3
يحاول الكتاب إضفاء المزيد من الوضوح والتفصيل على الأسلوبين من خلال المقارنة بين كيفية تعامل كل من الأسلوبين مع عدد من الأنشطة التي نعايشها بشكل مستمر؛ فيتناول التعليم، والتذكر، والتخاطب، والقراءة، وممارسة السلطة، والمعرفة، والإيمان، والحب؛ فنجده يوضح مثلا كيف ينصت الطلاب إلى المحاضرات في التوجه التملكي ويفهمونها ويكتبونها؛ وذلك بغرض واحد: حفظ المعرفة ودخول الامتحان، وهي معرفة قد يكونون قد فهموها، لكنها لم تصبح جزءا من نظامهم التفكيري ولم توسع أفقهم، على عكس توجه الكينونة الذي لا يكتفي بمجرد الحصول على المعلومة، لكنه يتأثر بها ويتفاعل معها. وفي السلطة يوضح كيف يؤثر الاتجاه التملكي استخدام القوة كسند لسلطته بصرف النظر عن صلاحيته وقدراته، بينما يقدم اتجاه الكينونة المثال على الدرجة التي يمكن أن يتقدم لها الكائن البشري، ويقوم بسلطاته من خلال التفهم والحب والإنصات.
وفي مختلف هذه المناشط اليومية يوضح كيف يتجه النمط التملكي إلى التأكيد على جوانب الاستهلاك، والثبات، والأنانية، والجشع، والغيرة، والضغينة، والخوف، والحرب. بينما يؤثر نمط الكينونة الحب، والتفاعل، والإيثار، والنمو، والتفهم. وبينما يجعل التوجه التملكي مركز رغباته خارجه؛ أي فيما يملك أو يستهلك، يجعل توجه الكينونة مركزه هو ذاته، ساعيا إلى تنميتها من خلال تعلم الجديد، وفهم الذات، والتفاعل المنفتح على الآخرين. وهو في هذا الكتاب يبين كيف أن أحد هذين التوجهين يؤدي بنا إلى كارثة مؤكدة إن استمر، بينما يعد الاتجاه الآخر هو طوق النجاة.
4
السمة الأساسية لنمط التملك: كلما زادت ممتلكات الفرد، زادت مكانته وارتفع تقديره من الآخرين. لا يقتصر هذا النمط على الأغنياء، بل يمتد حتى أفقر الفقراء؛ ما دامت تسيطر على هؤلاء الرغبة في التملك، وتغلب عليهم متعة الاقتناء وزيادة الممتلكات. في هذا النمط لا يتوقف التملك على ملكية الأموال والأشياء، بل يمتد إلى تملك الأشخاص؛ «ففي المجتمعات الأبوية يمكن لأتعس الرجال في أفقر الطبقات أن يكون ذا ملكية، وذلك في علاقته بزوجته وأطفاله وحيواناته؛ حيث يمكن أن يشعر بأنه السيد بلا منازع. وهكذا، في المجتمع الأبوي وبالنسبة للرجل - على الأقل - يكون إنجاب الأطفال هو الوسيلة الوحيدة لامتلاك كائنات بشرية دون الحاجة إلى العمل والكدح اللازمين لامتلاك الأشياء، ودون الحاجة إلا لأقل القليل من رأس المال»؛ وفي هذه الحالة تكون عملية إنتاج الأطفال هي عملية استغلال فظ للنساء، إذا أخذنا في الاعتبار أن العبء الأكبر في الحمل والولادة يقع على كاهلها. والدائرة في هذا السياق تمتد: الرجل يسيطر على المرأة، المرأة على الأطفال، الذين ينمون بدورهم ليكرروا الدورة نفسها.
السمة الأساسية لنمط الكينونة هي النشاط، وليس المقصود بالنشاط هنا مجرد الانشغال الخارجي، بل الأهم هو النشاط الداخلي الذي يتجلى في العطاء، والنمو الداخلي، والتعبير عن المواهب، والاستخدام المثمر للطاقة الداخلية؛ فقد يدرس الطالب في كليته، أو يذهب الموظف إلى عمله مدفوعين بقوى خارجهما: ضغط الأسرة أو المجتمع، أو اتباع ما هو معتاد، تماما كما قد يؤدي السجين أو العبد العديد من المهام بهمة، لكن هذا لا يجعلهم فاعلين أو نشطين بالمعنى المطلوب.
5
تطورت الشخصية التملكية - وفقا للكتاب - من نمط الاكتناز الذي يحافظ على الأشياء القديمة ويستخدمها إلى أقصى حدود الاستخدام، إلى نمط الاستهلاك الذي يشتري الأشياء ليتخلص منها بعد ذلك بوتيرة سريعة، ليشتري بعد ذلك أشياء أحدث منها. قد يبدو التخلص السريع من الأشياء في نمط الاستهلاك ضد النمط التملكي، لكن هذا التضاد سطحي؛ ولفهم هذا التناقض يبرز الكتاب عددا من النقاط، لعل أهمها في هذا السياق: التأكيد على انتفاء الطابع الشخصي في علاقة المالك بما يمتلك، وتوضيح أن الأشياء في هذه الحالة هي رموز للمكانة الاجتماعية، غرضها الأبرز هو الحفاظ على هذه المكانة وتعزيزها؛ فشراء سيارة أحدث موديل كل عام أو عامين مثلا، هو جزء من هذه الدورة التي تهدف لمضاعفة نشوة الاقتناء لدى المستهلك.
يقول إريك فروم:
وفي نمط التملك لا توجد علاقة حية بيني وبين ما أملك؛ فأنا وما أملك أصبحنا جميعا أشياء، وأنا أملكها لأن لدي القوة التي تمكنني من جعلها ملكي. ولكن ثمة علاقة عكسية أيضا؛ فهي أيضا تملكني لأن إحساسي بهويتي - أي إحساسي بصحتي العقلية - يتوقف على ملكيتي لها (ولأكبر عدد ممكن من الأشياء). إن نمط الملكية لا يقوم على صيرورة حية ومثمرة بين الذات والموضوع، وإنما هي علاقة تجعل من الذات والموضوع أشياء والعلاقة بينهما علاقة موات، وليست علاقة حياة.
صفحة غير معروفة