ولما كان المجال الفني مرتبطا بالاقتصاد ارتباطا وثيقا كما ارتبط آهاب بالحوت الأبيض، فإن ثمة طريقة أخرى للنظر إلى العلاقة نفسها، وهي من خلال الدورة الاقتصادية. إن الفترة محل النقاش في الكتاب - من عام 1989 إلى يومنا الحالي (أخط هذا الكتاب بينما تجتاح القوات الأمريكية مدينة بغداد، مؤسسة بذلك لنظام إمبريالي جديد ومعاد للعولمة بلا جدال) - يحدها الركود من كلتا الناحيتين: الركود الأول يتمثل في الانهيار الهائل لعام 1989 الذي قضى على عمالقة الفن الأثرياء خلال الوفرة الإنتاجية بالثمانينيات؛ مما أدى إلى تحطيم الزهو والثقة بالنفس اللذين وسما المجال الفني، وعلى مدى أبعد أفرز أعمالا أكثر فظاظة وأكثر شعبية، جنبا إلى جنب مع الفن الملتزم سياسيا. إن الفقاعة التي انفجرت كانت نتيجة لوخزة الانسحاب المفاجئ لليابانيين الذين يشترون من السوق، كنتيجة جزئية لمشكلات اقتصادية أوسع، لكنه أيضا نتيجة للكشف الفاضح بأن جزءا كبيرا من شراء الأعمال الفنية في اليابان كان يتم كطريقة للتهرب من الضرائب على الأرباح العقارية؛ مما كان له تأثير جانبي متمثل في تضخم الأسعار على نحو زائف.
أما الركود العالمي الثاني فكان مسألة تفاقمت تدريجيا في الغرب، نتيجة لإخفاق قطاع التكنولوجيا المتقدمة، وأعقبته انهيارات عامة في سوق الأوراق المالية، وفضائح حول الفساد المالي، وأخيرا الحرب. بين هذين الركودين، كان الانتعاش الاقتصادي غير مؤكد، عدا في الاقتصاديات الأكثر اتباعا للنيوليبرالية تماما بالغرب حيث اعتمدت على التكنولوجيا العالية وفقاعة الإنترنت. في تلك الشعوب، أدت الوفرة الإنتاجية (كما سنرى، على نحو متوقع) إلى ردة فعل ضد الفن المرتبط بالنظرية والسياسة، لصالح الأعمال الفنية التي تشرع في التجميل والإدهاش والتسلية ويمكن بيعها.
أما التغيير البارز الآخر في فن التسعينيات فتمثل في ظهور «فن التجهيز في الفراغ»، وهذا مصطلح معقد ومحل جدال. يراه البعض أنه فن يقاوم بصرامة البيع والشراء، لكونه في حد ذاته سريع الزوال ويصعب أو يستحيل تحريكه؛ لذا، كما أكدت جولي إتش رايس، انتعش فن التجهيز في الفراغ - الذي ولد في الستينيات - من سباته الطويل إبان سنوات الثمانينيات ذات الدوافع التجارية. في ظهوره الأول (وكان يعرف حينئذ بفن «البيئة») عرض في «بديل» أسس حديثا وأماكن يديرها الفنانون في الغالب. تزامن تجدد شعبية فن التجهيز في الفراغ مع ركود عام 1989، لكنه في صورته المستعادة رسخ نفسه في قلب عالم الفن، في المتاحف. إن تغير الاسم من فن «البيئة» إلى «التجهيز في الفراغ» يحمل دلالة؛ وذلك لأن المعارض يجب أن تجهز. لم يعد التجهيز في الفراغ يقاوم الطابع التجاري بالضرورة؛ لأنه الآن كثيرا ما يتم تحريكه ويدفع المال من أجله، حتى عندما لا يحدث ذلك، عادة ما يستخدم فن التجهيز في الفراغ فنانون وتجار كسلعة اجتذاب تباع بالخسارة من أجل بيع منتجات أكثر رواجا.
إن التجهيز في الفراغ لا يتغير بتغير الوسيلة، وليس في حد ذاته وسيلة؛ فهو يستوعب الفيديو ووسائل أكثر قدما كالرسم، ولعله يمكن النظر إليه باعتباره فنا مكانيا تندرج فيه كافة الوسائل - حتى عناصر الأداء. مع ذلك، صاحب ظهوره انخفاض نسبي في الوسائل التقليدية كالرسم الزيتي والنحت، إلا أن عالم الفن يقسم رأسيا وأفقيا بتفاوت، متضمنا العديد من الأطر المتداخلة للتنظيم والتجارة. لا يزال الرسم الزيتي - سواء أكان يشغل تركيز الخطاب الفني أم لا - الشكل الفني الأكثر رواجا، ولا يزال يصنع ويباع للأفراد والشركات بنجاح إلى حد ما وفقا للحالة الاقتصادية. يمكن قول الأمر نفسه إلى حد بعيد عن الرسم، والطباعة، وكتب الفنانين، وعدد كبير من الممارسات الأخرى، إلا أن محور التركيز هنا هو على ما يحظى بالأضواء، وما يتم تداوله على المستوى الدولي في أفق الساحة الفنية العالمية.
في هذا السياق، يتسم فن التجهيز في الفراغ بميزتين واضحتين: الأولى تتمثل في المنافسة المستمرة مع الثقافة الجماهيرية - كيفية إقناع جمهور ما بالسفر إلى متحف أو موقع آخر بدلا من مشاهدة التليفزيون، أو الذهاب إلى السينما، أو حفلة موسيقية، أو مباراة كرة قدم، أو التسوق. كان هناك ازدياد لحدة المنافسة في هذا الصدد، تنافس على المشاهدين، خاصة مع تحول التليفزيون - كأحد الأمثلة - إلى شاشة واسعة ضخمة ذات دقة عالية، وبه مسجل دي في دي. لقد رأينا أن الفن يختلف عن الثقافة الجماهيرية في تعامله مع المحتوى، بعيدا عن ذلك، ما لم تحاكيه الوسائل القابلة لإعادة الإنتاج بعد هو إحساس جسم يتحرك في فضاء محدد محاط بأجهزة عرض فيديو ضخمة أو عمل له وزن أو رائحة أو اهتزاز أو حرارة؛ لذا يحتل فن التجهيز في الفراغ، الذي يسمح لفراغ بأن يملأ بدلا من مجرد تقديم عمل فني يشاهده الناس، مكانة بارزة .
أما الميزة الثانية، فهي أن تفويض عمل فني لموقع محدد تفويضا حصريا هو طريقة لضمان أن المتفرجين سيذهبون حتما إلى هناك، وحشد مجموعات من تلك الأعمال الفنية الخاصة بفنانين ذوي شأن في بيناليات هو عامل جذب قوي لانتباه عالم الفنون. وهكذا، يرتبط التجهيز في الفراغ وخصوصية الموقع بعولمة المجال الفني، وبفن يستخدم بغرض التنمية الإقليمية أو الحضرية. لما كانت هذه هي الاستراتيجية المعتادة الآن، فإن حضور تلك المعارض - ليس فقط في فينيسيا وبازل ومدريد، لكن الآن في ساو باولو ودكار وشنغهاي - أضحى طريقة أخرى للتأكيد على التميز الاجتماعي للمتفرج (ومجرد التعرض الطفيف لثرثرة الساحة الفنية - في أغلب الأحيان نجدها تدور حول آخر المهرجانات الغريبة - سيؤكد ذلك).
في الفصول الأخيرة سنسبر أغوار الروابط التي تصل بين هذه العناصر المختلفة للفن منذ عام 1989؛ إذ قد ينظر إلى الحروب الثقافية في الولايات المتحدة باعتبارها مقدمة محلية للقضايا الأوسع نطاقا الخاصة بالاختلاط العالمي، وأنها نشأت نتيجة لنسق القوى نفسه: من ناحية، الاستهلاكية الليبرالية الملتزمة بتحطيم القيود على التجارة بمعناها الأوسع، ومن ناحية أخرى، القوى المحلية الخاصة بالتقاليد والدين والسلوك الأخلاقي. إن التجهيز في الفراغ (إذا نظرنا إليه من منظور شامل مرة أخرى) يقترن بالمشهد وبالمنافسة مع وسائل الاتصال الجماهيري. إن فن التجهيز في الفراغ المعاصر باهظ الكلفة ويعتمد عامة على الرعاية الخاصة والتمويل العام؛ ومن ثم فهو مرتبط بتدخل المؤسسات التجارية في الفن واستخدام المتاحف في أغراض تجارية، على نحو يتنافى مباشرة مع نشأته الأولى في مشروعات الفنانين بمبادرات خاصة، وهذا بدوره يتصل بالعلاقة بين العولمة والخصخصة التي تكون فيها خصخصة عالم الفن جزءا صغيرا ليس إلا، والتي تدفع المتاحف والمعارض نحو تقديم عروض مذهلة أكثر باستمرار. على نحو مماثل، يعد التكافل بين العناصر الراقية للثقافة الجماهيرية، والدافع إلى التعامل مع «الحياة الواقعية» (أي ثقافة المستهلك وشواغل وسائل الإعلام الجماهيرية) جزءا من الحافز نفسه.
مخافة أن يبدو هذا الكتاب مقسما على نحو منظم أكثر من اللازم، آمل أن يتضح فيما بعد أن هناك توترات وتناقضات هائلة بين هذه العناصر. وفي الفصول التالية عن العولمة، والعلاقة بالثقافة الجماهيرية، وتكلفة الفن واستخداماته، وسمات الفن وسمات الكتابة عنه، سنسبر أغوار هذه التناقضات. وفي النهاية، تأكيدا على ما هو بين، لا يمكن لكتاب بهذا الطول إلا أن يكون مقدمة فحسب، وقد اضطررت إلى الإقصاء أكثر من الإدراج بكثير. إن ذكر الفنانين والأعمال الفنية لا ينبغي أن يؤخذ على أنه يلمح إلى أي حكم على الجودة، بل إنه بالأحرى إشارة إلى أهميته المحورية في القضايا الجوهرية التي يتناولها الكتاب: تنظيم الفن ودمجه في النظام العالمي الجديد.
هوامش
الفصل الثاني
صفحة غير معروفة