ثم إني وليت أموركم أيها الناس، فاعلموا أن تلك الشدة قد أضعفت، ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، فأما أهل السلامة والدين والقصد فأنا ألين لهم من بعضهم لبعض، ولست أدع أحدا يظلم أحدا أو يتعدى عليه حتى أضع خده على الأرض، وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن بالحق، وإني بعد شدتي تلك أضع خدي على الأرض لأهل العفاف وأهل الكفاف.
ولكم علي أيها الناس خصال أذكرها لكم فخذوني بها؛ لكم علي ألا أجتبي شيئا من خراجكم ولا ما أفاء الله عليكم إلا من وجهه، ولكم علي إذا وقع في يدي ألا يخرج مني إلا في حقه، ولكم علي أن أزيد عطاياكم وأرزاقكم إن شاء الله تعالى، وأسد ثغوركم، ولكم علي ألا ألقيكم في المهالك، ولا أجمركم في ثغوركم،
3
وإذا غبتم في البعوث فأنا أبو العيال.
فاتقوا الله، عباد الله، وأعينوني على أنفسكم بكفها عني! وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإحضاري النصيحة فيما ولاني الله من أمركم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
قال عمر هذا القول ثم نزل فأم الناس للصلاة، وأتمها ثم انصرف عنهم، وجعل الناس يفكرون فيما سمعوا منه، لقد عرفوه رجلا صريحا ظاهره كباطنه، وسره كعلانيته وعرفوه رجلا عادلا مع ما فيه من شدة وغلظة، وها هو ذا يذكر لهم أن شدته لن تكون إلا على الظالمين، وهو لا يخدعهم حين يقول إنه سيكون لأهل السلامة والقصد ألين من بعضهم لبعض، فقد عرفوا من رفقه في بعض المواضع ما لا سبيل إلى إنكاره أو نسيانه، ثم إنه وعدهم أن يزيد في عطاياهم وأرزاقهم، وأن يكون أبا لعيالهم إذا غابوا عنهم في حرب، أليس خليقا بهم أن يولوه كل ثقتهم، وأن يجيبوا دعوته إذا دعاهم؟!
كان ذلك شأن كثيرين من سواد الحاضرين، أما زعماؤهم فقد ظلوا في تحفظهم، برما بعمر من جانب بعضهم، وهيبة للموقف في الشام وفي العراق من جانب الأكثرين، وعاد عمر لصلاة العصر، ثم ندب الناس مع المثنى فاثاقلوا، وكان المثنى حاضرا، وكان شديد الإلحاح على عمر أن يعينه بمن ظهرت توبتهم من أهل الردة، فهم لقتال الفرس أنشط، وزاد إلحاحه شدة حين أمر عمر برد السبي من أهل الردة إلى عشائرهم، ثقة منه بأن هذا الأمر سيجعلهم أكثر إقبالا على السير معه، فلما أبطأ عمر في إجابته إلى ما طلب ورأى الناس يزدادون إقبالا على عمر وطمأنينة لخلافته، طمع في أن يتقدموا لما ندبهم الخليفة له، لكنه رأى تثاقلهم، وتبين في وجوههم أن وجه فارس من أكره الوجوه إليهم، وأثقلها عليهم، لشدة سلطانهم وعزهم وشوكتهم وقهرهم الأمم، عند ذلك وقف يخطبهم فقال:
أيها الناس! لا يعظمن عليكم هذا الوجه، فإنا قد تبحبحنا
4
ريف فارس وغلبناهم على خير شقي السواد، وشاطرناهم ونلنا منهم واجترأ من قبلنا عليهم، ولها إن شاء الله ما بعدها.
صفحة غير معروفة