مقدمة
مرايا
ماذا لو؟
الحوار وشبه الحوار
وجهات النظر: بين النسبوية والحقيقة الوحيدة
نظريات المؤامرة وتفسير العالم
طرق
إعادة تشكيل العالم
تعليمات مقترحة لغارق في متاهة
أسئلة الفأر في المتاهة
صفحة غير معروفة
السير في الزمن
حدث في المستقبل
آنست نارا
نرسيس وغولدموند لهرمان هسة
رواية المزحة لميلان كونديرا
أن تملك أو أن تكون: الإنسان بين الجوهر والمظهر
شطح المدينة
تحسين القبيح وتقبيح الحسن
أحلام أينشتاين
حكاية للكائن الزمني
صفحة غير معروفة
هواء افتراضي
صحارى إلكترونية
عن المدونات
عروض الكتب بين المدونين والنقاد
كتب قديمة للبيع
وصف الغيوم
الكتابة: موهبة الاحتيال على الصمت
وصف الغيوم: العالم كمرآة - الذات كعالم
زجاج نصف معتم
النوافذ
صفحة غير معروفة
المفارقة
الأحلام نصوص أدبية
طرق الكتابة الجانبية
أن ترى ما لا ترى
كلام عن الكلام
مقدمة
مرايا
ماذا لو؟
الحوار وشبه الحوار
وجهات النظر: بين النسبوية والحقيقة الوحيدة
صفحة غير معروفة
نظريات المؤامرة وتفسير العالم
طرق
إعادة تشكيل العالم
تعليمات مقترحة لغارق في متاهة
أسئلة الفأر في المتاهة
السير في الزمن
حدث في المستقبل
آنست نارا
نرسيس وغولدموند لهرمان هسة
رواية المزحة لميلان كونديرا
صفحة غير معروفة
أن تملك أو أن تكون: الإنسان بين الجوهر والمظهر
شطح المدينة
تحسين القبيح وتقبيح الحسن
أحلام أينشتاين
حكاية للكائن الزمني
هواء افتراضي
صحارى إلكترونية
عن المدونات
عروض الكتب بين المدونين والنقاد
كتب قديمة للبيع
صفحة غير معروفة
وصف الغيوم
الكتابة: موهبة الاحتيال على الصمت
وصف الغيوم: العالم كمرآة - الذات كعالم
زجاج نصف معتم
النوافذ
المفارقة
الأحلام نصوص أدبية
طرق الكتابة الجانبية
أن ترى ما لا ترى
كلام عن الكلام
صفحة غير معروفة
الفأر في المتاهة
الفأر في المتاهة
تأليف
أحمد ع. الحضري
مقدمة
كأنك تقف أمام لوحة كبيرة بعرض جدار أو بناية، تنظر إليها فترى قطعا وشذرات، دون أن تتمكن من رؤيتها بالكامل، تبدأ من جزء ما، وتحاول الانتقال إلى أجزائها الأخرى. تعرف أنها أجزاء من كل واحد، لكنك لم تفهم الترابط بين الأجزاء بعد ولم تلتقطه عيناك، لكنك تحسه؛ تكرر النظر إلى اللوحة، قد تعيد زيارتها عدة مرات قبل أن تستطيع أن تقول عنها بضع كلمات تعبر عما تحسه. كأنك أمام هذه الجدارية، تتراجع خطوة، ثم ثانية، فثالثة، حتى يلامس ظهرك جدارا ما، بينما عيناك منشغلتان بمحاولة النظر للصورة مكتملة.
لم أستطع في هذا الكتاب أن أتحدث عن الكتابة دون أن أتحدث عن العالم، وعن نفسي، وعن أسئلتي التي تؤرقني، وشكوكي التي تملؤني. لم أستطع في المقابل الحديث عن العالم دون التطرق إلى الكتابة، كأنهما وجهان لعملة واحدة. كثير من مقالات الكتاب واضح فيها هذه الرؤية، وهذا التحيز الذي يتناول الموضوع الواحد من عدة زوايا، كأنك تضعه في المركز وتنشر حوله عددا من كاميرات التصوير التي تتناول كل منها زاوية بعينها، أملا في أن تكون معا رؤية أشمل. نفس الأمر يمكن قوله عن هذا الكتاب ككل؛ فقد افترقت مقالاته بين أربعة أقسام متنوعة الموضوعات بدرجة ما، لكنها أيضا - من وجهة نظري - مقاطع من نفس الصورة: زوايا نظر مختلفة تحاول الاقتراب من ثنائية الكتابة والعالم.
تحدثت في مقال «وصف الغيوم: العالم كمرآة - الذات كعالم»، كيف ننظر للعالم أحيانا لنرى أنفسنا أو شذرات منها فيه، أشرت في نفس المقال إلى إحدى الرؤى التي تتحدث عن دور الفن والأدب، وتتعرض هذه الرؤية إلى دور الفن والأدب في زيادة فهمنا للعالم، وزيادة مرونتنا في التعامل معه من خلال التعريف بالأنماط الجديدة في العالم.
في حديثي عن العالم، انشغلت بتقديم صورة سائلة للعالم، العالم الذي يتغير بشكل دائم، العالم المربك الذي يثير داخلنا الأسئلة والحيرة والشك. تحدثت عن الطرق المختلفة أو المتعارضة للنظر إليه، وتحيزت لنظرة تقبل وجود الآراء المختلفة معا، نظرة ترفض الجمود والتعصب. لكن الأهم أن تناولي لها غير منفصل عن الاهتمام بالكتابة، فقد تلاحظ في اختيار موضوعات القسم الأول هذا التحيز، ففيه مقالات عن: وجهات النظر، وعن الحوار، وعن الزمن.
فكرت في أقسام هذا الكتاب كأنها محطات لنفس الرحلة، تبدأ من «مرايا» التي تضم مقالات عن النظر إلى الذات والعالم، ومرورا بالقسم الذي عنونته ب «آنست نارا» والذي أتحدث فيه عن نماذج قابلتها من كتابات وإبداعات انشغلت بنفس الهم ، حتى إن مقالات هذا القسم هي بشكل ما امتداد طبيعي لمقالات القسم الأول - ثم هواء افتراضي - الذي يضم بضعة مقالات تتحدث عن الكتابة والنشر في العالم الافتراضي، لنصل في النهاية إلى مقالات «وصف الغيوم» التي تتحدث عن قضايا متعلقة بعملية الكتابة بشكل أساسي.
صفحة غير معروفة
هناك فارق بين ما نظن أننا نراه في العالم، وما نراه فعلا، فارق بين ما نظن أننا نعتقده وما نعتقده بالفعل، فارق بين ما نعيه عن أنفسنا وعن العالم، وبين ما نعرفه بشكل ما دون أن نعيه، تظهر هذه الانقسامات في أفعالنا ونظراتنا وأحلامنا وتعاملاتنا مع الآخرين. في مقال «أن ترى ما لا ترى» تحدثت من وحي حالة طبية نادرة قرأت عنها، يستطيع فيها المريض الاستجابة لمعلومات بصرية لا يدرك بشكل واع أنه يراها، هذه الحالة واقعية تستحق التأمل والتعلم منها، لكنها تصلح كذلك كاستعارة معبرة وكاشفة لحالة الكتابة، واستعارة العمى موجودة في مقالات أخرى من الكتاب، للتعبير عن زوايا أخرى من نفس الفكرة.
في مقال «كلام عن الكلام»، الموجود في القسم الأخير من الكتاب، أقول: «لو وضعت أي شيء في مركز اهتمامك فستبدأ في رؤيته في العديد من الأشياء الأخرى: صلات، تشابهات، تضادات، أعم، أضيق ... لو أنك شغوف بالعمارة فستشاهد البنايات والشوارع والنباتات والحيوانات والبشر والطبيعة والكون كمعمار، وستكون قادرا على التعلم منها والاستفادة منها كمصدر للإلهام.» وأظن أنني هنا في هذا الكتاب أضع الكتابة في مركز اهتمامي، أنظر إليها حتى عندما أكون في سياق الحديث عن موضوعات منفصلة ظاهريا.
مرايا
ماذا لو؟
يحكي «ديدرو» في «رسالة حول العميان» عن حداد أعاد له الطبيب نظره الذي حرم منه طوال عمره. كان قد تعود طوال خمسة وعشرين عاما أن يتحرك ويتعامل مع العالم فقط بواسطة حواس السمع واللمس والشم والتذوق؛ فلما عاد له نظره صار لفرط ارتباكه يغلق عينيه حتى يتمكن من التعامل مع العالم الذي تعوده، أو بالأحرى لكي يتجنب التعامل مع ارتباكات الحاسة الجديدة التي لا يعرف كيف يتعامل بها بعد. يذكر «ديدرو» كيف اضطر الطبيب إلى إجباره في أوقات على فتح عينيه حتى يتمكن من التدرب على الرؤية؛ «فكان «دافيل» يقول له وهو يوسعه ضربا: هلا نظرت أيها الفظ!»
يصف «ديدرو» في الرسالة نفسها - في سياق حديثه عن أعمى آخر - طبيعة الارتباك الذي قد يقع فيه مثل هذا الشخص. يصف كيف لم يميز لفترة طويلة بين الحجوم ولا بين الأبعاد ولا بين الأوضاع ولا حتى الأشكال. ارتبك بين الأقرب والأبعد، والأصغر والأكبر، يسأل كيف أن يدا توضع أمام عينيه قد تحجب عنه الغرفة؛ فيحتار: هل يدي أكبر من الغرفة؟! وهو يعلم أن هذا غير صحيح، لكنه لم يفهم بعد كيف خدعه نظره بهذه الطريقة. كان يرى لوحة مرسومة أمامه؛ فتريه إياها عيناه مجسمة، لكنه حين يمسها بيديه يجدها مجرد سطح سوي ليس فيه أي بروز. يقول «ديدرو»: «فسأل حينئذ عن المخادع؛ إن كان حاسة اللمس أم حاسة البصر!»
من ضمن الأمور المثيرة للاهتمام والفضول عند التفكير في مسألة العمى، ما نتعلمه عن أنفسنا عندما ننظر إلى حال من فقد بصره. نصاب بالدهشة في أوقات كثيرة من حدة ودقة استغلاله لحواسه الأخرى بشكل قد نظن تلقائيا أنه غير ممكن. لكن جانبا آخر مثيرا للاهتمام يلح علينا في هذا السياق، هو الطريقة التي يتمثل بها شخص ولد أعمى العالم. يقول «ديدرو»: «يتكلم صاحبنا عن المرآة في كل آن، وأنت تظن أنه لا يدري ماذا تعني كلمة مرآة؛ إلا أنه لن يضع مرآة على نحو معاكس للنور أبدا.» يسأله أحدهم: «وما العيون في رأيك؟» فيجيبه بأنها «العضو الذي يؤثر عليه الهواء تأثير عصاي على يدي.» قياسا على هذه الإجابة البديعة تخيل كيف سيصف أعمى مرهف الحس تفاصيل العالم المعتادة بالنسبة لك بشكل مختلف تماما عن المتوقع، لك أن تتصور كم من الشعر سيظهر بشكل تلقائي في إجاباته تلك. اسأله عن: الدائرة، أو المثلث، أو الخط المستقيم، أو الشمس، أو القمر، أو السماء، أو الأرض، أو الطريق، أو الجمال، أو القبح؛ اسأله عن أي شيء يخطر على بالك ، وسيجيب. كي يسير في هذه الحياة ويتواصل ويتكلم، لا بد أن يضع في عقله تعريفات لهذه الأشياء، لكن تعريفاته تتناسب مع خبراته ومع الطريقة التي يعيش بها في العالم. عالم الأعمى ليس عالما خاليا من المعاني، حتى لو وجد مجتمع كامل من العميان، سيوجد ويتطور في مساره الخاص، وسيكون مليئا بالمعاني العميقة، والتصورات التي تستحق الالتفات لها، والتعلم منها.
لكن في المقابل: هذا الفارق الذي تصنعه حاسة الإبصار في تمثلنا للعالم مثير للاهتمام، خاصة حين نتخيل تصورنا للعالم حال غيابها بالكامل، ربما يجعلنا هذا نفكر في احتمال أن تكون هناك حاسة أو حواس أخرى يفتقدها الجنس البشري ولا يدري عنها شيئا، تجعل تمثله للعالم ناقصا، وواهيا بالضرورة، إذا قورن بمخلوق خيالي آخر يمتلك مثل هذه الحواس الإضافية.
كان لأفلاطون تصور مهم في هذا السياق، كان يرى أننا في هذا العالم نشبه من يجلسون منذ ولادتهم في كهف وظهورهم متجهة إلى مدخله، كلما مر أحد أو شيء أمام مدخل الكهف رأوا ظله على الحائط. كل تصورهم عن العالم ينبع من هذه التجربة المحدودة؛ هذه الظلال هي العالم بالنسبة لهم. في هذا المثال الذي تخيله أفلاطون يقرر أحد هؤلاء في وقت ما أن يقوم من مكانه ليخرج من الكهف، تؤلمه عيناه في البداية من كمية الضوء التي لم يعتدها، يصاب بعمى مؤقت، يفكر في العودة إلى الكهف في الحال، لكنه لسبب ما يقرر البقاء في العالم الجديد بعض الوقت، يظل حائرا لأيام، بعدها لعله سيبدأ في تفهم الحقائق الجديدة التي يقابلها، لعله سيدرك أن ما كان يعتبره من قبل هو كل العالم، لم يكن سوى ظلال لحقيقة أوسع وأعمق وأكثر تنوعا، وحين يقرر فيما بعد العودة مرة أخرى للكهف قد تكون كل تصوراته القديمة عن العالم قد اختلفت بالكامل. ما الذي سيحدث إن حاول أن يخبر رفاقه في الكهف عما رأى؟
هذا المقال ليس كتيبا إرشاديا، لا يريد أن يقدم نظرة ما للحقيقة أو للعالم، بل هو في المقابل يتحيز للسؤال، يتحيز ل «ماذا لو؟» التصورات المختلفة للعالم موجودة دائما، وهي لا تحتاج إلى أن تكون دائما متحاربة؛ هناك تصورات أنضج من تصورات، لكن هناك دائما حقيقة ما في كل تصور للعالم. لا تحتاج إلى تبني فكرة ما لتستفيد منها أو لتستمتع بها، يكفيك أن تتبنى السؤال لبعض الوقت، وأن تتعلم ما الذي ستستفيده من كل منظور. اللعب مع العالم، ومساءلته، مفيد ومسل في أوقات كثيرة. أن نتعلم تصورات الآخرين له، والكيفية التي يتعاملون بها مع تفاصيله، وأن نتساءل عن سبب رؤيتهم للعالم بهذه الطريقة، هو أمر ملهم لأفكار وتصورات إبداعية وفكرية مختلفة. لا تحتاج أن تشهر أسلحتك في وجه كل منظور مختلف للعالم، لمجرد أنك تختلف معه؛ لأنه حتى لو كان خاطئا يمكنك أن تتعلم منه. كما أن طرح الأسئلة يقينا من الجمود؛ فأحيانا تكون عيوننا مفتوحة على اتساعها لكنها لا ترى ما هو باد أمامها، ربما لأنها لا تتوقعه، أو لعله التعود الذي يخفي عنا التفاصيل أحيانا.
صفحة غير معروفة
الحوار وشبه الحوار
1
في حلقة ما من برنامج «حواري» يجلس الضيفان أحدهما في مواجهة الآخر، وبينهما مقدم البرنامج، بعد دقائق من بداية الحلقة يعلو صوتاهما، ويبدأ الاحتداد. يمكننا أن ندرك دون صعوبة من المشهد الذي نراه ومن طريقة الحوار التي نسمعها أن الطرفين هنا لا يخاطب أحدهما الآخر، هما في الحقيقة يخاطبان جمهور المشاهدين في خطب قصيرة عصبية متبادلة يقاطع فيها كل منهما خصمه. في هذا السياق ستعد أي بادرة من أحدهما للاقتناع بمنطق الطرف المضاد - أو مجرد الميل نحوه - ضعفا وانهزاما غير مقبول. كل من الضيفين جاء وهو متأكد كل التأكد أنه على حق وأن الطرف الآخر لا شك مخطئ، أو على الأقل هما يظهران ذلك. قد لا يعترفان بهذا، وربما قد لا يدركانه حتى، لكن كلا من الطرفين قرر مسبقا في هذه الحالة أنه لا يحتاج للتمعن في أي شيء يقوله الآخر، إلا بالقدر الذي يمكنه من إثبات خطئه، وإحراجه إن استطاع أمام جمهور المتفرجين.
2
كان سقراط يقول: «أنا أعرف أنني لا أعرف أي شيء.» لكنه كان يحب الجدل، ويحب اختبار الرجال بالحوار، وكان يحاور رجالا فخورين بأنفسهم، واثقين من علمهم. وربما كان هذا اليقين المبالغ فيه يغيظه قليلا؛ لأنه عندما كان يخوض حواراته مع أمثال هؤلاء الرجال، كان يبدأ الحديث دائما بأسئلة بريئة في الظاهر، ثم ينقل الحوار من نقطة إلى نقطة؛ حتى يربك محاوريه إلى الدرجة التي تمكنهم من رؤية أنهم حقا لا يعرفون ما يعتقدون أنهم يعرفونه.
أفلاطون تلميذه خلد هذه الطريقة، من خلال كتاباته التي جاءت في معظمها على شكل محاورات بطلها سقراط. ومن خلال هذا الشكل، نجح في مناقشة عدد من الموضوعات المهمة. مكن هذا الشكل أفلاطون من عرض عدد من وجهات النظر المختلفة وهي تتجادل حول موضوع ما، وبفضل هذه المحاورات أصبح أفلاطون واحدا من أهم الفلاسفة على مر التاريخ. ولم يتوقف استخدام شكل المحاورة في الفلسفة بعد أفلاطون، بل استخدم من قبل عدد من الفلاسفة في العصور الوسطى والحديثة.
3
في القصة أو الرواية، يستخدم الحوار لأغراض متنوعة؛ منها نقل الحالة النفسية، أو تطوير الحدث، أو التعريف بالشخصيات وبدوافعها. الحوار الذي يمتعني كقارئ يكون في الغالب حوارا ثريا بين شخصيتين مرسومتين بشكل واقعي وحي، ينتقل الحديث بينهما جيئة وذهابا بشكل حيوي وفعال ومتطور. أستمتع بالحوارات التي أشعر في ثناياها بجدل حقيقي بين حالتين مختلفتين، حوارات تجدها في أعمال دوستويفسكي مثلا. وفي المقابل، نقرأ أحيانا حوارات باهتة كأنها مكتوبة بين شخصية وظل شخصية، يقتصر دور هذا الظل فيها على مجرد تسليم الحوار للطرف الآخر.
تخيل رواية تعتمد بالكامل على هذا الشكل الباهت من الحوار، ستكون ضعيفة في الغالب؛ لأن جزءا أساسيا من طبيعة الرواية ومتعتها يتمثل في حالة التنوع والتمايز والجدل بين الأصوات المختلفة. ميزة من مزايا الرواية الأساسية هي قدرتها على احتواء هذا الخليط المتنوع من الأصوات: اللهجات، الخلفيات الاجتماعية، القناعات، الانتماءات السياسية، المستويات الثقافية، المهن ...
4
صفحة غير معروفة
تتوقف قليلا بعد قراءتك لفقرة من كتاب ما، لتسترجع ما قرأته، تتأكد من فهمك وإلمامك بما قيل، قد تتساءل عن مدى اتفاقك أو اختلافك مع ما هو مكتوب، قد تناقش رؤية المؤلف، وتستعرض آراء بديلة لتقارن بينها وبين الفكرة المعروضة، قد تتفق فقط مع بعض ما يقال، وتختلف مع البعض الآخر، قد تسجل هذه الأفكار التي راودتك لتعود لها بعد ذلك كي تختبرها. هذه الدقائق التي تتوقف فيها بين الفقرة والفقرة لتحاور نفسك، وتحاور الكتاب الذي تقرؤه، ليست ترفا، إنها أهم ما في عملية القراءة، هي ما يمكنك من فهم ما تقرؤه، ومن وضعه في سياق أوسع من قراءاتك المختلفة في الموضوع نفسه أو موضوعات مختلفة. دون هذه الدقائق تتحول القراءة إلى عملية تلق سلبي، تحفظ فيه ما هو مكتوب ثم تعيد إرساله مرة أخرى دون فهم أو مراجعة، أو حتى إعادة صياغة. تماما كالصورة التقليدية التي تنتجها بعض أنظمتنا التعليمية لطالب يذرع الغرفة لمرات مرددا عبارات مكتوبة في كتاب أمامه، بغرض حفظها.
5
أي حوار، سواء أكان حوارا في الشارع أم في العمل أم في برنامج رأي أم حوارا أدبيا، هو حالة من التفاعل بين أطراف مختلفة، يؤثر كل منها في الآخر. الحوار الصحي يظهر أفضل وأرقى ما فينا، لكن إن بدأ المتحاورون - كلهم أو بعضهم - الحوار وهم محصنون بالخوف، أو الجمود ضد التأثر بالآراء الأخرى، محصنون باليقين ضد أي إمكانية للشك في صحة مواقفهم، يتحول حينئذ الحوار إلى مسخ.
الحوار ليس مجرد كلمات يتبادلها طرفان أو أكثر، إنه حالة تطرح فيها أفكار وخلفيات مختلفة نفسها، لتتفاعل معا. المجتمع الذي يرفض الحوار بمفهومه الأوسع هو مجتمع يتحيز للثبات؛ لأن الحوار الحقيقي حركة مستمرة. لا يمكن التخلي عن هذا التنوع من الآراء لصالح رؤية واحدة أيا كانت. حتى وأنت جالس في الغرفة منفردا، تفكر أو تتأمل أو تقرأ، تحتاج هذا التنوع، هذا الجدل في داخلك، تحتاج إلى هذه الأسئلة، إلى تمثل الآراء المختلفة والتحاور معها؛ كي تكون هذه العزلة مبدعة.
وجهات النظر: بين النسبوية والحقيقة الوحيدة
1
ربما تكون قد شاهدت فيلم راشمون
Rashomon-1950
للمخرج الياباني كوروساوا، والذي يعرض أربع رؤى متباينة لحدث واحد، هو مقتل الساموراي «كانازاوا تاكيهيكو». تعرض كل شخصية زاوية من الحدث تعبر عن نظرتها للحقيقة، ومع توالي الرؤى تفاجأ - كمشاهد - بمقدار التناقض بينها، ومقدار التشويه الذي حدث في كل زاوية نظر.
هذه الانتقائية نمارسها في حياتنا بشكل مستمر: ونحن في بيوتنا، ونحن نسير في الشارع، ونحن نتعامل مع الآخرين. قد نعرف شخصا ما لفترة طويلة، لكننا نحتار ونتبلبل مثلا إن سألنا أحدهم عن تفصيلة ما تخصه. والوعي بهذه الفكرة من النقاط المهمة في تقنية كثير من الأعمال الفنية والأدبية، ومنها القصة والرواية على سبيل المثال. على الروائي في كل جزء من روايته أن يختار زاوية النظر التي سينقل بها الحدث الذي يريد نقله، هل سيستخدم الراوي العليم أم الراوي المشارك؟ ومن أي زاوية سينقل المشهد الذي يريد وصفه؟ الوعي الحديث يدرك أن الراوي لا ينقل الحقيقة بالضرورة كما حدثت، لكنه ينقلها كما رآها أو كما يريدنا أن نسمعها.
صفحة غير معروفة
2
يشير راي كيرزويل في كتابه «عصر الآلات الروحية» إلى ما يسمى بحوسبة تدمير المعلومات. وفيها يحاول المهندسون والمبرمجون محاكاة عملية يقوم بها العقل البشري بشكل تلقائي، وتعتمد - باختصار - على محاولة مساعدة الحاسب على اختيار المعلومات ذات الأهمية وتدمير غيرها من المعلومات؛ لأن «هناك الكثير من المعلومات الفجة في العالم التي لا تستحق أن نستمر في حفظها كلها.»
أمر طبيعي تماما، لا يمكنك أن تتعامل مع كم المعلومات التي تقابلها خلال اليوم باعتبار أنها على نفس القدر من الأهمية، لا بد أن يصنفها عقلك؛ يحتفظ بالضروري منها، ويتخلى عن غير الضروري. لكن كيف يصنفها؟ كيف يحدد العقل أي المعلومات هو المهم وأيها غير مهم؟ هل هو أمر فطري يشترك فيه الناس جميعا؟ أم أن هذا التصنيف ذاته هو عملية تعتمد على نموذج معرفي مكتسب غير محايد تتم فلترة الواقع من خلاله؟ نميل اليوم إلى إعطاء أهمية كبيرة لدور النموذج المعرفي الذي يتبناه الإنسان في تحديد رؤيته للعالم، دون أن يعني هذا بالضرورة عدم وجود بعض القوانين أو القواعد الفطرية كذلك.
3
في كتابه «بنية الثورات العلمية» يشير توماس كون إلى مفهوم البرادايم أو النموذج المعرفي. ومن خلاله يقدم فلسفة مختلفة للتطور العلمي، فبدلا من الصورة التقليدية التي كانت ترى أن العلم يتطور بشكل خطي ومستمر، أوضح كون أن فكرة الحقيقة العلمية في لحظة بعينها، لا يمكن تأسيسها على معايير موضوعية فقط؛ لأنها تتأثر أيضا بالمجتمع العلمي الذي يتم تداولها فيه. يتعرض كون في هذا السياق إلى فكرة «النموذج المعرفي»، وهو يرى أن نموذجا معرفيا ما يسيطر في كل مرحلة، يساعد على رؤية الواقع وتفسيره، ويستمر هذا النموذج قائما ما دام قادرا على تفسير الواقع بشكل مرض. لكن مع تغير الزمن، تبدأ في الظهور مجموعة من الظواهر التي لا يمكن تفسيرها من خلال النموذج القائم، وتكون هذه هي بداية انحلاله، وبروز نموذج جديد أكثر تطورا وأكثر دقة وشمولا. من الأمثلة البارزة التي يوردها هنا رؤية الكون عند بطليموس الذي كان يرى أن الأرض هي مركز الكون، ثم عند كوبرنيكوس الذي رأى أن الشمس هي مركز الكون، ثم نيوتن ثم أينشتاين.
لكن لا يعني هذا أن المعرفة العلمية هي مجرد وجهات نظر لا تتميز على غيرها، فهناك دائما مواصفات للنموذج المعرفي الناجح، تتمثل في قدرته على تقديم تفسير للعالم يمكن اختباره، ويستطيع القيام بتنبؤات دقيقة. المقصود هنا هو توضيح كيف أنه حتى في إطار المعرفة العلمية - التي تشدد على الدقة وعلى الضبط - لا يمكن لنموذج بعينه أن يدعي الصحة المطلقة، أو أن يفترض حصانة دائمة؟ هناك دائما مساحة للنقاش ووجهات النظر والخلافات. هناك مساحة لنظرية جديدة كي تبرز، تختلف عن بعض جوانب الفهم السابق عليها وربما تناقضها. والتاريخ العلمي مليء بذكر العلماء الذين لم يتفهموا أو رفضوا نظريات جديدة أفضل لأنها تخالف الفهم الذي اعتادوه للعالم، دون أن يوقف هذا الرفض الجديد من البروز. في العلم تبقى النظرية ناجحة فقط ما دامت صامدة وقادرة على تبرير وجودها باعتبارها الأكثر قدرة على التفسير والتنبؤ.
4
التأكيد على الاختلافات والتفاوتات في النظر للعالم لا يعني أن الرؤى كلها متساوية في القيمة، أو أن أيا منا يستطيع أن يدافع عن أفكاره فقط بعبارات محفوظة من نوعية «هذا رأيي»، أو أن يكتفي مثلا بأن يتذرع بأنه يدافع عن هوية متخيلة أيا كانت. المقصود على العكس هو التأكيد على قيمة الحوار، وقيمة التساؤل، وأهمية مراجعة الذات، وتفهم التنوعات، وقبول الآخر، والتسامح مع المختلفين؛ لأن الحقيقة قد تكون مع الآخر، أو قد يمتلك كلانا أجزاء منها، دون أن يحيط بها.
لكن المفارقة أنه يحدث أن يستخدم البعض فكرة النسبية الثقافية، أو تنوع وجهات النظر نفسها في الدفاع عن تعصبات منغلقة لا تتقبل الآخرين. وهي المفارقة التي يشير لها «توماس هيلاند إريكسن» في كتابه الذي صدرت ترجمته العربية منذ عامين تقريبا تحت عنوان: «مفترق طرق الثقافات: مقالات عن الكريولية». وفي هذا الكتاب يقول إريكسن: «من المضحكات المبكيات أن نظريات «النسبية الثقافية» في علم الأنثروبولوجي، التي وضعت أساسا لمناهضة «الشوفينية» والعصبية «القومية»؛ كان لها تأثير مضاد، ومعاكس تماما للهدف الذي وضعت من أجله.»
5
صفحة غير معروفة
توسيع الرؤية عن طريق الاطلاع على زوايا مختلفة ووجهات نظر متنوعة هو أمر مدهش دائما، وهو لا يتعارض مع قدرتك على اختيار زاوية مفضلة، أو قناعة خاصة بك، لكنه بالتأكيد يتعارض مع قمع الآخر، وإسكات الأصوات المخالفة؛ لأن عالم اليوم بتقنياته التي تتطور بشكل غير مسبوق - من وسائل إعلام مرئية ومسموعة، ومقروءة، وشبكات إنترنت - هو عالم ضد المنع، عالم يستحيل فيه محو الأفكار المخالفة. عصرنا - شئنا أم أبينا - متعدد الأصوات، والتنوع جزء من جوهره، لا مجرد عرض من أعراضه التي يمكن السيطرة عليها أو التخلي عنها.
المقصود هنا
Relativism ، وجرى العرف بترجمتها هكذا؛ تفريقا لها عن كلمة
relativity . وقد أجازها مجمع اللغة العربية في مصر.
نظريات المؤامرة وتفسير العالم
1
أب يعلم ابنه الصغير، فيشير إلى حيوان ما يعبر الطريق: «هذا قط.» ينظر الطفل باهتمام، ويردد خلفه. في يوم تال يرى الطفل حيوانا يمشي في الشارع؛ فيشير فرحا: «قط!» يصحح له أبوه: «لا، هذا كلب.» يحاول برفق أن يوضح له الفوارق.
في اللحظة التي يشير فيها الطفل إلى كلب يمشي في الشارع باعتباره قطا، نعرف أنه لا يعرف ما هو الكلب، والأهم في هذا السياق أن ندرك أنه لا يعرف كذلك ما هو القط، رغم أنه قد يكون قد تعرف قبلها بلحظات على قط ما يمشي في الشارع؛ لأن كلمة أو مفهوم «قط» تكتسب معناها - وفقا لما تعلمناه من العالم اللغوي «سوسير» - من خلال اختلافاتها مع الكلمات/العلامات الأخرى؛ فمثلا، لا يمكنك أن تعرف ما هو اللون الأخضر إلا في سياق معرفتك للون الأزرق واللون الأصفر وبقية الألوان؛ لأن المعرفة التي تتيح لك أن تميز الأخضر عن بقية الألوان تتطلب بالضرورة أن تكون قادرا على فهم الاختلافات بين هذه الألوان المختلفة.
في سياق مقارب يقال عن التعريف المثالي إنه تعريف جامع مانع. جامع: أي إنه يضم كل مفردات الشيء الذي يعرفه؛ بمعنى أن يكون الطفل في المثال الأول - بعد أن يتعلم هذا التعريف - قادرا على التعرف على أي قط يسير في الشارع. ومانع: أي إنه يمنع ما سوى هذه المفردات من أن يدخل تحت هذا التعريف؛ أي إنه يحمي الطفل من أن يخطئ، فيشير إلى كلب أو حصان باعتباره قطا.
2
صفحة غير معروفة
يعدو الراعي الصغير داخل القرية مفزوعا، يصرخ بأعلى صوته: «الذئب! احذروا الذئب!» فور سماع أهالي القرية للصراخ يخرج رجالهم مسرعين، وفي أيديهم العصي والفئوس، وحين يخرجون إلى أطراف القرية حيث قطيع الأغنام لا يجدون ذئبا، فقط قطيع من الأغنام يرعى بسلام. ينظرون إلى الصبي بغضب ويذهبون. نعرف القصة، حين يتكرر نفس هذا الأمر مرة تلو المرة، يتوقف أهالي القرية عن الاستجابة للنداء، حتى يأتي الذئب فعلا ويلتهم الغنم.
دعونا فقط نعدل القصة قليلا لأغراض هذا المقال. لنفترض أن الراعي الصغير لم يكن يكذب، أو لم يتعمد الكذب، لنفترض أنه فقط شغوف بالذئاب، أو أنه يخشاها أكثر مما يخشى أي شيء، الخوف يشوشه بطريقة تجعله يرى الذئب فعلا في كثير من الأشياء من حوله، مرة يرى شاة شاردة أو ظل شجرة فيظنه ذئبا، أو يستمع إلى صوت بعيد فيتأكد أنه عواء، أو يرى كلبا غريبا من بعيد فيظنه ذئبا. هذا الفتى إذن لا يكذب، هو فقط يريد أن يحمي نفسه والبلدة من الذئاب، لكنه لم يفعل!
3
أفكر دائما أن شخصا مصابا بالبارانويا أو مهووسا بنظرية المؤامرة على سبيل المثال، سيكون قادرا في أوقات ما على رؤية مؤامرات حقيقية فعلا قد لا نراها، لكن هذه المعرفة لا تجعله محقا، لا تجعله حكيما، لا تعطيه الحق في أن يتلبس دور زرقاء اليمامة التي تجاهلت القبيلة تحذيراتها؛ لأنه باختصار ليس حكيما، إنه تماما كالطفل في المثال الأول، أو كالراعي في المثال الثاني.
حين نفسر كل شيء في الحياة بتفسير وحيد: غزاة من الفضاء، أو المؤامرات الخارجية، أو المؤامرات الداخلية؛ فنحن في الحقيقة نصيب أنفسنا وربما الآخرين بعمى من نوع خاص؛ لأن الأمر كما يقولون: «ما يصلح تفسيرا لكل شيء لا يصلح تفسيرا لأي شيء.» حين نفسر كل شيء بتفسير وحيد جاهز نضيع على أنفسنا فرصة التوقف لبرهة، وتأمل المشكلة، والوقوف على أسبابها الحقيقية بشكل دقيق، ومحاولة البحث عن حلول واقعية لها.
4
لنظرية المؤامرة جاذبية خاصة بالنسبة لنا هذه الأيام. ربما تتصاعد هذه الجاذبية كرد فعل على انسحاق الفرد في عالم الحداثة: عالم الشركات الكبرى والدعاية الكثيفة والإعلام الموجه، عالم البنايات العملاقة والشركات عابرة الحدود. لعلها طريقة نعوض بها إحساسنا بالضآلة في أوطاننا أو في العالم. في كثير من الأحيان يكون ما نراه من مؤامرات ومخاوف معبرا عن داخلنا نحن، أكثر مما يعبر عن العالم خارجنا.
في أوقات ما قد تكون هناك مؤامرات بالفعل، الفكرة التي أقصدها هنا ليست إنكار وجود مؤامرات، ما أقصده أن شخصا يرى فقط المؤامرة في كل حدث أو موقف هو شخص تشوهت نظرته للعالم؛ كما في قصة الذئب. أن تكون محقا مرة من كل عشر مرات لن يحميك ولن يحمي القطيع من الخطر الذي تخافه.
5
مشكلتي الأكبر مع نظرية المؤامرة كطريقة لرؤية العالم لا تتعلق بكونها صحيحة أو غير صحيحة، مشكلتي معها في الغالب أنها خطاب - حتى في الحالات التي يكون فيها على صواب - يركز غالبا على عنصر وحيد من عناصر المشكلة؛ وهو أفعال الآخر ضدك (فردا، أو جماعة، أو دولة)، مع تجاهل عواقب أفعالك الخاصة (ما تفعله أو ما لا تفعله). تتحول النظرية في أوقات كثيرة إلى خطاب تبريري، بدلا من أن تكون أداة للفعل. لكن فكر: لو أنك ترى العالم فقط كساحة معركة، كم سيكون سخيفا أن يبرر قائد ما خسارته للمعركة بحجة أن الجيش المعادي كان يقتل جنوده؟!
صفحة غير معروفة
طرق
1
لنتخيل طريقا ما ينقسم مثلا إلى ثلاثة طرق فرعية، ينقسم كل طريق فرعي بدوره بعد مسافة إلى ثلاثة طرق أخرى، وهكذا باستمرار. يتفرق الناس إذن مع الوقت في الطرق التي كانت طريقا واحدا؛ سيأخذ فريق من الأشخاص دائما الطريق الأول دون تفكير، وسيأخذ فريق آخر الطريق الثالث دون كثير من التمهل، بينما سيأخذ فريق الطريق الثاني. لو أن أحدهم تمكن من النظر إلى شبكة الطرق هذه من أعلى فقد تبدو كشجرة كبيرة كثيفة الفروع؛ حين يتحرك الناس في طرقها، ستبدو لوهلة كأنها تتحرك أيضا. وقد يحس من ينظر وقتها أنها، كأي شجرة، بها الكثير من الفروع والأوراق، بعضها حي وبعضها ميت، لكنها ستواصل النمو حتى النهاية: نهايتها.
2
سواء أدركنا هذا أو لم ندرك؛ كلنا يمتلك تصورا ما للحياة. قد يكون هذا التصور ناضجا وقد يكون غير ناضج، قد يتبدل بتبدل مواقعنا، وقد يظل ساكنا أو شبه ساكن، قد يكون واضحا أو مشوشا. لكننا نسير على هديه على أي حال كأنه مصباح متخيل، أو ربما خريطة، لكنها خريطة ليست صحيحة بالضرورة، لا ترشدنا دائما إلى المكان الذي نحتاج للوصول إليه. قد لا نعلم أصلا إلى أين نريد أن نذهب، لكننا نواصل الحركة؛ ربما يكون الحفاظ على حركتنا أهم من الوجهة التي تأخذنا إليها. نسير مع هذا خائفين من أن نضل، خائفين من أن يسبقنا الآخرون، أو أن نؤدي أسوأ من أداء الآخرين، وقد يتعاظم هذا الخوف عند البعض للدرجة التي يمنعهم فيها من الحركة تماما. هذا الخوف قد يكون أحد أسباب عدائيتنا تجاه المختلفين في بعض الأحيان؛ فمجرد معرفتنا بوجودهم قد يكون مقلقا لنا، ومهددا لرضانا باختياراتنا. يقول هرمان هسة في رواية دميان (من ترجمة عبده الريس): «عندما تكره شخصا ما فأنت تكره شيئا فيه هو جزء من نفسك؛ إن ما ليس جزءا من أنفسنا لا يزعجنا.»
3
عند كل مفترق طرق، غالبا ما سيهاجم أصحاب كل طريق من اختاروا الطريقين الآخرين. أتخيل أحدهم يقول: «لقد قدتنا خلال الدرب الأول في المرة الماضية وكنت مخطئا.» أو: «أنت تقودهم إلى الطريق الثالث الذي سيهلككم جميعا.» أو: «أنت دائما تريد الأمان، دائما تختار المواءمات؛ ولهذا اخترت الطريق الثاني.» سترى أناسا يسيرون دائما مع الفريق الذي يتخيلون أنهم ينتمون إليه بشكل أكبر، دون أن يفكروا كثيرا في الطرق نفسها وطبيعتها، سيقول أحدهم: «كثير ممن أعرفهم سيسيرون من هذا الطريق، لا بد أنهم على صواب.»
4
رغم فوائده، يؤثر انتماؤنا إلى جماعة على حكمنا على الأمور أحيانا، بحيث إن تقديرنا لبعض الأمور يختلف حال وجودنا منفردين، عن تقديرنا للأمور نفسها ونحن في جماعة ما. والمقصود هنا ليس مجرد الوجود وسط حشد ما من البشر بالمصادفة مثلا، لكن المقصود هو ما وصفه «غوستاف لوبون» بالجماعات المنظمة أو الجماعات النفسية، والتي يرى أنها تتكون حين يكتسب لفيف من الناس صفات جديدة مختلفة عن صفات كل فرد من هذا اللفيف؛ فتتلاشى الشخصية الواعية، وتتجه أفكار كل واحد منهم نحو جهة واحدة، وتتكون روح مشتركة.
يقول غوستاف لوبون في كتاب «روح الجماعات» (وأعتمد هنا على ترجمة عادل زعيتر):
صفحة غير معروفة
وهكذا ترى محلفين يصدرون أحكاما يعيبها كل واحد منهم على انفراد، وهكذا ترى مجالس برلمانية تسن قوانين وتتخذ تدابير يرفضها كل عضو من أعضائها على حدة، وهكذا كان حال رجال مجلس العهد من أبناء الطبقة الوسطى ذوي العادات السلمية، فلما اجتمع أولئك الرجال وتألفت منهم جماعة لم يترددوا، بتأثير بعض الزعماء، في إرسال أوضح الناس براءة إلى المقصلة.
ويقول أيضا في الكتاب نفسه:
تلك هي حال الفرد في الجماعة تقريبا، وفي الجماعة يعود الفرد غير شاعر بأفعاله، وعند ذلك الفرد، كما عند المنوم، فيما تزول بعض الملكات تشتد ملكات أخرى اشتدادا عظيما، فيندفع الفرد، بفعل التلقين، في إنجاز بعض الأعمال صائلا صولة لا يقدر على مقاومتها، وتكون الصولة أشد اندفاعا في الجماعات مما في المنوم؛ وذلك لأن التلقين إذا كان واحدا لدى جميع الأفراد في الجماعات يزيد بالتفاعل، وأفراد الجماعة الذين لديهم من قوة الذات ما يقاومون به التلقين قليلون إلى الغاية، ويجرهم السيل، وإنما الذي يستطيعون محاولته هو تحويل المجرى بتلقين مختلف، فهم إذا ما صدرت عنهم كلمة طيبة أو أثاروا خيالا ملائما أمكنهم في بعض الأحيان أن يصرفوا الجماعات عن اقتراف أفظع الأفعال.
5
سيفكر أفراد هذه القلة التي تحدث عنها «لوبون» كل مرة في الاختيارات نفسها بجدية، سيقلبون الاحتمالات في رءوسهم، سيتساءلون عن جودة كل اختيار وميزاته وعيوبه، محاولين أن يتعلموا من اختياراتهم السابقة، ومن آراء الآخرين وتجاربهم. قد يفكر أحدهم مثلا: «هل يشبهني هذا الطريق أم لا؟» ذاتهم حاضرة، حيرتهم الحقيقية تشي بهم، يرون أكثر من غيرهم أحيانا، أقل منهم أحيانا، يتبلبلون في أوقات كثيرة في اختيارات تبدو واضحة، هم يعلمون أن التعميمات والرؤى القبلية قد تكون حجابا على العقل، يقولون: «أحيانا يكون هناك طريق واحد صحيح، وأحيانا يكون هناك أكثر من طريق صحيح، وأحيانا أخرى تكون كل الاختيارات وهمية، وفكرة الاختيار نفسها فخ.»
كأننا نحتاج من يذكرنا: نحن أحرار، والحرية تعني - من ضمن ما تعني - الاستقلال المادي والفكري، تعني أنه من حقك أن تسير في الحياة بأي شكل تختاره، دون أن يعتبر بعض أفراد المجتمع ما تفعله في حياتك الشخصية أمرا يملكون أن يعاقبوك عليه. أحيانا نتقمص المجتمع نحن أنفسنا؛ فنحاول أن نتبع النموذج الذي وضعه، ونعاقب أنفسنا لأننا لم نتبعه، رغم أنه حقيقة لا يناسبنا ولا يقنعنا ولا نريده. ربما، كي لا نبقى وحيدين.
إعادة تشكيل العالم
1
ما زال جزء مني يعتقد أن هذا مستحيل، عقلي لا يستوعب الأمر بالكامل رغم أني قرأت عن الجانب النظري فيه لمرات؛ ربما لأني غير متخصص، وربما يكون الأمر فعلا غير معتاد. الآن وأنا أكتب على برنامج الكتابة في حاسبي الشخصي ما أكتبه الآن، أتمنى لو أستطيع أن أفهم كيف فكر آلان تيورنج
Alan Turing
صفحة غير معروفة
في آلاته التي ستتطور لتصبح الكمبيوتر الذي نتعامل معه بهذه العادية كجزء طبيعي ومعتاد ومتوقع من حيواتنا. كيف فكر في تصميمها؟ وما الذي جعله يعتقد أنها ممكنة للدرجة التي حمسته بما يكفي لكي يتم ما أتم؟ يمكن للكثيرين الآن أن يقوموا بتجميع جهاز حاسب شخصي بسهولة، لكن هذا لا يعني أنهم يفهمون حقا كيف يعمل، لا يعني بالتأكيد أنهم لو عادوا بمعجزة ما بالزمن فسيكونون قادرين على تكرار ما بدأه آلان تيورنج. جزء مني يحس أن ما فعله هو مستحيل تماما وغير منطقي، لكني أراه الآن وأستخدمه، وهذا يشعرني بالضآلة، ويجعل جزءا مني دائما يشك فيما أعتقده؛ ما أظن أنه ممكن وما أظن أنه غير منطقي.
كنت أشاهد فيلم
The Imitation Game
الذي يروي جزءا من حياة آلان تيورنج، وأفكر من أي طينة تتكون العبقرية. لماذا لا نستطيع أن نفعل ما يفعله هؤلاء الأفذاذ؟ هل هي الوراثة؟ هل هو العمل الشاق؟ هل هي المعرفة؟ هل هو الشغف؟ هل يمكن أن تقرر أن تكون عبقريا؟ أشك في ذلك. لكن يمكنك أن تعمل بأقصى ما تستطيع، وقد تتمكن حينها من أن تحقق أشياء عظيمة.
في التاريخ نقرأ عن هؤلاء الرجال الذين يوسعون العالم بطرق لا يمكننا أن نتخيلها؛ يثورون على ما يعتقد عامة الناس من أمثالي أنه طبيعي، وممكن، وعادي، وغير قابل للتغيير. أحيانا يختفي هؤلاء الرجال بيننا، لا نعرفهم إن قابلناهم في الطريق، ربما لا نعتقد أنهم يستحقون أن ننظر لهم نظرة ثانية؛ إن سمعناهم فقد نصفهم بالغباء، أو بنقص في العقل، دون أن نعلم أن النقص والغباء في عقولنا نحن، وكما يقول الفيلم: «أحيانا الأشخاص الذين لا نتوقع منهم أي شيء هم من يقومون بالعمل الذي لا يمكن لأحد أن يتخيل إمكانه.»
2
يقول والتر إيزاكسون عن أينشتاين (في كتابه: «أينشتاين: حياته وعالمه»/ترجمة: هاشم أحمد محمد):
جاء نجاحه من تشكيكه في المنطق السائد، وتحديه للسلطة، ووقوفه مذهولا أمام ألغاز رآها الآخرون أمورا عادية مألوفة لدرجة الابتذال، وأدى به هذا إلى اعتناق أخلاقيات وميول سياسية قائمة على احترام العقول الحرة، والأرواح الحرة، والأشخاص الأحرار؛ فقد كان يبغض الطغيان، ولم يكن يرى في التسامح فضيلة مستحبة فحسب، بل شرطا ضروريا للمجتمع المبدع، وقال: «من المهم أن نشجع الفردية؛ لأن الفرد وحده قادر على أن يبتكر الأفكار الجديدة.»
هذه النظرة جعلت أينشتاين متمردا يقدس تناغم الطبيعة؛ شخصا لديه المزيج الصحيح من الخيال والحكمة لتغيير مفهومنا للكون. وهذه الصفات لها أهميتها في هذا القرن الذي تسوده العولمة، والذي يعتمد نجاحنا فيه على قدراتنا الإبداعية، كما كان لها أهميتها في مطلع القرن العشرين عندما ساعد أينشتاين في مولد العصر الحديث.
علماء فيزياء أفذاذ لم يتمكنوا من استيعاب أو تقبل الأفكار الثورية لأينشتاين، ولسخرية القدر لم يتمكن أينشتاين نفسه - فيما بعد - من تقبل الأفكار الثورية التي قدمتها نظرية الكم التي كان أحد روادها الذين مهدوا لها الطريق، يقول هو عن ذلك: «جعلني القدر سلطة ليعاقبني على احتقاري للسلطة.»
صفحة غير معروفة
يقول جايمس غليك عن هذه الظاهرة (في كتابه: «نظرية الفوضى: علم اللامتوقع»):
من الممكن امتصاص الأفكار السطحية؛ فيما تثير الأفكار التي تتطلب من الناس إعادة تنظيم صورة الكون في مخيلاتهم، عداوات مرة.
3
ما الذي يجعل هذه الثورات ممكنة؟ أظن أن الإجابة لا تكمن فقط في وجود الشخص الذي يملك المقدرة والشغف؛ فلا بد بالإضافة إلى ذلك أن يكون في استطاعته أن يسأل السؤال الصحيح في الوقت الصحيح، أن يجد لغزه الخاص، تلك الأحجية التي يعلم أن السعي وراء حلها يستحق أن يخصص له وقته، وأن يراهن عليه. الفكرة في العقول التي تنظر إلى عادي الناس ومألوفهم لترى غير المنطقي أو غير المكتمل؛ العقول التي تتحدى رؤيتنا المعتادة للعالم بثورتها وتمردها. لا أعلم كيف يتمكنون من الحفاظ على شغفهم هذا متقدا، دون ملل أو يأس، دون أن تتسرب إليهم تلك الواقعية البلهاء التي تجعلهم يلتصقون بأرض الناس العاديين من أمثالنا من جديد، وتجبرهم على التوقف عن التحليق.
تعليمات مقترحة لغارق في متاهة
1
لنتخيل أول جدار يبنيه إنسان. بجواره شخص ما يشعر بالراحة أو بالفخر. ربما كان يبحث عن الأمان، أو عن الدفء. لعل الأمر استمر كذلك فترة طويلة قبل أن يكتشف البشر وظيفة أخرى للجدران، أو - على الأقل - فهما آخر لوظيفة قديمة هي الأمان. وقتها لم يعد الخائف هو من يختبئ داخل الجدران بالضرورة، فقد صرنا أحيانا نضع مصدر الخوف داخل الجدران، الآن لم يكن الجدار مجرد بيت، بل صار سجنا أحيانا. في الحقيقة تحول الأمر بمرور الوقت إلى أن صار كل جدار يمارس بشكل ما الوظيفتين معا، بنسب مختلفة.
2
تشبيهك بالسجين ليس تشبيها محكما كما تعتقد. على الأقل ليس حسب الفهم الشائع. أنت مقيد داخل الحوائط أوافقك على هذا، لكنك تدرك مثلي أن ما يمنعك من الخروج ليس فقط الناس والحجارة، بل شيئا ما داخلك. يمكنك أن تستبدل خوفك بهوس ما بتحطيم الحوائط دون أن تصير حرا ودون أن تخرج للنور.
3
صفحة غير معروفة
مشكلة الحوائط هي وظيفتها المزدوجة: الأمن/السجن. كل حائط هو ذو وجهين بالضرورة، وغالبا يغريك الحائط بأحد وجهيه ويهددك بالآخر كي تبقى داخله، وأنت قد تبقى في داخله، أو قد تنشغل بتحطيمه، دون أن تسأل نفسك السؤال الأهم: ماذا أريد؟
لماذا هذا السؤال؟ لأنك مهما كنت بارعا في تحطيم الحوائط، لا يمكنك تحطيمها جميعا، أنت حتى لا تريد أن تحطمها جميعا، لا يمكنك أن تتخلى عن كل مصادر الأمن في العالم، لمجرد إرضاء هوس ما. إن تمكنت من معرفة ما تريد، فقد تبدأ بشكل ما في التحرر أو السعي نحو عالم يشبهك.
ملحوظة: قد يغضب البعض من فكرة بناء الحوائط وفقا لهواك، لكن إن كنت متأكدا مما تريد فلا تعبأ بهم.
4
الجدار ليس شرا بالضرورة، مجرد وجوده ليس مشكلة، المشكلة إن كان يقف بينك وبين ما تريده أنت، وإن كنت تعلم أن ما وراء هذا الجدار هو حقا ما تريده، وكنت ترى أن ما وراءه يستحق الجهد، والمعاناة، ومكابدة الخوف، فستبدأ بتحطيمه.
أسئلة الفأر في المتاهة
1
فأر يوضع في المتاهة للمرة الأولى، يتحسس طريقه بتشكك، يشمشم هنا وهناك، في الجو رائحة قطعة من الجبن أو الشوكولاتة يريد أن يصل لها، في المتاهة أبواب، عليه أن يتعرف كيف يفتحها ليصل إلى هدفه. مع الوقت يصبح الفأر متآلفا مع المتاهة، في المرات التالية يسير إلى هدفه بسرعة أكبر، يفتح الأبواب بالطريقة التي تعلمها في المرات السابقة ليصل. في هذه المتاهة يتحول السلوك الذي تعلمه الفأر مع الوقت إلى روتين؛ سلوك مألوف تعززه المكافأة التي تنتظره في النهاية. من كثرة ما قرأنا عن هذه التجربة لسنا في حاجة إلى التكلم عنها كثيرا.
غرض التجربة هو معرفة كيف يعمل العقل؛ في البداية يبذل الفأر مجهودا عقليا كبيرا لاستكشاف المتاهة، ثم مع الوقت يتحول سلوكه إلى سلوك روتيني يبذل فيه قدرا محدودا من الطاقة الذهنية. شاهد العلماء في هذه التجربة سلوك الفأر وهو يتغير وفقا للبيئة ويتحول إلى روتين من خلال عملية من ثلاث مراحل تتكرر بشكل تلقائي: محفز، عادة، مكافأة. دورة تلقائية يخلقها العقل بشكل تلقائي.
2
صفحة غير معروفة
الفأر هنا حبيس المتاهة، ويتم التحكم فيه بواسطة غرائزه نفسها. أي فأر جائع بما يكفي سيتبع رائحة الطعام. الفارق بين هذا الفأر وفأر خارج المتاهة أن الفأر خارج المتاهة متاحة له خيارات أكبر، وفرص أكبر، وربما مخاطر أكبر كذلك. الفأر في الخارج لا يعرف الحوائط بالطريقة التي يعرفها فأر المتاهة، يعرف طبيعة غير مروضة. نظريا - على الأقل - الفأر في الخارج أكثر حرية، ويتحكم في تصرفاته بشكل أكبر. الفأر داخل المتاهة على النقيض، يختار بين بدائل محددة توضع أمامه، لكنه في النهاية خيار زائف؛ لأننا نعلم مسبقا أنه - باعتباره فأرا تم تجويعه - سيختار الطريق الوحيد الذي يوصله للطعام.
3
ما نعلمه عن العالم اليوم أكثر بكثير مما كان يعلمه أسلافنا عنه. تقدم العلم وتطورت وسائل الاتصالات التي سهلت الوصول إلى المعلومات، وهو ما يفترض أن يؤدي تلقائيا إلى زيادة وعينا، وزيادة رشادة اختياراتنا، وهذا صحيح جزئيا في بعض المجالات، لكن «جون ديوي» يشير في كتابه «الحرية والثقافة» إلى أنه نتيجة لتقدم الصناعة وانتشار التخصص، صار العامل لا يعلم أكثر من شذرة صغيرة عما يصنعه، ويؤدي وجود عدد كبير من المعلومات المتناثرة إلى حدوث أثر تشويشي أحيانا؛ ونتيجة لذلك صار الإنسان المعاصر يعرف أقل فأقل عن الأمور الأكثر ارتباطا بحياته. وفي سياق مختلف يشير «جون كنث جالبريث» في كتابه «اقتصاد الاحتيال البريء» إلى دور الدعاية التي تمارسها الشركات الكبيرة في التأثير على سلوك المستهلك، والتشويش عليه، وإقناعه في كثير من الأحيان بشراء واستهلاك ما لا يحتاجه.
4
يولد الإنسان منا في مجتمع ما، يعلمه هذا المجتمع الكثير عن نفسه وعن الحياة والكون، يعلمه الكثير عن كيفية التصرف. في كثير من الأحيان تكون مخالفة المجتمع أو مراجعة أفكاره التي يتبناها أمرا محفوفا بالمخاطر. المثال الأشهر في هذا السياق هو «جاليليو» حين دافع عن كون الأرض كوكبا يدور حول الشمس، متابعا في ذلك رؤية «كوبرنيكوس» للكون، ومخالفا رؤية معاصريه الذين كانوا يؤمنون بثبات ومركزية الأرض، وهو الاعتقاد الذي أدى إلى محاكمته، ووضعه تحت الإقامة الجبرية في منزله، وإجباره على التراجع عن أفكاره.
5
افترض أن هذا الفأر أدرك بالضبط حقيقة وضعه، بوصفه فأرا يسير في الطرق الضيقة لمتاهة صناعية يتم التحكم بها وبه من الخارج، هل على الفأر أن يقرر بالضرورة أنه يريد الخروج من المتاهة؟ هو لا يعرف شكل الحياة خارج المتاهة، ربما حتى غير قادر على تصورها؛ قد تكون أسوأ من الحياة التي يعيشها، هو يحصل على الغذاء في متاهته، يحس بالألفة معها بشكل ما؛ لأنه لم يعرف غيرها، هل عليه أن يخرج من هذه المتاهة؟
6
المتاهة ليست بالضرورة خارجنا، أحيانا تكون أجزاء منها في داخلنا، تتحكم في تصرفاتنا وأفكارنا، ربما كعمى اختياري للألوان، يختار فيه عقلنا ألا يرى سوى ألوان بعينها، ويتجاهل ألوانا أخرى؛ فقط لأنها لا تناسب ما تعلمه. كل منا يمتلك سقفا يعلو على هذه الحقائق الصغيرة المتناثرة التي تحيط بنا، سقفا من القناعات يخيط واقعنا ليجعله متماسكا في عيوننا، سقفا يحمينا ويحجب عنا السماء الحقيقية؛ السماء غير المروضة.
7
صفحة غير معروفة