصر الشركسي في الجيش لترفع هؤلاء على المصريين. فكان لا يفتأ يقارن بين نصيب هذا العنصر ونصيب المصريين من المناصب، فلا تزيده المقارنة إلا غضبا وكرها لهؤلاء الأجانب. وعرف هؤلاء الأجانب فيه هذه النزعة فظلوا يكيدون له، ولكنه كان حسن الصلة بسعيد باشا، فلم يصبه أذاهم في عهده. ويقول عرابي في مذكراته: إنه أحب سعيد باشا؛ لأنه كان يميل إلى المصريين في الجيش، ويريد أن يرفع عنهم ما لحقهم من غبن على يد الشركس.
ولقد أهدى إليه سعيد باشا تاريخ نابليون مترجما إلى العربية فقرأه عرابي، واشتد إعجابه بذلك القائد العظيم. ومن كراهة عرابي للأجانب في الجيش ومن حبه لسعيد بسبب عطفه على المصريين، نستطيع أن نتبين في نفس عرابي نزعة قومية وطنية صادقة، أشار إلى ذلك مستر بلنت بقوله: «وقد كون عرابي آراءه السياسية الأولى أثناء هذه الصلة القريبة بسعيد، وهذه الآراء هي المساواة بين طبقات الأمة، وما يجب للفلاح من احترام باعتباره العنصر الغالب في القومية المصرية، وهذا الدفاع عن حقوق الفلاح هو الذي جعل لعرابي ميزة بين مصلحي ذلك العصر، فقد كانت حركة الأزهر ترمي إلى إصلاح حال المسلمين عامة بغير تمييز، بينما كانت حركة عرابي في جوهرها قوامها الجنسية، وقد جعلها هذا أوضح في معنى القومية، ومن ثم قدر لها أن تكون أكثر شهرة وذيوعا».
وفي عهد إسماعيل وشى به شركسي في الجيش اسمه خسرو، وما زال يكيد له حتى تمكن من فصله من الجندية، وجاء في تقرير خسرو عنه: «أنه صلب الرأي شرس الأخلاق لا ينقاد للأوامر، ولا يحفل بما يصدر منها عن ديوان الجهادية».
ويذكر عرابي في مذكراته أن خسرو كان يمقته؛ لأنه مصري؛ ثم لأنه لم يشايعه فيما أراد من ترقية أحد الضباط ممن كان عرابي من ممتحنيهم، وكان في نظر عرابي لا يستحق الترقية بينما كان خسرو شديد الرغبة في ترقيته، هذا في الوقت الذي أبعد فيه خسرو عن الترقية ضابطا آخر يستحقها .
وظل عرابي ثلاث سنوات مبعدا عن وظيفته إلى أن عفا عنه الخديو، بعد أن ظلت ظلامته لديه هذه السنوات الثلاث مهملة في غير سبب ظاهر.
وألحق عرابي بالحملة الحبشية في تلك الحرب التي شنتها مصر على الحبشة في عهد إسماعيل، ولكن عمله في تلك الحرب لم يكن عمل الجندي المحارب، فقد كان «مأمور مهمات» بمصوع. ولقد حنق عرابي على تلك الحرب حنقا شديدا، وما فتئ يندد بما كان فيها من إهمال وخيانة ورشوة، ولقد اتهم لورنج أحد قوادها وهو أمريكي الجنس بأنه كان يتصل عن طريق أحد القساوسة بالأحباش ويطلعهم على كل شيء. كما نقم عرابي وكثير غيره من الضباط المصريين على الخديو الذي لم يكن يبالي بشيء في سبيل المظهر الكاذب بالفتح والتوسع، في حين أن قتلى المصريين قد تكدست أجسادهم بعضها فوق بعض، إذ كان ينقصهم السلاح والمؤونة والقيادة الصالحة؛ ولقد استقر في نفس عرابي منذ هذه الحرب أن لا صلاح لمصر إلا بالقضاء على الفساد من أساسه، يقول بلنت في كتابه: إنه «قد عاد من الحملة ساخطا كما سخط العائدون على ما كان فيها من الفوضى، وإليها يرجع اتجاه نفسه نحو السياسة، وازدياد بغضه وغضبه، ذلك الغضب الذي كان في ذلك الحين متجها أكثر ما يتجه إلى الخديو».
وفي شهر فبراير سنة 1879 اتهم عرابي بتدبير مظاهرة الضباط الخطيرة، ويتلخص هذا الحادث في أن أربعة مئة من الضباط بزعامة البكباشي لطيف سليم، قد أثارهم إحالة 25 ضابطا إلى الاستيداع بنصف راتب وكان لهم على الحكومة مبالغ متأخرة، فتوجهوا إلى وزارة المالية، ولما حضر نوبار باشا رئيس الوزراء وكان معه السير ريفرز ولسن وزير المالية هجم هؤلاء الضباط عليهما، وأشبعوا نوبار لطما ولكما وامتدت أيديهم كذلك إلى وزير المالية، وكاد يتفاقم الحادث لولا أن خف إلى هناك الخديو في فرقة من حرسه فانصرف الضباط.
وحكم على عرابي واثنين من الضباط المصريين بالتوبيخ، وفصل كل منهم عن آلايه إلى جهة بعيدة، وكانت الإسكندرية من نصيب عرابي وفيها اتصل بكثير من الأوروبيين .
عرابي الجندي
ولم يكن لعرابي يد في هذه التهمة إذ كان في رشيد وقت وقوع الحادث؛ وإن في اتهامه على هذا النحو لدليلا على ما كان يشيع في ذلك العهد من دسائس، وما كان يدبر للأحرار من مكائد، ولقد كان ذلك يومئذ من أبرز مساوئ الحكم.
ولقد أدى اتهام عرابي إلى ازدياد كراهته لإسماعيل وعهد إسماعيل، ولسوف يكون ذلك من أهم الدوافع له على الثورة. ولقد أخذ يزداد اتصاله بالناقمين من المدنيين ممن كانوا يجتمعون في بيت البكري في أواخر عهد إسماعيل كما سيأتي بيانه؛ قال في ملخص أرسله في أواخر حياته لصديقه بلنت، وأثبته هذا في آخر كتابه «التاريخ السري للاحتلال البريطاني لمصر»: «ولكن قبل أن نفترق اجتمعنا فاقترحت أن نتحد ونخلع إسماعيل، ولو أننا فعلنا ذلك لكان خير حل للقضية؛ لأنه كان يسر القناصل أن يتخلصوا من إسماعيل على أية صورة، ثم إنه كان يوفر على البلاد ما حدث بعد ذلك من تعقد في الأمور، كما كان يوفر تلك الملايين الخمسة عشر التي حملها إسماعيل معه عندما عزل؛ ولكنه لم يكن يوجد يومئذ من يقود هذه الحركة؛ ولذلك فإن مقترحي لم ينفذ وإن حاز القبول؛ وقد ألقى عزل إسماعيل بعد ذلك عبئا ثقيلا على كواهلنا وعم الفرح، ولكن لو أنا فعلنا ذلك بأنفسنا لكان أفضل إذ إننا كنا نستطيع أن نتخلص من أسرة محمد علي كلها، فإنه لم يكن فيها حاكم صالح إلا سعيد، وكنا نستطيع أن نعلن إقامة جمهورية. وقد اقترح الشيخ جمال الدين على الشيخ محمد عبده أن يقتل إسماعيل عند جسر قصر النيل، ووافقه محمد عبده على ذلك».
هذا هو عرابي قبل الثورة نراه متحمسا شديد النقمة على الأجانب تواقا إلى الإصلاح، فلننظر ماذا كان من أمر وثبته على الفساد والطغيان.
لماذا حدثت الثورة؟
فساد الأحوال الداخلية في عهد إسماعيل
يتلخص هذا الفساد في أمور ثلاثة: الحكم المطلق، والأزمة المالية، وتغلغل نفوذ الأجانب في البلاد. أما عن الحكم المطلق فإن الخديو كان حاكما بأمره؛ مشيئته هي القانون وليس هناك من يحاسبه على فعل أو يراجعه في أمره، وليس ثمة من فرق بين خزانة الدولة وجيبه الخاص، ولقد ألف الخديو مجلسا من 75 عضوا سماه مجلس الشورى النواب، ولكن لم يكن لهذا المجلس سلطة ولا ظل من السلطة، وعلى الرغم مما أدخله هذا الخديو في مصر من ضروب الإصلاح في نواحي التعليم والزراعة والصناعة والمواصلات وغيرها، فإنه جر بسوء تصرفه في الاستدانة الخراب على البلاد، وبدل أن يجعل مصر قطعة من أوروبا كما كان يحب أن يقول، جعلها رهينة لأوروبا بما أغرقها من ديون. كل أولئك دون أن يستطيع أحد أن يرده عما يريد.
وأما عن الأزمة المالية، فمردها إلى إسراف الخديو في الاستدانة، حتى لقد بلغت الديون على مصر 91 مليونا من الجنيهات سنة 1875، ولقد أدت هذه الديون الباهظة إلى اشتداد وطأة الضرائب على الفلاحين، أولئك المساكين الذين كانوا كثيرا ما يفرون من أرضهم لكثرة ما كان يطلب منهم ولكثرة ما كانوا يذوقونه من عذاب، والذين كانت تفتك بهم الأمراض ويسلب أموالهم المرابون من الأجانب، بينما كان يتمتع كبار الملاك بما أنعم عليهم من ضياع أو «أبعديات» كانوا يسخرون الفلاحين في زراعتها.
وأما عن تغلغل نفوذ الأجانب في البلاد، فقد كان ذلك من أخطر نتائج تلك الاستدانة التي اشتط فيها إسماعيل. وأخذت فرنسا وإنجلترة تتنافسان في بسط نفوذهما في مصر منذ أن خرجت الحملة الفرنسية من البلاد، أما فرنسا فقد عملت على مصادقة محمد علي تعويضا لها عما ضاع عليها بسبب فشل حملتها، وأما إنجلترة فقد عملت على تحطيم قوته حتى تم لها ما أرادت.
وما برحت الدولتان ترقبان سير الحوادث في وادي النيل، وكان هم إنجلترة أن تحول دون ظهور دولة قوية في مصر، واكتفت بذلك أول الأمر، إلى أن فتحت قناة السويس 1869 فاتجهت سياستها إلى الاستيلاء على مصر كي تضمن سيطرتها على القناة.
ونصبت كل من الدولتين شباكها حين أخذ إسماعيل في الاستدانة، فلما غرقت مصر في الدين سنحت الفرصة لإنجلترة على الأخص للعمل على التدخل الفعلي في شئون البلاد توطئة للاستيلاء عليها.
طلب الخديو موظفا إنجليزيا يعينه على إصلاح الحال المالية، فتلكأت إنجلترة أول الأمر كي لا تفتح عيون غيرها، ثم أرسلت إلى مصر مستر كيف
cave
مزودا بأوامر، فعليه أن يحقق أسباب الأزمة ثم يرفع تقريرا إلى حكومته، وما لهذا أراده إسماعيل؛ فإن والي مصر لم يكن يطلب من هذا الموظف إلا أن يعينه على إصلاح مالية البلاد.
ورفع كيف التقرير إلى حكومته وأعلن دذرائيلي رئيس الوزارة البريطانية يومئذ في البرلمان، أنه لا يرغب في نشر التقرير؛ لأن الخديو رجا منه ألا يفعل ذلك. وما رجا الخديو منه ذلك. ولقد ذعر الدائنون من هذا التصريح وهبطت قيمة الأسهم في الأسواق، وتلقى الخديو هذه الصدمة بقوله: «لقد حفروا لي قبري».
ولم تستطع مصر أن تفلت بعد هذا من دائنيها، وأقيم في مصر ما عرف باسم «صندوق الدين العام» وهو إدارة لشئون الدين معظم موظفيها من الأجانب، ثم ما لبث الخديو أن قبل تعيين مراقبين أجنبيين أحدهما إنجليزي للدخل والآخر فرنسي للمنصرف، وعين لهذين موظفون من الأجانب بأجور ضخمة.
ولم يقف التدخل الأجنبي عند هذا الحد، فقد قبل الخديو على رغمه تأليف لجنة من الأجانب سميت «لجنة التحقيق العامة» ومنحت سلطة واسعة، ولكنها ما كادت تعمل حتى اصطدمت برجل من أحرار المصريين هو شريف باشا وزير الحقانية، فقد استدعت اللجنة شريفا لتستفهمه فأبى أن يمثل أمام لجنة من الأجانب، وأبت اللجنة أن تأخذ برأي الخديو وهو أن تكتفي باستفهام الوزير كتابة، وأصر شريف على رفضه ثم أعقب هذا الرفض بالاستقالة من الوزارة. وهزت البلاد استقالته بما تنطوي عليه يومئذ من المعاني، فهذا مصري يغضب لكرامته وكرامة قومه أمام لجنة من الأجانب، تريد أن تظهر بمظهر السيادة وتحرص أشد الحرص على هذا المظهر.
ولندع لجنة التحقيق في عملها لنرى ما كان من أثر هذه المفاسد في نفوس المصريين.
حركة وطنية تنشأ في مصر
كانت تولد بالبلاد يومئذ حركة وطنية قوية، كان الباعث عليها هذا البلاء الذي كانت تعانيه مصر من الحكم المطلق والضائقة المالية، وتدخل الأجانب في شؤونها.
وكان لهذه الحركة الوليدة مكان يجتمع فيه زعماؤها هو بيت السيد البكري نقيب الأشراف، حيث كان يلتقي الأحرار من العظماء والنواب والأعيان وضباط الجيش الناقمين.
وكان قد هبط مصر منذ سنة 1871 السيد جمال الدين الأفغاني، وأخذ يبث فيها مبادئه ويبذر بذلك بذور الثورة على الطغيان، وكان يرى جمال الدين أن علة العلل في هذا الشرق أن شعوبه مسلوبة الإرادة تحكم على رغمها وتسخر لحساب الحاكمين، ولا مخرج لها إلا أن تعيش حرة، ولن يكون هذا إلا أن تقوم الشورى مكان الاستبداد وأن يمحو نور العلم ما تراكم في الشرق من ظلمات بعضها فوق بعض.
وكانت التربة كما رأينا صالحة لنمو بذوره هذه، فما أسرع أن ظهرت في البلاد حركة حرة كأعظم ما تكون الحركات الحرة. يقول في ذلك الشيخ محمد عبده أنبغ تلاميذ جمال الدين وأحبهم إليه: «وكان طلبة العلم، وطلبة جمال الدين ينتقلون بما يكتبونه من تلك المعارف إلى بلادهم أيام البطالة، والزائرون يذهبون بما ينالونه إلى أحيائهم، فاستيقظت مشاعر وانتبهت عقول، وخف حجاب الغفلة في أطراف متعددة من البلاد وبخاصة في القاهرة».
ولقد كانت تعاليم جمال الدين من حيث تأثيرها في النفوس أشبه شيء بتعاليم ڨلتير وروسو، ممن مهدوا في فرنسا للثورة الفرنسية الكبرى.
الشيخ محمد عبده أيام الثورة.
وظهرت في تلك الأيام الصحافة، وراح الناس يقرأون في المجلات والصحف أحاديث الوطنية والحرية وأنباء الحرب الروسية، التي نشبت عام 1871 بين روسيا وتركيا، وبخاصة موقف إنجلترة من دولة الخلافة الإسلامية.
وأدى اتصال المصريين بالأجانب وقد كثر مجيئهم إلى مصر، إلى تتبع الأنباء العالمية في السياسة والحروب شؤون الحكم، فزادت معارفهم عن العالم وقارنوا بين حوال الشعوب الحرة وبين حالهم، وأخذوا يستنبطون أسباب ما كانوا فيه من شقاء ومذلة.
بهذه العوامل مجتمعة قام في مصر رأي عام. ويعد هذا شيئا جديدا في تاريخها الحديث، فقد انبعث الوعي القومي وكان من أكبر بواعثه ذلك العدوان الذي أشرنا إليه من الأجانب على مصر، بينما وقف الخديو حاكمها المطلق موقف الحيرة، بعد أن أسرف على نفسه في مظاهر العظمة والترف والجاه.
وإلى جانب هذه الحركة الوطنية، كانت تعقد اجتماعات سرية للضباط يتداولون فيها الأمر بينهم وكيف يكون المخرج من هذه الحال، وكان زعيم هؤلاء الضباط هو أحمد عرابي، ولسوف تتألف الثورة العرابية بمعناها الصحيح من التقاء العنصرين المدني والعسكري، وإعلان مطالب البلاد على لسان عرابي في صراحة وجرأة على نحو ما سنفصله في موضعه.
الوطنيون يظفرون بالحكم الدستوري
كان من اقتراحات لجنة التحقيق أن ينزل الخديو عن سلطانه المطلق، فتتولى الحكم وزارة مسؤولة عن أعمالها، ولقد أسندت هذه الوزارة إلى نوبار باشا عام 1878، ولكن الوطنيين آلمهم أن يجدوا في هذه الوزارة وزيرا إنجليزيا وآخر فرنسيا. ووجد الخديو أنه أصبح ولا سلطة له أمام نوبار والوزيرين الأجنبيين، ومن ثم أخذ الخديو يتقرب إلى الوطنيين الثائرين الذين زادهم غيظا هذا المظهر الجديد من تدخل الأجانب في شؤون البلاد، ثم ما لبث الخديو أن تخلص من هذه الوزارة إثر حادث الضباط الذي سلفت الإشارة إليه.
ولكن الخديو لم يستطع أن يحل محلها وزارة وطنية بحتة، واكتفى بأن أسند الوزارة إلى ابنه توفيق وفيها العضوان الأجنبيان، وإذ ذاك هدد ريڨرز ولسن بأنه سوف يعلن إفلاس الحكومة المصرية.
وثارت ثائرة الوطنيين ونددوا بالوزارة الأجنبية وبوجود الأجانب بوجه عام وتوالت عرائضهم إلى الخديو، وأخذت نذر الثورة تتوالى يوما بعد يوم، وكان شريف باشا يرقب حركة الأحرار في بيت البكري ويشير عليهم بما يعملون.
وتحمس أعضاء مجلس شورى النواب، وقد علموا أن الوزارة الأوروبية تريد حل مجلسهم وكان بينهم عدد من الوطنيين، وصمموا أن يظلوا في أماكنهم للنظر في شؤون البلاد في تلك الآونة العصيبة. وكان عملهم هذا أشبه بما فعله أعضاء مجلس طبقات الأمة في فرنسا قبيل الثورة.
وكانت مطالب الوطنيين في المجلس وخارج المجلس تنحصر في المسألتين الدستورية والمالية، بغية القضاء على الفساد من أساسه. أما أولاهما: فتتلخص في أن تكون الوزارة مسئولة أمام المجلس بحيث يصبح هيئة لها نفوذها الفعلي في حكومة البلاد، وأما الثانية فمؤداها أن يبحث المجلس المسألة المالية دون الأجانب، وأن يقرر في أمر الدين والضرائب ما تمليه عليه مصلحة البلاد.
واتفقت كلمة الوطنيين جميعا على أن يتوجهوا إلى الخديو بما عرف باسم «اللائحة الوطنية»، وقد وضعتها لجنة من النواب تحت إشراف شريف ووقع عليها ستون من أعضاء المجلس، ومثلهم من العلماء وفي مقدمتهم شيخ الأزهر، كما وقع البطريرك والحاخام وكذلك وقع عليها عدد كبير من الأعيان والتجار والموظفين والضباط.
وكان أهم ما في اللائحة تقرير مبدأ مسئولية الوزارة أمام المجلس، وتأليف وزارة وطنية تقوم مقام الوزارة الأوروبية التي ضاقت بها البلاد.
ورأى الخديو الفرصة سانحة ليوجه ضربة قوية إلى النفوذ الأجنبي فوافق على اللائحة، وسرعان ما هزت البلاد فعلته هزة قوية، هي هزة الفرح بانتصار الحركة الوطنية، والأمل في حل المشكلة المالية، واستقالت وزارة توفيق وأسندت الوزارة الوطنية إلى شريف.
وبالغ الخديو في الكيد للأجانب حتى لقد حضر بنفسه حفلا أقامه في داره السيد علي البكري ابتهاجا بالعهد الجديد. وحرص شريف على أن يجعل مرد الأمور إلى الأمة، ولئن كان يمقت تدخل الأجانب فإنه كان كذلك يمقت استبداد الخديو أشد المقت؛ لذلك جعل محور سياسته أن يكون الوزراء مسئولين أمام مجلس شورى النواب، وتم له ما أراد فجاء في كتاب الخديو إليه بتأليف الوزارة عبارات لا تقبل تأويلا فيها، يذكر الخديو أنه يرجع بالأمور إلى الأمة، ويوافق على مسئولية الوزارة أمام مجلسها. وبذلك تخلصت البلاد من الحكم المطلق وتهيأت لأن تحكم حكما دستوريا.
الثورة
عزل إسماعيل وتعيين توفيق
لم تكد البلاد تنتهي من فرحها حتى فوجئت بعزل إسماعيل، إذ ما زالت إنجلترة وفرنسا حتى استطاعتا إكراهه على خلعه، وأمر الخديو بمغادرة البلاد في موعد حدد له فغادرها على الباخرة المحروسة إلى إيطاليا.
وخلفه على العرش توفيق أكبر أنجاله وكان في السابعة والعشرين من عمره، ولم يكن توفيق بالرجل الذي يصلح للحكم في ظروف البلاد يومئذ، فقد كان ضعيف الإرادة محدود الأفق، قليل الذكاء والتجربة ؛ ولذلك سرعان ما أصبح ألعوبة في أيدي الأجانب. وكان وجود مثله على عرش مصر في ذلك الوقت مما يضاف إلى أسباب شقائها وسوء طالعها.
وما أشبه توفيقا في ذلك الموقف بملك فرنسا لويس السادس عشر، ذلك الذي قال عنه بعض المؤرخين: إنه ورث عن أسلافه العرش والثورة معا، فلقد تجمعت عوامل الثورة الفرنسية قبل عهده ثم انبعثت أيام حكمه. ولقد ورث توفيق عن أبيه المعزول العرش والثورة كذلك، فها هي ذي عواملها تجتمع من قبل أن يلي عرش البلاد.
تظاهر توفيق أول الأمر بأنه يوافق الوطنيين في آمالهم، ثم ما لبث أن تنكر للحركة الوطنية، وذلك أن شريفا كان قد وضع نصب عينيه ألا يعود الحكم المطلق فقدم للخديو مشروعا لدستور يجعل الوزارة مسئولة أمام مجلس تختاره الأمة، ولكن الخديو رفض هذا المشروع؛ لأن البلاد في رأيه لم تتهيأ بعد لمثل ذلك الدستور. ولم يجد شريف بدا من الاستقالة فاستقال في 18 أغسطس سنة 1879، فبادر الخديو بقبول استقالته، وأسند الوزارة إلى رياض، وكانت استقالة شريف في ذلك الوقت عاملا من أهم عوامل إذكاء الروح الوطنية وإشعال جذوتها.
فقد غضب الوطنيون أشد الغضب إذ رأوا آمالهم تذهب مع الريح، وكانوا يحسون أن رجعية توفيق إنما جاءت بوحي من الأجانب، وأن الأجانب هم الذين يسيطرون فعلا على البلاد. وكانت المراقبة المالية الثنائية قد عادت في أول عهد توفيق، واشترط ألا يجوز فصل المراقبين بدون رأي حكومتيهما، وبذلك أصبحت المراقبة إدارة تابعة في الواقع للدولتين المتدخلتين في شؤون البلاد.
وكره الوطنيون من رياض شدته وموافقته الخديو على أن البلاد لم تتهيأ للحكم الدستوري، فكثرت الاجتماعات بين الوطنيين وصار مقرها في حلوان بعيدا عن جواسيس رياض، كما ازدادت الجماعات السرية في صفوف الجيش.
ثورة الضباط على وزير الحربية
استغنى عن عدد كبير من الضباط الوطنيين في أوائل عهد توفيق، وكان وزير الحربية في وزارة رياض شركسي الجنسي هو عثمان رفقي، وكان هذا يكره المصريين كما يكرههم بنو جنسه؛ ولذلك كان يجعل أكثر الترقيات والألقاب في الجيش للشراكسة، وأخذ هذا الشركسي يعد مشروعا يمنع به ترقية الجند من السلاح لكي يبقى الشراكسة في الجيش العنصر الذي يسود.
وكان يسخر الجند في أعمال لا تمت بصلة إلى الجندية كحفر الترع، ومد السكك الحديدية والزراعة في أرض الخديو وغير ذلك، ولقد عارض عرابي معارضة شديدة في أن يعمل جنوده في حفر الرياح التوفيقي، ولم يبال بغضب الحكومة من معارضته ولم يغب عن أذهان الجند والضباط، كيف استرخصت أرواح الجيش في حرب إسماعيل في الحبشة، وكيف امتهنت كرامة الجيش هناك.
لذلك أخذت تتوالى الاجتماعات سرا بين الضباط، وأخذوا يتصلون بالجنود ليضموهم إلى ما يبيتون.
واشتد التذمر حين نما إلى الضباط أن عثمان رفقي أخذ يفكر في عزل كبار الضباط أو إبعادهم عن مراكزهم، ومن ذلك ما انتواه من عزل أحمد عبد الغفار قائمقام السواري وتعيين شركسي مكانه، ونقل عبد العال حلمي أميرلاي السادس السوداني إلى عمل بديوان الوزارة، ووضع شركسي كذلك مكانه.
واجتمع عدد كبير من الضباط بمنزل أحمد عرابي وأرسلوا يدعونه إذ كان غائبا ومنهم علي فهمي الديب قائد الحرس الخديوي، وعبد العال حلمي، وأحمد عبد الغفار وعلي الروبي، ومحمد عبيد، ولما حضر عرابي اختاروه لينوب عنهم في رفع شكوى إلى رئيس الوزراء من تعصب عثمان رفقي. قال عرابي في مذكراته الخطية: «قالوا كلهم: إنا فوضنا إليك هذا الأمر فليس فينا من هو أحق به وأقدر عليه منك، فقلت: كلا، بل انظروا إلى غيري وأنا أسمع له وأطيع وأنصح له جهدي، فقالوا: إنا لا نبغي غيرك ولا نثق إلا بك فأبنت لهم أن الأمر عصيب ولا يسع الحكومة إلا قتل من يتصدى له، فقالوا: نحن نفديك ونفدي الوطن العزيز بأرواحنا، فقلت لهم: أقسموا على ذلك فأقسموا».
وقد اختير عرابي لما عرف عنه من الجرأة والإخلاص والصدق؛ ولأنه كان أشد المصريين في الجيش سخطا على الشراكسة، وذلك اعتزازا منه بمصريته وقوميته، فلقد ظفر بالترقية إلى مرتبة أميرالاي في أوائل عهد توفيق، وكان ذلك كافيا لأن تزيل ما عسى أن يكون قد بقي في نفسه مما لحقه من أذى في عهد إسماعيل.
وذهب عرابي وبصحبته زميلاه عبد العال حلمي وعلي فهمي، فقابلوا رياضا ورفعوا إليه باسم الضباط عريضة موقعا عليها منهم يطلبون فيها عزل عثمان رفقي من وزارة الحربية، وإسناد هذا المنصب إلى وزير وطني.
ودهش رياض أشد الدهشة من هذه الجرأة وعدها تمردا واستشاط غضبا. وكانت لهجة العريضة شديدة، وكان رد عرابي عنيفا على رياض حين كان يتكلم باسم زميليه. ثم تجهم وجه رياض وقال للضباط في غلظة وكبرياء: «إن أمر هذه العريضة مهلك وهو أشد خطرا من عريضة أحمد فني الذي أرسل إلى السودان». وكان هذا قد نفي إلى السودان حيث قضى نحبه؛ لأنه احتج على المحسوبية وطلب مساواته بغيره.
وسكت رياض أسبوعين وهو يحاول إقناع الضباط بسحب العريضة، ولكنهم أصروا عليها وتوالت اجتماعاتهم بمنزل عرابي، وغضب الخديو أشد الغضب وأمر بمعاقبة الضباط الثلاثة. ثم دعاهم رفقي إلى وزارة الجهادية بقصر النيل بحجة الاستعداد لحفلات زفاف إحدى الأميرات.
وما كادوا ثلاثتهم يدخلون الوزارة وكان ذلك في أول فبراير سنة 1881، حتى وجدوا أنفسهم بين صفوف مسلحة من الشراكسة فقبض عليهم وانتزعت منهم سيوفهم وأودعوا السجن، وهم يسمعون عبارات السب يقذفهم بها هؤلاء الشراكسة.
الضباط الثلاثة
وكانت كلمة «فلاح» أكثر ما أطلق به ألسنتهم هؤلاء السفهاء. ولبث الضباط في السجن ينتظرون المحاكمة أمام مجلس عسكري، وقد عزلوا بادئ ذي من مناصبهم.
وشاع الخبر في الجند الوطنيين فثارت ثائرتهم، وكان أكثرهم جرأة وإقداما ووفاء الضابط الباسل محمد عبيد بطل معركة التل الكبير فيما بعد، فقد هجم بجنوده وكان في ألاي علي فهمي بحرس عابدين، على قصر النيل، ولاذ رفقي بالفرار من إحدى النوافذ في صورة مخزية وهرب أعضاء محكمته، وحطم الجند الأثاث والمكاتب ثم حطموا الأبواب، وأخرجوا الضباط الثلاثة من السجن وفك عبيد قيودهم وحياهم هو وجنوده.
وتوجه الجميع إلى عابدين وجددوا طلب عزل رفقي، فأجابهم الخديو إلى مطلبهم وأعادهم إلى مناصبهم، ثم عين محمود سامي البارودي وزيرا للجهادية وهو يضمر في نفسه الانتقام.
وأدى انتصار عرابي وزملائه على هذه الصورة إلى ذيوع صيته لا في القاهرة وحدها بل في القرى كذلك. ولقد عجب الأعيان والفلاحون أن يجرؤ رجل هو منهم على تحدي الخديو والرؤساء والشراكسة على هذا النحو، وأحبه الناس وإن لم يروه. وجاء كثيرون إلى القاهرة يحبونه ويشكرونه. يقول بلنت في كتابه عن هذا الحادث وقد كان في مصر عند وقوعه: «ولست أتذكر أني سمعت اسم عرابي قبل ذلك، ولكن الدور الذي لعبه في ذلك اليوم قد أكسبه شهرة سريعة، وأصبح مقامه في بضعة أسابيع مقام رجل ذي نفوذ وقوة في مصر، أو على الأقل أصبح يعزى إليه القوة. وصارت تتقاطر عليه كما هي العادة في مصر الظلامات من أناس عانوا الظلم، ولقد أذاع صيته خارج القاهرة ظهوره بمظهر من يحمي الفلاحين من جور الحكام الشراكسة، واتصل به كثيرون من الأعيان وأشياخ البلاد، وكان يرد على كل بما يسمعه من رد حسن أو بما يدخل في طوقه المحدود من عون، وكان يؤثر الناس تأثيرا حسنا أينما لقوه بحسن محضره وبابتسامته الجذابة وفصاحته في الحوار. ويجب أن نذكر أنه في تاريخ مصر لم يبرز في مدى ثلاثة قرون على الأقل فلاح بسيط إلى حد أن يصبح ذا مكانة سياسية لها خطرها، أو إلى حد أن يصبح داعية إصلاح أو إلى أن يهمس بكلمة تدعو حقا إلى الثورة» وقال في موضع آخر: «وأخذ الناس في الأقاليم يذكرونه بقولهم: «الوحيد»، ولقد استحق هذه التسمية حقا».
بهذا الذي فعله عرابي أصبح بيته مقصد الكثيرين من الأحرار من المدنيين، ومن العلماء ومن رجال الجيش. والحق أن عمله يومذاك كان بالغ الجرأة كما كان عظيم الأهمية، فإن الخطوة الأولى في كل حركة تتطلب إقداما، هي التي تنقل التاريخ من صفحة إلى صفحة.
رأى الوطنيون ما نال رجال الجيش من ظفر سريع بينما قد لحقهم هم الفشل، وقد شدد عليهم رياض الرقابة وراح يلغي الصحف ويصادرها، فسرعان ما تقربوا من عرابي وأخذ شريف يراسله ، وحذا حذو شريف زعماء الإصلاح في الأزهر وزعماء النواب مثل سلطان باشا الذي كان يمثل الأعيان كذلك؛ لأنه منهم.
وما الثورة العرابية في معناها الصحيح إلا التقاء الوطنيين والعسكريين على غرض موحد، هو إزالة ما كانت تشكو منه البلاد من أسباب الفساد، ولسوف يغدو عرابي زعيم المدنيين والعسكريين جميعا.
سوء سياسة الخديو وحكومته
كانت الشهور التي أعقبت حادث قصر النيل مليئة بكل ما من شأنه أن يخيف العسكريين والوطنيين، ولقد كانت سياسة توفيق من أهم العوامل في تطور الحوادث على النحو الذي سوف نراه، وهكذا تشاء الظروف النكدة أن يكون رجل كتوفيق هو الذي يدير دفة الأمور في ذلك الجو العاصف.
أجاب البارودي الضباط إلى كثير من مطالبهم المتعلقة بإصلاح الجيش فهدأت نفوسهم نوعا ما، ولكن الشائعات أخذت تحيط بهم عن نيات الخديو ورياض.
ومن ذلك ما نما إليهم من أن رياض يدبر مشاجرة بين الجند يندس فيها من يقتل عرابيا أو من يحضر من زميليه؛ ومنه ما علمه من تحريض بعض أعوان الخديو في الجيش على كتابة عرائض ضد عرابي وأنصاره، وما سمعوه من أن هؤلاء الأعوان يغرون بالمال والمناصب بعض رجال الألايات؛ ليكونوا في الوقت الموعود إلى جانب الخديو.
واتهم تسعة عشر ضابطا أحد رؤسائهم بأمور أثبت التحقيق بطلانها، فأبعدتهم الوزارة عن مناصبهم، فبادر الخديو بإعادتهم متحديا بذلك البارودي.
وترامى إلى عرابي وإخوانه أن الخديو يريد تشتيتهم ليقضي عليهم متفرقين، كما علموا أن الخديو يمرن حرسه على الرماية، وأنه يشهد ذلك بنفسه وينثر الذهب على المتفوقين. وأرادت الحكومة أن تسخر الجند في حفر الترع لإبعادهم فرفض عرابي وأيده البارودي في رفضه.
وحدث أن دهمت عربة لأجنبي في الإسكندرية أحد الجنود فقتلته، واستشاط تسعة من الجند غضبا وأملت عليهم سذاجتهم أن يحملوا القتيل إلى سراي رأس التين؛ ليشكوا إلى الخديو وقد اقتحموا الباب راجين أن يتدخل الخديو بنفسه لمعاقبة هذا الأوروبي. وكان ما عوقب به هؤلاء الجند على اقتحامهم السراي بالغ الصرامة؛ فقد عوقب الجندي الذي حرضهم بالأشغال الشاقة المؤبدة وعوقب الباقون بالسجن ثلاث سنوات مع الأشغال الشاقة بليمان الخرطوم.
لما ذاع النبأ في الجيش اشتد استياء الضباط والجند من فداحة الحكم، وكتب عبد العال حلمي إلى البارودي يقارن بين ما عومل به هؤلاء السذج وبين ما عومل به الضباط التسعة عشر، وأقره البارودي على رأيه فغضب الخديو غضبا شديدا.
ثم إن الخديو صرح أمام الوزراء أن البارودي هو سبب ما في الجيش من فوضى، فاستقال البارودي وعين الخديو مكانه صهره داود يكن.
واتبع داود منتهى الصرامة في معاملة رجال الجيش، فحظر عليهم الاجتماع بالمنازل أو التحدث في السياسة، ولكن أمراء الآلايات ردوا إليه هذه الأوامر قائلين: إنها مخالفة للقوانين العسكرية ومهينة للشرف العسكري.
أما عن الوطنيين، فقد شدد حكمدار القاهرة عليهم الخناق بأمر رياض وأحاط منازلهم بالجواسيس.
يوم عابدين ووثبة عرابي على الطغيان
أيقن الوطنيون أنه لم يعد بد من عمل حاسم يحملون به الخديو ورياضا على قبول الدستور، فإن الحكم المطلق هو العقبة الكؤود في سبيل أي إصلاح، وهو الذي يهيئ للأجانب التدخل في شؤون البلاد، وهو الذي يحول دون حل المشكلة المالية حلا في مصلحة الشعب.
واجتمع عرابي برؤساء الحزب الوطني، وكان قد تجمع لديهم عرائض من الشعب يطالب الشعب فيها بعزل وزارة رياض ودعوة مجلس نواب على أساس دستوري، واتفق الزعماء على أن يقوم الجيش بمظاهرة سلمية تأييدا لمطالب الأمة، وحدد لهذه المظاهرة الوطنية الكبرى اليوم التاسع من سبتمبر سنة 1881.
وإن هذا اليوم المشهود ليعد حتى ذلك الوقت أعظم يوم في تاريخ القومية المصرية، ذلك التاريخ الذي بدأ حين سار السيد عمر مكرم والشيخ عبد الله الشرقاوي في شهر مايو سنة 1805 على رأس جمهور من المصريين، فألبسوا محمد علي شارة الحكم بإرادة الشعب المصري دون رجوع إلى السلطان.
وأخلق بهذا اليوم أن يكون له في نفوس المصريين مثل ما لليوم الرابع عشر من شهر يوليه في نفوس الفرنسيين، فإنه بدء حياتهم أمة لها كرامة.
أخذ عرابي للأمر عدته، فكتب إلى وزير الحربية ينبئه بأن آلايات الجيش ستحضر إلى ساحة عابدين في الساعة الرابعة بعد ظهر يوم الجمعة 9 سبتمبر؛ «لعرض طلبات عادلة تتعلق بإصلاح البلاد وضمان مستقبلها».
وأرسل عرابي إلى قناصل الدول ينبئهم ألا خوف على الأجانب، فإنها مظاهرة سلمية.
ذعر الخديو ووزراؤه واجتمعوا ليتشاوروا في الأمر، وأوفد الخديو ياوره طه باشا لطفي إلى عرابي ليقنعه بالعدول عن المظاهرة، فرد عرابي بقوله: إنها «مظاهرة عادلة لا بد منها لضمانة حرية الأمة وسعادتها». وفي هذا الذي صنعه الخديو ومن معه، أبلغ دليل على ما وصلوا إليه من ضعف وقلة حيلة.
واستدعى الخديو إلى قصره بالإسماعيلية السير وكلند كلڨن المراقب المالي الإنجليزي فاستشاره ماذا يفعل. قال كلڨن يشير إلى ذلك: «فنصحت إليه أن يقاوم فقد أخبرني رياض باشا أن في القاهرة فرقتين مواليتين؛ لذلك أشرت على الخديو أن يدعوهما إلى عابدين مع ما يمكن الاعتماد عليه من الحرس الحربي، فإذا ما وصل عرابي قبض عليه بشخصه، فأجابني أن لدى عرابي بك المدفعية والفرسان وربما أطلقوا النار. فأجبت بأنهم لن يجرؤوا على ذلك، ومتى توفرت له الشجاعة وعرض نفسه شخصيا فسيقضي على المتمردين وإلا فهو هالك».
ويتضح من كلام هذا الإنجليزي أنه كان يريد أن يتفاقم الأمر، وتحدث الفتنة التي تسهل لدولته التهام مصر.
توجه الخديو إلى قصر عابدين قبل حضور الفرق بزمن طويل وكان معه كلڨن ورياض، فاستدعى علي بك فهمي رئيس الحرس، وأشار عليه بالدخول إلى القصر بفرقته والتحصن بالنوافذ العليا. وقد نصح للجند بقوله: «أنتم أولادي وحرسي الخاص، فلا تتبعوا التعصب الذميم ولا تقتدوا بأعمال الألايات الأخرى»؛ ودخل الجند القصر وأخذوا يتأهبون.
وطاف الخديو بنفسه على الألايات الأخرى في القلعة والعباسية يحاول منعها عن الحضور، فرفضت الفرق طاعته، ولقد ثارت فرقة القلعة في وجهه حينما أمسك بتلابيب قائدها فودة حسن، ووضع العساكر الأسنة في بنادقهم وتجمهروا حول الخديو حتى أطلق القائد.
وفي عصر ذلك اليوم المشهود تحرك الجيش المصري نحو عابدين، فخطت الثورة الوليدة أجرأ خطواتها وأبعدها أثرا في تطورات الحوادث فيما بعد.
واحتشد في عابدين نحو أربعة آلاف جدي معهم مدفعيتهم وضباطهم. وأرسل عرابي يستدعي علي بك فهمي من داخل القصر، فعاتبه، فرد علي فهمي بقوله: «إن السياسة خداع»، ثم انضم بفرقته إلى الجيش، فأصبح القصر خاليا من كل عناصر المقاومة.
وتجمع وراء صفوف الجيش آلاف من أهل القاهرة، واشرأبت أعناق الشعب الذي طالما صبر على المذلة، وتطلع من فوق أكتاف الجند، ومن خلال صفوف الفرسان لينظر ماذا يكون في هذا الموقف الرهيب، واسم عرابي على الألسن وهو على ظهر جواده يتأهب لمقدم الخديو ليسمعه كلمة مصر، كلمة الشعب الذي اختار جده بإرادته بالأمس واليا على البلاد. وما أعظم أن ينطق بهذه الكلمة اليوم فلاح من أعماق القرى، فيتحدى بها الخديو الذي كان يظن ألا رأي إلا رأيه.
وخرج الخديو إلى الميدان ووراؤه ستون باشا رئيس أركان حرب الجيش المصري ومستر كوكسن القنصل الإنجليزي بالإسكندرية، وبعض الضباط من الأوروبيين والوطنيين.
وتقدم الخديو نحو الجند، فأشار عليه كلڨن أن يأمر عرابي بتسليم سيفه متى دنا منه، وأن يأمره بالانصراف، ثم يطوف بعد ذلك على الفرق فيأمرها بمثل هذا الأمر.
وتقدم عرابي على ظهر جواده حتى إذا اقترب من الخديو صاح به الخديو قائلا: «انزل» فوثب عرابي من فوق جواده ومشى نحو الخديو ومن حوله نحو خمسين ضابطا، فأدى التحية العسكرية. وأشار الخديو إشارة ذات معنى إلى سيفه فأسرع عرابي بإغماده.
الموقف بالغ الرهبة، فهذا حاكم مصر المطلق يتمثل فيه الجاه الموروث وأبهة السلطان، ومن ورائه الطامعون من الأجانب، وهذا زعيم الشعب تتمثل فيه الحرية الوليدة والنهضة الجديدة، ومن ورائه الطامحون من أهل مصر جميعا.
وهمس كلفن في أذن الخديو: «هذه هي ساعتك» فأجاب الخديو: «نحن بين أربع نيران» فقال كلڨن: «كن شجاعا»، فتهامس الخديو وأحد الضباط الوطنيين ثم التفت إلى كلڨن قائلا: «ماذا عسى أن أفعل؟ نحن بين أربع نيران ... إنهم يقتلوننا».
ويحسن أن نورد ما حدث بعد ذلك على لسان عرابي، وهو لا يخرج عما ذكره المؤرخون قال: «ثم صاح بمن خلفي من الضباط أن أغمدوا سيوفكم وعودوا إلى مكانكم. فلم يفعلوا وظلوا وقوفا خلفي ودم الوطنية يغلي في مراجل قلوبهم، والغضب ملء جوارحهم، ولما وقفت بين يديه مشيرا بالسلام خاطبني بقوله: «ما أسباب حضورك بالجيش إلى هنا؟» فأجبته بقولي: «جئنا يا مولاي لنعرض عليك طلبات الجيش والأمة وكلها طلبات عادلة»، فقال: «وما هي هذه الطلبات؟» فقلت: «إسقاط الوزارة المستبدة وتشكيل مجلس نواب على النسق الأوروبي، وإبلاغ الجيش إلى العدد المعين في الفرمانات السلطانية، والتصديق على القوانين العسكرية التي أمرتم بوضعها»، فقال: «كل هذه الطلبات لا حق لكم فيها، وأنا خديو البلد أعمل زي ما أنا عاوز وقد ورثت ملك هذه البلاد عن آبائي وأجدادي، وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا»، فقلت: «لقد خلقنا الله أحرارا ولم يخلقنا تراثا وعقارا، فوالله الذي لا إله إلا هو إننا سوف لا نورث ولا نستعبد بعد اليوم».
صورة تاريخية تمثل عرابي يتقدم ضباط الجيش في ساحة عابدين، حيثما ذهب ليقدم إلى الخديو توفيق مطالب البلاد.
تلفت الخديو بعد ذلك إلى كلڨن قائلا: «أسمعت ما يقول؟» فأشار عليه هذا بالعودة إلى القصر، إذ لا يجمل أن يزيد الأمر بينه وبين عرابي عن هذا الحد. فانصرف الخديو إلى القصر، وكان به الوزراء وقناصل الدول وبقي الجيش في مكانه لا يتزحزح.
وأقبل كوكسن ومعه ترجمان فأخذ يناقش عرابيا في غلظة ليثير الفتنة، ومما وجهه إلى عرابي قوله: إنه لا حق له في أن يطالب بالمجلس النيابي وإسقاط الوزارة فذلك من شأن الخديو، أما عن الجيش فمالية البلاد لا تساعد على ذلك. ورد عرابي بقوله: إن الأمة أنابت الجيش عنها، ثم أشار إلى الجموع المتراصة خلف الجند، وقال: «هذه هي الأمة وما الجيش إلا جزء منها».
ثم إنه ظل يخوف عرابيا من الالتجاء إلى القوة؛ وأخيرا سأله سؤالا خبيثا: «وماذا فعل إذا لم تجب إلى طلبك؟»، وكان عظيما حقا من عرابي أن يضبط نفسه في هذا الموقف، فقال ردا على ذلك: «أقول كلمة أخرى»، فقال ذلك الإنجليزي: «وما هي؟» فأجاب عرابي: «لا أقولها إلا عند اليأس والقنوط».
محمد شريف باشا
وأخذ كوكسن يغدو ويروح بين عرابي والخديو حتى جاءه آخر الأمر ينبئه قبول الخديوي إسقاط الوزراة، وأن سموه سينظر في بقية المطالب فلا بد في بعضها من مشاورة السلطان، وعرض الخديو على الجيش اسم حيدر باشا لرياسة الوزارة ولكنهم رفضوه. وجرى على الألسنة اسم شريف بطل الدستور، فعاد كوكسن بعد حين يعلن إلى عرابي قبول الخديو إسناد الوزارة إلى شريف، فقابل الجيش ذلك بالهتاف بحياة الخديو. وطلب الضباط مقابلة الخديو فأذن لهم ثم قال لهم: «إنه وافق على تلك الطلبات بنية صافية»، وشكره عرابي باسم الأمة؛ وعاد الجنود إلى معسكراتهم ...
هذا هو يوم عابدين المشهود. تم فيه للجيش ما أراد فجعل كلمة الأمة هي العليا في غير عنف يشوه حركته أو ينقص من جلالها، ولقد كان القصر أمام الجيش خاليا من أية قوة، فروعيت حرمته أحسن حرمة، وروعي كذلك مقام الخديو، فلم يخرج أمامه هذا الجندي الثائر عن طوره، بل لقد تمالك نفسه فترجل وأدى التحية وأغمد سيفه، ثم شكر الخديو باسم الأمة حين أجابها إلى ما طلبت على لسانه. وقد فوت عرابي بهذا الموقف العظيم على الدساسين كيدهم وأحبط مؤامراتهم، وهذا مما يدعو إلى الإعجاب والإكبار حقا، فلقد كانت أية كلمة نابية أو أية إشارة يساء فهمها كفيلة بأن تسيل الدماء في تلك الساحة؛ قال عرابي فيما كتبه من مذكراته فيما بعد: «لو حاول الخديو قتلي لأطلقت عليه النار».
نجحت الثورة نجاحا يدعو إلى الفخر، وتهيأت البلاد لأن تستقبل عهدا يسود فيه الإصلاح والنظام والحرية؛ ولذلك فهذه الثورة جديرة بأن توضع إلى جانب الثورات التي قصد بها الحرية في تاريخ الإنسانية كثورة سنة 1688 في إنجلترة وثورة استقلال أمريكا، والثورة الفرنسية الكبرى. وحسبها أنها قضت على الحكم المطلق وقررت مبدأ سيادة الشعب. وصف بلنت الأيام التي أعقبت هذه الثورة بقوله: «إن ثلاثة الشهور التي أعقبت هذا الحادث لهي من الوجهة السياسية أسعد الأيام التي شهدتها مصر، ولقد ساعدني الحظ بمشاهدة ما جرى فيها بعيني رأسي. إني لم أر في حياتي ما يشبه هذه الحوادث. إن كل الأحزاب الوطنية وكل أهالي القاهرة قد اتفقت كلمتهم فترة من الزمن على تحقيق هذه الغاية الوطنية الكبرى لا فرق في ذلك كما يظهر بين الخديو والأمة، وسرت في مصر رنة فرح لم يسمع بمثلها على ضفاف النيل منذ قرون؛ فكان الناس في شوارع القاهرة حتى الغرباء منهم يستوقف بعضهم البعض يتعانقون، وهم جذلون مستبشرون بعهد الحرية العظيم الذي طلع عليهم على حين غفلة طلوع الفجر إثر ليلة حالكة الظلام».
صفاء لم يدم
قدر على مصر مع الأسف ألا تنعم طويلا بهذا الصفاء، وكيف كان يرجى ذلك وفي الأفق من أول الأمر بوادر الكدرة؟ فهذا الخديو يبيت الغدر فيدفع البلاد بالتوائه وغدره إلى العنف؛ وهؤلاء الأجانب يتربصون بمصر الدوائر، وقد غاظهم نجاح الحركة الوطنية على هذا النحو.
وزارة شريف
ألف شريف وزارته بعد أن تردد كثيرا، وكانت حجته أنه بقبول الوزارة يضع نفسه تحت سلطة العسكريين؛ ولذلك دارت بينه وبين عرابي وزملائه مفاوضات استمرت أيام تحرجت الأمور فيها، حتى أوشك أن يتنحى شريف عن تأليف الوزارة.
واشترط شريف ألا يتدخل الجند في شيء، وأن يرحل عرابي وعبد العال بفرقتيهما إلى مكان يختار لهما وأن يترك حرا في اختيار وزرائه، وقبل عرابي ما اشترط شريف، فحلت الأزمة وقد كان ذلك بوساطة فريق من الزعماء.
وأصدرت الوزارة الوطنية في سبتمبر سنة 1881 القوانين العسكرية التي اقترحتها لجنة إصلاح الجيش في عهد البارودي، فارتاح لذلك رجال الجيش، وفي أكتوبر استصدر شريف أمرا من الخديو بانتخاب أعضاء مجلس شورى النواب، على أن يجتمع المجلس في 23 ديسمبر من نفس العام.
وتقرر أن يسافر عرابي وآلايه إلى رأس الوادي بمديرية الشرقية، وأن يسافر عبد العال حلمي وآلايه السوداني إلى دمياط.
وخرج عرابي وآلايه في اليوم الثامن من أكتوبر سنة 1881، فما كاد يتوسط القاهرة حتى ألفى الشوارع مكتظة بالناس، وإنهم ليهتفون باسمه في حماسة عظيمة ويحيونه تحية الزعيم المنقذ، ونثر الناس في طريقه الزهور والرياحين.
وفي المحطة وجد عرابي جميع ضباط الجيش المصري، وجمهورا عظيما من العلماء والأعيان، وذوي المكانة، وعددا هائلا من الناس، وكانت توزع الحلوى وتنثر الزهور في طريقه. وخطب عبد الله نديم الذي سوف يغدو خطيب الثورة، ثم أنصت الجمع إلى عرابي فألقى خطابا خطيرا جاء فيه قوله: «سادتي وإخواني: بكم ولكم قمنا وطلبنا حرية البلاد ولا ننثني عن عزمنا حتى تحيا البلاد وأهلها، وما قصدنا بشعبنا إفسادا ولا تدميرا، ولكن لما رأينا أننا بتنا في إذلال واستعباد ولا يتمتع في بلادنا إلا الغرباء، حركتنا الغيرة الوطنية والحمية العربية إلى حفظ البلاد وتحريرها والمطالبة بحقوق الأمة»، وقال عن الظفر بالحقوق: «ونحن اكتسبناها في ساعة واحدة من غير أن نريق قطرة دم، أو نخيف قلبا، أو نضيع حقا أو نخدش شرفا وما وصلنا إلى هذه الدرجة القصوى إلا بالاتحاد والتضافر على حفظ شرف البلاد»، ومن أهم ما جاء في خطابه قوله: «البلاد محتاجة إلينا وأمامنا عقبات يجب أن نتخطاها بالحزم والثبات، وإلا ضاعت مبادئنا، ووقعنا في شرك الاستبداد بعد التخلص منه»، وقوله: «وقد فتحنا باب الحرية في الشرق ليقتدي بنا من يطلبها من إخواننا الشرقيين».
واستقبل عرابي بحفاوة كبيرة في المحطات التي وقف بها القطار. وكان مما قاله عرابي في الزقازيق: «أنا أخوكم في الوطنية اسمي أحمد عرابي من بلدة هرية رزنة من بلاد الشرقية هذه»، ومما جاء في خطابه هذا قوله: «لا تعولوا على الأراجيف وإشاعات أهل الفساد، واعلموا أن البلاد محتاجة إلى الخدمة بالقوة والفكر والعمل»، وقال في خطبة أخرى بالزقازيق: «لقد أنقذناكم من يد من لم يعرفوا لكم حرمة ولا يعترفون بحق، ولا يرون أنكم مثلهم من بني الإنسان ... وأنتم الآن مهيئون للانتخاب فلا تميلكم الأهواء والأغراض لانتخاب ذوي الغايات، بل عولوا على الأذكياء والنبهاء الذين يعرفون حقوقهم، ويدفعون المظالم عنكم ويفتحون باب العدل والإنصاف في بلادنا».
وأولمت لعرابي ولائم كثيرة في دور وجهاء مديرية الشرقية، واحتفى به الفلاحون حفاوة عظيمة أينما حل، وليس بخفي ما ينطوي عليه من معان تكريم هذا المصري الفلاح الذي نشأ في بيت متواضع، على أيدي هؤلاء السادة والكبراء، ففي ذلك أول مظاهر الديموقراطية في هذا الوادي الذي خضع قبل ذلك زمنا طويلا لمظاهر السيادة والأرستوقراطية.
وافتتح مجلس شورى النواب في 26 ديسمبر سنة 1881، وجاء في خطاب الخديو ما يشبه الاعتذار عن تأخر افتتاحه حتى ذلك اليوم، وأوصى بمراعاة قرار لجنة تصفية الديون كما أوصى بالاعتدال والتأني، وقد وسع شريف سلطة المجلس، وقرر مبدأ مسئولية الوزارة أمامه إلى حد ما.
ولكن الخلاف ما لبث أن دب بين شريف والمجلس، فكان يرى النواب أن من حقهم مناقشة الميزانية والموافقة عليها، ما دام لهم حق الرقابة على الإدارة العامة للبلاد؛ ورأى شريف أن ذلك يعرض المراقبة الثنائية وقانون التصفية، وكل ما يتصل بالديون لتدخل النواب، وكان شريف قد اتفق مع ممثلي الحكومتين الإنجليزية والفرنسية أن لا يكون ذلك من سلطة النواب، مخافة أن يؤدي ذلك إلى تدخل الدولتين؛ ولكن النواب أصروا على رأيهم، فنشأت بذلك أزمة حادة بين الوزارة والمجلس عرفت باسم أزمة الميزانية.
سنحت الفرصة لتدخل الدولتين، وكانتا تتربصان السوء بالبلاد كما أسلفنا فتقدمتا بما عرف بالمذكرة المشتركة في 8 يناير سنة 1882، ومما جاء فيها: «إن الحكومتين متفقتان كل الاتفاق على ضرورة منع أسباب الارتباك، سواء كانت هذه الأسباب داخلية أم خارجية، ويكون من شأنها تهديد النظام القائم في مصر، وذلك بتوحيد جهودهما، ولا يخالجهما شك في أن إعلان هذا التصريح الرسمي سيمنع حدوث ما عسى أن يطرأ من الأخطار التي تتعرض لها حكومة الخديو، والحكومتان مقتنعتان بأن الخديو سيجد من هذا التصريح الثقة والقوة اللتين يحتاج إليهما في إدارة شؤون مصر وأهلها».
ولقد عظم سخط المصريين جميعا حين علموا أن الخديو قد قبل هذه المذكرة، ولم يكتف بهذا القبول المشين. فكتب إلى القنصلين يشكر حكومتيهما على ما تبديان من عطف نحوه؛ وفي هذا دليل صريح على أن الخديو آثر الانحياز إلى الدولتين، ونسي موضعه من السلطان ولم يعد يعبأ بالرأي العام في مصر.
وظلت الأزمة قائمة بين شريف والنواب بالرغم من أن النواب ارتضوا أن يبعدوا من اختصاصهم كل ما هو متصل بالديون والجزية. فذهب وفد منهم يطلبون من الخديو إسقاط شريف. وقد أجمع على ذلك المدنيون وزعماء الجيش، فقدم شريف استقالته، ثم أسندت الوزارة إلى محمود سامي البارودي، وقد اختير عرابي فيها وزيرا للجهادية.
وزارة البارودي أو وزارة الثورة
واجه البارودي أزمة الميزانية في شجاعة فلم يشايع المتطرفين، ولم يخف من الخديو أو مما تنطوي عليه المذكرة المشتركة من تهديد. فأقر حق المجلس في مناقشة ما يتبقى من الميزانية بعد استبعاد الجزية المقررة للسلطان، وما يتصل بالدين وبالتزامات الحكومة نحو الأجانب؛ كما أقر مسئولية الوزارة أمام المجلس على أساس دستوري صحيح، وضمن ذلك كله لائحة وافق عليها المجلس في 8 فبراير سنة 1882.
وقد فرح النواب وفرح الناس جميعا من مدنيين وعسكريين لصدور اللائحة أو الدستور، وأخذت مصر تستقبل عهدا دستوريا كان بعد بداية طيبة جدا للديموقراطية في مصر والشرق كله، لولا دسائس الدولتين.
ويتجلى فرح مصر في الحفلات العديدة التي أقيمت غداة صدور الدستور في القاهرة وغيرها من البلاد، مما يدل على أن البلاد كانت تنهض فيها حركة قومية حرة، لو أنها حدثت في بلد غير مصر لم يرزأ بالاحتلال، لكان لها في سجل الحركات القومية العالمية مكان عظيم.
وبقدر ما فرح الوطنيون كان استياء الأجانب، الذين أخذوا يشيعون المفتريات عن الوزارة، ويصفونها بالتطرف والتعصب والغفلة، واشتدت لهجة الصحف الإنجليزية والفرنسية في توجيه المطاعن إليها، وذلك على الرغم مما ظهر من اعتدالها في مسألة الميزانية.
وظل الإنجليز ينتظرون أن تسنح لهم فرصة أخرى للتدخل، حتى وقع حادث المؤامرة الشركسية المشؤوم فاستغله الإنجليز أقبح استغلال وأرذله، على بعد ما بينه وبين السياسة العامة للبلاد.
أراد بعض الشراكسة أن يقتلوا عرابيا وأصحابه، وقد نمى ذلك إلى علم عرابي من طلبة باشا عصمت قائد اللواء الأول، وهذا علمه من أحد المتآمرين وهو راشد أنور أفندي، الذي خالف إخوانه فسارع إلى إفشاء سرهم.
وفي اليوم الثاني عشر من أبريل سنة 1882 قبض على تسعة عشر ضابطا، وسيقوا إلى مجلس عسكري ألف لمحاكمتهم بعد موافقة الخديو، وقد جعلت رياسة المجلس لضابط شركسي هو الفريق راشد باشا حسني؛ وبعد عشرة أيام بلغ عدد المقبوض عليهم ثمانية وأربعين منهم عثمان باشا رفقي، وقد اعترف بعض الضباط بالمؤامرة وعزوها إلى راتب باشا أحد أعوان إسماعيل.
وقضى المجلس العسكري بإدانة أربعين رجلا كان بينهم عثمان رفقي، فحكم بتجريدهم جميعا من ألقابهم ونفيهم إلى السودان ... وعوقب بهذا العقاب اثنان من المدنيين وأحيل خمسة على المحاكم الأهلية؛ وعوقب راتب باشا بالحرمان من العودة إلى مصر فإذا عاد نفي من فوره ... وذكر المجلس أن الخديو إسماعيل هو الذي دبر المؤامرة، واقترح أن ينظر مجلس الوزراء في مرتباته.
ثارت ثائرة الإنجليز والفرنسيين على هذا الحكم، وراحوا يصفون الحكومة بالتعصب الأعمى والفوضى والظلم، ثم اتخذوا منه فرصة ليوقعوا بين الخديو والوزارة.
أشار السير إدوارد مالت قنصل إنجلترة في مصر على الخديو برفض هذا الحكم. وحار توفيق واشتدت حيرته، ورأى الأمر جد خطير، فهو بالرفض يتحدى الوزراء والرأي العام في غير حق، وفي موقف كهذا تحيط فيه الدسائس بالوزارة الوطنية. ووقف الخديو موقفا مبهما أول الأمر، ولكنه ما لبث أن أخذ برأي مالت، فخطا بذلك خطوة أخرى من خطواته التي كانت تعجل سير الحوادث نحو الغاية التي رسمها الإنجليز وهي الاستيلاء على مصر.
ولعلنا نذكر من مواقف توفيق السالفة ما كان يدفع به الحوادث في طريق العنف والثورة دفعا. فهو الذي أدى إلى انضمام المدنيين والعسكريين يوم تنكر للدستور وأخرج شريفا من الوزارة، وهو الذي تقع على عاتقه مسئولية مظاهرة عابدين؛ ثم هو الذي قبل المذكرة المشتركة فأحرج شريفا مرة ثانية وصدم الوطنيين صدمة عنيفة؛ وها هو ذا ينحاز إلى جانب القنصل الإنجليزي في أمر لا دخل للإنجليز فيه قط. والحق أن الخديو يتحين الفرص للقضاء على الحركة الوطنية منذ حادث قصر النيل، ولقد أصبح في الواقع تحت حماية الدولتين، وبخاصة إنجلترة منذ يوم عابدين.
واتخذت الأزمة بين الوزارة والخديو مظهرا خطيرا كل الخطر ، فهي في الواقع صراع بين الحكم المطلق وبين مشيئة الأمة؛ ثم إن الخديو رأى بإيحاء مالت أن يرجع إلى السلطان، فغضب الوزراء؛ لأن معنى ذلك ضياع استقلال مصر.
ثم أرادت الوزارة أن تحبط كيد الأجانب، فتقدمت إلى الخديو تقترح عليه أن يخفف الحكم من تلقاء نفسه، والوزارة ترضى أن ينفى المحكوم عليهم إلى أي جهة من الجهات دون أن تمس رتبهم أو ألقابهم وإنما تستبعد أسماؤهم من سجلات الجيش، ولكن توفيقا لم يرض حتى بهذا وكان وراءه مالت يوحي إليه؛ فوقع على أوراق الحكم بنفي المتآمرين إلى خارج البلاد مع عدم استبعاد أسمائهم من سجلات الجيش، ومعنى ذلك أنه نفي مؤقت.
وتلقت الوزارة اللطمة وآلم عرابيا وضباط الجيش هذا الترفق بالمتآمرين، وقارنوا بين ذلك وبين غضب الحكومة والخديو على الضباط الثلاثة، لمجرد أنهم تقدموا بعريضة يشكون فيها من جور رفقي.
وأعلن البارودي أنه لا بد من قرار آخر يلغي هذا القرار؛ ووسوس مالت إلى الخديو ألا يفعل ذلك؛ ونجح مالت وكتب إلى وزارة الخارجية البريطانية في 18 مايو سنة 1882 يقول: «لقد انقطعت الصلة بين الخديو ووزرائه، ووصل الموقف إلى أقصى الخطورة».
وتقدمت الوزارة لترد على الخديو والذين يوحون إليه، فدعت مجلس النواب من عطلته دون إذن من الخديو، فازدادت الأمور حرجا على حرج، إذ رأى أعداء البلاد أن هذا العمل لا يقل في مغزاه عن خلع الخديو.
وسئل رئيس الوزراء عن وجهة نظره، فكان جوابه أن الخلاف قد استحكم بين الوزارة والخديو، بحيث لا يمكن الاتفاق بينه وبينهم، «وإن شكوانا من سموه هي أنه سلك مسلكا يقضي على استقلال مصر، وكثيرا ما فعل ذلك دون مشاورة وزرائه».
ولقد ضاق الخديو بالحركة الوطنية حتى ما يهمه استقلال البلاد. وصار يسمي هذه الحركة حكم الفوضى؛ ولن نجد دليلا على ذلك أبلغ مما ذكره كرومر في كتابه مصر الحديثة، حيث يقول عن الخديو: «إنه بين للسير إدوارد مالت في يوم 6 مايو أنه يفضل أن تفقد مصر بعض امتيازاتها على يد الباب العالي، وتعود إليها السلطة المنظمة على أن تبقى في مثل تلك الفوضى ».
وكانت الوزارة قوية بادئ الأمر؛ لأنها كانت مغترة بإجماع النواب على تأييدها، ولكنها نظرت في هذه الظروف الشديدة، فإذا برئيس المجلس سلطان باشا يدعو إلى الحكمة والروية، وقد أخذ ينحاز إلى جانب الخديو؛ ولقد ذهب سلطان في هذا إلى حد أن قال للسير إدوارد مالت: «لقد أسقط المجلس شريفا تحت ضغط عرابي، وإن نفس الأعضاء الذين ألحوا في ذلك أكثر من غيرهم يتوقون اليوم إلى إسقاط الوزارة، وقد استبان لهم أنهم خدعوا».
وعلمت الوزارة أن بعض النواب قد انحازوا كذلك إلى الخديو؛ ولقد آثر النواب أن يجتمعوا في منزل رئيسهم سلطان باشا، ولم يجتمعوا في مجلسهم، فكان عملهم هذا نوعا من التردد في مشايعة الوزارة.
إزاء ذلك قدم البارودي استقالته إلى الخديو؛ ولكن توفيقا عجز عن إقامة وزارة في البلاد؛ ولقد صرح الوزراء على الرغم من استقالة رئيسهم، أنهم لا يستقيلون إلا إذا كان ذلك بأمر من مجلس النواب.
إلى هذا الحد تحرجت الأمور بسبب انحياز الخديو إلى الأجانب، وبخاصة السير إدوارد مالت. ولقد كان عرابي هو الذي أوحى إلى الوزراء أن يقفوا موقفهم هذا، وقد عز عليه أن يبعد الوزراء عن مناصبهم بمشيئة غير مشيئة الأمة. وكتبت الحكومات إلى ممثليها في مصر أن «يرسلوا إلى عرابي فيبلغوه أنه إذا أصاب النظام خلل، فسوف يجد أوروبا وتركيا كما يجد إنجلترة وفرنسا ضده، وأنهم يحملونه تبعة ذلك».
وتلقى عرابي هذا الكلام رابط الجأش، وإن كان ليفطن إلى خطورة الموقف. ولما لم يجد معه التهديد حلت الأزمة بأن أشار ممثلا إنجلترة وفرنسا على الخديو «بأن يطرح المسائل الشخصية جانبا، وبما أن سموه لم يستطع أن يقيم وزارة جديدة، فإنهم يطلبون إليه أن يجدد علاقته بالوزارة القائمة».
وبقيت الوزارة قائمة وعدت عجز الخديو على هذا النحو عزاء لها عن موقفه في حادث المؤامرة الشركسية.
إنذار نهائي
بينما كانت الوزارة تعمل في داخل البلاد على إشاعة الهدوء بعد نفي المحكوم عليهم من الشراكسة إلى سوريا ، إذا بالدولتين عملا باقتراح فرنسا ترسلان سفنا فرنسية وإنجليزية إلى الإسكندرية، وقد وصلت هذه السفن في 19 مايو سنة 1882، وكان مبعث سياسة فرنسا هذه أنها تخشى تدخل تركيا في مصر، فأرادت بذلك منع تدخلها.
ووافقت إنجلترة على الاقتراح ففي وجود السفن إرهاب كذلك للوزارة الوطنية وتأييد للخديو، وأحدثت هذه المظاهرة البحرية بعض تأثيرها الملطوب، فقد أخذ سلطان رئيس مجلس النواب يجاهر بتأييد الخديو، كما انضم إليه صراحة عدد من النواب.
واضطرب الوطنيون ممن يشايعون الوزارة، وقد أخذ توفيق يتنمر وقد واتته الفرصة بمجيء السفن، ليضرب الحركة الوطنية ضربة قاضية.
أما الوزارة فقد آثرت أن تخطو في هذا الموقف العصيب خطوة جديرة بالثناء. فتوجه الوزراء إلى الخديو وأعلنوا له عن رغبتهم في الوئام مقدمين مصلحة الوطن على كل اعتبار متناسين كل شيء في سبيل مصر وحمايتها مما تبيت الدولتان. وكان الوزراء يرجون أن يجعل توفيق مصلحة مصر فوق المسائل الشخصية، فإنهم لم يبالوا بما عسى أن يوصف به عملهم هذا من ضعف، في سبيل المصلحة، كالقائد الشجاع الذي يتراجع؛ لأنه يعتقد أن عمله هو الصواب.
وأوحى مالت إلى الخديو ألا يعتد بقول وزرائه، وما كان توفيق في حاجة إلى هذا الذي يوحي به مالت، وهو يريد أن يشفي ما بنفسه من غل.
وأخذت الوزارة في الوقت نفسه تتأهب لملاقاة ما يندر به الموقف من جسيمات الأمور، وصمم الوزراء ألا يقروا أي تدخل لإنجلترة وفرنسا في البلاد.
وتزايد انضمام الرأي العام إلى عرابي بقدر ما تزايد سخطه على توفيق والإنجليز، ومن انحاز إليهم من المستضعفين وذوي الأطماع.
وفي 25 مايو سنة 1882 تلقت الوزارة إنذارا نهائيا من قنصلي الدولتين، مؤداه أن يخرج عرابي باشا من مصر مع احتفاظه بلقبه وراتبه، وأن يبعد كل من عبد العال حلمي وعلي فهمي إلى بلده مع احتفاظه كذلك بلقبه وراتبه، وأن تستقيل الوزارة من الحكم.
وقررت الوزارة في غير تردد رفض هذا الإنذار، وأبلغت الرفض إلى قنصلي الدولتين محتجة على تدخلها في شؤون البلاد.
ولم يمض يوم واحد على هذا الموقف الوطني من جانب الوزارة، حتى أعلن الخديو موافقته على الإنذار، فلم يجد البارودي بدا من الاستقالة، وقد ذكر في كتاب استقالته أن قبول الخديو الإنذار فيه مساس بحقوق السلطان.
ولم يتردد الخديو في قبول استقالة الوزارة مهما تكن النتائج؛ فهو لم يعد يهمه إلا استعادة سلطته المطلقة، ولو أدى ذلك إلى ضياع البلاد.
الخديو يعجز عن إقامة وزارة
أبرق مالت إلى دولته في اليوم التالي لسقوط الوزارة يقول: «رأى الوزراء أنهم إذا رفضوا الشروط التي قبلها توفيق، فإنهم بذلك يبيتون في ثورة مكشوفة بدلا من ثورتهم المستترة، وهذا موقف أشفقوا منه، وعلى ذلك فإن سقوط الوزارة يرجع إلى المسلك الحاسم الذي سلكه سموه».
على أنه ما لبث أن أرسل برقية أخرى جاء فيها: «يحاول الخديو للآن إقامة وزارة ولو أن أمله ضعيف في أن يوفق إلى وزارة ذات كفاية، إن كان ثمة من أمل في إمكان قيام وزارة ما».
وظل الخديو يومين في حيرة، وزاد الموقف خطورة أن ورد على الخديو برقية من كبار رجلال الجيش والشرطة يقولون فيها: إنه إذا لم يعد عرابي إلى منصبه في اثنتي عشرة ساعة، فهم غير مسئولين عما تقضي إليه الحوادث.
وعقدت عدة اجتماعات في منزل سلطان والبارودي وعرابي، شهدها النواب والأعيان والعلماء والتجار وممثلو الأديان؛ وذهب وفد من هؤلاء إلى الخديو فما زالوا يتوسلون إلى توفيق حتى رضي بعد إلحاح شديد بإعادة عرابي وزيرا للحربية، وقبل عرابي أن يضمن الأمن والنظام أمام قناصل الدول.
صورة أحمد عرابي الضابط الزعيم وعليها توقيعه.
وفي هذه الأثناء كان لا يفتأ مالت يبرق إلى حكومته يصف لها ما يزعمه من سوء الحالة في البلاد، وخوفه من تعرض الأجانب للخطر، ويستحثها على التدخل السريع.
مندوب من قبل السلطان
في اليوم السابع من يونيو سنة 1882، وصل إلى مصر وفد من قبل السلطان عبد الحميد برياسة المشير مصطفى درويش باشا، ومن أهم أعضائه أحمد أسعد أحد ذوي المكانة والحظوة عند السلطان وقد جاء رقيبا على درويش.
وقوبل الوفد في الإسكندرية والقاهرة بمظاهرات عظيمة، كانت تهتف بسقوط الإنذار النهائي وكان يسميه الناس يومئذ اللائحة، وكان الهتاف الشعبي أن يقول أحد الناس: «اللايحة اللايحة» ... فيرد الجميع قائلين: «مرفوضة مرفوضة»، وعظمت الهتافات لعرابي وللدستور، حتى لقد عجب درويش ووفده من هذه الروح الطيبة وشيوعها في جميع طبقات الشعب.
ويظهر أن درويشا كان مزودا بتعليمات: أن يظهر العطف على الخديو من جهة، وأن يشجع عرابيا من جهة أخرى نكاية من السلطان في إنجلترة وفرنسا وتوفيق؛ ثم لكي يستعيد سلطانه في مصر بأن يجعل الجانبين يلجآن إليه.
وقد أخذ درويش يستقصي أسباب الخلاف بين عرابي والخديو، ويسأل عن مسلك الجيش، ولم يقبل عرابي أن يصحبه إلى الآستانة حين عرض عليه ذلك، كما أنه لم يقبل أن يتنازل له عما أخذه على عاتقه من حماية الأمن، إلا إذا حصل منه على كتاب رسمي يخليه فيه من كل تبعة.
وطلب درويش من السلطان نحو مئتي وسام للضباط وللمدنيين. فأجابه السلطان إلى طلبه وأنعم على عرابي بالوسام المجيدي الأكبر. وقد ضايق توفيقا هذا الإنعام فهو تأنيب عملي له على ... بالدولتين؛ كما أن فيه معنى الرضاء عن عرابي؛ لأنه يقف في وجه الدولتين المتدخلتين في شؤون مصر. وأبرق عرابي يشكر السلطان. فجاءته برقية من السلطان تتضمن رضاءه عنه، وثناءه على حسن سلوكه وإخلاصه لواجبه.
توفيق يتآمر ضد البلاد - حادث 11 يونيو بالإسكندرية
حدثت في يوم 11 يونيو سنة 1882 مشاجرة بين أحد الوطنيين، واسمه السيد العجان وبين مالطي استأجر حمار هذا الوطني، فقد طعن المالطي صاحب الحمار بسكين عدة طعنات فقتله؛ وذلك لأنهما تخاصما على الأجر.
وخف رفاق القتيل ليمسكوا بالقاتل ولكنه هرب إلى بيت قريب، وسرعان ما رأى الوطنيون الذين تجمعوا الرصاص يتهاوى عليهم من بعض النوافذ والأبواب القريبة، فسقط بعضهم صرعى وجرحى، وعظم الهياج وتنادى الوطنيون للانتقام فأخذوا ما اتفق لهم من العصي والحجارة والخناجر، وانهالوا على كل من صادفهم من الأوروبيين ضربا، لا يبالون أين يقع؛ ونهبت بعض الدكاكين واستمرت الفتنة حتى الساعة السابعة مساء، حيث حضر الجند فأعادوا الأمن إلى المدينة. وقد انبعثت الفتنة من ثلاثة أمكنة مختلفة بمجرد حدوث المشاجرة. وقد اختلفت المصادر في عدد القتلى من الجانبين وهو على أي حال لا يقل عن خمسين من الأجانب، وأكثر من ذلك من الوطنيين، فضلا عن الجرحى من الجانبين.
وحادث المشاجرة بين صاحب الحمار والمالطي حادث عادي في ذاته، لم يأت نتيجة تدبير بل هو ابن وقته. ولكن الأدلة قد توفرت بما لا يدع مجالا للشك على أن ما أعقب المشاجرة من فتنة كان أمرا مبيتا مدبرا من قبل، وأنه لو لم يقع حادث السيد العجان والمالطي، لوقعت المأساة عقب أي حادث من نوعه أو من أي نوع آخر.
ولقد كان لهذه المأساة نتائج خطيرة في ذلك الوقت بالذات، فقد جاءت عقب إعلان عرابي أنه يضمن الأمن؛ ولذلك فهي ضربة موجهة للحركة الوطنية في الصميم، وهي حجة للخديو وأعوانه من الأجانب على فساد الأحوال الداخلية، وتعرض أموال الأوروبيين وأرواحهم للخطر بسبب الحركة القومية، التي ظل ينعتها الإنجليز منذ قامت بالفوضى.
أما عن أدلة تدبير هذه المأساة فيكفي أن نذكر أن الإنجليز أنفسهم هم الذين يسوقون هذه الأدلة، فقد حدث سنة 1883 أن حمل في مجلس العموم البريطاني اللورد راندلف تشرشل زعيم المحافظين حملة عنيفة على مستر جلادستون زعيم الأحرار، فكان مما ذكره عن مساوئ الأحرار أنهم يحمون خديو مصر مع أنه هو وعمر لطفي محافظ الإسكندرية المدبر لمأساة الإسكندرية، وساق تشرشل طائفة من أقوال الأوروبيين من مختلفي الأجناس وكلها تقرر أن المسألة مبيتة.
1
ولقد جاء في كتاب كرومر «مصر الحديثة» أن مالت أبرق إلى حكومته في نهاية شهر مايو قائلا: «إنه قد يقع التحام في أي وقت بين الأوروبيين والمسلمين».
وأما من دبر هذه المأساة، فقد تجمعت الأدلة كذلك على أنها من جانب العنصر المصري في الهياج، تمت بالاشتراك بين الخديو وعمر لطفي. فقد ذكر رندلف تشرشل في مجلس العموم بين أدلة اتهاماته نبأ برقية من الخديو إلى عمر لطفي على أعظم جانب من الخطورة وهي: «لقد ضمن عرابي الأمن العام ونشر ذلك في الجرائد، وقد تحمل مسئولية ذلك أمام القناصل، فإذا نجح في ضمانه، فإن الدول سوف تثق به وسوف تفقد بذلك اعتبارنا، يضاف إلى ذلك أن أساطيل الدول في مياه الإسكندرية، وأن عقول الناس في هياج وأن الحرب قريبة الوقوع بين الأوروبيين وغيرهم ... والآن فاختر لنفسك هل تخدم عرابيا في ضمانه أم هل تخدمنا؟»
ولقد شهد كثير من الأوروبيين بأن شرطة المدينة، وهم تحت إمرة لطفي قد اشتركوا في القتل والضرب بدل أن يقضوا على الفتنة. ومن أخطر هذه الشهادات من نزلاء الإسكندرية قول مستر أمبروز رالي: «لكي نرى مبلغ خيانة المسئولين، فحسبنا أن نعلم أن الفتنة وقعت في الساعة الثالثة، وأن الشرطة قد تمت على أيديهم معظم حوادث القتل، وأن ذلك استمر حتى الساعة السابعة حين وصلت أخيرا فرقة من الجند، كانت كفيلة بأن توقف الفتنة في ربع ساعة من بادئ الأمر لو أن المسئولين أرادوا ذلك».
ويقول الشيخ محمد عبده في تقرير له كتبه في منفاه بسوريا: «حقا إن أكثر من اتهموا ومن قبض عليهم بعد الحادث بيوم كانوا يصيحون بقولهم: لا لوم علينا فإن سعادة المحافظ هو الذي كان يأمرنا بأن نضرب وأن نسرق».
إلى هذا الحد بلغ حقد توفيق على الوطنيين حتى ليتآمر هذا التآمر الخطير على سلامة مصر وسمعتها. ولسوف تتخذ الدولتان من هذه المأساة حجة لهما على أن بعثة درويش باشا لم تفد شيئا في علاج الحالة، وعلى أن عرابيا لم ينجح في ضمان الأمن كما أعلن، وأنه لا بد من عمل حاسم سريع.
وبعد هذه المأساة بيومين حضر الخديو إلى الإسكندرية؛ ليقيم بها كي يكون على مقربة من السفن الإنجليزية، ولينفض يديه من الأحوال الداخلية مؤقتا ريثما يتم القضاء على الحركة الوطنية واستعادة سلطانه. وقد استدعى إسماعيل راغب باشا في 18 يونيو، وكلفه تأليف وزارة بعد أن ظلت البلاد بلا وزارة مدة أسبوعين، وظل عرابي وزيرا للجهادية، والحق أن وزارة راغب باشا كانت صورية، بعد أن ارتمى توفيق على هذا النحو في أحضان الإنجليز ...
الإنجليز ومأساة الإسكندرية
لم يكن الإنجليز بمعزل عن مأساة الإسكندرية، بل لقد كان لهم في تحريض الأجانب، ما كان لعمر لطفي ومن ورائه توفيق في تحريض الوطنيين؛ وحسبنا أن نكرر الإشارة إلى برقية كوكسن الخبيثة بأن التحاما سوف يقع بين الأوروبيين والمسلمين؛ ومن هذا القبيل برقية أرسلها مالت إلى وزارة الخارجية البريطانية في مايو يقول فيها: «إنه لا بد من حدوث اضطرابات قبل تسوية المسألة المصرية، وأن الأصوب استعجال هذه الاضطرابات لا تأجيلها».
وكان كوكسن دائب السعي في تسليح الأوروبيين وبخاصة الإنجليز، يتبين ذلك من برقية أرسلها مالت إلى حكومته جاء فيها: «إن قنصل السويد العام وصل اليوم من الإسكندرية وعرض علي مشروعا للدفاع عن الأوروبيين ورغب في موافقة ممثلي الدول عليه، وقد أجمع الممثلون على أن تسليح ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف تمهيدا لهذا الدفاع عمل بالغ الخطورة؛ وأنه بجانب ذلك عمل في ذاته يفضي إلى التصادم في أي وقت، وعلى ذلك فقد اتصلوا بقناصلهم كيلا يشاركوا في شيء من هذا، وبناء على ذلك أبرقت إلى مستر كوكسن ألا يشارك بعد الآن في شيء منه».
وقال المسيو جون نينيه وهو سويسري أقام بمصر زمنا طويلا: «وفي الطريق قابلت مستر كوكسن في عربة، وأخبرني أحد الواقفين بجانبي أنه كان في بيت أحد المالطيين أثناء إطلاق النار، وأنه اعتدي عليه عند خروجه من ذلك البيت؛ لأن الدهماء عدوه مسئولا عن إطلاق النار».
وكان لكوكسن تنقلات في المدينة أثناء الفتنة، يتضح ذلك مما كتبه إلى مالت بعد ذلك بخمسة أيام إذ يقول: «وقد أعنت على النهوض والتوجه صوب مخفر الشرطة، حيث لم يتحرك أحد منهم لحمايتي على الرغم من أن الدماء كانت تسيل من جسمي، ومن خلفي بعض النابحين من العرب يضربونني بالعصي».
جهاد مصر ضد المعتدين
كانت الدولتان قد اتفقتا قبل مأساة الإسكندرية على وجوب العمل على حل المسألة المصرية، إذ لم يفد وجود الأسطولين شيئا؛ وقد اقترح رئيس حكومة فرنسا على إنجلترة في 30 مايو سنة 1882 عقد مؤتمر دولي للنظر في الأمر، إذ إن الحالة في مصر تتطلب ذلك. وكانت فرنسا ترمي من وراء ذلك في الواقع أن تحول بين إنجلترة وبين الانفراد بالعمل، فقد باتت تتوجس خيفة من سياستها، ووافقت إنجلترة على ذلك لتخفي نياتها. ولن تعجز إنجلترة أن تتخذ من المؤتمر أداة تنتفع بها إذا لزم الحال، كما أنها لن تعدم حيلة للانفراد بالعمل إذا دعت الضرورة، كما سيأتي بيانه.
وكانت تركيا تعارض فكرة هذا المؤتمر؛ لأنها صاحبة الحق الشرعي في مصر ولا حق لغيرها من الدول في النظر في المسألة المصرية؛ لذلك أوفد السلطان درويشا ورأى في ذلك سببا عمليا يبرر به رفضه فكرة المؤتمر؛ وكان في إنعامه على عرابي وشكره إياه على إخلاصه في أداء واجبه ما يتضمن ألا محل لما تدعيه إنجلترة وفرنسا من خطر العسكريين في مصر.
ولكن أين ما يعمل السلطان مما كان يدبر الإنجليز؟ لقد دبر الإنجليز وشركاؤهم مأساة الإسكندرية؛ لتكون كما أسلفنا حجة لهم على صحة ما يقولون، ومن هنا يتبين لنا خطر هذا الحادث المشؤوم.
انعقاد المؤتمر بالآستانة
انعقد المؤتمر في 23 يونيه في السفارة الإيطالية بالآستانة، ولم يشترك فيه السلطان وذلك على الرغم من أن البلد الذي يبحث المؤتمر في شؤونه تابع للسلطان. وكان المؤتمر ينظر في إرسال قوة تركية إلى مصر، ويبحث الشروط التي توضع لذلك؛ والحق أن المؤتمر كان مهزلة من المهازل السياسية: فقد كان مما أصدره المؤتمر الميثاق الآتي، وذلك في 25 يونيه: «تتعهد الحكومات التي يمثلها الموقعون على هذا أنها في كل تسوية يقتضيها عملها المشترك؛ لتنظيم شؤون مصر ألا تسعى إلى امتلاك شيء من أراضيها، ولا إلى أي إذن خاص ولا إلى أي فائدة تجارية لرعاياها إلا ما كان عاما يمكن أن تناله أية أمة أخرى».
وفي 6 يولية أعلن المؤتمر في جلسته السابعة قرارا يقضي بإرسال قوة تركية إلى مصر لإعادة الأمن والنظام فيها. وبعد ستة عشر يوما من الميثاق وخمسة أيام فقط من ذلك القرار، ضربت إنجلترة الإسكندرية بمدافعها الضخمة وبدأت تحتل مصر، ولا يزال المؤتمر قائما في الآستانة للنظر في المسألة المصرية على أساس دولي؛ وستبلغ مهزلة المؤتمر غايتها حين يعقد ذلك المؤتمر جلسته الثامنة بعد ضرب الإسكندرية بأربعة أيام لينظر في الأمر! ولقد كان من قرارات المؤتمر الصريحة، قبل ذلك أن وافق المجتمعون نيابة عن حكوماتهم على عدم التدخل في مصر أثناء انعقاد المؤتمر.
ولقد استطاع لورد دفرين مندوب إنجلترة في المؤتمر بعبارة واحدة أن يجعل الأمر كله لعبة لاعب، وذلك بأن حمل المؤتمر على إضافة تحفظ على قرار عدم التدخل نصه: «إلا عند الضرورة القصوى»، وما أيسر أن تخلق إنجلترة في أية لحظة تلك الضرورة القصوى. والواقع إن إنجلترة كانت قد وطدت العزم على الانفراد بالعمل، انظر إلى قول كرومر في كتابه وقد جاء ذكر المؤتمر: «ليس من الضروري أن نقف طويلا عند إجراءات المؤتمر المملة ... وقد كان اللورد جرانفل واللورد دوفرين يفهمن تمام الفهم ماذا يريدان، ولقد رغبا في أن يوطدا النظام في مصر، وكانا يقظين إلى تلك الحقيقة التي مؤداها أنه بغير استخدام القوة المادية فلن يوطد ذلك النظام».
الضرورة القصوى
ما كانت هذه الضرورة القصوى التي برر بها الإنجليز اعتداءهم الغاشم على مصر، إلا خرافة الذئب والحمل تعرض في صورة جديدة هي قصة النزاع بين بوارج الأسطول الإنجليزي وقلاع الشواطئ بالإسكندرية.
في اليوم التاسع والعشرين من مايو، أي: قبل تحفظ دوفرين بنحو شهر، أخبر سير بوشامب سيمور أدميرال الأسطول البريطاني بالإسكندرية لورد جرانفل أن المصريين يقيمون تحصينات في شواطئ الإسكندرية، وأن هذا يعد عملا عدائيا موجها إلى الأسطول!
واستفهمت إنجلترة الباب العالي فردت تركيا بأنه لا تحصين هناك، وإنما هو إصلاح في بعض الحصون المتهدمة؛ ومع ذلك فقد أمرت بوقفه.
وفي أول يوليه كتب سيمور إلى حكومته أن عرابيا يستعد بجمع السلاح، وأنه سوف يضع الأسطولين في فخ، وذلك بسد البوغاز بالأحجار. وتلقى سيمور في 3 يوليه هذه البرقية الخطيرة: «امنع كل محاولة لسد البوغاز إلى الميناء، وإذا استؤنف العمل في التحصينات أو إذا وضعت مدافع جديدة، فأخبر القائد الحربي بأن لديك أوامر بمنع ذلك ؛ فإذا لم يوقف ذلك فورا فحطم التحصينات، وأسكت البطاريات إذا أطلقت نيرانها».
وفي 6 يولية أرسل سيمور إلى طلبة عصمت قائد حامية الإسكندرية يقول «سيدي: لي الشرف أن أحيط سعادتكم علما، بأني علمت من مصدر رسمي أن مدفعين أو أكثر أضيفا بالأمس إلى خطوط الدفاع البحرية، وأن استعدادات حربية يجري عملها في الواجهة الشمالية للإسكندرية ضد الأسطول الذي تحت قيادتي؛ وأرى لزاما علي والحالة هذه أن أنبه سعادتكم إلى أنه إذا لم توقف الأعمال، أو إذا أوقفت ثم استؤنفت. فإن واجبي يقضي بأن أطلق مدافعي على الأعمال الجاري بناؤها».
ورد طلبة باشا برسالة جاء فيها «وردا على ذلك أؤكد لكم أنه لا أساس لهذه الأخبار، وأنها من قبيل خبر التهديد بسد مدخل البوغاز الذي اتصل بكم وتحققتم من كذبه، وإني لمعتمد على مشاعركم الإنسانية الصادقة وأرجو أن تتقبلوا احتراماتي».
وأبرق سيمور إلى حكومته في 9 يوليه يقول: «إنه ليس لدي أي شك في حدوث الاستعدادات الحربية، وقد وضعت مدافع جديدة في حصن السلسلة، وسأخطر قناصل الدول الأجنبية صباح غد، وأبدأ بالضرب بعد أربع وعشرين ساعة ما لم تسلم إلى الحصون القائمة في شبه جزيرة رأس التين، والحصون المشرفة على مدخل الميناء».
وفي صباح 10 يوليه تلقى طلبة باشا إنذارا نهائيا هذا نصه: «لي الشرف أن أخطر سعادتكم أنه لما كانت أعمال الاستعدادات العدائية الموجهة ضد الأسطول، الذي أتولى قيادته آخذة في الازدياد طول نهار أمس في حصون صالح وقايتباي والسلسلة، فقد عقدت العزم أن أنفذ غدا 11 الحالي عند شروق الشمس ما أعربت لكم عنه من عمل في كتابي المؤرخ يوم 6 الحالي، وذلك إن لم تسلموا إلي في الحال قبل هذه الساعة البطاريات الموضوعة في شبه جزيرة رأس التين، وعلى شاطئ ميناء الإسكندرية الجنوبي بقصد تجريدها من السلاح».
هذه هي أقصوصة الذئب والحمل في صورتها الجديدة. ولا نستطيع أن نتصور كيف يكون تحصين أمة شواطئها تلقاء سفن أجنبية تتهددها عملا عدائيا يسوغ الشر والعدوان؟ إن مثل ذلك كمثل لص أراد أن يقتحم دارا وسلاحه في يده، فإذا تناول صاحب الدار شيئا يدفع به عن نفسه هذا العدوان جعل اللص من ذلك مسوغا لأن يقتله، ويأخذ متاعه وداره! وكيف تكون قلاع الإسكندرية هي المعتدية على بوارج الأسطول، والقلاع التي لم تنتقل إلى السفن لتضربها، وإنما السفن هي التي جاءت تتهدد المدينة في غير موجب، والمؤتمر الدولي قائم في الآستانة ينظر في المسألة المصرية؟
ومع ذلك فقد قرر دي فرسنيه رئيس الوزارة الفرنسية في كتابه المسألة المصرية «أن المعلومات التي لديه لم تكن بالخطورة التي تبدو من رسائل الأدميرال سيمور، بحيث إن ضرب الإسكندرية في الظروف التي وقع فيها، إنما كان عملا هجوميا لا دفاعيا»، وقرر كذلك أن «سد البوغاز لم يشرع فيه في وقت من الأوقات».
ويقول جون نينيه السويسري في كتابه «عرابي باشا»: إني أؤكد بشرفي ما تحققته إذ كنت أزور الحصون يوميا مصحوبا بكبار الضباط، أنه منذ مجيء أوامر السلطان بالكف عن الترميمات لم يطرأ أي تغيير على أية بطارية من جهة الميناء أو على البحر، ولم يحصل أي ترميم في الحصون ولم ينصب فيها أي مدفع جديد».
موقف فرنسا وتركيا
أما فرنسا فإنها منذ يوم 3 يوليه قد رفضت أن تعمل مع إنجلترة، وذلك احتراما منها لما أقره مؤتمر الأستانة؛ ولأنها تعد مثل هذا التدخل عملا عدائيا لا دفاعيا، وكتبت الحكومة الفرنسية إلى قائد الأسطول الفرنسي بالإسكندرية بأن يبتعد إلى بورسعيد إذا أصر القائد الإنجليزي على الإنذار النهائي بضرب الإسكندرية. وتنفست إنجلترة الصعداء، فذلك ما كانت تتمناه من زمن لتنفرد بالعلم ولتلتهم مصر وحدها.
أما تركيا فإن موقفها من الأزمة من أول الأمر موقف المتردد الحائر كما تجلى في بعثة درويش.
وقد ظلت حكومة تركيا حائرة بين أن تأخذ جانب توفيق، وقد انحاز إلى الأجانب على حساب مصالحها وحقها في مصر، أو أن تأخذ جانب عرابي فتؤيد بذلك الحركة الدستورية الحرة، العمل الذي كانت تخشاه شر خشية، وبخاصة في ولاية تابعة لها فهي ما تزال تحكم بلادها حكما مطلقا.
ولقد اتصفت إزاء مؤتمر الآستانة بالتردد والغفلة حتى صارت إنجلترة لا تقيم لها وزنا، وأقبلت تعتدي على مصر كأنه لا علاقة بين مصر وبين السلطان.
مصر تجاهد وحدها ضد العدوان
وقفت مصر موقف البطولة والشرف في هذه العزلة الدولية، فقد عقد مجلس الوزراء برياسة الخديو وحضره درويش باشا. واضطر توفيق أن يجاري الوطنيين ريثما تحين له الفرصة كعادته في جميع مواقفه، وأرسلت مصر ردها التاريخي على الإنذار ونصه: «نحن هنا وفي بلادنا، ومن حقنا بل ومن واجبنا أن نصونها ضد كل عدو يبادئنا بالعدوان ... إن مصر المحافظة على حقوقها وعلى شرفها لا تستطيع أن تسلم أي مدفع أو أية قلعة مهما تكن إلا إذا اضطرتها الحرب؛ إن مصر لتحتج على إرسالكم إنذار اليوم، وتلقي مسئولية تعدي الأسطول وضرب الإسكندرية ونتائجه المباشرة وغير المباشرة على رأس الدولة التي تجرؤ في وسط هذا السلام الشامل على قذف القنبلة الأولى ضد الإسكندرية، تلك المدينة المسالمة، مستهترة بحقوق الأمم وقوانين الحرب».
وكان الخديو قد تدبر من قبل أين يقيم عند الضرب، فقد أرسل مستر كارتريت الذي ناب عن مالت برقية إلى حكومته يوم 7 يوليه جاء فيها: «أتشرف بإخبار فخامتكم أن الخديو استدعى السير أوكلند كلڨن هذا الصباح؛ ليدلي إليه بالطريق الذي يقترح سموه اتباعه في مواقف معينة تتصل بحركاته الشخصية، وفي حالة ضرب الإسكندرية بمدافع الأسطول البريطاني سيأوى سموه إلى قصر ترعة المحمودية حيث يرافقه درويش باشا، وكلما كان الفراغ من الأمر كله أسرع قل الخطر الذي يتعرض له شخصيا، وكانت لهجة سموه أثناء المقابلة هادئة، وكان يضبط نفسه واختتم حديثه بأن رجا من السير أوكلند كلڨن أن يطلع فخامتكم على ما اعتزم، وإني أقترح في حالة الضرب أن أخبر درويش باشا قبل إقلاعي، أن حكومة جلالة الملكة تلقي على عاتقه تبعة سلامة سموه الشخصية».
وتلقى في اليوم التالي ردا بموافقة حكومته على أن يلقي على عاتق درويش سلامة الخديو.
ضرب الإسكندرية
في الساعة السابعة من صباح ذلك اليوم المشؤوم 11 يوليه سنة 1882 أطلق الأدميرال الإنجليزي سيمور أولى قذائفه على مدينة الإسكندرية دون أي اعتداء منها؛ بحجة الدفاع العادل المشروع عن النفس! وذلك على مسمع من العالم المتمدن كله. وبدأ بذلك هذا العدوان الشنيع على مصر، وليس في العالم يومذاك دولة يتأثم ضميرها؛ مما تصبه إنجلترة على الحركة القومية الوطنية وعلى السلم والدستور في مصر.
وكان الأسطول البريطاني مكونا من ثماني مدرعات كبيرة وخمس مدفعيات، وسفينة للطوربيد وأخرى لأعمال الكشف، وكانت مدافع الأسطول سبعة وسبعين من النوع الضخم القوي من طراز أرمسترونج.
وكانت حصون الشاطئ تمتد من ناحية العجمي في الغرب إلى أبو قير في الشرق، وكان عددها نحو عشرين حصنا أو طابية، ويدخل في ذلك اثنان في داخل المدينة هما كوم الناضورة وكوم الدكة.
وإذا استثنينا الحصنين الأخيرين وهما من منشآت نابليون وقلعة قايتباي، وهي ترجع إلى القرن الخامس عشر، كانت بقية الحصون من منشآت محمد علي، وكانت مدافعها ويبلغ عددها تسعة وعشرين ومئتين قديمة الطراز ضعيفة، قريبة المرمى، إلا تسعة وأربعين منها كانت من طراز آرمسترونج.
ومما يحاول بعض المؤرخين إلصاقه بعرابي من المآخذ، أنه ترك حصون الإسكندرية ضعيفة فلم تستطع مقاومة السفن الإنجليزية، وينسى هؤلاء أنه ما دام أن الخديو كان في جانب الإنجليز والفرنسيين منذ حضرت سفن الدولتين، ومنذ قدمت المذكرة المشتركة لم يكن في وسع عرابي أن يعمل كما يحب. وماذا عسى أن يكون الحال إذا رفض الخديو؟ إن وزارة البارودي لم تستطع أن تنفذ حكم المجلس العسكري على الشراكسة؛ لأن الخديو عارض في ذلك. هذا إلى أن الأجانب كانوا لمصر بالمرصاد، وقد رأينا كيف أقام سيمور الدنيا وأقعدها؛ لأنه كما زعم رأى تحصينات في السواحل المصرية.
وكان طوبجية السواحل تحت قيادة إسماعيل بك صبري، ويقول عرابي في مذكراته: إنهم لم يكونوا يزيدون عن ستة مئة.
وكان بالمدينة من قوات الجيش اثنا عشر ألفا من المشاة؛ وقد أصدر عرابي تعليماته إلى صبري في ليلة 10 يوليو، وأعلمه أن مجلس الوزراء قرر ألا تجيب الحصون إلا بعد الضربة الخامسة من الأسطول؛ ووزع صبري ضباطه على الحصون استعدادا للمعركة ، ووزع عرابي حامية المدينة وراء الحصون من قلعة العجمي إلى برج السلسلة، وعهد إلى أورطتين من المشاة بالمراسلة بين الحصون.
وأجابت الحصون بعد خمس دقائق من ابتداء الضرب، واستمات آلاي السواحل في الدفاع، وأبدى همة ونشاطا وحماسة وطنية شهد بها كثير من الأجانب، وذلك على الرغم من عنف المدافع الإنجليزية وشدة فتكها وعظم تدميرها، ومهارة السفن الإنجليزية في الاقتراب والابتعاد، والاعتصام بدخان كثيف أثناء الضرب، وشباك قوية من الفولاذ كانت ترد عنها قذائف الحصون.
واستمر الضرب من الجانبين حتى الساعة الحادية عشرة، وكانت قذائف الإنجليز تلقي النار والدمار على المدينة في شدة مروعة، وسكتت السفن قليلا، ثم استأنفت الضرب وجاوبتها الحصون حتى الساعة الثانية بعد الظهر، واستأنف الأسطول الضرب في شدة وظلت تجاوبه الحصون حتى منتصف الساعة السادسة. ثم أظلم الليل وقد سكتت الحصون فلن تجيب بعد ذلك. فقد دمرتها مدافع الأسطول تدميرا ... وتهدمت في المدينة أبنية كثيرة ومساكن واحترق بعضها، وقد هجرها كثير من أهلها منذ بدأ الضرب في هرولة ورعب.
مدافع الإنجليز تهدم الإسكندرية (ميدان المنشية).
وقف المصريون وإن حلت بهم الهزيمة موقف الكرامة والبطولة فبذلوا غاية ما في طوقهم، ولطالما ألقي في روع الناس أن مصر لم تجاهد حين اعتدي عليها، مع أن المصريين من الجند ومن أهالي الإسكندرية أثبتوا شجاعتهم في هذا اليوم وفي الأيام التي جاءت بعده وتطلبت دفاعا وإباء، قال جون نينيه وقد شهد هذا اليوم: «ولا يسعنا إلا أن نعترف بأنها كانت مجزرة وحشية لا موجب لها ولا مسوغ، ولم يكن الباعث عليها إلا الشهوة الوحشية المتعطشة للدماء، وكنت أتوق إلى أن أسأل أولئك الذين كانوا يضربون، ويطلقون مدافعهم هل يستطيعون حين يعودون إلى بلادهم، ويتحلقون حول موائد الشاي في بيوتهم أن يتحدثوا إلى ذويهم عما فعلته تلك المجازر البشرية من الفتك والتخريب؟ إني لفي شك من ذلك، فأية إهانة لحقت الأمة البريطانية حتى تثأر من مصر على هذه الصورة الفظيعة؟ ومع ذلك فما كان أروع منظر الرماة المصريين الذين كانوا خلف مدافعهم المكشوفة، كأنما هم في استعراض حربي لا يخافون الموت الذي يحيط بهم، وكانت معظم الحصون بلا حواجز تقيها ولا متاريس، ومع هذا فقد كنا نلمح هؤلاء البواسل من أبناء النيل خلال الدخان الكثيف، وكأنهم أرواح الأبطال الذين سقطوا في حومة الموت قد بعثوا ليناضلوا العدو ويواجهوا نيران مدافعه. وكان القادة يزورون الحصون ويستحثون الرجال، وقد أدى الجميع واجبهم رجالا ونساء، كبارا وصغارا، ولم تكن ثمة أوسمة أو مكافآت يستحث أولئك الفلاحين على أداء واجبهم. وإنما كانت تثير الحماسة في نفوسهم عاطفة الوطنية والثورة على ما استهدفوا له من فظائع، وهم في مواقفهم البواسل المجهولون الذين لم يفكر أحد فيما تحملوا من آلام».
وقال الشيخ محمد عبده: «تحت مطر الكلل ونيران المدافع كان الرجال والنساء من أهالي الإسكندرية، هم الذين ينقلون الذخائر ويقدمونها إلى بعض بقايا الطوبجية الذين كانوا يضربونها، وكانوا يغنون بلعن الأدميرال ومن أرسله».
مدافع الإنجليز تدمر الإسكندرية (شارع جامع إبراهيم).
وفي اليوم التالي عادت السفن إلى الضرب في الساعة العاشرة. وكان مجلس الوزراء قد اجتمع في اليوم السابق، وقرر إبلاغ سيمور أن ما كان يطلبه قد تحقق له بتهديم الحصون، فلا داعي بعد ذلك للضرب وليس بين إنجلترة ومصر ما يستوجب العدوان، وقرر أن ترفع الأعلام البيضاء لطلب الهدنة توطئة للمفاوضة. وقد تم ذلك بعد أن استؤنف الضرب.
ولكن سيمور طلب الترخيص له بإنزال جند من بحارة السفن؛ لاحتلال ثلاث قلاع هي العجمي والدخيلة والمكس. وعرض هذا الطلب على الخديو، ولكنه لم يجرؤ على قبول هذا الطلب، ثم إنه كان لا بد له أن يرجع إلى السلطان؛ لأنه لا يملك التنازل عن أي جزء من الأراضي المصرية.
واستأنفت السفن الضرب في الساعة الرابعة، ثم رفعت الراية البيضاء ثانية على بعض الطوابي فسكتت السفن. وقد بلغ عدد الضحايا من المصريين نحو ألفين غير من جرحوا، أما الإنجليز فلم يزد قتلاهم على خمسة وجرحاهم على تسعة عشر.
وأما المدينة التي كانت تراوحها نسائم البحر الندية، وتغاديها فقد اندلعت فيها ألسنة النيران في صورة مروعة كأن الجحيم كانت تزفر عليها بنارها، وقد لبثت النار بها بضعة أيام، وظلت سحب الدخان تتراكم وتنعقد فوق شوارعها الموحشة المتهدمة، وخيمت الكآبة على ذلك الثغر الذي انطفأت بسمته أياما طويلة نتيجة لعدوان سيمور.
ولقد ذهبت الآراء عدة مذاهب بشأن هذا الحريق، وقد حاول الإنجليز أن يعزوه إلى عرابي كما عزوا إليه من قبل مذبحة الإسكندرية التي اقترفوها، وذهب جون نينيه إلى أن النيران كانت من فعل قذائف الأسطول في الغالب، وإن كانت عدة عناصر في رأيه اشتركت في هذا الحريق، منها بعض الأوروبيين الذين بقوا في المدينة بقصد النهب، ومنها بعض الأروام والمالطيين من أصحاب الدكاكين؛ كي يطلبوا بعد ذلك تعويضا كبيرا، ومنها بعض البدو من قبيلة أولاد علي.
ويقول الشيخ محمد عبده: «بين من حرقوا الإسكندرية أروام بلباس عرب رؤيت جثثهم بتلك الثياب أثناء الحريق، ومنهم عربان من أولاد علي ممن كانوا على صلة بالخديو، ومنهم أوروبيون بقصد المبالغة في التعويضات».
وهناك من يذهب إلى أن سليمان سامي داود قائد الآلاي السادس هو الذي أمر جنوده بإضرام النار في المدينة، كعمل يقتضيه الدفاع إذا أراد أن يعرقل به نزول الإنجليز إلى البر. أو لعله فعل ذلك بدافع الغيظ من عزم الإنجليز على دخول المدينة، ومهما يكن من الأمر، فمن الخطأ أن يرد الحريق إلى سبب واحد من الأسباب التي ذكرت، والمعقول أن تسببه هذه العناصر جميعا وبخاصة قذائف الأسطول.
مدافع الإنجليز تحرق الإسكندرية (شارع شريف).
وغادر عرابي وقواده وجنوده المدينة ليتخذوا ما يلزم من عدة للدفاع عن البلاد.
وكان الخديو مقيما في سراي الرمل أثناء الضرب ليبعد عن الخطر، وفي يوم 13 يوليه شاور الخديو من كان معه من الأمراء والأعيان ماذا يعمل إذا احتل الإنجليز الإسكندرية، فلم يرض أحد أن يبقى بها، وأشار عليه درويش باشا بالسفر إلى بنها ثم إلى السويس، وأشار غيره بالذهاب إلى العاصمة فما يليق بحاكم البلاد أن يظل مقيما في بلد تقع في يد أعدائه.
ولكن الخديو كان قد عقد العزم على الالتجاء إلى الإنجليز. وهذا من أخطر الحوادث في تاريخ هذه الثورة؛ لأن الإنجليز سيزعمون أنهم يدافعون عن سلطته الشرعية ضد الثائرين.
وفاجأ الخديو الحاضرين بقوله: «إن أهم الأمور أن نجعل الأدميرال سيمور على علم بأمرنا إذا أمكن ذلك».
وفي نفس اليوم أرسل توفيق إلى سيمور يخبره أنه اعتزم الحضور إلى سراي رأس التين، وبلغ توفيق السراي في الساعة الرابعة بعد الظهر، ومعه أسرته وحاشيته ودرويش باشا فإذا به يرى الحرس ببابها من الجنود البريطانيين، وإذا بسيمور يتلقاه في ساحتها يحيط به كبار رجاله، ولقد هنأوا الخديو بسلامته، كما هنأه قناصل الدول، ودخل توفيق القصر وحرسه اليوم من البريطانيين.
وفي 14 يوليه أبرق سيمور إلى حكومته يقول: «لقد احتلت رأس التين ووضعنا فيها بحارة ومدفعية كما وضعنا ست بطاريات تواجهها. لا تزال الإسكندرية تحترق، ولكني أرفع الأنقاض من الشوارع، والخديو سالم في قصره يحرسه 700 من البحارة». ومعنى ذلك أن الخديو أصبح نهائيا تحت حماية الإنجليز، ولم يعد يبالي بالسلطان ولا بمندوب السلطان.
وتوالى نزول الإنجليز إلى المدينة يوم 15 يوليه توطئة لاحتلال البلاد، وإذا كان الإنجليز قد ضربوا قلاع الشواطئ؛ لأنها كانت تهدد سفنهم كما زعموا، ففيم نزولهم بعد ذلك إلى المدينة؟
الأمة تقاوم الاحتلال
انسحبت حامية الإسكندرية لتتخذ مكانا حصينا؛ وذلك لإقامة خطوط للدفاع عن داخل البلاد، وقد اختارت جهة كفر الدوار موطنا لهذا الدفاع.
وهكذا ينتقل تاريخ الثورة القومية إلى طور جديد، هو الحرب بين هذه الثورة وبين الطامعين المستعمرين من الإنجليز.
ولم يكن أمام مصر في الواقع إلا أن تختار إحدى سبيلين: التسليم طائعة مختارة للإنجليز ليقضوا على نهضتها القومية الحرة، أو الحرب التي تبذل فيها الأنفس والأموال والتي تتنهي إما إلى نصر يتحقق به كل شيء، وإما إلى هزيمة تذهب بكل شيء إلا الشرف والكرامة.
وقد اختارت مصر السبيل الثانية تحت زعامة عرابي، وتركت للخديو السبيل الأولى. وما كان لعرابي وأصحابه أن يفعلوا غير ما فعلوا، وإلا فقد كانت حركتهم إذن من أول الأمر هزوا ولعبا .
تنكر راغب باشا رئيس الوزراء كما تنكر الخديو للحركة القومية، فأرسل في 17 يوليه إلى سيمور يقول: «لي الشرف أن أعلن لحضرتكم أن عرابي يشتغل الآن بإعداد وسائل الدفاع، وذلك مخافة لأوامر الجناب الخديوي، وقد صدر له الأمر بالكف عن هذه التجهيزات، فكونوا إذن على علم بأن الجناب الخديوي عزم على عزله من وظيفته فهو لذلك وحده المسئول عما يحدث، فأرجوكم أن تعلنوا مآل هذه الرسالة إلى حكومة جلالة الملكة».
وأرسل توفيق إلى عرابي بكفر الدوار يدعوه إلى الإسكندرية، ومن عجيب أمر توفيق الذي وافق بالأمس على أن ترد الحصون على السفن إذا ضربت المدينة، أنه يقول في رسالته هذه إن ضرب المدينة «إنما كان السبب فيه استمرار الأعمال التي كانت جارية بالطوابي، وتركيب المدافع التي كلما كان يصير الاستفهام عنها كان يصير إخفاؤها وإنكارها».
وكانت دعوة عرابي إلى الإسكندرية خدعة للقبض عليه. أرسل كارتريت في 15 يوليه إلى حكومته برقية جاء فيها: «أبرق عرابي باشا هذا الصباح من كفر الدوار إلى الخديو يقول إنه سوف يسر سموه أن يعلم أن الرديف قادمون؛ ليعينوه في محاربة الإنجليز وأجاب الخديو بدعوته إلى هنا. إذا حضر فسيقبض عليه وإذا رفض فسيعلن عصيانه وخروجه على القانون».
ورد عرابي على توفيق يقول إن البلاد في حالة حرب مع إنجلترة، وأنه إذا جلا الإنجليز عن الإسكندرية فإنه لا يتردد عن الحضور، وإلا فواجب الحكومة أن تأخذ الأهبة لصدهم عن البلاد.
وفطن عرابي إلى أن توفيقا سوف يصدر قرارات ضده تذيع الانقسام في البلاد، فبادر هو بإحباط ذلك قبل وقوعه، فأرسل إلى جميع المديريات والمحافظات يعلن للناس فيها انضمام الخديو إلى الإنجليز، ويحذرهم من اتباع أوامره ويدعوهم إلى الاستعداد وجمع ما يلزم للقتال، وكذلك أرسل يحذر من راغب قائلا: «إن ما يأتي من رئيس الوزراء من البرقيات بطلب الكف عن الاستعداد، إنما هو مجبر عليه فلا طاعة له».
وأرسل رسالة خطيرة في 17 يوليو إلى يعقوب سامي باشا وكيل وزارة الجهادية بالقاهرة، يعلن إليه فيها خيانة الخديو، وأنه سبب ما نزل بها من الكوارث ويدعوه إلى عقد جمعية من الكبراء والعلماء للنظر في الأمر، وإصدار قرار بشأن الخديو وفيما يجب عمله لصالح الأمة وتقرير مدى «صلاحية هذا الوالي عليها».
وقد اهتم الإنجليز بأنباء هذه الاتصالات وغاظهم أن يسبقهم عرابي إلى ما أرادوا أن يحاربوه به، وأبرق كارتريت في 21 يوليو إلى حكومته يقص عليها ذلك، فجاءته برقية في نفس اليوم هذا نصها: «بالنظر إلى لهجة عرابي باشا في بلاغاته التي ذكرتها لي في برقيتك اليوم رأيت أن أوجهك بشدة إلى أن تؤثر على الخديو بضرورة إصدار بلاغات مضادة من جانبه إلى الشعب المصري، وأن تخبر سموه بأن حكومة جلالة الملكة تعد العدة لإرسال قوة كبيرة إلى البحر الأبيض المتوسط».
وقد جمع يعقوب سامي عند وصول برقية عرابي عددا من أنصاره وكان من المتحمسين لعرابي، فاستقر رأيهم على دعوة مجلس من وكلاء الوزارات، وبعض كبار الضباط وكبار الموظفين، وقد انعقد هذا المجلس وعرف باسم المجلس العرفي، وسيبقى يدير شؤون الحرب والإدارة طول مدة القتال.
وقرر المجلس العرفي في نفس اليوم دعوة جمعية عمومية. وقد انعقدت هذه الجمعية في المساء في وزارة الداخلية، وشهد هذا الاجتماع الخطير نحو أربعة مئة كان بينهم الأمراء الموجودون بالقاهرة ورؤساء الأديان، وفي مقدمتهم الشيخ الإنبابي شيخ الإسلام، ثم كبار العلماء وقاضي قضاة مصر ومفتي الديار المصرية والنواب، ووكلاء الوزارات والقضاة وكبار الأعيان والتجار.
وقد اتخذت الجمعية بعد التشاور في الأمر قرارا خطيرا يدل على قوة روح الأمة، وعلى أن نهضتها حقيقية. ومؤداه أن تعد الأمة العدة للقتال ما دامت سفن الإنجليز في الشواطئ المصرية وجنودهم في الإسكندرية، كما قررت استدعاء الوزراء إلى القاهرة، وأوفدت لجنة من أعضائها للسفر إلى الإسكندرية لإبلاغ الوزراء قرار الجمعية.
ولما بلغ توفيقا هذا القرار أصدر أمره بعزل عرابي من وزارة الجهادية، وعده وحده مسئولا عما يحدث لإصراره على الاستعداد للحرب، ورفضه الحضور إلى الإسكندرية.
ولم يكتف توفيق بذلك بل إنه مع الأسف الشديد كان قد أرسل منذ يومين يستعدي الإنجليز صراحة على بلاده. أبرق كارتريت في 19 يوليو إلى حكومته يقول: «أرسل الخديو في طلب سير أوكلند كلڨن صباح اليوم، وطلب إليه أن يستحث حكومة جلالة الملك لتخطو خطوة جديدة بلا إبطاء. ويقول سموه: إنه من ناحية يرى أن هذا العمل ضروري جدا وأنه يسر سموه إذا أحيط علما بالخطوات التي ينظر فيها، وقد وصف سموه قوة عرابي باشا بأنها الآن بلغت من العظمة حدا ينشر الرعب في عقول الوطنيين جميعا. ومن ناحية أخرى فإن هناك إشاعة مستفيضة بأن إنجلترة سوف يحال بينها وبين خططها بسبب الخلاف بينها وبين الدول، وستكون عاقبة هذا أن يصبح من الصعب على سموه أن يحتفظ بمن يشايعونه متحدين».
لم تحفل الأمة بأمر توفيق القاضي بعزل عرابي، بل لقد زادها ذلك استمساكا به والتفافا حوله؛ لأن الناس باتوا لا يطيقون اسم توفيق، بينما كانوا يرون في عرابي المدافع عن كيان البلاد، وأضاف الناس إلى ألقاب عرابي لقبا جديدا هو «حامي حمى الديار المصرية»، وهذا ما خاطبته به الجمعية العامة.
وفي يوم 22 يوليو عقدت الجمعية جلسة أخرى، وكان اجتماعا قوميا أعظم وأشمل من الاجتماع السابق. فقد كان أشبه بمؤتمر وطني عام شهده نحو خمسة مئة من كبار المصريين وفي مقدمتهم الأمراء ورجال الدين، وقد انضم إلى الجمعية هذه المرة رؤساء العشائر من الأقاليم، فكانت بذلك تمثل الأمة المصرية أصدق تمثيل.
وقد تليت في الاجتماع فتوى شرعية من بعض العلماء مؤادها أن الخديو بانحيازه إلى العدو المحارب لبلاده يعد مارقا عن الدين.
ثم تداول المجتمعون في الموقف الحربي، وانتهوا إلى قرار بالغ الخطورة أجمعوا عليه، وذلك هو عدم الاعتراف بعزل عرابي باشا من نظارة الجهادية والبحرية، ووجوب استمراره للدفاع عن البلاد، وكذلك قرر المؤتمر عدم إطاعة أوامر الوزارة.
وهذان القراران في الواقع مضافا إليهما فتوى مروق الخديو من الدين هو بمثابة خلع توفيق من منصبه بإرادة الأمة. وإن في تكوين هذا المؤتمر الوطني على هذه الصورة، وفيما قرره لأبلغ رد على الذين يزعمون أن الثورة العرابية ما كانت إلا فتنة عسكرية لم تؤيدها الأمة، وأي تأييد أعظم من أن تقول الأمة بجميع طوائفها قولها الفاصل في موقف من أعظم مواقف الثورة، موقف الجهاد والذود عن كيان البلاد تحت راية زعيم الثورة أحمد عرابي؟
عين عرابي باشا محمود فهمي رئيسا لهيئة أركان حرب الجيش المصري، وكان من أكفأ رجال الهندسة الحربية في مصر. تخرج في مدرسة المهندسخانة ونبغ في الفنون الهندسية، ثم عين أستاذا لعلم بناء الاستحكامات في المدارس الحربية، وقد اشترك في حرب البلقان التي نشبت بين تركيا وروسيا سنة 1876 واكتسب خبرة عملية.
وقد وضع هذا المهندس الكبير خطة حكيمة للدفاع عن مصر كانت كفيلة بأن تصد الإنجليز، وتنقذ مصر من تدبيرهم وسوء مكرهم، لولا عوامل الدس والخيانة.
عين فهمي باشا خمسة مواقع رئيسية للدفاع، أولها في كفر الدوار، وثانيها في رشيد وثالثها بين رشيد وبحيرة البرلس، ورابعها في دمياط، وخامسها في الصالحية والتل الكبير، وكان الغرض من الموقع الأخير تحاشي هجوم الإنجليز من الناحية الشرقية لمصر.
وقد سد محمود باشا ترعة المحمودية بالقرب من كنج عثمان، ووضع المدافع على السد لحمايته، كما أنه وضع في خطته سد ترعة الإسماعيلية لمنع المياه العذبة عن الإسماعيلية والسويس وبورسعيد عند اللزوم، وسد قناة السويس نفسها لمنع اتخاذها قاعدة عسكرية للإنجليز.
ومن الصحائف المشرفة لمصر حقا تبرع البلاد لهذه الحرب، فإنه قل أن تجد في تاريخ الحروب حربا كهذه لم ينفق فيها قرش واحد من خزانة الدولة، بل قامت على ما بذل الشعب المصري طائعا من أقواته وأمواله لجيشه الباسل. فلقد أخذ مستر كلڨن جميع الأموال من الخزانة، ووضعها لدى الإنجليز في الإسكندرية.
محمود فهمي باشا رئيس هيئة أركان حرب الجيش المصري.
وكانت حماسة الأمة للتبرع عظيمة قال عرابي: «جادت الأمة على اختلاف مذاهبها ونحلها بالمال والغلال، والدواب والفاكهة والخضروات، حتى حطب الحريق ... وذلك فضلا عما مدوا به الجيش من الأقمشة والأربطة اللازمة لتضميد جراح العساكر، ومن الأهالي من تبرع بنصف ما يملكه من الغلال والمواشي، ومنهم من خرج عن جميع مقتنياته، ومنهم من عرض أولاده للدفاع عن الوطن لعدم قدرته على الدفاع بنفسه».
وقال الشيخ محمد عبده: «هل يقدر أحد أن يشك في كون جهادنا وطنيا صرفا بعد أن آزره رجال من جميع الأجناس والأديان؟ وقد تبرع الأعيان والأمراء والعلماء حتى النساء بالخيل والحبوب والنقود والميرة اللازمة للجيش، وأظهر المديرون والموظفون على اختلاف مراتبهم، والكتبة، غيرة وحمية في جميع الميرة المطلوبة وحشد المتطوعة للجيش ولسائر الأشغال العسكرية، وقد رأيت الناس من فلاحين وبدو ذاهبين إلى الحرب برضاهم واختيارهم متشوقين لمقاتلة الإنجليز، وقد شمل هذا الحماس الأقباط وكان يشجعهم على ذلك رؤساؤهم».
وقال نينيه: «كانت ترد كل يوم إلى كفر الدوار إعانات الشعب من المال والقمح والشعير والفول والسمن والخضر والفاكهة والخيل والماشية، وقد أبدى أعيان الوجهين البحري والقبلي شهامة عظيمة في إمداد الجيش».
ومع هذه النخوة العظيمة من جانب الأمة درج بعض المؤرخين على أن يصفوا هذه الحركة الوطنية المشرفة، بأنها كانت فتنة عسكرية طائشة جرت إلى احتلال مصر، وعذر هؤلاء المؤرخين - إن صح هذا عذرا - أنهم كانوا يأخذون عن كتاب الإحتلال.
عبد الله نديم
وقد تجلت حماسة الأمة كذلك للثورة والجهاد فيما ألقاه نفر من أبنائها من الخطب، وما كتبوه من المقالات وما نظموه من الشعر، وكلها ناطقة بأنها حركة صادقة قوية جديرة بكل ثناء وإعجاب، ومن زعماء الخطباء والكتاب الشيخ محمد عبده وعبد الله نديم والشيخ خليل الهجرسي.
في الميدان الغربي - كفر الدوار
كانت قيادة كفر الدوار لطلبة عصمت تحت إمرة عرابي. وكان عدد الجيش هناك نحو عشرة آلاف، وكانت خطوط الدفاع في هذا الميدان ثلاثة، يبعد كل واحد عن الذي يليه بأربعة أو خمسة آلاف متر، وكان بين كل خطين خندق عمقه خمسة عشر قدما، وبنيت على جميع المرتفعات الصالحة قلاع وضع فيها نحو خمسين مدفعا، وقد عمل في بناء هذه الاستحكامات مع الجيش نحو خمسة آلاف رجل من أهالي البحيرة والغربية والمنوفية.
وأقام عرابي خيمته عند كنج عثمان، وجعل هذا المكان المركز العام للقيادة وكانت هذه الخيمة خيمة سعيد باشا نفسه، قدمتها أرملته هدية مشفوعة بأصدق أمانيها أن يؤيده الله بنصره.
كان أول عمل من جانب المصريين هو سد ترعة المحمودية لمنع المياه العذبة عن الإسكندرية، ولقد انزعج الإنجليز من هذا العمل وأخذتهم منه حيرة، وخافوا أن يهاجر الوطنيون إلى داخل البلاد وأن يلجأ الأوروبيون للسفن؛ ليشربوا من ماء الأسطول وبقي الحال على ذلك بقية شهر يوليو، وإنجلترة تعد العدة لحملتها على الرغم من مؤتمر الآستانة وتعهداتها فيه.
وفي 5 أغسطس هجم الإنجليز قبل أن تأتي حملتهم، على كفر الدوار، فزحفوا من الرمل في نحو ألفي مقاتل، حتى صاروا على مقربة من الخطوط المصرية فحمل المصريون عليهم حملة قوية، اضطرتهم إلى التقهقر بعد ثلاث ساعات فعادوا إلى الإسكندرية.
وجدد الإنجليز هجومهم في اليوم التالي، واستمرت المعركة بينهم وبين المصريين ست ساعات، ثم اختلط الجيشان وتقاتلا بالسلاح الأبيض، وارتد الإنجليز مهزومين إلى الإسكندرية، وتبعهم المصريون حتى حجبهم الظلام عنهم.
وزخرت كفر الدوار بالوفود من المصريين يشدون أزر عرابي ويقدمون له تبرعاتهم، أما توفيق فقد أصدر بلاغا عقب المعركتين يحذر فيه المصريين من مشايعة عرابي، ورماه فيه بالثورة والعصيان، وتوعد كل من يشايعه بعقاب شديد.
وفي 13 أغسطس وصل إلى الإسكندرية سير جارنت ولسلي قائد الحملة الإنجليزية، وبدأت إنجلترة تحقق حلمها الذي أخذ يساورها منذ رحل نابليون عن مصر، وكان عدد الحملة الإنجليزية نحو أربعين ألفا من الفرسان والمشاة والمدفعية، وذلك عدا تسعة آلاف من الهنود جاءوا عن طريق السويس.
وفي 19 أغسطس أذاع ولسلي بلاغا جاء فيه أنه «بأمر الحضرة الخديوية يعلن الجنرال قائد الجيوش الإنجليزية، بأن مقاصد الدولة البريطانية ليست إلا لتأييد سلطة الخديو؛ ولردع العصاة والقضاء على الفتن، ولا مقصد لإنجلترة في غزو أو فتح».
وهجم الإنجليز في نفس اليوم على كفر الدوار، وزحفوا هذه المرة بقوات كبيرة نقلتها القطارات المسلحة من جهة القباري، وأعانتها قوات أخرى من جهة الرمل، والتحم الجيشان ودارت معركة كبيرة، كاد يظهر فيها المصريون على الإنجليز، وارتد الإنجليز إلى الإسكندرية وكانت خسائرهم كثيرة.
ثم أعاد الإنجليز الكرة أياما ثلاثة متوالية، كانت تنشب فيها المعارك حامية بينهم وبين المصريين، والمصريون يردونهم كل يوم إلى الإسكندرية بعد دفاع قوي مجيد.
وهكذا كانت وقائع كفر الدوار أو الميدان الغربي سجلا مجيدا لحرب الثورة، وحسب المصريين فخرا هذا الثبات الذي لم يكن يتوقعه الإنجليز من هؤلاء الذين سموهم العصاة.
ورد توفيق على هذه الجهود الوطنية ببلاغ جعل عنوانه: «إلى جميع أهالي وسكان القطر المصري»، وقد جاء فيه: «ليس خافيا ما أقدم عليه أحمد عرابي وشيعته الضالة من الأفعال المغايرة، والتشبثات الفوضوية التي أخلت بنظام القطر وأضعفت الثقة به، ... ولما كانت الدولة البريطانية الإنجليزية لها فيه المنافع الكبرى، ولا سيما بالنظر إلى ترعة السويس التي هي طريقها الوحيد للخطة الهندية المهمة؛ فقد أخذت على عهدتها وتحت إمرتها التداخل الفعلي لقمع هؤلاء المفسدين ومحو آثار الفتن ... وبما أن العساكر الإنجليزية يعدون في هذه الحالة نائبين عنا في قطع دابر المفسدين وتطهير البلاد منهم؛ ومن كانت هذه صفتهم فإنهم جديرون بالمعاونة والمساعدة».
وأصدر توفيق كذلك منشورا إلى ضباط الجيش وعساكره، يدعوهم فيه إلى طاعة ولسلي وأوامره كما لو كانت صادرة منه «فمن يخضع له، فكأنه خضع لنا شخصيا ومن خالفه كان عاصيا لنا ويعامل معاملة العصاة».
في الميدان الشرقي
لما أيقن الإنجليز بعد خمسة أسابيع من بدء هجومهم على كفر الدوار أن اختراق هذا الموقف من الأمور العسيرة، صمموا على مهاجمة مصر من الجهة الشرقية، ولقد دارت في هذا الميدان الشرقي معارك في مجال أوسع، وفي أعداد أكبر مما كان في الميدان الغربي، وفي تاريخ هذه المعارك الشرقية صفحات مجيدة مشرفة يطرب لها كل مصري وصفحات مخجلة مظلمة، يندى لها جبين كل وطني.
وقبل أن نذكر ما فعل المصريون في هذا الميدان، يجدر بنا أن نوضح مسألة طالما ساقها المغرضون من المؤرخين والجاهلون مساق الحقائق المقررة، مع بعدها كل البعد عن الحق، وتلك هي أن دي ليسبس خدع عرابيا فلم يردم قناة السويس، وبذلك سهل على الإنجليز الدخول.
أما عن بعد هذه المسألة عن الحق، فيكفي في هذا المجال أن نقول: إن دي ليسبس لم يخادع عرابيا قط، وإنه كان جادا في المحافظة على حيدة القناة، تجد أدلة ذلك فيما يأتي:
في 4 أغسطس أبرق وزير الخارجية البريطانية إلى سفير إنجلترة في فرنسا يشكو من دي ليسبس قائلا: «أرغب في أن تبسط للحكومة الفرنسية أن حكومة جلالة الملكة، وصل إلى علمها أن المسيو دي ليسبس يعارض معارضة قوية في أعمال حكومة جلالة الملكة في مصر، وذلك بتهديده بتعطيل قناة السويس، إذا أنزلت جنود بريطانية في أي مكان بالقناة أو على مقربة منها».
ويقول الأستاذ الإمام محمد عبده: «وبعد واقعة مهمة في كفر الدوار جاء الخبر عقبها بأن اثنين وثلاثين مركبا، توجهت إلى القناة فورد تلغراف من دي ليسبس يقول: لا تسرع في شيء يمس القناة، لا يمر عسكري إنجليزي إلا ومعه فرنساوي، أنا مسئول عن كل ما يحصل. فأجيب بأن هذا غير كاف وتقرر إرسال جيش، ثم أرسل الجواب ببطء، وقبل أن يتحرك عسكري إلى ناحية القناة، كان الجيش الفرنساوي قد احتله؛ وذلك لتأخر الجيش 15 ساعة في مخابرة دي ليسبس»، ويقول جون نينيه: «وقد وقع نزاع خطير في فرنسا حول الدفاع عن قناة السويس؛ وذلك لكي يبر دي ليسبس بما وعده به عرابيا، فإنه تعهد لزعيم الثورة المصرية وقائد الجيش المصري بأن تقاوم قوة حربية إلى جانبه إذا أنزلت إنجلترة جنودها في الإسماعيلية، أو اعتدت على حيدة القناة الدولية ... ولم يكن دي ليسبس كاذبا، ولكن السياسة عرضته للكذب، فقد تقدم مسيو دي فرسنيه إلى المجلس التشريعي بفتح اعتماد لإعداد الحملة الحربية للدفاع عن القناة، ولكنه استقال في أول أغسطس سنة 1882».
أما رد عرابي على دي ليسبس فهو «لما كنت أحترم حيدة القناة احتراما كليا، وبخاصة لاعتبار أنها عمل من الأعمال العظيمة؛ ولأن اسم سعادتكم سيقترن بها في التاريخ، فإنني أتشرف بإخباركم أن الحكومة المصرية سوف لا تعتدي على هذه الحيدة إلا عند الضرورة القصوى، وفي حالة ما إذا ارتكب الإنجليز بعض الأعمال العدائية في الإسماعيلية وبور سعيد أو في أي جزء آخر من القناة».
وقد ذكرنا أن ردم القناة كان من الخطط التي وضعها محمود باشا فهمي للدفاع. فلم يكن في المسألة إذن خداع وإنما هي مسألة وقت، ولم يتسع الوقت لهذا العمل الذي يحتاج إلى جهود جبارة، وذلك أن الإنجليز ما كادوا يفرغون من ضرب الإسكندرية حتى اتجهوا إلى حماية القناة، وكان على عرابي أن ينشئ خطوط كفر الدوار؛ ليصد الإنجليز الذين دخلوا الإسكندرية فعلا، فإذا ذكرنا أنهم فرغوا من ضرب الإسكندرية في 12 يوليه، وأنهم سيطروا على مدخل القناة قبل نهاية الشهر وأخلوا السويس في 2 يوليه، إذا ذكرنا ذلك أدركنا مقدار ما كان يواجهه عرابي ورجاله من صعوبة إذا هم أقدموا على عمل جبار كردم قناة السويس، ويجب أن نذكر كذلك أنه ما دام أن عرابي كان وزيرا في وزارة يملك الخديو إسقاطها في أي وقت، وما دام أن الخديو كان في صف الإنجليز، فلم يكن ليستطيع عرابي أن يبادر بهذا العمل، وقد رأينا موقف الإنجليز في أقصوصة تحصين شواطئ الإسكندرية.
أهم المعارك في الميدانين الغربي والشرقي.
الحرب في الميدان الشرقي
استعان الإنجليز والخديو في هذا الميدان بالرشوة، فاشتروا ذمم بعض رؤساء البدو، وبعض الضباط المصريين مع عظيم الأسف. وكان من أعوان الإنجليز وتوفيق في الاستعانة بالرشوة إنجليزيان هما پالمر وچل، ومصري هو سلطان باشا. أما پالمر فكانت منطقة عمله شرقي القناة، وكان من قبل أستاذ اللغات الشرقية في جامعة كمبردچ، وكان له إلمام بهذه المنطقة؛ لأنه كان عضوا في جمعية كشف فلسطين، وقد اتصل بالبدو من قبيلتي الطياحة والطرابين قبل مجيء الحملة إلى السويس، وقد أقبلوا عليه إذ كان يسمعهم الشعر العربي، وقد شهد احتلال السويس، ثم خرج ثانية إلى الصحراء ليستعين بالبدو على التجسس، ولكنه لم يلبث أن قتل طمعا فيما كان معه من المال.
وأما چل فكان نشاطه غربي القناة وقد اتصل باثنين من أكبر مشايخ البدو وهما سعود الطحاوي في الصالحية، ومحمد البقلي في وادي الطميلات، وسوف يكون لتجسس الطحاوي أثر كبير في هزيمة المصريين كما سنرى.
وأما سلطان فقد كان يرافق الجيش الإنجليزي نائبا عن توفيق، فقد أصدر الخديو أمره بتعيينه نائبا عنه؛ لمرافقة الجنرال ولسلي في زحفه على العاصمة.
قال الشيخ محمد عبده في مذكراته: «مركز الدسائس والمخابرات كان في الإسكندرية، اجتمع فيه كثير من الإنجليز من موظفي الحكومة المصرية ومن المقيمين بمصر، وكان روح الجميع سلطان باشا ... أخذ في توزيع النقود باسم الخديو، واختار لبث الأفكار الحاوي الطحاوي أحد ثقاة عرابي».
أما من اشتراهم سلطان بالمال، فمن أشهرهم غير سعيد الطحاوي علي يوسف الشهير بخنفس، قائد قلب الجيش المصري، وعبد الرحمن حسن قائد فرقة الاستطلاع السواري، وراغب ناشد قائمقام في المقدمة، ولسوف يكافأ سلطان الذي كان من قبل أحد زعماء الوطنيين، بعد انتهاء الحرب، بلقب السير من الإنجليز وبعشرة آلاف جنيه من الخديو».
في 20 أغسطس اقتحمت السفن الإنجليزية قناة السويس، وهم الجيش المصري بتعطيل الملاحة في القناة، ولكن قوارب الإنجليز كانت تصلي العمال نيران مدافعها فيولون مبتعدين. ولم يتسن للمصريين إلا سد الترعة العذبة، فمنعوا الماء عن السويس والإسماعيلية.
وبلغ ولسلي الإسماعيلية في 21 أغسطس. وبدأ يعد العدة للزحف على الصحراء وفي نفس اليوم وصلت القوات الهندية إلى السويس؛ وفي الثالث والعشرين من أغسطس التحم الإنجليز والمصريون في نفيشة، وبعد قتال شديد ارتد المصريون عن نفيشة، وكانت تبعد نحو ثلاثة مئة كيلو مترات عن الإسماعيلية فاحتلها الإنجليز، وفي اليوم التالي استولى الإنجليز على موضع سد الترعة وكان يسمى المجفر.
ودارت معركة عنيفة بين الجيشين في المسخوطة بعد يومين، وقد أبلى الفريق راشد باشا حسني قائد المعركة بلاء حسنا، ولكن تكاثر الإنجليز اضطره إلى الانسحاب، وقد منى الدفاع الوطني بخسارة كبرى في هذه الموقعة إذ أسر محمود باشا فهمي رئيس أركان حرب الجيش. وفي نفس اليوم استولى الإنجليز على المحسمة، وكانت خسائر المصريين فيها سبعة مدافع وكمية كبيرة من البنادق وقطارا محملا بالذخيرة.
ودخل الإنجليز القصاصين، بعد مناوشة صغيرة، فأصبحوا على خمسة عشرة كيلو مترا من التل الكبير . وحضر عرابي إلى الميدان الشرقي فاتخذ المصريون خطة الهجوم.
وفي الثامن والعشرين من أغسطس تهيأ الجيش المصري للهجوم بقيادة راشد باشا حسني، بعد أن وضعت خطة محكمة، وكان عدد المصريين ثلاثة عشر ألفا من الجنود النظامية.
وهجم المصريون على مواقع الإنجليز، ودار قتال شديد جدا وتحمس المصريون، وقد تذكروا المبادئ التي يحاربون من أجلها عدوهم المغتصب، واستطاعوا أن يجلوا الإنجليز عن مواقعهم الأمامية فاستولوا عليها. واستعاد الإنجليز قوتهم وهجم فرسانهم بقيادة الجنرال لو وبعد تلاحم شديد استردوا مواقعهم من المصريين، وقد هبط الليل والحرب سجال بين الجانبين.
الفريق راشد باشا حسني (بطل القصاصين).
وتوقف الإنجليز بعد هذه المعركة أياما وهم الذين كانوا يوالون الزحف؛ وما ذلك إلا لأن دسائس سلطان وأقرانه لم تكن قد أفرخت بعد، فخشى الإنجليز التقدم حتى يستوثقوا من نجاح هذا السلاح الدنيء.
وفي اليوم التاسع من سبتمبر عاد المصريون إلى الهجوم، وكانت خطة المعركة في جوهرها هي خطة المعركة الأولى، وكان مقررا أن يهجم البارودي من الصالحية على ميسرة العدو عند الفجر فيباغته، ويشيع في صفوفه الارتباك.
ولكن ما جدوى إحكام الخطة مع الخيانة في أشنع صورها؟ لقد أرسلت خطة الجيش المصري إلى الإنجليز قبل المعركة! يقول في ذلك الشيخ محمد عبده: «في واقعة القصاصين كان الرسم كما ينبغي، وكانت العساكر المصرية يجب أن تزحف في الساعة الثانية بعد منتصف الليل على الجيش الإنجليزي، وما راع القواد المصريين إلا وجود الفرق الإنجليزية زاحفة، وآخذة جميع الطرق في الساعة واحدة ... وكانت الخيانة وصلت والنقود قد وصلت إلى قلب الجيش، وإلى كثير من الضباط بسعي سلطان باشا ومراسلة العربان».
بدأ راشد باشا حسني الهجوم في الثلث الأخير من الليل، والتحم الجيشان والعدو على علم فلم يباغت. وأسفر الصبح والمعركة حامية بين الجيشين، وتكافأ الفريقان على الرغم من تفوق الإنجليز في العدد، وتلفت قواد المصريين يتوقعون دخول البارودي الميدان، ولكنه لم يأت في موعده، فقد كان الإنجليز على علم بمقدمه فرصدوا له قوة من المدفعيات حالت بينه وبين الوصول إلى موضعه من المعركة. ومما يذكر مع الأسف أن رجال سعيد الطحاوي هم الذين أضلوه عن وجهته في الصحراء فتأخر وصوله.
وارتفع النهار ونار الحرب مستعرة بين الجانبين، وقد أثبت كل من البطلين علي باشا فهمي وراشد باشا حسني بطولة فذة ومن حولهم الجيش المصري لا يتزحزح عن موضعه. وظل القتال على أشده حتى استطاع المصريون أن يوقعوا خسائر جمة بصفوف الإنجليز، ثم زحزحوهم عن مواقعهم، وكادوا يكسبون المعركة. ولكن ما كاد يلوح النصر في جانبهم حتى منوا بمصيبة أعظم من أسر محمود فهمي. وذلك أن كلا من بطلي المعركة راشد حسني وعلي فهمي قد أصيب برصاصة أخرجته من الميدان، وبخروجهما ضعف هجوم المصريين، وانقضى اليوم ولم يظفر بالنصر الحاسم أحد الجانبين.
وفي هذه المعركة، معركة القصاصين الثانية، أبلغ رد على الذين يقولون: إن المصريين لم يحاربوا، فما هو أن رأوا الإنجليز حتى فروا. وإن وقفة المصريين على هذه الصورة مع قلة عددهم بالنسبة للإنجليز، إذ كان هؤلاء يقربون فيها من ضعف عددهم، لتجعلنا نعتقد أنه لولا الخيانة لأحاط المصريون بجيش ولسلي فهزموه في صحرائهم، وهم القادرون على شمسها وحرها، ولولد في هذا المكان عصر جديد في تاريخ مصر ولازدانت ميادين عواصمنا بتماثيل عرابي.
مهد الإنجليز بعد ذلك للزحف على التل الكبير بما أعدوه من الرشوة، وبسلاح آخر كان أشد فتكا ألا هو قرار من السلطان يعلن فيه عصيان عرابي.
كانت إنجلترة تضغط من زمن على السلطان ليعلن عصيان عرابي، فقد كان الجيش والوطنيون يعدون توفيقا من الخونة لخروجه على خليفة المسلمين، وكانوا يرون عرابيا مدافعا عن الخليفة ضد إنجلترة المعتدية. وما زالت إنجلترة بالسلطان عبد الحميد الذي أنعم على عرابي بالأمس بالوسام المجيدي الأكبر حتى حملته على أن يطعنه طعنة قاتلة بذلك القرار، وقد نشر بجريدة الجوائب التركية في 6 سبتمبر. واستحضر الإنجليز آلاف النسخ من هذه الجريدة، وأخذ أعوان سلطان يوزعونها سرا في صفوف الجيش. ولسنا نغالي إذا قلنا: إن هذا القرار وحده قد فعل بعرابي وجيشه أكثر مما فعله الجيش الإنجليزي! فقد أخذت تضعف الروح المعنوية ضعفا شديدا، ومما جاء فيه قول الخليفة: «إن الدولة العلية السلطانية تعلن أن وكيلها بمصر هو حضرة فخامتلو دولتلو محمد توفيق باشا، وأن أعمال عرابي باشا كانت مخالفة لإرادة الدولة العلية ... وأن تصرف الدولة العلية السلطانية إلى عرابي باشا ورفقائه وأعوانه يكون بصفة أنهم عصاة، ويتعين على سكان الأقطار المصرية حالة كونهم رعية مولانا وسيدنا الخليفة الأعظم، أن يطيعوا أوامر الخديو المعظم الذي هو في مصر وكيل الخليفة».
كان مركز الجيش المصري على هضبة وراء خنادق الدفاع الأمامية، وهي خنادق ضعيفة أنشأها محمود فهمي على عجل، وقد أقيمت خيمة عرابي على بعد أربعة كيلو مترات من الخطوط الأمامية.
وكان لا يزيد جيش عرابي على اثني عشر ألفا من الجنود النظامية، وقد استدعى عرابي للقيادة علي باشا الروبي من دمياط فحضر قبل المعركة بيوم واحد، فلم يكن يعرف حقيقة الحال في الميدان؛ وكانت مدفعية الجيش تتألف من نحو سبعين مدفعا، أما الجيش الذي زحف به ولسلي فكان يتألف من ثلاثة عشر ألفا، وكان معه نحو ستين مدفعا.
وكان سعيد الطحاوي يلقي في روع عرابي أن الإنجليز لم يعدو العدة للزحف بعد، ثم يذهب إلى المعسكر الإنجليزي فيطلع ولسلي على كل ما يهمه معرفته، ويبسط يده لذهب الإنجليز ولا ينسى نصيبه من سلطان.
وفي اليوم الثاني عشر من سبتمبر أرسل علي يوسف خنفس من المقدمة إلى عرابي يقول: إن الإنجليز لن يتحركوا اليوم فركن الجيش إلى الراحة بأمر قواده ...
الخيانة كما رمزت إليها صحيفة فرنسية.
وفي مساء ذلك اليوم زحف ولسلي واختار الليل ليتقي حر النهار، وليكون الليل ستارا له في خطته القائمة على المباغتة، والتي هيأ نجاحها سعيد الطحاوي وعلي خنفس وتحرك الإنجليز في سكون، وقد شدد ولسلي التحذير وأمر بألا يرتفع صوت أو توقد نار إلا نار المعسكر الإنجليزي التي تركوها وراءهم؛ إيهاما للجيش المصري بأنهم لا يتحركون.
وتقدم جيش ولسلي مطمئنا لا يتهيب طلائع الجيش المصري، وفيم التهيب؟ لقد كان في مقدمة الطلائع عبد الرحمن حسن الذي اشتراه سلطان، وكان خنفس وراءه.
وكان عبد الرحمن يحرس الطريق الآتي إلى الصحراء من الشرق، فاتجه بفرقته إلى الشمال. وترك الجيش الإنجليزي يمر في أمن! ولن نجد في تاريخ الحروب أشنع من هذه الخيانة إلا خيانة خنفس الذي لم يكتف بأن ترك جيش العدو يمر، بل وضع له المصابيح على المسالك ليخترقها في يسر! وقد كان خنفس هو الذي أرسل خطة معركة القصاصين إلى الإنجليز.
وكان هجوم الإنجليز على نصف دائرة فأحاطوا بميمنة المصريين وميسرتهم، وتقدمت فرقة من المدفعية حتى صارت وراء خطوطهم، وفتكت بنادي الإنجليز ومدافعهم بالمصريين فتكا ذريعا، ولم تكن هذه معركة في الواقع فهي أشبه بأعمال القراصنة في الصحراء، ولقد فر أكثر الجنود مذعورين.
ولكن الميدان في هذه المحنة وفي هذه المباغتة التي تطيش فيها عقول الرجال، لم يخل من نفر من المصريين حفظوا شرف قومهم من الانهيار، فأثبتوا في مستنقع الموت أرجلهم، والهول محيط بهم، والموت يأتيهم من كل مكان، وهؤلاء البواسل هم الشهيد البطل محمد عبيد ثم أحمد بك فرج وعبد القادر بك عبد الصمد وحسن أفندي رضوان، وإن جلال عملهم ليمحوا من النفوس شيئا مما تركته فيها خيانة خنفس، ومن حذا حذوه، من الخزي والألم.
البطل المصري الشهيد محمد عبيد
وقف هؤلاء الأربعة بفرقهم مستبسلين وكان مجموعها لا يزيد عن ثلاثة آلاف، وكان أكثرهم بسالة وإقداما محمد عبيد بطل الهجوم على قصر النيل، فقد وقف للإنجليز برجاله السودانيين وأوقف زحفهم وقاتلهم قتالا شديدا فني فيه معظم رجاله، فتقدم واستقبل الموت راضيا مرضيا، وذهب شهيد وفائه وبطولته. ويلي محمد عبيد في البسالة حسن رضوان قومندان الطوبجية الذي أصلى الإنجليز نارا حامية بمدافعه، وأوقع بهم على تفوقهم خسائر جسيمة حتى سقط جريحا في الميدان. ولما حمل أسيرا إلى ولسلي، وأقبل يقدم له سيفه لم يشأ ولسلي أن يأخذه منه احتراما له وأثنى على بسالته.
حسن رضوان من أبطال معركة التل الكبير.
وبلغ قتلى المصريين نحو ألفين، أما الجرحى فلم يحص عددهم لفرارهم، وأما الإنجليز، فقد قتل منهم سبعة وخمسون منهم تسعة ضباط، وجرح أربعة مئة منهم سبعة وعشرون من الضباط، وقد غنم الإنجليز مدافع الجيش المصري ومهماته وذخائره.
وفي هذه الأثناء اتجه عرابي نحو الميدان، وكان يوجد نحو ألفين من الرجال على مقربة من خيمته فدعاهم ليذهبوا معه، ولكن كان أكثرهم من الاحتياطي فولوا الأدبار خائفين، وعبثا حاول عرابي أن يوقف فرار الفارين من المعركة، واقترب الإنجليز حتى صاروا على نحو ستة مئة متر من خيمته، وأطلقوا عليها قذيفة أطارتها في الهواء. وألح عليه خادمه محمد سيد أحمد أن ينجو بنفسه إذ لا فائدة من القتال، ولوى عنان فرسه بالقوة، ويذكر جون نينيه في كتابه أن الذي حمل عرابيا على طلب النجاة هو طبيبه قال: «وكنت بجانب عرابي وبيدي بندقية، ولما أوشك الإنجليز أن يطبقوا على عرابي رجوته في الثبات فاستعد للموت والاستشهاد، ولكن طبيبه الدكتور مصطفى بك نصح له بالفرار على صهوة جواده».
وفر عرابي لا لينجو بنفسه؛ ولكن كي يدافع عن القاهرة كما سنبينه، وما أشبه فراره هذا بفرار نابليون من ميدان وترو ليدافع عن باريس.
وقبل أن نذكر ما فعل عرابي للدفاع عن القاهرة، نرى ألا بد من الكلام عن مسألة يوردها دائما مؤرخو الاحتلال ساخرين بها من عرابي، كما سخروا من دعوى انخداعه بأقوال دي ليسبس، ألا وهي أنه سهر طول ليلة المعركة في حلقة ذكر مع جيشه! وفي قراءة الأدعية مع رجال الطرق الصوفية، فلم ينم العساكر وبذلك لم يستيطعوا الحرب في الصباح!
ألا ليت هؤلاء صدقوا! إذن لما استطاع العدو أن يباغت المصريين وهم نيام. وإذا صح أن عرابيا قد استدعى عددا من رجال الطرق الصوفية، فأرسلهم إلى الفرق في مراكزها يثيرون حماستهم في الله والوطن، وهذا ما حدث فعلا، فما وجه العيب في ذلك؟
وأي فرق بين أن ينشد رجال الدين بين الفرق أناشيدهم الدينية يقصدون بها إثارة حماستهم، وبين الأناشيد التي يهتف بها الجند في الجيوش الحديثة جمعاء؟ وما الغرض من الموسيقى الحربية والخطب والنشرات؟ أليست كلها وسائل تبعث الروح الوطنية في الجند، وتهز عواطفهم النبيلة للفداء والنضال؟ وإذا لجأ عرابي إلى الوسائل كانت التي تتفق مع البيئة، ومع العصر وهي لا تخرج في جوهرها، وفي الغرض منها عن وسائل الجيوش الحديثة، فلماذا يعد ذلك مما يسخر به منه، ولا يعد من أدلة انتباهه إلى كل ما عسى أن يكسبه النصر؟
ومن أحسن ما يذكر في هذا الصدد أن هذه الحملة الإنجليزية بالذات قد أقيمت لها الصلوات عند خروجها من إنجلترة، وباركها كبير الأساقفة مع عدد من رجال الدين، وقد أورد ذلك هوبرت سبنسر في كتابه «أصول علم الاجتماع»، ومن أجمل ما علق به على ذلك قوله: إن «هذه الحملة كانت موجهة إلى قوم يحاربون في سبيل الحرية والاستقلال».
وما قصد المؤرخون المغرضون بهذه القصة، إلا أن يقللوا من شأن الخيانة في هزيمة عرابي أو يصرفوا عنها الأنظار. وما أودى بعرابي إلا الخيانة، وهي من مخازي الإنجليز، ولقد كانت مثلها كفيلة بأن تودي بأي قائد غيره في مكانه.
عرابي يحاول الدفاع عن القاهرة
بلغ عرابي القاهرة قبل الظهر في قطار كان قد صادفه عند بلدة إنشاص، وذهب إلى مقر المجلس العرفي فتلقاه الأعضاء واجمين وكان الأسف باديا على محياه. وانضم إلى المجلس بعض الأمراء والكبراء، وتشاوروا في الأمر: أيسلمون القاهرة إلى الإنجليز أم يدافعون عنها؟
وأخذ عرابي يستحثهم على الدفاع ذاكرا لهم أنه من الوجهة الحربية لا يزال الأمل قويا، فهناك حامية القاهرة في القلعة بمدفعيتها، وهناك حامية دمياط بقيادة عبد العال، وفي إمكانها التحرك أثناء الدفاع عن القاهرة؛ وكذلك يمكن أن يأتي المدد من كفر الدوار، وبالثبات والصبر يمكن معالجة الأمر.
وثار في وجه عرابي بعض الأعضاء، ولكن أغلبية المجلس وافقته على وجوب الدفاع. وأخذ شبح اليأس يبتعد عنه، ونهض من فوره ليعد العدة للدفاع، وكان قد ترك في بلبيس عددا من البرقيات في مكتب التلغراف يستنهض بها البلاد لترسل المدد لمقاومة زحف الإنجليز. ومضى عرابي إلى العباسية، ومعه محمد باشا المرعشلي باشمهندس الاستحكامات لإنشاء خط للدفاع عن القاهرة.
بعد ذلك أرسل عرابي يطلب الحامية؛ وهنا أدرك للمرة الثانية ما فعلته الخيانة، وما فعله قرار السلطان بإعلان عصيانه، فقد انحلت العزائم وهرب الرجال، وعاد اليأس فأحاط بعرابي ووقف وحده لا يجد من يمد المعونة إليه، والإنجليز يزحفون على القاهرة في غير إبطاء.
الإنجليز يدخلون القاهرة
بلغ الإنجليز العباسية في 15 سبتمبر، ومنها ساروا إلى القلعة وكان بها أربعة آلاف جندي فسلم لهم خنفس مفاتيحها، ثم احتل الإنجليز معسكر قصر النيل. وهكذا صح حلمهم الذي ظل يساورهم منذ عهد محمد علي، وقد نزل ولسلي وكان معه سلطان نائبا عن الخديو، في قصر عابدين، وقد أعد له بأمر من توفيق.
صورة تاريخية نادرة لعرابي في معتقله بعد سقوط القاهرة.
وأرسل الجنرال لو قائد خيالة الإنجليز إلى حكمدار القاهرة يقول: إنه يريد مقابلة عرابي وطلبة عصمت بالعباسية، فتوجه عرابي وصاحبه إلى العباسية، وتلقاهم لو فسأل عرابيا: هل يقبلون أن يكونوا أسرى حرب لجلالة الملكة؟ فقال عرابي: «لو أن عندنا من القوى الحربية ما يمكننا به إطالة زمن القتال والمدافعة عن البلاد لما قبلنا ذلك»، ثم رضي بالأسر حقنا للدماء.
وعصف الغضب برؤوس بعض المدنيين من سكان القاهرة، ولم تكن الرشوة قد فعلت بهم ما فعلته بالجيش، فتجمعوا من باب الشعرية والحسينية وتهيأوا للثورة، وكادت القاهرة ترى ما رأته أيام نابليون وكليبر. ولكن محافظ المدينة بذل أقصى جهده للقضاء على الفتنة في مهدها مبينا للثائرين أن عملهم لا يجدي نفعا، وليس وراءه إلا سفك الدماء.
توفيق يدخل العاصمة
انتظر توفيق بضعة أيام حتى تم تسليم المعاقل؛ كي يدخل القاهرة دخول الظافر. وفي اليوم الخامس والعشرين من سبتمبر، سافر الخديو إلى القاهرة وفي معيته كبير وزرائه شريف باشا. وحيا توفيقا في محطة العاصمة ولسلي قائد جيش الاحتلال، ودوق كنوت نجل ملكة الإنجليز وكان في الحملة، وإدوارد مالت ومحمد سلطان باشا، وكبار العلماء والأعيان.
وجلس عن يسار الخديو في مركبته دوق كنوت وجلس أمامه ولسلي ومالت، وأحاطت بالمركبة كوكبة من الفرسان الإنجليز، واصطف على جانبي الطريق إلى سراي الإسماعيلية نحو خمسة آلاف جندي بريطاني؛ ليمر من بينهم خديو مصر القادم إلى مقر حكمه.
وفي 30 سبتمبر اصطف الجيش الإنجليزي في ميدان عابدين في المكان نفسه، الذي وقف فيه عرابي قبل ذلك بنحو سنة وقفته المشهودة، ومعه الجيش المصري يسمع الخديو مطالب الأمة.
وكان الخديو في المقصورة التي أعدت له يرتدي ملابسه الرسمية، وكان الجنرال ولسلي ودوق كنوت على ظهر جواديهما إلى جانب مقصورة الخديو، وسارت فرق الجيش الإنجليزي أمامه حتى انتهى عرضها.
وقد جاء في عدد الوقائع الصادر في أول أكتوبر أنه قد «انشرحت صدور الحاضرين، وأعجب الجناب الخديو المعظم بما رآه من مهارة رؤسائهم وضباطهم وحسن انتظام العساكر وكمال نظامهم، وشكر الكل لهم ما قاموا به من إخماد فتنة العصاة وإطفاء ثورتهم».
وفي ليلة الثلاثاء 3 أكتوبر أقام الخديو مأدبة كبرى، وحفلة سمر باهرة في سراي الجيزة تكريما للقواد والضباط الإنجليز، وكان في مقدمة من شهدها سيمور وولسلي ودوق كنوت، ومالت، ولو. وفي هذه الحفلة الكبرى أنعم الخديو على ستين من هؤلاء الإنجليز بالأوسمة المختلفة.
الانتقام من زعماء الثورة
بدأ الخديو بإلغاء الجيش المصري جملة؛ بحجة أنه انضم إلى العصاة، وكان هذا توطئة لمحاكمة قواده وضباطه إلا من انحاز أثناء الحرب إلى الخديو.
وكان سلطان باشا يأمر بالقبض على من يشاء وإلقائه في السجن، وقد اعتقل كبار رجال الجيش وجميع زعماء الثورة من المدنيين، إلا عبد الله نديم فقد اختفى زمنا ولم يعرف له مقر، وعدد كبير من العلماء والأعيان والموظفين والعمد ومشايخ البلاد، حتى لقد بلغ عدد المقبوض عليهم ثلاثين ألفا.
وصدر أمر من الخديو بتأليف محكمة عسكرية، تقدم إليها لجنة ألفت للتحقيق مع من ترى تقديمه من المتهمين، وكان رئيس المحكمة محمد رؤوف باشا من أنصار الخديو، وكان الأعضاء إلا واحدا من أصل شركسي ومن الناقمين على عرابي.
وسجن عرابي مع زعماء الثورة في بناء الدائرة السنية وقد جعل معتقلا عاما، وكان توفيق يتطلع إلى اليوم الذي يساق فيه عرابي وأصحابه إلى المشنقة ولم يكن رياض باشا وزير الداخلية أقل تطلعا إلى ذلك اليوم من توفيق.
ومن أسوأ ما يذكر أن توفيقا كان يرسل بعض خدمه إلى عرابي في السجن فيسبونه ويهددونه. وقد وضع عرابي في حجرة صغيرة مرتفعة السقف، حالكة الظلمة وبخاصة بالليل حيث لم يكن يسمح للسجناء بمصابيح، وكانت الحجرة خالية من الكراسي، وليس بها إلا بساط وحشية وملحفة ووسادتين وبعض الآنية من الخزف والنحاس.
وكان المقرر أن يعدم عرابي، وأن تترك الحكومة الإنجليزية ذلك إلى توفيق، ولكن صديقه مستر بلنت أثار حملة صحفية على جلادستون ووزارته في إنجلترة، حتى اضطر إلى السماح لعرابي بأن يتولى الدفاع عنه محام إنجليزي هو مستر برودلي وقد استأجره بلنت.
وكانت المحاكمة مهزلة من المهازل، فقد وضع لورد دوفرين، وكان قد حضر إلى مصر عقب الاحتلال، الخطة الآتية: تستبعد جميع التهم عن عرابي ما عدا تهمة عصيان أمر الخديو حين دعاه إلى الحضور إلى الإسكندرية، ويقدم إلى المحكمة فيعترف بالتهمة، وتصدر المحكمة حكمها عليه بالموت؛ ولكن مرسوما خديويا بتعديل الحكم يتلى في قاعة الجلسة، ويقضي بنفيه من مصر ومصادرة أملاكه.
وذهب محاميه إليه في السجن ومعه ترجمانه، وأطلعه على ذلك فبدت عليه الدهشة ثم قال: «أعترف بصراحة أني كنت أفضل المحاكمة لأسمع أوروبا كلها قضيتي، وألقي من اتهموني وجها لوجه في ساحة المحكمة»، وذكر له مستر برودلي ما يكون من الخطر عليه من محكمة كهذه المحكمة، وقال عرابي: «كيف أقول: إني عاص؟ ألم أفعل ما أمر به السلطان والخديو؟ وإذا كان الخديو قد انحاز إلى الإنجليز، فهل أسمى أنا عاصيا؛ لأني أطعت إرادة الأمة المصرية؟» وحار برودلي لحظة ماذا يقول ثم أجاب بقوله: «إن الحكومة الإنجليزية لا يمكنها أن تتراجع عما أعلنته؛ ولذلك قضت الضرورة بهذا الحل»، ثم تساءل عرابي: «إذا قبلت ما تتحدث عنه من شروط فماذا عسى أن يكون مصير إخواني؟» وأخبره محاميه أنهم سيعاملون مثل معاملته، وخرج عرابي من المأزق بأن قال لمحاميه: «سأكتب لك كتابا يتيح لك من السلطة ما توافق به على ما تراه عادلا مشرفا من الشروط، ولكني أرجو منك أن تكون شهيدا على أني أفعل ذلك ابتغاء انقاذ إخواني أكثر مما أفعله من أجل شخصي».
برودلي المحامي الإنجليزي يخبر عرابيا في سجنه أنه نفي إلى سرنديب.
ومثلت هذه المهزلة الهازلة في المحكمة، ولم يتكلم عرابي حين وجه إليه الاتهام وإنما أحال الأمر على محاميه، وقد عومل معاملة عرابي كل من محمود سامي وعبد العال حلمي وطلبة عصمت وعلي فهمي ومحمود فهمي ويعقوب سامي، ونفوا جميعا إلى جزيرة سرنديب،
1
وبذلك أسدل الستار على الثورة العرابية.
آراء بعض المنصفين في هذه الثورة وزعيمها
يجدر بنا أن نعرض ما يتسع له هذا المجال من آراء المنصفين في هذه الثورة التي ظلمها المغرضون من المؤرخين، ومن هؤلاء سير ماكنزي ولاس الذي رافق لورد دوفرين إلى مصر قال «في كتابه مصر والمسألة المصرية»: «لم يظهر من عهد محمد علي أو من قبل ذلك بزمن بعيد رجل في مصر كان له من السيطرة مثل ما كان لعرابي، فإنه لم يقتصر أمره على أن الجيش والشرطة كانا رهن إشارته، بحيث يستطيع أن يأخذ بالإرهاب كيف يشاء، بل كان يتمتع كذلك بعطف كل الطبقات في مصر تقريبا. ولم يحصل عرابي على نفوذه أو يحافظ عليه بالإرهاب؛ لأنه عند بدء حركته لم يكن لديه أية قوة يضر بها أحدا. ولم يعلم عنه أنه في أثناء قوته ذبح شخصا أو شنقه أو رماه بالرصاص. ولو أنه خاض معركة انتخابية خالية من وسائل الغش، وكان خصمه فيها توفيق لفاز عليه بأغلبية هائلة من أصوات الناخبين الأحرار».
وقال في موضع آخر: «إذا كنا لم نرد أن نقيم نظاما دائما في مصر فلماذا ذهبنا إلى هناك؟ وإذا كنا لم نرد إقامة حكومة صالحة حقا، فلماذا قضينا على الحزب القومي الذي كان لديه فرصة لإقامة نظام من أي نوع آخر، كان خيرا مما يصنع الخديو الذي أعدناه إلى سلطته؟»
وكتب لورد شالرز برسفورد الذي اشترك في ضرب الإسكندرية، يقول في جريدة التيمس في 8 يناير سنة 1883: «حقا إنه من الممكن أن تسمى حركة عرابي حركة قومية، فقد نعتها بعض الإنجليز بهذا في شهر مايو سنة 1882 عندما تحرجت الأمور تحرجا خطيرا ... ونحن إذا نظرنا إلى المسألة من وجهة النظر المصرية لا يخالجنا أدنى شك في أن عرابيا كان يحظى بعطف الشعب المصري، ويستطيع عرابي وأصحابه أن يقولوا إنهم كانوا يحاربون في سبيل الإصلاح، وإن الدليل الذي يؤيد عدالة قضيتهم هو أن إنجلترة آخذة في تنفيذ إصلاحاتهم بالذات، ويستطيعون كذلك أن يبرهنوا بحقيقة أخرى هي أنهم لم يأخذوا من الشعب قرشا واحدا إلا ما رأوا أنه ضروري لخير الشعب، الأمر الذي يعد نادرا في الشرق».
ويقول برودلي: «إني لا أكتفي بأن أقول: إن الأمة كلها كانت في جانب عرابي، بل إني أقرر في غير خوف من نقض آرائي أن عرابيا وأصحابه قد أظهروا في أداء رسالتهم أمانة تامة واعتدالا وروحا إنسانية تشرفهم على مدى العصور»، وقال في موضع آخر: «ليس يخامرني شك في أن عرابيا وأصحابه كانت لديهم كل المقدرة على أن ينهضوا بحكم أمتهم حكما شعبيا، وأن ينفذوا في جدارة التغييرات والإصلاحات التي خلفوها لنا بصفتنا ورثتهم وخلفاءهم. لم يكن عرابي من ذوي الأحلام أو من ذوي التحمس، وإنما كان - إذا قيس بالمقياس المصري - رجلا متعلما ذا مقدرة، ملما بشؤون وطنه، وما تحتاج إليه بلاده وهب كثيرا من النشاط وقدرا عظيما من أمانة الغرض».
وكتب مستر أردرن بيمان أحد مندوبي إنجلترة في لجنة التحقيق، في سنة 1883: «إن عرابيا الذي كان يستطيع أن يجمع لنفسه مليونا من الجنيهات لم يجد ما يشتري به ملابس له عند سفره، وقد أرسل له بعض أصدقائه حقيبة ملأى بالملابس والقطار على أهبة السفر. وكانت أسرته تعيش وهو في السجن على صدقات يدفعها بعض محبيه سرا، وكنت أنا الذي أحملها إليه بيدي ... ولست أكتب هذا بدافع عبادة البطولة، وإنما لأبين لماذا اختار الشعب المصري رجلا نشأ من طبقة الفلاحين وتعلق به؛ لأنه يعرف ما يشكو منه، وكيف يدافع عن حقوقه المكتسبة، وآثر ذلك على أن يظل خاضعا للسلطان الموروث».
وفي كتاب لمستر بيمان نفسه صدر سنة 1929 بعنوان «عزل الخديوي» أعني الخديوي عباس، قال: «حين تظفر مصر باستقلالها الحقيقي كما يجب أن يحدث ذلك في يوم ما، فإن أول تمثال يجب أن يقام في أحد ميادين القاهرة هو تمثال أحمد عرابي».
ولم يستطع حتى كرومر أن ينكر قومية هذه الحركة قال: «إن حركة عرابي أكثر من أن تكون مجرد فتنة عسكرية. لقد كان فيها إلى حد ما طبيعة الحركة القومية الحقيقية، ولم تكن هذه الحركة موجهة كلها أو في جوهرها ضد الأوروبيين والتدخل الأوروبي في الشؤون المصرية، ولو أن النفور من الأوروبيين والتجني عليهم كانا يسيطران على عقول قواد هذه الحركة. وإنما كانت هذه الحركة إلى مدى عظيم موجهة من المصريين ضد الحكم التركي».
وقال الشيخ محمد عبده فيما كتبه لمستر برودلي، بعد أن ذكر ما كان بينه وبين عرابي من خلاف في الرأي قبل يوم عابدين: «إن الاجتماعات العامة المتنوعة التي عقدت بعد ذلك للحصول على دستور برياسة سلطان باشا، حولت في الحال مقام عرابي من قائد جيش إلى قائد مصر؛ وحينئذ أصبحت وسلطان باشا والبلاد المصرية قاطبة من أتباع أحمد عرابي».
وذكر برودلي كيف أمده الشيخ محمد عبده بمعلومات عن الأيام الأولى للحركة القومية «ووصف وصفا حيا كيف أصبح عرابي بطل مصر الذائع الصيت، وكيف أن آلافا من المصريين سموا أبناءهم باسمه وكيف ذهب اسم توفيق من الأرض».
عرابي في المنفى
قضى عرابي في جزيرة سرنديب تسعة عشر عاما، وكانت هذه الجزيرة ملكا للإنجليز منذ سنة 1785 وكانت ملحقة بمدارس، ثم جعلوا منها مستعمرة قائمة بذاتها سنة 1801، ومن سكانها الأصليين قبائل السنهاليز، وأصلهم من الهنود من حوض نهر الكنج وديانتهم البوذية، ثم قبائل التامل وقد نزحوا إليها من جنوب الهند وديانتهم الهندوكية، وكان بالجزيرة نحو ربع مليون من المسلمين من أصل عربي ومن أصل هندي، وهم من أزكى سكانها وأكثرهم نشاطا. وعاصمة هذه الجزيرة كولومبو. ومناخ الجزيرة استوائي لكن البحر يلطف حرارتها.
ولقد رحب سكان الجزيرة وبخاصة المسلمين منهم بعرابي وأصحابه ترحيبا عظيما وأولموا لهم الولائم، وظلوا على مودتهم وولائهم له طول مدة إقامته. وقد جعلت الحكومة المصرية لعرابي معاشا مقداره خمسون جنيها كل شهر.
وكان عرابي وأصحابه يقضون أوقاتهم في القراءة والكتابة وتعلم اللغة الإنجليزية، وقد زاره في الجزيرة صديقه المستر بلنت سنة 1883.
وفي سنة 1884 وردت إلى عرابي بكولومبو رسالة خطيرة من المستر بلنت، ذكر فيها بلنت أن الحكومة الإنجليزية تفكر في تعيين عرابي سفيرا مؤقتا إلى المهدي لرفع الحصار عن غوردون. وأن النية متجهة إلى إعادة إسماعيل إلى مصر على أن يكون عرابي رئيسا لوزارته باعتباره زعيم مصر المختار، وطلب بلنت رأي عرابي فأبرق إليه عرابي أنه يرفض ذلك وأنه يؤثر المنفى على مثل هذه العودة؛ لأنه لا يستطيع أن يعمل مع إسماعيل. وقد أدى مقتل غوردون إلى الانصراف عن هذا.
وأصبح لعرابي مكانة عظيمة بين سكان الجزيرة والجزر المجاورة. وقد سارع المسلمون إلى استيراد الطرابيش من الخارج، ولبسوها أسوة به وبأصحابه.
غاب عرابي عن مصر هذه الأعوام الطويلة، فعمل الاحتلال على مد جذور وبسط فروعه على الرغم من وعود الإنجليز المتكررة بالجلاء. ولم تكد تمضي خمسة أشهر على دخول الإنجليز مصر حتى تمت لهم السيطرة على الجيش والشرطة، فقد حل توفيق الجيش بجرة قلم كما ذكرنا، وأحل محله جيشا جديدا تحت رياسة سردار إنجليزي. وأما الشرطة فقد عين لهم رئيس عام من البريطانيين كان له الإشراف التام عليهم.
عرابي في سرنديب بين اثنين من أنجاله.
وسيطر الإنجليز على الشئون المالية، وذلك بأن ألغوا الرقابة الثنائية، وعينوا مستشارا عاما ماليا إنجليزيا في أوائل سنة 1883 لا يبرم أمر يتصل بالمال إلا بإذنه.
وملك الإنجليز ناصية الحكم والإدارة، فكان لكبار موظفيهم وصغارهم في الدواوين الكلمة العليا والجاه والهيبة. تكفي كلمة من أحدهم لنقض أي أمر لأي وزير؛ تجد الدليل على ذلك في هذا البلاغ الذي أصدرته الحكومة البريطانية إلى معتمدها في مصر؛ ليبلغه شريف باشا بمناسبة إصراره على الاحتفاظ بالسودان «ما دام الاحتلال المؤقت قائما، فيلزم أن تكونوا على يقين من أن النصائح التي تزجونها لسمو الخديو وحكومته يؤخذ بها وتنفذ؛ ويجب أن يعلم النظار والمديرون صراحة، أنه ما دامت إنجلترة مضطلعة بالمسئولية في مصر فإن حكومة جلالة الملك لا بد أن تطمئن إلى تنفيذ سياستها المرسومة، وإلا وجب على النظار والمديرين أن يتركوا كراسيهم».
وأما الدستور فقد ألغاه الاحتلال وأحل محله في مايو سنة 1883 ما عرف بالقانون النظامي، وبمقتضاه أنشئ مجلس شورى القوانين، وأنشئت الجمعية العمومية وهما هيئتان لا سلطة لهما ولا شبه سلطة، أريد بهما مخادعة الأمة بأن لها مجلسين بدلا من مجلس واحد. وشتان بين هذين المجلسين وبين ذلك المجلس النيابي الذي كانت الوزارة مسؤولة أمامه، والذي وضعت وزارة البارودي أو وزارة الثورة دستوره، فجعلت الأمة مصدر السلطات كما هو الحال في الدساتير الحديثة.
هكذا قضى الاحتلال على كل شيء، وجعل همه بث هيبة إنجلترة في نفوس المصريين والقضاء في عنف على أية محاولة لبعث الروح الوطنية. وألقيت مقاليد الأمور إلى كرومر أحد بناة الإمبراطورية البريطانية وأحد أساطين الاستعمار.
وراح الإنجليز يبثون في عقول الناس أن عرابيا هو سبب النكبة؛ ومما يؤسف له حقا أن كثيرا من المصريين كانوا إلى زمن قريب يرددون هذا الكلام السخيف مخدوعين بما أوحى به كتاب الاحتلال.
ولقد شاع في تلك السنين التي أعقبت الاحتلال، الانحلال القومي في الأمة، وماتت روح المقاومة، وخيل للناس أن الاحتلال قوة لا تقاوم وأن الإنجليز لن يغلبهم غالب.
عرابي يعود إلى وطنه
حدث في الثاني عشر من شهر مايو سنة 1901 أن زار الجزيرة ولي عهد إنجلترة (الملك جورج الخامس فيما بعد)، ولقي عرابيا وترفق به وأظهر له البشاشة وسأله عن صحته وعن حاله، فكانت هذه الزيارة سببا في عودة عرابي إلى مصر. فإن الأمير قد سعى سعيه حتى وافقت الحكومة الإنجليزية على أن يصدر الخديو عفوا عن عرابي وأصحابه.
وقد سافر عرابي من كولمبو إلى مصر في سبتمبر سنة 1901، وودعه أهل سرنديب وداعا عظيما. وبلغ عرابي مصر في أواخر ذلك الشهر فلم يجد الزعيم العائد أحدا من الجيل الناشئ يذكره ويذكر ثورته إلا بالسوء من القول، ولولا بقية ممن شهدوا الثورة وعرفوا حقيقة أمرها، احتفوا بعودته، ما لقيه في مصر أحد. ولم يكن عرابي ليستطيع بعد أن بسط الاحتلال سلطانه على الصورة التي ذكرناها أن يعيد حياته سيرتها الأولى من الجهاد؛ لذلك قضى أيامه بمصر في هدوء تحت مراقبة الاحتلال، وكان يتألم عرابي أشد الألم مما آلت إليه مصر من حكم الأجنبي إياها، وقضائه على دستورها كما كانت تملأ الحسرة نفسه كلما علم أن الجيل الناشئ لم يكن يعلم حقيقة حركته التي شوهها الاحتلال والتي لم تجد من يدافع عنها.
عرابي بعد عودته من المنفى.
ولم يستطع عرابي أن ينشر في مصر شيئا عن ثورته؛ لأن الاحتلال كان يمنع ذلك كما يمنعه الخديو عباس الذي كان ينقم على عرابي أشد النقمة لموقفه من أبيه.
وعكف عرابي على كتابة مذكراته عن الثورة، فكتبها في ثلاثة دفاتر كبيرة وقد فرغ من كتابتها سنة 1910. وقد اختتمها بقوله: «فعلى الناشئة المصرية أن تجد وتجتهد وتعمل ليلا ونهارا على استرداد مجدها واستقلالها وحريتها المطلوبة منها، ومطالبة الإنجليز بالجلاء حتى ينكشف عنها هذا البلاء». إلى أن قال: «ثم أناشدهم أن يقووا أواصر الإخاء بين أبناء وطنهم، ويخرجوا ما في قلوبهم من غل وضغينة، ويعملوا يدا واحدة ورجلا واحدا لرفع شأن بلادهم ... هنالك يخرج الله أعداءكم ويولي عليكم خياركم، والله على كل شيء قدير». وفي العشرين من شهر سبتمبر سنة 1911 اشتدت وطأة المرض على الزعيم الشيخ. وبعد يومين قضى الزعيم نحبه. ولم يشيعه إلى مقره الأخير أو يحضر في مأتمه رجل رسمي واحد مخافة الاحتلال والخديو. ولكن مصر الوفية أبت إلا أن تكرمه ميتا وإن تباعدت عنه حيا، فأحاط بنعشه الألوف من أبنائها وتألفت منهم جنازة شعبية عظيمة سارت في صمت وخشوع حتى قبره بالإمام الشافعي (رحمة الله عليه). وستطوى العصور ويبقى في أذهان بني مصر أن أحمد عرابي كان زعيم القومية المصرية الأول، وكان الفلاح المصري الأول الذي دعا إلى حرية قومه، وحارب في سبيلها وذاق ألم النفي والفاقة من أجل مصر وكرامة مصر.
صفحة غير معروفة