3 «أن ترى ما لا ترى» الجملة شعرية في المقام الأول، لكنها فيما يخص التجربة التي ذكرتها مجرد ذكر واقع: حقيقة. الشعر مغرم أحيانا بهذه المفارقات، وربما أيضا الحكماء القدماء، الصينيون مثلا، والمتصوفة. أحيانا تكون مثل هذه المفارقات خاوية من المضمون، قد تغدو على ألسنة البعض مجرد لغو فارغ، مجرد «فذلكة»، وأحيانا قد يكون استخدام هذه الصياغات موفقا، وجميلا. قد يرى البعض في مثل هذه المفارقات تعبيرا عن التردد، أو عن الانقسام الذي يعيشه الإنسان، وقد يرى في المقابل أنها بلا معنى. لكن من يتأمل أكثر سيجد أنها جزء من تكوين الإنسان اليوم، وجزء من تكوينه في كل العصور.
4
بعد اكتشاف مفهوم اللاوعي من قبل فرويد، أكدت السريالية على دور اللاوعي، ونبهت إلى أهميته، ومارست ألعابها الشعرية والأدبية لاكتشاف كنوزه؛ منها مثلا الكتابة التلقائية، أحب أن أعرف الكتابة التلقائية بشكل مختصر بعبارة واحدة: «أغمض وعيك ثم ابدأ الكتابة.» محاولة الاسترسال في الكتابة على الورقة البيضاء دون التفكير في معنى ما تكتبه. السريالية أيضا ركزت على دور الأحلام، باعتبارها مصادر مهمة للكتابة، باعتبارها أعمالا فنية من تأليف لاوعي الإنسان. باختصار حاولت السريالية أن توازن النظرة العقلانية المفرطة بالتنبيه إلى جزء مهمل من العقل هو اللاوعي.
5
لكن المسألة ليست مرتبطة بالسريالية ولم تبدأ معها، طوال الوقت كانت الكتابة مرتبطة عند الكثيرين بالوحي، والحدس، والإلهام. الكتابة كثيرا ما تفاجئ كاتبها، حين ينظر في نصه ولا يعرف من أي جزء منه جاءت. الكتابة هنا ليست مجرد تعبير عن الذات، وليست مجرد بيان يتم إلقاؤه، أو حتى إثبات موهبة يقدمه الكاتب. الكتابة هنا هي نوع مختلف من المعرفة، نوع من المعرفة قادر - كهذا الرجل الأعمى الذي لا يعرف أنه يرى - على أن يقودنا دون أن ندري، وأن يساعدنا على السير في الحياة دون أن نعلم ذلك، حتى ونحن نؤكد أننا فقط نكتب/نقرأ، وأنه ليس في الأمر الكثير من الأسرار. لسبب ما أتذكر الآن أرشميدس الذي أرهقه التفكير في معضلته، فوجد حلها وهو مسترخ في حوض الاستحمام. فجأة، يخرج عاريا، يقفز فرحا: «يوريكا، يوريكا.»
كلام عن الكلام
لو وضعت أي شيء في مركز اهتمامك فستبدأ في رؤيته في العديد من الأشياء الأخرى: صلات، تشابهات، تضادات، أعم، أضيق ... لو أنك شغوف بالعمارة فستشاهد البنايات والشوارع والنباتات والحيوانات والبشر والطبيعة والكون كمعمار، وستكون قادرا على التعلم منها والاستفادة منها كمصدر للإلهام. حالة الشغف هذه قد تكون من أهم ما يفصل بين المبدع في مجال ما والصانع الجيد. في الشعر الأمر مشابه، هناك كتاب يضعون الشعر في مركز اهتماماتهم، وهناك كتاب يضعونه على الهامش، التفريق بين الفريقين لا يتم عن طريق الكم.
لكن الأمور ليست بهذه البساطة، جزء مهم من التركيبة، هو مقدار فهمك لما أنت شغوف به، في حال المعمار، قد تكون فرصة المتخصص في الإحاطة بالحدود والمفاهيم الأساسية أبسط، حيث إن العمارة صارت علما بالإضافة إلى كونها فنا؛ مما يجعل الخلط فيما يخص هذه الأسس صعبا، لمن كرسوا حياتهم لها بشكل احترافي. في حال الشعر الأمور قد تبدو مرتبكة إن قورنت بالعمارة. أتخيل مثلا أحد الشعراء مهتما جدا بالشعر وشغوفا بتعريف نفسه كشاعر، ويفكر في الشعر كل الوقت، لكنه يرى الشعر فقط على أنه الوزن، فيلتقط دائما الفتات والموسيقى، وألعاب النغم، لكن قد لا تكون له نظرة شاعر.
ما هو الشعر؟ هذا أمر يطول الكلام فيه، ولكن الشاعر الحقيقي يرى الشعر في كل شيء، في كل التفاصيل الموجودة في الحياة.
دائما ما نصف الشاعر المميز بأنه صاحب رؤية مختلفة، ونتحدث عن الشعر على أنه رؤية للعالم، والأمر هنا ليس مجرد صيغ بلاغية. الفكرة باختصار أن الإنسان يعيش في عصر يتغير بشدة: الاختراعات وأساليب الحياة، والأفكار، والعلاقات الاجتماعية، ووسائل التنقل والاتصال، معرفتنا بالعالم تتغير كل يوم، والإنسان قد يظل مغيبا عن بعض ما يجري فيه، لكنه جزء من هذا العالم، يتأثر به ويؤثر فيه بمقدار ما. المشكلة أن الإنسان قد يستوعب هذه التغيرات عقليا، لكنه يظل متعلقا بجوانب أخرى من ذاته برؤية العالم كما كان بالأمس أو منذ سنين؛ لأن العقل والمنطق غير كافيين. الإنسان قد يكون مقتنعا على المستوى العقلي بحقوق الإنسان، أو بفيزياء الكوانتم، أو ... أو ... لكنه قد يظل على مستوى ما لا يعيها، ربما كان للشعر والأدب دور هنا. فكرة صياغة العالم شعرا، العالم كما هو اليوم.
صفحة غير معروفة