سمع عمر عبارة المثنى ورأى حسن أثرها في الناس فقام فيهم خطيبا، فكان مما قاله لهم:
إن الحجاز ليس لكم بدار إلا على النجعة،
5
ولا يقوى عليه أهله إلا بذلك، أين الطراء المهاجرون عن موعود الله، سيروا في الأرض التي وعدكم الله في الكتاب أن يورثكموها، فإنه قال:
ليظهره على الدين كله ، والله مظهر دينه، ومعز ناصره، ومول أهله مواريث الأمم، أين عباد الله الصالحون!
شعر الناس بما في تثاقلهم من سبة لهم بعد الذي سمعوا من كلام المثنى ومن كلام عمر، إنهم نصروا رسول الله وأعزوا دين الله، ونصروا أبا بكر من بعده فنصرهم الله، فما بالهم لا يتحركون لدعوة عمر! وترددوا: أيلبون الدعوة أم يظلون على تقاعسهم، وإنهم لكذلك إذ تقدم أبو عبيد عمرو بن مسعود الثقفي للسير إلى العراق، فكان أول منتدب لهذا الأمر الجليل، وثنى من بعده سليط بن قيس، عند ذلك اجتمع الناس إليهما وأجمعوا السير معهما، فكان معهما ألف رجل من أهل المدينة، ورأى عمر اجتماع ذلك البعث فاغتبط أيما اغتباط، وخفق قلبه شكرا لله أن أخرج المسلمين من ذلك الجمود الذي كانوا فيه، والذي أوشك أن يفسد عليهم أمرهم.
من من المهاجرين والأنصار يتولى إمارة البعث؟ فكر الذين ترددوا في إجابة الدعوة في هذا الأمر، وخافوا أن يجعل عمر الإمارة على جيش فيه عدد عظيم من أهل المدينة لواحد من غير أهل المدينة؛ لذلك أسرع قوم إلى الخليفة يقولون له: «أمر عليهم رجلا من السابقين من المهاجرين والأنصار.» لكن ترددهم ثلاثة الأيام الأولى من خلافة عمر قد حز في نفسه وأحفظه عليهم؛ لذلك لم يتردد أن أجابهم: «لا والله لا أفعل! إن الله إنما رفعكم بسبقكم وسرعتكم إلى العدو، فإذا جبنتم وكرهتم اللقاء فأولى بالرياسة منكم من سبق إلى الدفع وأجاب إلى الدعاء، والله لا أؤمر عليهم إلا أولهم انتدابا.» ثم دعا أبا عبيد فولاه الإمارة، ودعا سعد بن عبيد وسليط بن قيس وقال لهما: «أما إنكما لو سبقتماه لوليتكما ولأدركتما بها إلى ما لكما من القدمة.»
اطمأن المثنى بن حارثة حين رأى هذا الجيش يتأهب للسير معه إلى العراق، أما عمر فرأى ألا حاجة بالمثنى إلى البقاء بالمدينة، ولذلك أمره أن يرجع إلى العراق فيلحق بقواته فيه، وقال له: «النجاء حتى يقدم عليك أصحابك ...» وأخذ الجيش الجديد في الأهبة، حتى إذا دنا موعد الرحيل قال عمر لأبي عبيد يوصيه:
اسمع من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم
صفحة غير معروفة