شكر وتقدير
1 - منطقة حرية؟
2 - نظام عالمي جديد
3 - الثقافة الاستهلاكية
4 - استخدامات الفن وأسعاره
5 - قواعد الفن الآن
6 - تناقضات
المراجع
شكر وتقدير
1 - منطقة حرية؟
2 - نظام عالمي جديد
3 - الثقافة الاستهلاكية
4 - استخدامات الفن وأسعاره
5 - قواعد الفن الآن
6 - تناقضات
المراجع
الفن المعاصر
الفن المعاصر
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
جوليان ستالابراس
ترجمة
مروة عبد الفتاح شحاتة
مراجعة
ضياء وراد
إلى بيتر وأودري
شكر وتقدير
في حين أن هذا الكتاب يتبنى موقفا ضد جزء كبير من الأدبيات التي تناولت الفن المعاصر، فإنه بالطبع يشكل جزءا منها، وأود أن أعبر عن خالص تقديري لكافة الأشخاص الذين أدرجتهم في قسم المراجع، كما أود أن أحث القارئ على أن يستخدم هذه الرؤية كنقطة انطلاق نحو البحث عن مزيد من التحليلات المفصلة حول الموضوعات التي لم يسعني سوى تناولها بإيجاز في هذا الكتاب.
لقد استفدت جل الاستفادة من المحادثات التي جمعتني بالفنانين والأساتذة الجامعيين والنقاد ومشرفي المعارض، وعلى وجه الخصوص زملاء العمل والطلاب بمعهد كورتولد للفنون. وأتوجه بجزيل الشكر إلى سارة جيمس وهايلا روبيزك اللتين قدمتا لي العون في بحثي، كذلك أتوجه بالشكر إلى كل العاملين بمطبعة جامعة أكسفورد، وتحديدا كاثرين ريف التي دعمت هذا المشروع.
الفصل الأول
منطقة حرية؟
فكر بداية في استخدام الفنانين المعاصرين للجسد البشري: تمشيط الشعر في أنماط تمثل الحروف الصينية، أو نسجه داخل بساط، أو نتفه من جسد الفنان لوضعه في تمثيل شمعي صغير لجثمان والد الفنان؛ تقطير الدم من جروح ألحقها الفنان بنفسه فوق لوحة الرسم، أو استخدامه في صنع تمثال نصفي لنفسه؛ وضع علامات فوق اللوحات - أو فوق الصلبان - عن طريق قذف المني فوقها؛ إجراء جراحات تجميلية كفن أدائي؛ أذن بشرية مزروعة في صحون بتري المختبرية؛ وجثة رضيع تطهى (وعلى ما يبدو تؤكل). يبدو أن الفن المعاصر يحيا داخل نطاق حرية، منفصلا عن السمة الدنيوية والعملية للحياة اليومية، وعن قواعدها وتقاليدها. يزدهر داخل ذلك النطاق - جنبا إلى جنب مع لهو فكري وتأمل أكثر هدوءا - مزيج غريب من الابتكار الكرنفالي، والانتهاكات الهمجية للأخلاق، والإساءات ضد نظم الاعتقاد. إن نقاشات الفن المعاصر - بدءا من المجلات المتخصصة إلى الأعمدة الصحفية الموجزة - تنطوي على تأويلات تتسم بالاحترام، وانحرافات فلسفية معقدة، ودعايات متملقة، وفي النهاية إدانة وتهكم ورفض. بيد أن هذا المشهد المألوف - مدى قدم خرق القواعد في مجال الفن ورسوخه، ومدى رتابة التوصيات والإدانات - يحجب تغيرا حديثا مهما.
جزء من هذا التغير كان مدفوعا بمخاوف داخلية بمجال الفن، في حين أن جزءا آخر جاء استجابة لتحول سياسي واقتصادي أوسع نطاقا. للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد نظام وفقا له يكون الفن في وقتنا الحالي مختلفا عن الاقتصاد النيوليبرالي العالمي، القائم على نموذج - إن لم يكن ممارسة - التجارة الحرة. يعمل الاقتصاد على نحو صارم وذرائعي وفقا لتقاليد صارمة تفرضها الكيانات الاقتصادية الكبرى متعددة الجنسيات بطريقة جائرة على الشعوب كافة، كما يرسخ هياكل هرمية للثروة والسلطة، ويفرض على الأغلبية العظمى من سكان العالم حياة عملية منظمة ومحكومة بجداول زمنية، فيما يواسيهم برؤى عن حيوات سينمائية اكتسبت دلالتها من خلال المغامرة والحكاية المترابطة (يجعل فيها أبطالها حياتهم حرة عبر خرق القواعد تحديدا)، وبأغان شجية عن التمرد أو الحب. وقد أكد جوناثان ريتشمان على هذا الأمر الشائك في أغنيته التي تبدو في ظاهرها عاطفية «المركز الحكومي»، إليك بعضا من كلمات الأغنية:
سنرقص ونغني في المركز الحكومي
كي نجعل السكرتيرات يشعرن بأنهن أفضل حالا
بينما يلصقن الطوابع البريدية على الخطابات ...
تنتهي الأغنية بصوت قرع جرس الآلة الكاتبة. تخبر الأغنية مستمعيها الغاية من وراء الأغاني الشعبية (في الغالب).
يبدو أن الفن يقف خارج هذا الحيز من الذرائعية الصارمة، والحياة التي تهيمن عليها البيروقراطية، وثقافتها الجماهيرية التكميلية، وما يمكن الفن من فعل ذلك هو اقتصاده المميز الذي يقوم على صناعة أشياء فريدة أو نادرة، وازدراؤه للنسخ الميكانيكي. يقيد الفنانون والتجار - ولو بصورة اصطناعية - من إنتاج الأعمال المصنوعة في نطاق وسائل الإعلام القابلة لإعادة الإنتاج، وذلك من خلال الكتب والصور ومقاطع الفيديو والأقراص المدمجة ذات الإصدارات المحدودة. إن هذا العالم الصغير - الذي عندما نراه من الداخل يبدو اقتصادا جزئيا مستقلا بذاته تحكمه أفعال قلة مهمة من جامعي التحف والتجار والنقاد ومشرفي المعارض الفنية - يولد حرية الفن من السوق من أجل الثقافة الجماهيرية. غني عن البيان أن أفلام فيديو بيل فيولا لم تعرض تجريبيا أمام جماهير مستهدفة في الغرب الأوسط الأمريكي، كذلك لم يفرض المنتجون على فرق فنية مثل «أوادا» ضمان أن أصواتهم ستبدو غير منفرة عند سماعها في المحلات التجارية، أو أنها ستروق لسوق جوهرية قوامها من الفتيات البالغات من العمر أحد عشر عاما. من ثم فإن هذا المنعزل الثقافي محمي من الضغوط التجارية الفاحشة، بما يسمح بالعبث الحر بالمواد والرموز، إلى جانب الخرق النمطي للتقاليد والمحرمات.
إن حرية الفن أكثر من كونها مبدأ مثاليا. إذا كانت مهنة الفنان أمرا محبوبا للغاية - رغم فرص النجاح الضئيلة - فهذا يعود إلى أنها توفر فرصة لعمل يبدو أنه يخلو من التخصص المحدود، بما يسمح للفنانين - على غرار أبطال الأفلام السينمائية - بإضفاء معان خاصة بهم على العمل والحياة. وبالمثل لمشاهدي الفن، ثمة حرية موازية في استحسان العبث العشوائي بالأفكار والأنماط، ليس في محاولة تفتقر للأصالة للتكهن بنيات الفنانين، بل في إفساح المجال للعمل لاستنباط الأفكار والمشاعر المرتبطة بتجاربهم. يبتاع الأثرياء لأنفسهم المشاركة في هذا المجال الحر عبر الملكية والرعاية، وهم يشترون شيئا ذا قيمة أصيلة، وتكفل الدولة أن يحظى قطاع أعرض من الجمهور على الأقل بفرصة تنسم عبير الحرية الذي ينبعث من العمل الفني لبرهة.
مع ذلك، ثمة أسباب تجعلنا نتساءل: هل تتعارض التجارة الحرة والفن الحر كما يبدوان؟ أولا: إن اقتصاد الفن يعكس عن كثب اقتصاد التمويل الرأسمالي. في تحليل حديث لدونالد ساسون لمعنى الهيمنة الثقافية، يستطلع فيه أنماط استيراد الرواية والأوبرا والأفلام وتصديرها في القرنين التاسع عشر والعشرين، كانت البلدان ذات الهيمنة الثقافية تملك إنتاجا محليا غزيرا يلبي حاجات الأسواق المحلية بها، فتستورد القليل وتصدر الكثير بنجاح. ففي القرن التاسع عشر، كانت فرنسا وبريطانيا تمثلان قوتين ذواتي هيمنة أدبية، أما الولايات المتحدة فهي الآن إلى حد بعيد البلد الأكثر هيمنة من الناحية الثقافية، تصدر منتجاتها على مستوى العالم فيما تستورد أقل القليل. وكما أوضح ساسون، هذا لا يعني أن الجميع يستهلك الثقافة الأمريكية، بل يعني أن الجزء الأعظم من الثقافة المتداولة عبر الحدود القومية أمريكي.
يستثني ساسون الفنون الجميلة من تحليله بناء على أسباب منطقية بأنها ليست لها سوق جماهيرية. ومن الصعوبة بمكان فهم الأرقام التجارية الخاصة بمؤشرات الهيمنة الثقافية في إطار نظام عالمي بمعنى الكلمة؛ إذ إنه من الممكن أن يشتري جامع تحف ألماني عبر تاجر بريطاني عملا لفنان صيني مقيم في الولايات المتحدة. لكن بإمكاننا أخذ فكرة عن حجم التجارة في كل دولة، وهو ما يقدم بالفعل إشارة على الهيمنة العالمية، في ضوء النسبة المرتفعة للتجارة الدولية في سوق الأعمال الفنية، وهنا تكمن توازيات لافتة للنظر مع توزيع القوى المالية. ليس من المفاجئ أن الولايات المتحدة هي القوة المهيمنة، فهي تمثل ما يقل بصورة طفيفة عن نصف المبيعات الفنية في العالم؛ وتمثل أوروبا أغلبية النسبة الباقية، ويأتي نصيب بريطانيا حوالي نصف نسبة أوروبا. تتجه أسعار الأعمال الفنية وحجم المبيعات الفنية إلى التشابه مع أسواق المال كثيرا، وليس من قبيل المصادفة أن المراكز المالية الكبرى بالعالم هي أيضا المراكز الرئيسية لبيع الأعمال الفنية. إن إثارة هذا التوازي تتيح لنا النظر إلى الفن ليس فقط باعتباره منطقة للعبث الحر العشوائي، بل أيضا كسوق مضاربة صغيرة تستخدم فيها الأعمال الفنية من أجل مجموعة من الغايات الذرائعية، بما في ذلك الاستثمار، والتهرب الضريبي، وغسيل الأموال.
ثانيا: في سبيل صرف مثل هذه الاعتبارات الاقتصادية الفجة من أذهان مشاهدي الفن المعاصر، لا بد وأن يبرز الفن المعاصر بصفة مستمرة أمارات حريته وتميزه، عن طريق تمييز إنتاجاته عن ذلك المبتذل من خلال الإنتاج الجماهيري والاستحسان الجماهيري، كذا يمكنه استغلال حالة الغموض أو حتى الملل إلى الحد الذي يصيران فيه تقاليد في حد ذاتهما. إن افتقاره إلى العاطفة هو صورة سلبية للقصص الخيالية العذبة والنهايات السعيدة المنتشرة في الأغاني الشعبية والأفلام السينمائية والتليفزيون، وفي استكشافات الفن المعاصر الغامضة للنفس الإنسانية - التي عامة ما يفترض الأسوأ فيها - يبدو أنه لا يقدم أية مواساة. مع ذلك، من الطبيعي أن يفضي كل ذلك إلى تقديم مواساة إلى حد ما؛ لأنه من رحم السلبية تظهر رسالة مختلفة تماما، مفادها أن ذاك المجال الحر، والنقد الحر، يمكن أن يصونهما النظام الذرائعي للرأسمالية.
ثالثا: والأكثر خطورة على المبدأ المثالي القائل بالحرية الثقافية غير الملوثة، أننا من الممكن أن نرى تجارة حرة وفنا حرا كمصطلحين غير متعارضين، بل بالأحرى يشكلان نظاما مهيمنا وآخر مكمل له على التوالي. ربما يبدو المكمل كشيء زائد غير ضروري، لكنه (كما جاء في تحليل جاك دريدا الشهير) شأنه شأن خاتمة كتاب أو حاشية سفلية بمقال، يلعب دورا في إتمامه ويتقاسم معه سمته الجوهرية. يحمل الفن الحر تشابها غير معترف به مع التجارة الحرة، فالممارسة الثانوية المكملة تلعب دورا هاما في عمل الممارسة الرئيسية؛ لذا فإن خلط الرموز ومزجها دون كلل في الفن المعاصر في إطار سعيه وراء الابتكار والاستفزاز (من بين الأمثلة الحديثة: أسماك القرش وخزانات العرض الزجاجية، الطلاء والروث، القوارب والنحت الحداثي، طاولات البلياردو البيضاوية) يعكس بدقة مجموعات العناصر اللافتة للنظر في الدعاية، وكلاهما يستفيد من الآخر باستمرار. وكما في عروض المنتجات في الثقافة الجماهيرية، تمتزج الأنماط والعلامات وتتطابق، وكأن كل عنصر من عناصر الثقافة رمز قابل للاستبدال والتداول كالدولار. إن الابتكار الجريء في الفن الحر - في خرقه المستمر للتقاليد - ليس سوى ترجمة باهتة للتبخر المتواصل للقواعد اليقينية التي أفرزها رأس المال نفسه، وهو ما يعصف بأية مقاومة أمام التدفق غير المقيد بين أرجاء الكرة الأرضية للأموال، والبيانات، والمنتجات، وأخيرا أجساد ملايين المهاجرين. وكما جاء على لسان ماركس منذ قرن ونصف في فقرة تحمل قوة معاصرة مثيرة للدهشة:
إن الطبقة البرجوازية - بفعل التحسن السريع في كافة أدوات الإنتاج، وبفعل وسائل الاتصال الميسرة بصورة هائلة - تجذب كافة الأمم، حتى أكثرها همجية، نحو الحضارة. والأسعار الرخيصة لسلعها هي المدفعية الثقيلة التي تدك بها الأسوار الصينية كلها، وترغم بها الكراهية الشديدة للغاية التي يبديها البرابرة تجاه الأجانب على الاستسلام، وتجبر كل الأمم - إذا شاءت إنقاذ نفسها من الهلاك - على تبني نمط الإنتاج البرجوازي، وترغمها على تقبل ما تصفه بالحضارة ... باختصار، تخلق البرجوازية عالما وفقا لتصورها.
إلا أنه لم تتحطم الحواجز القومية فحسب، فالابتكار المستمر في الصناعة والثقافة يذيب البنى والتقاليد والارتباطات القديمة، كما في قول ماركس الشهير: «كل ما هو صلب يذوب في الهواء ...»
سنرى أن هناك الكثير من الفنانين يسبرون على نحو نقدي أغوار التشابه بين الفن المعاصر ورأس المال بدرجات مختلفة، إلا أنه في التوجه العام للتصريحات في عالم الفن - لا سيما في تلك الموجهة للعامة أكثر منها للمتخصصين - لا يظهر ذلك التشابه. إن أي فرد كثير الاطلاع على الفن المعاصر كثيرا ما تصادفه صياغة ما من قبيل هذه العبارات المكررة التالية: إن هذا العمل الفني، أو عمل هذا الفنان، أو إن المشهد الفني في مجمله يسمو فوق الفهم العقلاني، ويقذف بالمشاهد داخل حالة من الشك المتأرجح تختفي في طياته كافة التصنيفات العادية، وتفتح معها نافذة محيرة على اللامتناهي، جرح فاجع يقطبه في المعتاد المنطق، أو داخل الفراغ. وفقا لهذه الرؤية القياسية، لا تعدو الأعمال الفنية كونها منتجات تصنع وتشترى وتعرض بصورة عرضية، نظرا لكونها جوهريا وسائل نقل خيالية للأفكار والمشاعر، وفارض مهام الإدراك الذاتي الذي يكون أحيانا صارما وأحيانا أخرى لينا.
في كتاب «قواعد الفن» تحليل فذ للأدب الفرنسي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، يتتبع بيير بورديو الظروف الاجتماعية التي أفضت لظهور فن مستقل، متحرر من مطالب الدين ومن الرعاة الخاصين والدولة، ويشير إلى بقاء هذا الاعتقاد - بأن الفن غير قابل للتفسير - الذي ولد في ذلك الوقت، واستمر حتى الوقت الحاضر:
كنت سأسأل ببساطة: لماذا يغرم كثير من النقاد وكثير من المؤلفين وكثير من الفلاسفة هكذا في الزعم بأن تجربة عمل فني ما تعلو عن الوصف، وأنها بطبيعتها تتجاوز الفهم العقلاني؟ لم يتلهفون إلى التسليم جدلا دون أي عناء بهزيمة المعرفة؟ ومن أين أتت حاجتهم غير المسئولة إلى الحط من شأن الفهم العقلاني، وهذا الشغف إلى التأكيد على عدم قابلية العمل الفني للاختزال، أو بكلمة ملائمة أكثر، سموه؟ (ص14).
من المفترض اليوم أن الفن قد دخل في عصر مختلف، لا يمت بصلة للموجة الأولى من النشاط الريادي في أعمال فلوبير وكوربيه، والتفاني المتجدد للفن من أجل الفن. بداية من منتصف سبعينيات القرن العشرين، وبقوة متزايدة، كان الغرض من مرحلة ما بعد الحداثة أن تنحي تلك المخاوف جانبا، وتتحدى فئة الفن الراقي نفسه، أو على الأقل تتلذذ بتلوثه من قبل عدد لا حصر له من الأنماط الثقافية. وهكذا نبدأ بأمر مثير للغرابة: أنه في الفنون المرئية اليوم لا تزال تلك الأفكار العتيقة الخاصة بسمو الفن عن الوصف - والتي تناقش من منظور متصوف أكثر منه تحليلي - تلقى رواجا.
إن هذا الإصرار المستمر على عدم قابلية الفن للتعريف غريب بصورة أكبر لأنه كان مصحوبا مؤخرا ببعض الممارسات الفنية الذرائعية على نحو واضح. ولأننا لا يمكننا معرفة ما لا نستطيع معرفته، فهذه العبارة المكررة حول عدم قابلية مجال الفن للتفسير تبرز على أنها دعاية إعلامية فجة. إن استخدامات الفن، وهوية هؤلاء الأشخاص الذين يستخدمونه، غالبا ما تكون غير غامضة على الإطلاق. ومنذ انهيار شيوعية أوروبا الشرقية وظهور الرأسمالية باعتبارها نظاما عالميا حقا، أصبحت تلك الاستخدامات أكثر تقدما وأكثر وضوحا على حد السواء.
ما وراء الحرب الباردة
إن الأحداث العالمية لعام 1989 وما تلاه - إعادة توحيد ألمانيا، وتفكك الاتحاد السوفييتي، وظهور اتفاقيات التجارة العالمية، واندماج التكتلات التجارية، وتحول الصين إلى اقتصاد رأسمالي جزئيا - غيرت من شخصية عالم الفن بشدة. ومنذ أن تحولت عاصمة الفنون من باريس إلى نيويورك بعد الحرب العالمية الثانية، قام عالم الفنون، مع ذلك، على تقسيم الحرب الباردة للعالم إلى الكتلة الشرقية والكتلة الغربية. كان الفن الراقي الذي تدعمه الدولة لكل كتلة يقدم صورة سلبية عن الآخر: إذا كان الفن الخاص بالكتلة الشرقية يتوافق مع أيديولوجية محددة ويمثلها وله فائدة اجتماعية واضحة، فلا بد إذن أن يكون الفن الخاص بالغرب على ما يبدو خاليا من مثل ذلك الاتجاه، ويحقق انعدام الفائدة التام له. إذا كان الفن الشرقي يحتفي بإنجازات الإنسانية، ولا سيما تلك الخاصة بالإنسان الاشتراكي، فلا بد أن يركز الفن الخاص بالغرب على حدود الإنسانية، وإخفاقاتها، وقسوتها (فيما يبرز الأمل بأن الفن نفسه، في تنقيبه الحقيقي عن تلك المشكلات، ربما يكون إنجازا في حد ذاته). ومع تلاشي هذه الخصومة (ببطء إبان سياسة الجلاسنوست في الاتحاد السوفييتي، ثم بسرعة مع انهيار نظم الحكم في الشرق من تلقاء نفسها)، ومع انتصار الرأسمالية الذي يكثر التفاخر به (إقامة «نظام عالمي جديد» تكون فيه الولايات المتحدة هي القوة العظمى الوحيدة)، سرعان ما أعاد عالم الفن تهيئة نفسه، وكما سنرى، اجتاحت سلسلة من الفاعليات الفنية العالم، فيما حقق فنانون من أمم وأعراق وثقافات عديدة، طالما تجاهلها الغرب، نجاحا على المستويين التجاري والنقدي.
مهد لهذا التحول نقد ما بعد الحداثة الذي أكد - في سلسلة معقدة من الإجراءات النظرية - على ما أجازته السوق ببطء، كاشفا النقاب عن الرجل الأبيض «العبقري» الذي يتخفى وراء مظهر الثقافة الراقية الشامل. وتحدى مناصرو حقوق المرأة الهيمنة الذكورية على الساحة الفنية، وقدموا الكثير لإعادة صياغة معايير الحكم عينها التي كفلت إقصاء النساء. أما تحرك الجماعات العرقية الأخرى فاتخذ وقتا أطول، وفي الولايات المتحدة - كما سنرى - صاحبه جدل عنيف.
تزامن ظهور المعارض متعددة الثقافات الشهيرة تحديدا مع نهاية الحرب الباردة بمعرضين خطط لهما خلال سنوات الجلاسنوست، وحطما الاحتكار المؤسسي للبيض في لندن وباريس، وهما: معرض «سحرة الأرض» بمركز بومبيدو، ومعرض «القصة الأخرى» بمعرض هيوارد جاليري، وأقيما كلاهما في عام 1989. كان كل منهما مثيرا للجدل، واتسما بالتحيز بلا شك، باعتبارهما أولى الغزوات في هذا المجال. تعرض معرض «سحرة الأرض» على وجه الخصوص للانتقاد؛ لأنه اعتبر فناني العالم الثالث غرباء، وهو توجه انعكس في عنوان المعرض نفسه، غير أنه كان أول معرض ضخم يقام في مركز فنون عالمي حضري يعرض فن العالم الأول والعالم الثالث معا على قدم المساواة. وحارب رشيد آرايين اللامبالاة والتعالي للنخبة الفنية البريطانية ليقدم معرض «القصة الأخرى»، والذي عرض للمرة الأولى لفنانين بريطانيين سود ومن أصول آسيوية في مكان عام بارز. حقق المعرضان رؤية جديدة للفنانين المعاصرين من الملونين، وكلا المعرضين - على الرغم من مخاوف آرايين الذي ساوره القلق بوجه حق بعد سنوات من التهميش حيال أن معرضه لن يعدو كونه «شيئا مثيرا للفضول» منعزلا في وسط يتعذر تحديد ملامحه - أثبت أنه بشائر نظام لم يعد يحتاج في إطاره الفنانون غير البيض أن يتذمروا من أنهم غير مرئيين، واضطروا إلى أن يبدءوا في القلق بدلا من ذلك حيال نوع الاهتمام الذي يحظون به.
عقب انتهاء الحرب الباردة، تزامن أيضا توحد العالم خلف نمط جامح من الرأسمالية، أطلق عليه «النيوليبرالية»، مع ظهور غير البيض على الساحة الفنية. تحت شعار النيوليبرالية، تردد أحاديث عن التجارة الحرة، لكن الكيانات التنظيمية العالمية (البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية) تفرض قواعد تحمي الصناعات والزراعة في الدول الثرية فيما تفتح الاقتصاديات الهشة أمام التجارة غير المنظمة (هذا يشمل إغراق الأسواق بسلع بأسعار أقل من التكلفة)، والخصخصة، وتفكيك برامج الرعاية الاجتماعية. تظهر النتائج العامة عبر أرجاء العالم في الأجور المنخفضة والعمالة غير الآمنة، والبطالة المرتفعة، وإضعاف النقابات. بين جوزيف ستيجلتز - الخبير الاقتصادي بالبنك الدولي سابقا - مؤخرا هذا النظام، وعواقبه الكارثية على الشعوب الأضعف، والذي أوضح، على سبيل المثال، كيف صنع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي الأزمات في روسيا وغرب آسيا وفي مناطق أخرى أو فاقمها؛ مما كان له عواقب خطيرة وكثيرا ما تكون وخيمة على قاطني تلك المناطق. مع ذلك، رغم الثروة التي تتدفق على الشركات متعددة الجنسيات - وعلى الساحة الفنية كما سنرى - لم يتجل الأثر الأكبر على الفن في اقتصاده بل في خطابه. تردد صوت جوقة مرتفعة من الأصوات تمتدح تحطيم الحواجز الثقافية الذي صاحب الهدم المفترض للحواجز التجارية، والاختلاط الثقافي المجيد الذي نتج عنه. ليس المجال الفني وحده في هذا الأمر؛ إذ إن موجة من الحماسة للعولمة اجتاحت الخطابات الاقتصادية والسياسية ، إلى جانب العلوم الإنسانية، بدءا من المؤتمرات الأكاديمية إلى الصحف الليبرالية. انتقد جاستن روزنبرج المنطق وراء تلك الأحاديث انتقادا لاذعا بصورة تحليلية، إذ بين التنافر الذي بزغ من تحليلات تزعم استخدام الصفات المجردة للمكان والزمان باعتبارها المحركات الرئيسية في النظرية الاجتماعية، وتحل بذلك محل المؤشرات الخاصة بالقوى الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وتقدم نتائج غالبا ما تكون مبهمة أو مجرد فصاحة فارغة ليس إلا. أما على الساحة الفنية، فغالبا ما كانت هوجة الحديث عن العولمة يعوزها الزخم وموجودة في كل مكان.
في حين أن المجال الفني تبنى الجانب الليبرالي من الناحية السياسية لهذا الخطاب، وبوجه خاص استحسان منافع الامتزاج أو الاختلاط الثقافي، فإن الرؤية الشاملة وراءه - حلم رأس المال العالمي - سرعان ما انعكست عليه وبصورة كاملة؛ نتيجة لذلك، تغير سريعا الخطاب الفني والمؤسسات والأعمال الفنية. وخلال تسعينيات القرن العشرين، أقيم العديد من البيناليات وغيرها من الفعاليات الفنية في أنحاء العالم، فيما شيدت المدن متاحف جديدة للفن المعاصر، أو قامت بتوسعة القديمة. أضحت أنشطة تلك المتاحف تجارية أكثر بصفة متزايدة مع تبنيها مبادئ المؤسسات التجارية، فأقامت تحالفات مع الشركات التجارية، وجعلت منتجاتها أقرب إلى الثقافة التجارية، وحاكت المحال التجارية والمدن الترفيهية أكثر مما حاكت المكتبات. وفي الوقت نفسه، اتجه الفن المعاصر نحو اتصال أقرب بعناصر منتقاة لثقافة جماهيرية أضحت متغلغلة للغاية لدرجة أن هذا التوجه يختلط أحيانا مع ارتباط جديد «بالواقع» أو «الحياة الواقعية». لطالما كان نجوم الفن من المشاهير، لكن المشهد الفني الآن في مجمله يعامل كثيرا مثل عالم الأزياء أو عالم موسيقى البوب، حتى إن أصحاب الأدوار الثانوية به يظهرون في الوسائل المخصصة لتتبع سير النجوم. وبوجه خاص، تزايد ظهور عالم الفن وعالم الأزياء جنبا إلى جنب مع قيام جمهور الشباب الذي طوق الثقافة ككل بملء عالم الفن أيضا.
إن هذا الكتاب في جله سيناقش الفترة منذ عام 1989 كما لو أنها كيان موحد بحيث يتسنى لنا فحص بنية العالم الفني ومنتجاته بوضوح أكثر، لكن يجدر بنا أيضا الحديث بإيجاز عن بعض من التغيرات المهمة المرتبطة بالعولمة التي غيرت من الفن المعاصر، وهي قضايا ذات صلة بالفن المسيس في الولايات المتحدة، والدورة الاقتصادية، وتحول النمط القياسي لمعارض الفن المعاصر.
حروب ثقافية
في الولايات المتحدة، كان الفن المعاصر - لا سيما التصوير الفوتوغرافي والفن الأدائي - في قلب معركة سياسية حول التمويل الحكومي المركزي للفنون. أشعل شرارة تلك الحرب عرض أعمال يمكن اعتبارها فاحشة أو تجديفية في أماكن تدعمها الدولة. في عام 1989، مزق ألفونس داماتو أمام زملائه أعضاء مجلس الشيوخ نسخة من صورة فوتوغرافية لأندريس سيرانو باسم «تبول على المسيح»، ويظهر بالصورة صليب عادي مغمور في بول الفنان. في عام 1990 وجد دينيس باري، مدير مركز سنسيناتي للفن المعاصر، نفسه مدانا أمام منصة القضاء باتهامات متعلقة بانتهاك قوانين مكافحة الإباحية؛ وذلك لتقديمه معرض روبرت مابلثورب «اللحظة المثالية». تضمن المعرض تصويرا في صور مابلثورب الفوتوغرافية بالأبيض والأسود شديدة الجمال متعلقة بالجنس بين الشواذ، والسادية المازوخية، وثمار بحث الفنان الطويل عن قضيب «رجل أسود» مثالي الشكل. أبرئ باري من التهم المنسوبة إليه، رغم أن الدفاع اضطر إلى التأكيد أن الصور هي فن، ولم تكن صورا إباحية؛ وذلك لأنه يمكن التمتع بها بصورة تقليدية. استخدمت هذه الأعمال وغيرها بوصفها أساسا لهجوم الحزب الجمهوري على المنحة الوطنية للفنون - المصدر الفيدرالي لتمويل الفنون في الولايات المتحدة. نجح الهجوم جزئيا، وأدى إلى خفض المبلغ المتواضع بالفعل المودع تحت تصرف المنحة الوطنية للفنون خفضا كبيرا، وفي النهاية إخافة المعارضة والمساهمة في إنتاج مشهد أكثر جمودا، رغم الجدل السياسي الغاضب. وكما أوضح دوجلاس ديفيز في وصف رائع وتفصيلي حول سجل إدارة الرئيس كلينتون الخاص بالفنون أن الاستراتيجية المتبعة في وجه الهجمات المحافظة المتتابعة كانت دفاعية ومحدودة، ولم تمتد يقينا إلى أي دعم صريح للفنون المرئية. وكانت النتيجة مزيدا من الاقتطاع المدفوع سياسيا من ميزانية المنحة الوطنية للفنون.
كان غضب المحافظين موجها نحو الأشكال التصويرية والفنون الأدائية التي احتفت بالشذوذ الجنسي، أو اعترضت على التراخي الحكومي حيال الإيدز، أو عرضت علانية أجسادا سوداء وعلاقات جنسية ، في حين أن تلك الأعمال كان يندد بها علنا بغضب شديد كشف النقاب عن العنصرية ورهاب المثلية الجنسية في جزء كبير من المشهد السياسي بالولايات المتحدة، كذلك امتد الهجوم ليشمل الأعمال السياسية في حد ذاتها، ولا سيما استكشاف العنصرية في الفن برمته. في عام 1994، كان معرض «الذكر الأسود» بمتحف ويتني للفنون - وكانت ثيلما جولدن المشرفة على المعرض - مثار جدل خاص؛ نظرا لاحتوائه على صور كثيرة لأجساد عارية في معرض سياسي بصورة واضحة تعامل مع خوف المؤسسة البيضاء وإخضاع السود. في إحدى الصور التي لخصت على نحو معبر مخاوف العرض كانت صورة ميل تشين «راب ليلي»، التي تظهر هراوة شرطي، ويأخذ المقبض الجانبي بها شكل قضيب منتصب.
شكل 1-1: ميل تشين، «راب ليلي».
1
قوبل معرض «الذكر الأسود» باعتراضات ليس فقط من قبل المحافظين البيض الذين أزعجهم الصدى السياسي للموضوع، بل أيضا من النشطاء والفنانين السود الذين انتقدوا تركيزه على العري، ومن ثم التأكيد الممكن على المواقف الفعلية التي شرع لانتقادها.
بصورة أكثر إجمالا، عرض قدر كبير من الفن السياسي الصريح على نحو بارز في الولايات المتحدة في أوائل تسعينيات القرن العشرين، وصدرت ردود فعل حادة ضده حتى بين النقاد المحافظين المعتدلين، على غرار بيتر شيلدال وروبرت هيوز اللذين بذلا محاولة مشتركة لاستبعاد مثل هذه الأعمال من تصنيف «الفن». بعد بضع سنين، نجح أمثال هؤلاء النقاد بالفعل في صناعة شعبية «للجمال» في الفن المعاصر، كما سنرى. على النقيض، فشلت هجمات اليمين المتطرف في النهاية في تغيير مشهد الفن المعاصر بصورة جوهرية. وقليلون فقط هم من استطاعوا تقبل البديل الموصى به؛ ألا وهو الفن الوطني والمبجل الذي خرج مباشرة من العهد المكارثي، لكن كان هناك أيضا تناقض جوهري في موقفهم: إذ إن المظاهر الثقافية التي اعترضوا عليها اعتراضا شديدا أفرزتها القوى الاقتصادية بعينها التي التزموا بالدفاع عنها.
لكن كيف وصل الفن المسيس - الذي صنعه نشطاء يناضلون ضد الاتجاه السائد منذ زمن بعيد، لكن قليلا ما عرض - إلى هذه الدرجة من الأهمية؟ من ناحية ، كان ردة فعل مضادة للفن صديق السوق بالثمانينيات والذي تعرض للهجر على نحو مفاجئ للغاية بفعل الركود. ومن ناحية أخرى، كان توقعا بمنعطف ليبرالي في السياسة؛ فكثير ممن عملوا بمجال الفن دعموا كلينتون في انتخابات عام 1992، حتى إن بعضهم اشترك في جمع التبرعات لحملته الرئاسية. ورغم أن تلك التوقعات خاب أملها على المدى البعيد، فقد أمد دهاء كلينتون في التعامل مع الإشارات الثقافية التي أوحت بتغيير وليد، الكثير بالشجاعة في البداية، الأهم من هذا وذاك كان إعادة تهيئة للفن الأمريكي في وجه عالم فني معولم حديثا. إذا كان ترسيخ مدينة نيويورك بوصفها مركزا لعالم الفن عقب الحرب العالمية الثانية يعني تحولا في تركيز الفن الأمريكي من الشئون المحلية والوطنية إلى موضوعات من المفترض أنها عالمية، فقد استلزم النظام الجديد التخلي عن العالمية لصالح استكشاف التنوع والاختلاف والتهجين. ظل المركز المادي لعالم الفن بعد الحرب العالمية الثانية حيث كان بالضبط، وكما سنرى؛ حيث إن أكثر الشعوب التي تتمتع بتعددية ثقافية - وهي الولايات المتحدة - تملك هذه الميزة بموجب النظام الجديد لتضيف إلى قوتها الثقافية والسياسية، إلا أنها لم تستطع استغلال تلك الميزة إلى أن تمت مواجهة تحيزاتها وإقصاءاتها، والعوائق التجارية. كانت «الحروب الثقافية» والمعركة حول الفن السياسي التي تبعتها عملية تحديثية، وكان مقررا لها أن تتكرر في بلدان أخرى مثل بولندا واليونان؛ حيث يحتل الدين فيهما مكانة مميزة في السياسة والحياة العامة، وشهدتا فضائح فنية مشابهة حول إساءة استخدام الرموز الدينية والمشاهد الجنسية الفاضحة؛ مما أدى إلى فرض الرقابة وفصل مشرفي المعارض الفنية عن العمل.
إذا كان بزوغ نجم هذا الفن السياسي قصيرا نسبيا، فإن ذلك يرجع جزئيا إلى أنه أدى الغرض المرجو منه؛ فقد تنوع الفن بالفعل، وما إن كيف نفسه مع ظروفه الجديدة حتى فقد القدرة على العودة إلى سابق عهده. وإذا أخفق هذا الفن في تحقيق مبادئه الأوسع نطاقا، فهذا يرجع إلى طبيعته الناقصة، لا سيما انعزاله عن العمليات السياسية الفعلية. ويؤكد بنجامين بوكلو في وصف لاذع - بيد أنه مقنع - للفن المعاصر، أن التوجه طويل الأمد في الولايات المتحدة (ويمكن للمرء أن يضيف بلدا آخر) لانتقال السياسة من المجالات العامة إلى الخاصة، انعكس في فن ركز على هويات الفنانين والطريقة التي يمكن تشكيلها بها عن طريق تجميع إشارات تقليدية. كان من الأيسر استكشاف تلك المخاوف منه عن القضايا المستعصية الخاصة بالطبقة الاجتماعية والمؤسسات السياسية غير المبالية.
شكل 1-2: كارا ووكر، «سيدات كامبتاون».
2
بيد أن الهويات التي شكلها كل من المال والطبقة الاجتماعية، وروابطها الوثيقة بهويات أخرى، كانت نسيا منسيا في هذه السياسة؛ لذا لما انتعش الاقتصاد الأمريكي، على وجه التحديد خلال منتصف التسعينيات، برزت إلى السطح أعمال متحولة صديقة للسوق مرة أخرى، أضحت فيها الهويات اتحادات طيفية، وأضحى مزجها ودفعها في كافة الاتجاهات أمرا خاضعا للنزوة الاستهلاكية. أحد الأمثلة الجيدة اللافتة للنظر هو العمل الناجح للغاية لكارا ووكر الذي أثار بما يحويه من مشاهد خيالية تصور الجنس والعنف فوق أرض خضراء جدلا واسعا.
إن الهوية في أكثر صورها الصادمة - الإذلال المطبق للعبودية - نجدها حرفيا في صورة ظلية تظهر أشخاصا كاريكاتوريين يقومون بأكثر أعمال الاستعباد فظاعة بأسلوب القصص الخيالية اللطيف. كما أشارت كوكو فوسكو، لا يوجد ثمة إطار مرجعي أخلاقي واضح في عمل كارا ووكر، وهذا العمل لا يوثق ولا يعظ، لكنه يستميل الخيال والرغبة المكبوتة. السؤال هو: «رغبات من؟» انزعج بعض المعلقين السود، خصوصا بيتي سار، بشدة من النجاح المفاجئ والمثير الذي حققته ووكر على مستوى المؤسسات الفنية السائدة التي اعتبرت العمل مسليا لجمهور من البيض لديهم تأكيد خطير على تحيزاتهم الخاصة.
ولما كان المجال الفني مرتبطا بالاقتصاد ارتباطا وثيقا كما ارتبط آهاب بالحوت الأبيض، فإن ثمة طريقة أخرى للنظر إلى العلاقة نفسها، وهي من خلال الدورة الاقتصادية. إن الفترة محل النقاش في الكتاب - من عام 1989 إلى يومنا الحالي (أخط هذا الكتاب بينما تجتاح القوات الأمريكية مدينة بغداد، مؤسسة بذلك لنظام إمبريالي جديد ومعاد للعولمة بلا جدال) - يحدها الركود من كلتا الناحيتين: الركود الأول يتمثل في الانهيار الهائل لعام 1989 الذي قضى على عمالقة الفن الأثرياء خلال الوفرة الإنتاجية بالثمانينيات؛ مما أدى إلى تحطيم الزهو والثقة بالنفس اللذين وسما المجال الفني، وعلى مدى أبعد أفرز أعمالا أكثر فظاظة وأكثر شعبية، جنبا إلى جنب مع الفن الملتزم سياسيا. إن الفقاعة التي انفجرت كانت نتيجة لوخزة الانسحاب المفاجئ لليابانيين الذين يشترون من السوق، كنتيجة جزئية لمشكلات اقتصادية أوسع، لكنه أيضا نتيجة للكشف الفاضح بأن جزءا كبيرا من شراء الأعمال الفنية في اليابان كان يتم كطريقة للتهرب من الضرائب على الأرباح العقارية؛ مما كان له تأثير جانبي متمثل في تضخم الأسعار على نحو زائف.
أما الركود العالمي الثاني فكان مسألة تفاقمت تدريجيا في الغرب، نتيجة لإخفاق قطاع التكنولوجيا المتقدمة، وأعقبته انهيارات عامة في سوق الأوراق المالية، وفضائح حول الفساد المالي، وأخيرا الحرب. بين هذين الركودين، كان الانتعاش الاقتصادي غير مؤكد، عدا في الاقتصاديات الأكثر اتباعا للنيوليبرالية تماما بالغرب حيث اعتمدت على التكنولوجيا العالية وفقاعة الإنترنت. في تلك الشعوب، أدت الوفرة الإنتاجية (كما سنرى، على نحو متوقع) إلى ردة فعل ضد الفن المرتبط بالنظرية والسياسة، لصالح الأعمال الفنية التي تشرع في التجميل والإدهاش والتسلية ويمكن بيعها.
أما التغيير البارز الآخر في فن التسعينيات فتمثل في ظهور «فن التجهيز في الفراغ»، وهذا مصطلح معقد ومحل جدال. يراه البعض أنه فن يقاوم بصرامة البيع والشراء، لكونه في حد ذاته سريع الزوال ويصعب أو يستحيل تحريكه؛ لذا، كما أكدت جولي إتش رايس، انتعش فن التجهيز في الفراغ - الذي ولد في الستينيات - من سباته الطويل إبان سنوات الثمانينيات ذات الدوافع التجارية. في ظهوره الأول (وكان يعرف حينئذ بفن «البيئة») عرض في «بديل» أسس حديثا وأماكن يديرها الفنانون في الغالب. تزامن تجدد شعبية فن التجهيز في الفراغ مع ركود عام 1989، لكنه في صورته المستعادة رسخ نفسه في قلب عالم الفن، في المتاحف. إن تغير الاسم من فن «البيئة» إلى «التجهيز في الفراغ» يحمل دلالة؛ وذلك لأن المعارض يجب أن تجهز. لم يعد التجهيز في الفراغ يقاوم الطابع التجاري بالضرورة؛ لأنه الآن كثيرا ما يتم تحريكه ويدفع المال من أجله، حتى عندما لا يحدث ذلك، عادة ما يستخدم فن التجهيز في الفراغ فنانون وتجار كسلعة اجتذاب تباع بالخسارة من أجل بيع منتجات أكثر رواجا.
إن التجهيز في الفراغ لا يتغير بتغير الوسيلة، وليس في حد ذاته وسيلة؛ فهو يستوعب الفيديو ووسائل أكثر قدما كالرسم، ولعله يمكن النظر إليه باعتباره فنا مكانيا تندرج فيه كافة الوسائل - حتى عناصر الأداء. مع ذلك، صاحب ظهوره انخفاض نسبي في الوسائل التقليدية كالرسم الزيتي والنحت، إلا أن عالم الفن يقسم رأسيا وأفقيا بتفاوت، متضمنا العديد من الأطر المتداخلة للتنظيم والتجارة. لا يزال الرسم الزيتي - سواء أكان يشغل تركيز الخطاب الفني أم لا - الشكل الفني الأكثر رواجا، ولا يزال يصنع ويباع للأفراد والشركات بنجاح إلى حد ما وفقا للحالة الاقتصادية. يمكن قول الأمر نفسه إلى حد بعيد عن الرسم، والطباعة، وكتب الفنانين، وعدد كبير من الممارسات الأخرى، إلا أن محور التركيز هنا هو على ما يحظى بالأضواء، وما يتم تداوله على المستوى الدولي في أفق الساحة الفنية العالمية.
في هذا السياق، يتسم فن التجهيز في الفراغ بميزتين واضحتين: الأولى تتمثل في المنافسة المستمرة مع الثقافة الجماهيرية - كيفية إقناع جمهور ما بالسفر إلى متحف أو موقع آخر بدلا من مشاهدة التليفزيون، أو الذهاب إلى السينما، أو حفلة موسيقية، أو مباراة كرة قدم، أو التسوق. كان هناك ازدياد لحدة المنافسة في هذا الصدد، تنافس على المشاهدين، خاصة مع تحول التليفزيون - كأحد الأمثلة - إلى شاشة واسعة ضخمة ذات دقة عالية، وبه مسجل دي في دي. لقد رأينا أن الفن يختلف عن الثقافة الجماهيرية في تعامله مع المحتوى، بعيدا عن ذلك، ما لم تحاكيه الوسائل القابلة لإعادة الإنتاج بعد هو إحساس جسم يتحرك في فضاء محدد محاط بأجهزة عرض فيديو ضخمة أو عمل له وزن أو رائحة أو اهتزاز أو حرارة؛ لذا يحتل فن التجهيز في الفراغ، الذي يسمح لفراغ بأن يملأ بدلا من مجرد تقديم عمل فني يشاهده الناس، مكانة بارزة .
أما الميزة الثانية، فهي أن تفويض عمل فني لموقع محدد تفويضا حصريا هو طريقة لضمان أن المتفرجين سيذهبون حتما إلى هناك، وحشد مجموعات من تلك الأعمال الفنية الخاصة بفنانين ذوي شأن في بيناليات هو عامل جذب قوي لانتباه عالم الفنون. وهكذا، يرتبط التجهيز في الفراغ وخصوصية الموقع بعولمة المجال الفني، وبفن يستخدم بغرض التنمية الإقليمية أو الحضرية. لما كانت هذه هي الاستراتيجية المعتادة الآن، فإن حضور تلك المعارض - ليس فقط في فينيسيا وبازل ومدريد، لكن الآن في ساو باولو ودكار وشنغهاي - أضحى طريقة أخرى للتأكيد على التميز الاجتماعي للمتفرج (ومجرد التعرض الطفيف لثرثرة الساحة الفنية - في أغلب الأحيان نجدها تدور حول آخر المهرجانات الغريبة - سيؤكد ذلك).
في الفصول الأخيرة سنسبر أغوار الروابط التي تصل بين هذه العناصر المختلفة للفن منذ عام 1989؛ إذ قد ينظر إلى الحروب الثقافية في الولايات المتحدة باعتبارها مقدمة محلية للقضايا الأوسع نطاقا الخاصة بالاختلاط العالمي، وأنها نشأت نتيجة لنسق القوى نفسه: من ناحية، الاستهلاكية الليبرالية الملتزمة بتحطيم القيود على التجارة بمعناها الأوسع، ومن ناحية أخرى، القوى المحلية الخاصة بالتقاليد والدين والسلوك الأخلاقي. إن التجهيز في الفراغ (إذا نظرنا إليه من منظور شامل مرة أخرى) يقترن بالمشهد وبالمنافسة مع وسائل الاتصال الجماهيري. إن فن التجهيز في الفراغ المعاصر باهظ الكلفة ويعتمد عامة على الرعاية الخاصة والتمويل العام؛ ومن ثم فهو مرتبط بتدخل المؤسسات التجارية في الفن واستخدام المتاحف في أغراض تجارية، على نحو يتنافى مباشرة مع نشأته الأولى في مشروعات الفنانين بمبادرات خاصة، وهذا بدوره يتصل بالعلاقة بين العولمة والخصخصة التي تكون فيها خصخصة عالم الفن جزءا صغيرا ليس إلا، والتي تدفع المتاحف والمعارض نحو تقديم عروض مذهلة أكثر باستمرار. على نحو مماثل، يعد التكافل بين العناصر الراقية للثقافة الجماهيرية، والدافع إلى التعامل مع «الحياة الواقعية» (أي ثقافة المستهلك وشواغل وسائل الإعلام الجماهيرية) جزءا من الحافز نفسه.
مخافة أن يبدو هذا الكتاب مقسما على نحو منظم أكثر من اللازم، آمل أن يتضح فيما بعد أن هناك توترات وتناقضات هائلة بين هذه العناصر. وفي الفصول التالية عن العولمة، والعلاقة بالثقافة الجماهيرية، وتكلفة الفن واستخداماته، وسمات الفن وسمات الكتابة عنه، سنسبر أغوار هذه التناقضات. وفي النهاية، تأكيدا على ما هو بين، لا يمكن لكتاب بهذا الطول إلا أن يكون مقدمة فحسب، وقد اضطررت إلى الإقصاء أكثر من الإدراج بكثير. إن ذكر الفنانين والأعمال الفنية لا ينبغي أن يؤخذ على أنه يلمح إلى أي حكم على الجودة، بل إنه بالأحرى إشارة إلى أهميته المحورية في القضايا الجوهرية التي يتناولها الكتاب: تنظيم الفن ودمجه في النظام العالمي الجديد.
هوامش
الفصل الثاني
نظام عالمي جديد
دوريس سالسيدو فنانة كولومبية تصنع تماثيل من قطع أثاث كانت في السابق تنتمي لأشخاص «اختفوا» خلال الحرب الأهلية الطويلة في بلادها. خلال ذلك الصراع المرير، مولت الجبهتان - العصابات والحكومة - الحرب من خلال تجارة المخدرات، فيما مولت الولايات المتحدة الجيش الكولومبي ببذخ، رغم سجله الحافل بانتهاكات حقوق الإنسان. اختطفت الجماعات شبه العسكرية المتحالفة مع القوات الحكومية تحالفا وثيقا الأشخاص وقتلتهم دونما عقاب. في بعض من أعمال سالسيدو، نجد قطعة من الأثاث معشقة بعناية داخل قطعة أخرى، وفي أعمال أخرى، ما يبدو للوهلة الأولى أنه ألياف خشبية يتضح أنه شعر آدمي، تكون هذه التركيبات مملوءة بالأسمنت، والذي أحيانا يغمر أيضا جزئيا بابا أو طاولة مقلوبة رأسا على عقب. عند النظر إلى تلك القطع يتملكك شعور بالانغمار أو التلاشي البطيء للغاية، وكأنها رسم بياني لذكرى ذبلت نتيجة للعنف داخل الذهن، وقضى عليها الصمت والرقابة، ثم عادت غير مرغوب فيها في الأحلام والأفكار اللاإرادية، وفقدت على نحو قاس بالمثل تعريفها الدقيق مع مرور الوقت، وتراكمت ذكريات جديدة وذكريات عن ذكريات فوق القديمة.
إن كاتدرائية جايلز جيلبرت سكوت الإنجيلية بليفربول عبارة عن مبنى شاسع بجدران جرداء قوطية الطراز، وهي تقليدية في فخامتها وتصميمها المعماري، رغم أنها شيدت أثناء القرن الأخير. يتملكك وأنت تتجول داخلها حس قوي بالغرابة. يفكر الزوار: أين الزخارف التي تحمل الذاكرة التاريخية؟ وأين آثار انمحائها وتآكلها، وكذلك حالة الفوضى المألوفة التي تخلفها القرون؟ إلا أن هذه الكاتدرائية العتيقة جددت مؤخرا وتركت جرداء.
أقيم أول بينالي للفن المعاصر في ليفربول عام 1999، وضم مكونا دوليا، تحت عنوان «اقتفاء الأثر»، وأشرف عليه أنتوني بوند، ووضعت قطع الفن المعاصر في مواقع مختلفة حول المدينة، وظهرت أعمال سالسيدو في الكاتدرائية الإنجيلية. ماذا يمثل هذا الجمع؟ إن السبعين عاما التي مرت على تشييد الكاتدرائية شهدت حربين عالميتين، وظهور الراديكالية السياسية وزوالها في بريطانيا، وتراجع أهمية التصنيع، واكتساح العلمانية للمجتمع؛ فتولد المنتج المكتمل بحجم أكبر من المألوف داخل مدينة ناضبة من العمل والسكان والإيمان. إن عمل سالسيدو الفني - وهو محاولة دقيقة وشاقة لتبجيل الذاكرة - هو النظير المرئي لأعمال إدواردو جاليانو الفذة الخاصة باستعادة الذاكرة السياسية الجماعية في وجه القمع العنيف للاحتجاج كلمة أو فعلا في أغلب بلدان أمريكا اللاتينية. بصورة أكثر تحديدا، كما أوضح تشارلز ميرويزر، ينتقد تجميد الذكرى وكبحها التي يهدف الاختفاء إلى توليدها، فأهل المختفي الحزان ليس لديهم جثمان أو مقبرة أو حتى اليقين بأن حبيبهم توفي. من الناحية البصرية، تلاءمت أعمال سالسيدو الفنية جدا مع المساحات الشاسعة الجرداء بالكاتدرائية، فبدت الخزائن ككراسي اعتراف متحولة أو نعوش عملاقة. إن الغاية من الجمع بين الموقع والعمل الفني في مثل هذه المقاربة هو إثراء أحدهما الآخر، والمقاربة بين الثقافات على نحو مثمر، وتحفيز الفكر، والتزويد بلمحة عن تواريخ وثقافات أخرى. ورغم أن وضع أضرحة داخل كاتدرائية أمر ملائم، فقد بدا الجمع بينهما تضاديا؛ نظرا لأن الأنماط الطقسية للذكرى عند سالسيدو تعارضت مع شبح المذهب الإنجيلي، داخل مبنى شيد وكأن شيئا لم يتغير.
يعد العنوان «اقتفاء الأثر» موضوعا نمطيا لبينالي؛ نظرا لأنه يمكن أن يتسع ليشمل كل شيء تقريبا، ومن ثم لا يعني شيئا تقريبا. إن بينالي ليفربول هو فعالية شاملة تستوعب المعارض السنوية الأقدم، منها معرض نيو كونتمبراريز ومسابقة جون موريس للرسم. إن مدينة ليفربول ملائمة للغاية لمثل هذه الفعالية؛ مدينة تمتلئ بأحواض السفن، اعتمدت ثروتها العظيمة في السابق على التجارة، بما في ذلك تجارة الرق ، مثلت موقعا ملائما لفن يتدبر في أمر العولمة ووقائعها التاريخية. ونسيجها الحضاري المهترئ الآن به الكثير من المساحات الشاسعة الخالية لعرض الأعمال الفنية، ومناطقها المتهالكة، وجذول الأشجار العائمة التي تناسب التصورات الرومانسية، جاهزة للتحسين والتطوير. كل هذا يهيئ لبعض الفرص المثمرة والاستفزازية لعرض الأعمال الفنية، لا سيما أكياس البهارات المنتفخة لإرنستو نيتو المعلقة في معرض تيت، والتي تملأ فضاء المكان الذي كان في السابق مخزنا لتلك السلع بالفعل بالروائح. على نحو مماثل، قدم فيك مونيز في سلسلة «الأثر» أعمالا عاطفية ومعقدة حول أطفال الشوارع في مسقط رأسه ساو باولو، فقدم للأطفال نسخا من لوحات لفان دايك وإل جريكو وفيلاسكويز، وأقنعهم بتمثيل الأوضاع، ثم التقط لهم الصور الفوتوغرافية، ثم استخدم هذه الصور بعد ذلك كأساس لصور مفصلة مكونة من النفايات والقصاصات الملونة من النوع الذي يترك في الشوارع بعد مرور كرنفال، ومنها تظهر صور تخطيطية للأطفال محاطة بالسكر على نحو طيفي، ثم التقط صورا فوتوغرافية لها وعرض الصور الضخمة في المعرض. اكتسبت الصور التي عرضت في متحف تيت، الذي يحمل اسم أحد أقطاب تجارة السكر، بعدا آخر.
شكل 2-1: فيك مونيز، «الأثر» (أنجيلكا).
1
زعمت المقدمة في الكتالوج الخاص بمعرض «اقتفاء الأثر» أن هذا البينالي يعكس «النهضة المدنية الحالية» للمدينة، رغم أنه في عام 1999 كان ذلك مطمحا أكثر منه بيانا للواقع. كتب بوند أن توزيع معارض الفنون حول المدينة «يضمن أن الزوار سيكتشفون الطابع الثري لمدينة ليفربول فيما يشاهدون الأعمال الفنية.» من ثم صرح علانية بارتباط المناسبة بالسياحة، وبالطبع إن مشاهدة زوار المدينة للحدث الفني تتضمن الانتقال من مكان لآخر بوصفهم سياحا، والاستعانة باستمرار بالخرائط. كانت هناك سلسلة محيرة من الأعمال والأماكن، ونقص في المادة السياقية لكلتيهما، وفي ضوء أن مبادئ الحدث كانت مبهمة على أفضل تقدير، أصبحت التجربة بصورة أساسية ممارسة جمالية في رؤية العمل داخل سياق معماري، فيما عدا للأشخاص المطلعين للغاية على بواطن العالم الفني (الذي ربما أقيم لهم الحدث بصورة أساسية).
أدرج الكتالوج رعاة البينالي والمنظمات المساهمة، والتي اشتملت على شركات تجارية ومؤسسات أكاديمية محلية، وهيئات فنية، ومجالس الفنون القومية، والأجهزة الحكومية التي تدعم الثقافة في الخارج، مثل معهد جوته. كشف هذا المزيج عن نوع التحالفات الذي يولده أي بينالي: مؤسسات تجارية، كبيرة وصغيرة، ترغب في تعزيز شهرة علاماتها التجارية، وشعوب تدفع بمنتجاتها الثقافية، وكيانات إقليمية تأمل في تجديد نشاطها، وجامعات ترغب في رفع تقييماتها البحثية.
إن بينالي ليفربول لا يعدو كونه نموذجا واحدا لظاهرة آخذة في الانتشار أكثر فأكثر. وفي حين أن العالم الفني طالما كان أمميا؛ إلا أن نهاية الحرب الباردة - كما شاهدنا - قد تسببت في إعادة تنظيم ممارساته وعاداته. مثلما طاف المسئولون التنفيذيون بالشركات الكرة الأرضية بحثا عن أسواق جديدة، شرعت مجموعة من مشرفي المعارض الفنية الرحالة الدوليين في فعل الأمر نفسه، فيتنقلون من بينالي إلى آخر متعدد الجنسيات، من ساو باولو إلى فينيسيا إلى كوانج جو إلى سيدني وكاسل وهافانا. من بين تلك الأحداث الفنية في الدول النامية والشيوعية، كان بعضها يقام منذ مدة طويلة (على غرار بينالي ساو باولو الذي انطلق عام 1951، رغم أنه جرى تجديده وتمويله مؤخرا على نطاق أوسع) فيما كانت أحداث أخرى حديثة تماما. إليك بعضا من الأحداث الفنية الجديدة إلى جانب تواريخ انطلاقها: بينالي هافانا (1984)، بينالي الشارقة، الإمارات العربية المتحدة (1993)، معرض كوانج جو، كوريا الجنوبية (1995)، بينالي جوهانسبرج (1995)، بينالي شنغهاي (انطلق عام 1996، وفتح أبوابه أمام الفنانين الدوليين عام 2000)، وبينالي ميركوسور الذي يقام في بورتو أليجري بالبرازيل (1997)، معرض داكار، السنغال (1998)، بينالي بوسان، كوريا (1998)، بينالي برلين (1998)، وترينالي يوكوهاما (2001)، ومعرض براغ (2003).
سارة هي رؤية عالم الفن الشاملة لهذا التطور؛ فقد انهارت أخيرا مبادئ الحداثة الخطية، والفردية، والبيضاء، والذكورية، وحل محلها عدد هائل ومعقد من الممارسات والمخاطبات المتعددة والمتنوعة، والملونة. وردا على السؤال: «ما هي مقومات البينالي؟» أجابت روزا مارتينيز، أحد هؤلاء المشرفين الدوليين:
إن البينالي المثالي هو حدث سياسي وروحاني في الأساس؛ فهو يتأمل الحاضر برغبة في تغييره، كما يقول آرثر دانتو في تعريف أحبه للبينالي: «هو لمحة ليوتوبيا متعددة الجنسيات.»
إن الهدف من كل حدث، بصورة مثالية، إحداث تبادل لمعايير الفن المعولم الثمينة - عند فحص قوائم البيناليات نلاحظ تكرر نفس الأسماء باستمرار - نحو اتصال مثمر مع الفنانين المحليين والظروف المحلية. على نحو مثالي أيضا، ينبغي أن يفرز هذا مع الوقت مزيجا هجينا من الأنماط الفنية يأتي به أشخاص من خلفيات وارتباطات مختلفة على نطاق واسع، يعبر على المستوى الدولي والمحلي على حد سواء، ويملأ المساحات البينية وينتجها، والتي تقوض التكتلات المتماثلة - لا سيما الدولة القومية - التي تعتمد عليها السلطة.
وهذا مبدأ مثالي له دعم نظري قوي - لا سيما من كتابات هومي بهابها وستيوارت هول - عادة ما يذكر صراحة في المناسبات الفنية وفي المطبوعات المصاحبة، وقد ساهم في زيادة شهرة فنانين من شعوب لم تحقق في السابق هذا النجاح إلا في حالات استثنائية. يجلب هؤلاء الفنانون - من الصين أو كوبا أو روسيا أو جنوب أفريقيا أو كوريا، على سبيل المثال - إلى الساحة الفنية العالمية أصواتا ورؤى وأفكارا وأنماطا جديدة. إن حدة أعمال سالسيدو، والتي تأتي من تعاونها مع الأقارب الحزان للمختفين، بعيدة كل البعد عن القصص الخيالية للعنف غير الأصلية والمستوحاة من الإعلام كما في أعمال داميان هيرست، على سبيل المثال، أو الأخوين تشابمان، والمقارنة تجعلها تبدو مثيرة للسخرية قطعا. غيرت مثل هذه الأعمال المشهد الفني وتصدرت سلاسل المعارض الفنية. اضطرت «ثيرد تكست» - مجلة متخصصة تهدف إلى تعزيز وجهات نظر العالم الثالث حول الفن والثقافة وتحليلها - إلى تبديل غاياتها الأساسية من إظهار مثل هذا الفن والرأي إلى استكشاف ظروف نجاحه الكبير. على حد تعبير جين فيشر، فإن المشكلة الرئيسية لم تعد في التواري عن الأنظار، بل في تركيز الأنظار المفرط الذي حدث؛ لأن الاختلاف الثقافي أضحى سلعة يسهل ترويجها الآن.
يمكننا أخذ فكرة حول الشروط التي حدث هذا النجاح بناء عليها من خلال النظر تباعا إلى البيناليات، وبعض حالات الفن المتناقضة في مناطق مختلفة، ثم إلى وظيفة وأثر هذه الهوجة الجديدة من إنتاج الفن المعولم واستهلاكه.
إن العدد الهائل للبيناليات مدفوع بالقوى نفسها التي أدت إلى إنشاء هذا الكم الكبير من المتاحف الجديدة، وتوسعة القديمة وترميمها. تدرك الحكومات جيدا أن المدن تتنافس على المستوى العالمي مع بعضها بصفة متزايدة من أجل الحصول على الاستثمارات وإقامة المقرات الرئيسية للشركات بها وجذب السياحة. لا بد أن توفر المدن الأكثر نجاحا مجموعة واسعة من الفعاليات الثقافية والرياضية. والبينالي لا يعدو كونه سهما واحدا في جعبة سهام أية مدينة ترغب في أن تكون عالمية - أو مدينة تتطلع إلى تلك المكانة، كما في أغلب الأحوال - لاجتذاب فئة بعينها من السائحين (بعضهم فاحش الثراء) على أمل إمتاع هؤلاء المقيمين الذين لديهم حرية المغادرة.
في تصريح لمشرف المعارض الشهير، هوه آي هانرو، الذي جمع سلسلة من المعارض تستكشف المدن الآسيوية سريعة النمو والتغير، أوضح فيه اهتمام الساحة الفنية:
إن هذه المدن العالمية الجديدة تمثل قيام قوى اقتصادية وثقافية بل وسياسية جديدة تخلق نظاما عالميا جديدا ورؤى جديدة لكوكب الأرض. إن الشيء الأهم هو أنه مع تراث تلك المدن الخاص بها، أصبحت تلك المدن مساحات جديدة وأصلية يتسنى فيها التعمق في الرؤى والتفاهمات الجديدة للحداثة، واحتمالات جديدة لخيال «اليوتوبيا/الديستوبيا» وإعادة ابتكارها.
من ثم فإن تلك المعارض هي تأكيد ثقافي لقوى اقتصادية وسياسية جديدة، من بين الأمثلة على ذلك بينالي إسطنبول الذي يعد جزءا من جهود الحكومة التركية للتأكيد للاتحاد الأوروبي أن الشعب يمتثل بدرجة كافية للمعايير العلمانية والنيوليبرالية كي تضمن العضوية بالاتحاد. مثال آخر هو بينالي هافانا الذي يهدف إلى تقديم صورة أكثر لينا ومنفتحة ثقافيا للحكومة الكوبية بالتصديق على المعارضة في هذا الإطار الضيق.
للبينالي فائدتان أخريان تميزانه عن معرض لتكنولوجيا جديدة أو مباراة كرة قدم هامة. أولا: رغم كل الرفض الأكاديمي من جانب النقاد وواضعي النظريات، فإن الفن يحتفظ بمجد يسمو فوق الثقافة والترفيه المألوفين، وإشارات نحو العالمية من وجهات النظر العامة والمدنية، وهو في حد ذاته يؤدي الوظيفة نفسها لمدينة - في ظل التزاحم الفج لنيل مكانة في السوق العالمية - كما تفعل لوحة لبيكاسو معلقة فوق المدفأة لدى تنفيذي بشركة تبغ. ثانيا: إنه لا يجسد فضائل العولمة فحسب، بل يروج لها بفاعلية أيضا.
ثمة أحوال تتعارض فيها فوائد البينالي مع المبادئ المثالية التي من المفترض بها أن تجسدها. تأسس بينالي جوهانسبرج عام 1995، بعد فترة وجيزة من إجراء أول انتخابات حرة في جنوب أفريقيا عام 1994، كان الهدف إعادة ربط جنوب أفريقيا بالعالم الثقافي بعد سنوات من المقاطعة. في البينالي الأول نظمت سلسلة غاية في التنوع من المعارض في محاولة تصوير مدينة جوهانسبرج على أنها مدينة عالمية مكتملة الجوانب. تعرض الفنانون المحليون الذين سيعرضون نظرة مشكلة عن الأمة للإقصاء بصورة عامة، ورأى الكثيرون أن البينالي قدم صورة إيجابية مريبة عن المجتمع الجنوب أفريقي. وفي حين أن البينالي ضم مشرفين جنوب أفريقيين، إلا أنه تعرض لنقد كبير من جانب السكان المحليين لاعتباره غزوة أجنبية داخل مناطق معدمة ومقسمة لم تكن مستعدة على الإطلاق لذلك الحدث. تملكت توماس مكافيلي، من بين آخرين، الدهشة لإدراكه أن الحدث قاطعه كما يبدو جزء كبير من السود الذين نفروا من المغازلة الخانعة لساحة الفن العالمية.
في عام 1998، سعى البينالي الثاني - الذي أشرف عليه أكوي إنويزر وفريق دولي، وكان موضوعه «مسارات تجارية: التاريخ والجغرافيا» - إلى الاستجابة للانتقادات التي وجهت للبينالي الأول، فكان معرضا سياسيا تناول قضايا العرق والاستعمار والهجرة. مجددا، كان البينالي تجربة عولمية ضمت معارض تحت إشراف هوه هانرو وخيراردو موسكيرا، رغم أنه في هذه المرة أكد على الروابط بين بلدان الجنوب. ورغم التغيير في موضوع المعرض، والإشراف صارم التنظير، بدا في مثل هذا الإطار أن الصورة الفعلية للبينالي تعمل ضد نجاحه. هددت الأزمة المالية لمجلس مدينة جوهانسبرج الحدث وتسببت في إرجائه، ومجددا، تبرم الفنانون والنقاد المحليون من أن الإنتاج الأفريقي حل ثانيا لصالح شأن أممي يحمل هجينا عالميا، وأنه لحقه الضرر على وجه الخصوص نتيجة للاهتمام المنصب نحو فنون الميديا التي لا يملك خبرة بها - أو حتى الفرصة لاكتسابها - سوى عدد محدود من الفنانين المحليين. علاوة على ذلك، رؤي أن الأنماط القياسية للفن ما بعد المفاهيمي والفنون القائمة على التصوير الفوتوغرافي فرضت عنوة على الثقافة المحلية المتلاشية بأسلوب استعماري، فجاءت النتيجة متمثلة في تعذر وصول الجماهير المحلية له وابتعاده عن القضايا التي تشغلهم. عزز هذا التصور نقص أموال الدعاية والإعلان، نتيجة للأزمة المالية للمدينة مرة أخرى. شعر الزوار الأجانب للبينالي بالعزلة، وذلك في ظل مخاطر المدينة بالخارج؛ لذا لم يتدفق التبادل الثقافي في أي من الاتجاهين كما كان مخططا. جذب البينالي عددا أقل من المتوقع بكثير، وأنهى مجلس المدينة فعالياته قبل شهر من موعد انتهائه، وأعلنت المدينة بعد ذلك أنها لم يعد لديها أموال لإقامة بينالي آخر.
ما سبب هذا الإخفاق؟ تؤكد جين بودني أن البينالي كان يسعى إلى اجتذاب جمهور الطبقة المتوسطة (إما من البيض أو القطاع الأسود الصغير حينئذ) ممن لديهم اهتمام ضئيل بالمبادئ الثقافية المثالية للمعرض. إن مواجهة البينالي صعوبة في جذب جمهور محلي أمر لا يدعو إلى الدهشة؛ لأن الكثير من بيض جنوب أفريقيا حافظوا على الفصل العنصري على أرض الواقع ولم يتقبلوا معرضا عن العولمة متعددة الثقافات، في حين أن النخبة السوداء كانت لديها شواغل آنية أكثر، أما باقي أهل البلاد، فإن المعاهدة مع الغرب التي أسفرت عن نهاية سياسة الفصل العنصري، والتي تم الوصول إليها بتعهد بإدارة الاقتصاد تمشيا مع القيود العالمية المعهودة ومن ثم الحكم على أهل البلاد باستمرار الفقر؛ لم يكن في إمكانها الاحتفاء به دون مشاعر متناقضة.
حتى تلك المناسبات التي لاقت نجاحا حوت توترات مماثلة؛ ففي هافانا، جذبت البيناليات - التي تناولت الفن الكوبي وفن العالم الثالث - عددا كبيرا من الجماهير. ومع أن عامة الناس في مدينة هافانا يتمتعون بقدر أكبر كثيرا من الثقافة عن سكان المناطق العشوائية بجنوب أفريقيا، فهذا لا يعني أنهم حظوا باهتمام أفضل من قبل البينالي الذي بدا أنه أقيم في المقام الأول للأجانب. ترددت أقاويل عديدة عن أعمال وسائطية أوقف تشغيلها بعد الافتتاح، أو عن أماكن أغلقت قبل انتهاء البينالي. كتبت كوكو فوسكو عن إعادة هيكلة الفن الكوبي تحت الرعاية الأجنبية في بينالي هافانا 2000:
وصلت طائرات ممتلئة على آخرها بمشرفي معارض من أمريكا وأوروبا ... تم توجيههم إلى الاستديوهات المنتقاة وحفلات المشروبات الخاصة بهم دون غيرهم، وكذلك مرافقتهم إلى المعرض الرئيسي، وكان حدثا باهظ الكلفة للغاية بدرجة حالت دون حضور أغلب الكوبيين. وهناك، وعلى مدى بضع ساعات، شغل العديد من عروض الفيديو وأقيمت بعض الأحداث المباشرة للمتفرجين الأجانب فقط. لما وصل زوار آخرون في الأيام التالية كانت أجهزة عرض قليلة للغاية هي التي تعمل، هذا إن وجد أي منها من الأساس.
في عمل الفنان سانتياجو سييرا الذي عرض في بينالي هافانا لعام 2000 بعنوان «سانتياجو سييرا يدعوك لمشروب»، يوجه الفنان نقدا لاذعا للعلاقات المحتملة للسلطة والاستغلال بين سياح الفنون وأهل البلاد عن طريق تقديم المال للعاهرات وتخبئتهن في الصناديق التي وضعت كمقاعد لرواد الحفل.
شكل 2-2: سانتياجو سييرا، «وشم خطي طوله 160 سم على أربع سيدات».
2
تنزع البيناليات إلى مخاطبة جمهور الفن العالمي أكثر من السكان المحليين. ورثت تلك المناسبات بنيتها من نموذج المعارض الفنية أو التجارية الدولية التي تتنافس فيها الشعوب للدفع بأبرز سلعها الثقافية، في حين أن الكثير من البيناليات ابتعدت عن التجسيد المادي لهذه المنافسة في المعارض الفنية القومية، فأحيانا ما تبقى أجواء المنافسة القومية. علاوة على ذلك، فإن مشرفي تلك المعارض المتخصصين الرحالة هم صنيعة النظام الفني العالمي، وبالطبع هم يصغون إلى الأصوات المحلية ويتشاورون معها ويقدمونها، بيد أن «علة وجودهم» والبيئة التي يتحركون فيها عالمية ومختلطة. كتبت كارول بيكر في تحليل نقدي عن دور المشرف الذي يجوب العالم:
البعض ممن يجوب مثل هذا العالم الراقي للفن والثقافة والكتابة والإنتاج والمعارض يبدون الآن أنهم يستجيبون للساحة الفنية فحسب، ورغم أن العمل يبدو أنه مدفوع اجتماعيا، فإن النتيجة الحقيقية الوحيدة لهذا الجهد النقدي تتمثل في درجة إيجاد عالم الفن للعمل مقبولا أم غير مقبول أم استثنائيا، وهو الأمر الذي يقاس بقدر التقييمات التي يحظى بها العمل، من حيث جودة الوثائق والسجلات التي يولدها، والمبيعات التي يحققها في نهاية المطاف.
إن انتقاء المادة المحلية عبر النظام الفني يفرز في النهاية التماثل. هذا النظام - ليس فقط الإشراف، بل مصالح كافة الهيئات، الخاصة والعامة أيضا، التي تشكل التحالفات التي تتمحور حولها البيناليات - ينزع إلى إنتاج فن يخاطب الاهتمامات الدولية. بصورة أدق، هو يعزز القيم النيوليبرالية، لا سيما تلك الخاصة بحركة القوى العاملة والفضائل ذات الصلة بالتعددية الثقافية.
من بين الأمثلة البارزة عمل ألفريدو جار، «مليون جواز سفر فنلندي»، الذي عرضه في مهرجان الفنون الدولي إيه آر إس 95 بمتحف الفن المعاصر في هلسنكي. صنع جار نسخا معدلة على نحو طفيف لمليون جواز سفر فنلندي ونظمها في كتلة هائلة تذكرنا بالبنى التبسيطية، ووضعها خلف لوح زجاجي. كانت جوازات السفر ترمز إلى تلك الجوازات التي كان من الممكن أن تمنح إلى المهاجرين في حال سمحت الحكومة الفنلندية بالهجرة بنفس المعدل الموجود في باقي القارة الأوروبية، وبسبب إصرار سلطات الهجرة الفنلندية، دمر عمل جار في وقت لاحق.
كان هذا العمل مثالا نموذجيا للإنتاج الفني المعولم بطرق عديدة، فقد استخدم حرفيا كلا من المادة المحلية واللغة العالمية للفن المعاصر، كما استجاب للقضايا السياسية المحلية وعلق عليها. وهو في فعله ذلك انحاز لمصالح رأس المال العالمي على حساب الاهتمامات المحلية؛ إذ تمثلت رسالة العمل في أن حق الأشخاص في التوطين لا بد وأن يتجاوز أية قرارات قومية، حتى تلك التي تم التوصل إليها بطريقة ديمقراطية، وذلك لحماية التجانس والترابط الاجتماعي.
سنعود إلى هذا الموضوع مرة أخرى، وكذلك إلى التأثير المجانس للنظام الفني العالمي، لكن كي نؤكد أولا على تنوعه، نود مناقشة زوجين من الحالات المتناقضة: الأنماط المختلفة للأعمال الفنية التي خرجت نتيجة لصدمة الاحتكاك بالقوى الاقتصادية النيوليبرالية، في روسيا والدول الإسكندنافية؛ ثم الأعمال الفنية من دولتين أبقتا على الحكومات الشيوعية؛ الصين وكوبا.
روسيا والدول الإسكندنافية
إبان تسعينيات القرن العشرين، كانت روسيا والدول الإسكندنافية دولا حديثة التعرض للضغوط السوقية القصوى. في روسيا، أوعز خبراء الاقتصاد النيوليبراليون من الغرب للحكومة بأن التعرض السريع والحاد للسوق - «العلاج بالصدمة» - سيثبت أنه قاس على المدى القصير ، إلا أنه سيسفر عن ثراء سريع. أضحى عدد ضئيل من الروس فاحش الثراء، لكن النتائج على الشعب ككل كانت كارثية، مع انهيار أكثر الخدمات الأساسية، وتفشي الجريمة، وانخفاض متوسط العمر المتوقع، وانتشار الفقر المدقع على نطاق واسع.
وبدافع من هذه الكارثة، حازت الأعمال الفنية القادمة من روسيا وجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة اهتماما واسعا؛ إذ قدمت شظايا الانحطاط الاجتماعي لإدخال السرور إلى قلوب الجماهير في الغرب. وأضحى «فن الواقع» فنا مطلوبا، من خلال الأفلام الوثائقية والتصوير الفوتوغرافي والفن الأدائي وفن التجهيز في الفراغ. كان تقديم مثل تلك العناصر الأولية للفن الواقعي مرتبطا بالصدمة (كما يمكن أن يتوقع المرء من وصف هال فوستر بالغ الأثر عن فن حقبة التسعينيات: «عودة الفن الواقعي»)، وعلى وجه التحديد بالأثر المسجل جماعيا للعلاج بالصدمة الاقتصادية.
صنع بوريس ميخايلوف سلسلة من الصور الفوتوغرافية التي يقدم فيها المال لأشخاص مشردين لاتخاذ وضعيات معينة وتعرية أنفسهم أمام الكاميرا، مسلطا الضوء على الاضطهاد المضمن في تقديم الجسد مقابل المال (وهو يقترب في هذه النقطة من سانتياجو سييرا الذي دفع المال أيضا لأشخاص ليفعلوا أشياء مذلة مختلفة ولتعرية أجسادهم). يحاكي بوريس ميخايلوف في صور «قريبا من الأرض» (1991) و«عند الغسق» (1993) مظهر صور أوائل القرن العشرين مصورا الحياة في شوارع أوكرانيا، ويركز مرة أخرى على العديد من قاطني الشوارع، لكنه أيضا يركز على أولئك الذين لديهم منازل لكن بالكاد يستطيعون البقاء على قيد الحياة.
شكل 2-3: بوريس ميخايلوف، «سلسلة عند الغسق».
3
إن الموضوع إلى جانب الأسلوب استحضرا عصر ما قبل الثورة، وهنا يكمن تماثل مرئي فعال مع الشعور الذي تملك العديد من أفراد مجتمع ما بعد الاتحاد السوفييتي عن التاريخ والتقدم بعد انتكاسهما، وذلك بعد أن تمخضت الرأسمالية التي كان من المفترض أن تنقلهم إلى حاضر استهلاكي ثري عن تراكم لأطر زمنية، دافعة بذلك أغلبية الشعب نحو الفقر المدقع الذي ساد عصور القياصرة في روسيا.
شكل 2-4: سيرجي بوجايف أفريكا، «إم آي آر: صنع في القرن العشرين».
4
مثل سيرجي بوجايف أفريكا روسيا في بينالي فينيسيا عام 1999 بتجهيز أطلق عليه «إم آي آر: صنع في القرن العشرين». رأيت ذلك العمل الواعد متعدد الوسائط في نيويورك، حيث كانت أرضية المعرض وجدرانه مغطاة ببلاط قصديري يحمل صورا دعائية للحياة أيام الاتحاد السوفييتي، وقد طبعت أيضا لتبدو وكأنها قديمة من عشرات السنين. كانت الأرضية المعدنية تنبعج عند السير فوقها، وكانت الصور الفوتوغرافية تحمل سمة الرسومات الطفولية الموجودة فوق علب البسكويت، وفي منتصف الغرفة توجد كرة معدنية ضخمة تحوي داخلها مقطع فيديو لرجل مقيد بجهاز كهربائي يصرخ ويعض على رباط في ألم. بدا الفيلم أنه مقطع فيديو مكتشف، لكن يمكن تزييفه. كانت ردة فعلي المباشرة على العمل الفني - لأنه في معرض تجاري - أن ظننت أن مقطع الفيديو هو مقطع أدائي، إلا أن الفيديو في حقيقة الأمر نسخ من فيلم وثائقي عن شخص أجبر على خوض علاج بالصدمة الكهربائية، وما كنا نشاهده - نحن جمهورا كيسا نحمل كئوس الخمر بين أيدينا - كان مشهدا حقيقيا لتدمير العقل. سعت قطعة أفريكا الفنية إلى الجمع بين الصدمة النفسية والاجتماعية، في سبيل إماطة اللثام عن القمع المؤلم والوحشي الذي ينطوي عليه النظام الذي صور نفسه بالسماح والبطولة في صوره الفوتوغرافية، وطرح تلك الأوصاف القديمة والحنينية ربما أمام تدمير الذاكرة.
صنع أفريكا بعد ذلك عملا، كان مثارا لجدل أوسع، مستوحى من فيلم وثائقي عن ذبح دورية روسية على يد متمردين شيشان. إن المثالين السابقين يدلان على أهمية فن ما بعد الاتحاد السوفييتي الواقعي في الساحة الفنية الغربية، ربما تجلى في الصور الفوتوغرافية والأفلام، مع تلاشي كافة دروس ما بعد الحداثة القديمة عن التمثيل من الذاكرة، لكن مع ذلك اعتبرت أنها واقعية. وربما نراه في أداء معبر، كما في المشهد الأدائي «الكلب» لأوليغ كوليك، والذي ينقض فيه الفنان العاري على الجمهور محاولا عضهم، وكأنه إنسان تحول إلى كلب، في تمثيل واقعي على ما يبدو لخسة الروس وانحطاطهم.
إن انجذاب الجمهور الغربي لمثل هذه الأعمال الفنية واضح وضوح الشمس؛ فهي مزيج مدهش من الرأسمالية المزدهرة (بارونات لصوص ومدعين ، أو - بعبارة أخرى - محتالين وقتلة على نطاق واسع)، ومن المولد المفاجئ لعالم ثالث أوروبي أبيض، ومن قصة انهيار إمبراطورية «فاسدة» وعدو منهزم (قصة ممتعة لليبراليين والمحافظين على حد سواء)، ومن أيديولوجية أضحت جزءا من الماضي. إن الروسنة التي تنطوي الآن على كل هذا، تظهر على أفضل نحو عندما تعرض على الملأ.
لكن ما قد يصعب على الجمهور الغربي استيعابه هو كيف أن تلك الأعمال الفنية لا تصور بالضرورة الاختلاف الغريب للروح السلافية، أو حتى التاريخ السوفييتي، لكنها تشير بالأحرى إلى الحاضر الرأسمالي. إن عمل ميخايلوف الفني هو عن نتائج الرأسمالية الجامحة التي أضحى فيها كل شيء للبيع ليس إلا، وعمل كوليك «الكلب» هو بالتأكيد نسخة محدثة لقصة بولجاكوف «قلب كلب»، والتي يخضع فيها كلب لعملية جراحية بحيث يأخذ هيئة بشرية، وينجح في العيش بفضل غرائزه الأساسية في المجتمع السوفييتي في عشرينيات القرن العشرين. إلا أن المجتمع الذي تفحصه بولجاكوف تفحصا دقيقا كان يمر بتراجع منهجي من محاولة لإثارة شيوعية ثورية كلية، وكان يستخدم معايير السوق الحرة لتحفيز الاقتصاد مؤقتا؛ إذ ظهرت في فترة «السياسة الاقتصادية الجديدة» طبقة من الأثرياء الجدد ممن يتباهون بثرواتهم التي اكتسبوها بطرق مشبوهة في الغالب. بعبارة أخرى، كان صورة أكثر اعتدالا لروسيا اليوم.
على النقيض من ذلك اضطرت الاقتصاديات الديمقراطية الاشتراكية الفاعلة للدول الإسكندنافية فجأة إلى أن تسلك اتجاها نيوليبراليا خلال التسعينيات عن طريق إلغاء تنظيم الأسواق المالية والتخلي عن ضوابط سوق صرف العملات. ساءت الأوضاع أكثر مع ركود أوائل التسعينيات، وهو الأمر الذي أجبر الحكومات الإسكندنافية جزئيا على تفكيك البرامج الاجتماعية الخاصة بالصحة والرعاية الاجتماعية، والتي طالما اعتبرها المواطنون أمرا مسلما به. ارتفعت البطالة - التي كانت شيئا مستجدا غير مرحب به - مع انهيار النشاط التصنيعي. بدأت الهجرة الجماعية في تغيير ما كان في السابق مجتمعات منغلقة ومتجانسة تماما.
كانت الحداثة والديمقراطية الاشتراكية في الدول الإسكندنافية، كما في غيرها، مرتبطتين بقوة. ومثلما تخطت الديمقراطية الاشتراكية على مدى طويل القوى النيوليبرالية واليمينية والتي ألقت بظلالها على كثير من باقي دول العالم منذ أواخر السبعينيات فصاعدا، نجحت حداثة بنيوية ونقية في البقاء على الساحة الفنية الإسكندنافية. أدى الركود وتبعاته إلى تحول في دور الفن من التصميم المنفعي وتأسيس مشروعات بنيوية مثالية إلى النقد الصريح. قدمت الحكومات الديمقراطية الاشتراكية الدعم المالي للفنون، وجعلت الفنانين أشخاصا مطلعين ذوي نفوذ، بطريقة من الصعب إنكارها، مثلما فعل الكثير في بلدان أخرى. استمر هذا التوجه حتى في الفترات النيوليبرالية، حتى مع شروع الفنانين في أعمال معادية للمجتمع. ضمت مجموعة من كتابات الفنانين الإسكندنافيين - حملت العنوان اللاذع «كلنا عاديون (ونريد حريتنا)» - فقرة عبرت عن الأمر جيدا: «يبدو أن الفنان يؤدي دور المؤشر على قدر الحرية في المجتمع الإسكندنافي، وبقدر رفض الفنان للمجتمع - كما هو الدور التقليدي للفنان - يتأكد هذا الدور.»
إن ذلك النقد، الذي تطلبه النظام الجديد، يتوافق عن كثب مع الخطاب الليبرالي الذي صاحب النيوليبرالية. لا تحقق المقاومة المحلية أو القومية للاقتصاد والمجتمع النيوليبرالي سوى القليل من التعبير الثقافي في المجال الفني العالمي، وهذا من شأنه زيادة الشكوك حول احتمال أن الفن قد لعب دورا (ثانويا على نحو لا يمكن إنكاره) في الدعاية، ليس لسياسات الهوية فحسب، بل أيضا للنيوليبرالية نفسها.
إن تصادم تلك المجتمعات التي تتمتع بقدر وافر من الحماية مع القوى الاقتصادية القاسية أثمر عن فيض لامع ومتنوع من الجزيئات الثقافية التي لم تر من قبل، ونتيجة لذلك، وصل الفن الإسكندنافي المعاصر إلى محور الاهتمام العالمي، جنبا إلى جنب مع الموسيقى والسينما الإسكندنافية. انعكست تبعات الوضع الجديد بوضوح في معرض «حرية التنظيم: الفن الإسكندنافي في التسعينيات» عام 2000، كما ذكر ديفيد إليوت - مشرف المعرض - في الدليل الخاص بالمعرض، أن هؤلاء الفنانين «يبدو أنهم غاضبون للغاية» حيال شيء ما، ولديهم مشكلات مع المعمار العقلاني، والأحلام اليوتوبية، والمثالية، والهندسة الاجتماعية (من بين أشياء أخرى). استخدم جاكوب كولدينج الأشكال النيوية في تجميعات الصور الخاصة به، واضعا رؤى قديمة وراديكالية عن فقدان الاتجاه الشديد (كما يمكن أن نراها في أعمال الطليعيين الثوريين الروس) أمام التخطيط المجتمعي والمعمار المنظم على نحو رفيع اللذين كانا نتاجها الإسكندنافي. ترعرع كولدينج في أحد أحياء كوبنهاجن النموذجية والذي كانت الشوارع فيه آمنة للمشاة، والمحال التجارية والمدارس ورياض الأطفال والعيادات الطبية في المتناول. وهذا، كما لنا أن نفترض، هو مصير مروع، ومما لا شك فيه أنه كان كذلك حتى أغلقت تلك المرافق.
إن «الإنسان» الحداثي العالمي صاحب الاحتياجات الأساسية تمزق إلى شظايا من المصالح المتنافسة والهويات العدوانية. صورت ميريام باكستروم التصميمات الداخلية للمعرض بمتحف شركة إيكيا: سلسلة من المساحات الضيقة والعقيمة. إن شركة إيكيا لها مهمة حداثية تنادي بالمساواة بين البشر والديمقراطية، وهي التطوير العقلاني والاقتصادي والتدريجي للمساحة الداخلية. وترى باكستروم، شأنها شأن باقي الفنانين الإسكندنافيين المعاصرين، أثر الحداثة باعتباره شيئا يثير رهاب الاحتجاز. من السهل تخيل السكان المثاليين الغائبين لتلك المساحات الداخلية، شخصيات راضية متأنية وعقلانية تجلس في المنزل في تجانس. على النقيض من ذلك، يفضح الفنانون خبايا تلك الثقافة العقلانية باستمتاع، ويسلطون الضوء على المشكلات المحيطة بدخول المهاجرين من ثقافات أخرى، ويحتفون بمزاعم العناصر الكثيرة لسياسات الهوية. سافر بيارن ميلجارد - وهو فنان يتناول في أعماله المثلية الجنسية - في رحلة إلى تاهيتي، وما إن وصل إلى هناك حتى استمنى فوق قبر جوجان. إن شبح الحداثة يطارد الدول الإسكندنافية (لم يمر سوى وقت قليل على جنازتها) ويطلب طرد الأرواح الشريرة باستمرار، ولا يزال الكثير من الفنانين منشغلين بدق غطاء التابوت.
مع ذلك، إن الدرب الذي تسير فيه هذه الديمقراطيات الاشتراكية واضح للغاية، بالنظر إلى ظروف الحياة الديمقراطية بمناطق أخرى. يفحص مشروع مانس رانجي «المواطن العادي» الظروف الجديدة التي تحولت فيها السلطة من عامة مشكلة سياسيا إلى أولئك الأشخاص الذين يتلاعبون بالرأي العام والعملية السياسية باحتراف. يتناول المشروع مفهوم المواطن العادي كما شكلته حالة الرفاهية الاجتماعية بالسويد، وبعد أن عين مواطنة عادية حسب الإحصائيات واستجوبها عن آرائها السياسية مستخدما أدوات احترافية من ضمنها أفراد جماعات الضغط السياسي لتطوير اهتماماتها، وصلت آراؤها إلى عامة الناس في الخطب السياسية ووسائل الإعلام الجماهيرية. واستخدمت الاقتراعات لاختبار فاعلية هذه الاستراتيجيات، وقد حدثت أكثر التدخلات فاعلية عندما ذكرت آراء المواطنة على لسان إحدى الشخصيات بمسلسل تلفزيوني شهير. إن هذا العمل الممتع على نحو لاذع يضع التغير في الحياة العامة محل دراسة، متهكما على كل من التشبث القديم بالوسيلة الإنسانية، وفساد النظام الجديد، هذا إضافة إلى إيحائه بأن تشظي الكيان الاجتماعي تحت وطأة ضغوط الركود الاقتصادي والاختلاف الثقافي لعب دورا في فتح السياسة أمام تلاعب المجموعات المتنافسة، والتي تكون أقواها هي أثراها.
يطلعنا ديفيد ماكنيل في مقالة رائعة عن الفن والعولمة، على حادثة شهيرة بمعرض «الإنتربول» الذي أقيم في ستوكهولم عام 1996، والذي جمع شباب الفنانين من السويد وروسيا ممن كان مفترضا بهم أن يتعاونوا معا. ومع تطور المعرض، أضيف فنانون من دول مختلفة، وصنع الفنان الصيني جو ويندا، دون الإشارة إلى أي فنان آخر، بجهد جهيد نفقا من الشعر الآدمي المجدول. وعند افتتاح المعرض، مزق ألكسندر برينر - وهو فنان أدائي روسي - النفق تمزيقا بمنجل. استدعيت الشرطة وألقي القبض على كوليك وهو متقمص دور الكلب وحاول عض طفل، لكن برينر لاذ بالفرار، في حين أن جو ويندا اعتبر تدمير عمله إحباطا مستوحى من الحركة الدادية، وهو سلوك نمطي لروسيا المتردية والفوضوية، فما أثار ثائرة برينر ليس فقط ما اعتبره معاملة سيئة لبعثة أوروبا الشرقية على يد المشرفين الغربيين، لكن أيضا إضعاف الفكرة الأصلية للمعرض وتحويله إلى تجمع عالمي نمطي لإبداء مشاعر المحبة والصداقة. ما يلي تصريحه الخاص حول فعلته:
في اليوم التالي عقد مؤتمر صحفي لقبت فيه بالفاشي، كلا يا أعزائي، لا أوافقكم الرأي. في هذا المعرض كنت الشخص الديمقراطي الوحيد الذي أعلن صراحة موقفه وأظهر خلافه مع المنظمين. إنها الديمقراطية الراديكالية على أرض الواقع! المحاكاة والابتذال النيوليبرالي تحديدا!
كوبا والصين
إن الفن القادم من الأمم الشيوعية في عصر النظام العالمي الجديد له جاذبية مختلفة عن ذلك الخاص بالدول التي مرت بالتحول من الشيوعية مثل روسيا. نجحت كل من كوبا والصين حتى الآن في البقاء في ظل النظام العالمي الجديد بطرق مختلفة للغاية دائما. خرج من كلا البلدين أنماط معقدة ومختلفة من الفن، ولا يسعني هنا سوى التحدث بإيجاز عن بعض الأمثلة القليلة التي حققت نجاحا على المستوى العالمي.
بدأت أعمال متنوعة ابتعدت عن مبادئ الواقعية الاشتراكية في الظهور في الصين في أعقاب نهاية الثورة الثقافية؛ ارتبط بعضها بالموضوعات الدينية، فيما أثارت أخرى النزعة الإنسانية الماركسية، والبعض الآخر (منذ أواخر الثمانينيات فصاعدا) تناول الثقافة الاستهلاكية الجديدة سريعة النمو. تحول الاهتمام العالمي نحو الفن الصيني على المدى القصير نتيجة لمذبحة المنشقين عن النظام في ميدان السلام السماوي في يونيو عام 1989، والتي أدت إلى التركيز على الفنانين الذين يمكن فهم أعمالهم على أنها معارضة. عزز الاهتمام العالمي طويل الأمد الظهور الفائق للأسواق المنظمة في الصين والتوليد السريع للثروات الهائلة وانعدام المساواة، هذا إلى جانب وجود تحسن متوسط ملحوظ في مستويات المعيشة لمعظم أفراد الشعب، ونشأة مجموعة واسعة من المستهلكين (على النقيض من روسيا).
حدد جاو مينجلو النزعات الفنية التي أعقبت هذه التغيرات المثيرة، وأشار إلى أنه بحلول عام 1988، مع تسارع وتيرة التطور الرأسمالي في الصين، اتجه الفنانون (من ضمنهم وانج جوانجي) ممن أبدوا اهتماما بالموضوعات الإنسانية والروحانية الجليلة إلى نسيانها لصالح نقد اجتماعي أكثر صراحة. دعا وانج إلى وضع حد للحماسة للحركة الإنسانية، موضحا أن الفن ما وجد إلا ليحقق النجاح في عالم الإعلام وفي السوق فقط. تجلى أحد العناصر المهمة في هذا التوجه الجديد في العودة إلى تمثيل ماو، لكن على نحو معدل ليتناسب والمناخ الثقافي والسياسي الجديد جيدا؛ فظهر تمثيل لماو من عدسة الفن الشعبي، في صورة رديئة ومزعجة في الوقت نفسه.
مما لا شك فيه أن وضع كوبا مختلف للغاية، بحكم أنها جزيرة صغيرة تقع بالقرب من الولايات المتحدة المعادية التي تستمر في فرض الحظر التجاري عليها، بل وتزيد من وطأته، وتهدد بما هو أسوأ. إن العلاقات مع أفراد الشعب الكوبي المنفي مضطربة وخطيرة أيضا؛ فقد تلقى خيراردو موسكيرا - وهو مشرف معارض ومؤرخ وناقد مشهور لفن أمريكا اللاتينية - دعوة للتحدث في مركز ميامي للفنون الجميلة عام 1996 لكن سحبت الدعوة؛ وذلك نظرا لحقيقة أنه يقيم في كوبا، وهذا يجعله غير مرغوب فيه لدى الجمهور المحتمل، كذلك تعرض المتحف الكوبي للفن والثقافة في ميامي للتفجير مرتين لعرضه لفنانين كوبيين مقيمين فيها. لكن من ناحية أخرى، تتوافق كوبا توافقا جيدا مع الوضع المعولم الجديد نتيجة لمزيجها الثقافي والعرقي، والتكوين المتناغم نسبيا من العناصر الأفريقية والأوروبية والأمريكية.
كانت ردة الفعل الأولى لنظام الحكم جراء انهيار شيوعية أوروبا الشرقية، والتوقف المفاجئ للإعانات السوفييتية، قمع الحرية الفنية؛ إذ أغلقت المعارض الطليعية، وأقيل الوزير الذي أجازها، وسجن أنجيل ديلجادو الذي تغوط علانية على نسخة من صحيفة الحزب الشيوعي الرسمية «جرانما». وردا على ذلك، هاجر في أوائل التسعينيات معظم الفنانين الطليعيين الذين ظهروا في الثمانينيات.
منذ ذلك الحين - كما يروي موسكيرا - صب التركيز الدولي على حقوق الإنسان المقترن بانتعاش اقتصاد السوق والبحث عن الاستثمار الأجنبي في صالح الانفتاح الثقافي. كان جيل التسعينيات من الفنانين الكوبيين الناجحين هو الجيل الأول الذي ظل في كوبا بعد أن سمح لهم بالسفر، والأهم من ذلك، بيع أعمالهم بالدولار؛ مما مكن العديد منهم من التمتع بحياة كريمة للغاية. كذلك أجيز النقد المخفف والمتفق عليه، وأحيانا ما كانت الأعمال تناقش مع المراقبين. كتب موسكيرا: «تكمن الخطورة في أن هذا العنصر الحيوي ربما يصير نمطيا باعتباره ميزة جذابة للتصدير. لقد أصبح النقد السياسي ميزة بيع مغرية لهواة الجمع والمعارض الأجنبية.»
لا تزال وسائل الإعلام الجماهيرية تخضع للرقابة في كوبا، بيد أن الفنانين مباحة لهم حرية محدودة لانتقاد نظام الحكم، وهذه محاولة تشكيل قانونية للبنى الفعلية في الغرب التي تكفل تعزيز وسائل الإعلام الجماهيرية للتوجه السياسي السائد (لطالما كان ذلك موضوع تحليل لنعوم تشومسكي)، وكما في كوبا فإن الفن السياسي الراديكالي هو الأعلى احتمالا أن يعرض في البيناليات.
في كل من كوبا والصين، أنتج الفن الترويجي لمزيج الرأسمالية-الشيوعية، ويمكن للمرء مقارنة أعمال وانج جوانجي وخوسيه آنخيل تويراك اللذين صنعا صورا لماو وكاسترو على التوالي ، تتداخل فيها مواد إعلانية تجارية.
شكل 2-5: خوسيه آنخيل تويراك، «أوبسيشن»، من سلسلة «أوقات جديدة».
5
ظهرت صورة كاسترو في تمثيلات الفن الشعبي، شأنه شأن ماو في الصين، فقد أظهر خوسيه آنخيل تويراك كاسترو في إعلان عطر أوبسيشن (هاجس) من كالفن كلاين، ويقصد بالهاجس هنا إصرار الولايات المتحدة على إبعاده. كذلك عندما ظهر كاسترو وهو يدخن سيجارة ويمتطي فرسا في إعلان مارلبورو من تصميم تويراك، أصبح من الجلي أي مغزى يرمز إليه عنوان السلسلة «أوقات جديدة». كما أعاد تقديم صور وثائقية شهيرة للثورة مستعينا بأصدقائه، مؤكدا على السمة البلاغية للصورة الأصلية.
إن أوجه التشابه هذه لا ينبغي أن تثير الدهشة؛ إذ إن الحكومتين الصينية والكوبية أرختا قبضتيهما على اقتصاد البلاد، وأجازتا المشروعات الخاصة المحدودة، وكان عليهما بالضرورة تغيير لغة الخطاب في غضون ذلك؛ مما سمح بتسلل نماذج متنافسة للدعاية التجارية إلى الساحة؛ لذا انهالت دعاية الحكومة ودعاية المؤسسات التجارية على كلا الشعبين، تسعى كل واحدة جاهدة لإقناع الشعب بتفرد منتجاتها. أما في الغرب، فتمثل هذه الأعمال على نحو جميل دور سجلات تشهد على تضاؤل عدوين بعثا في السابق على الخوف وأيديولوجيات إلى صورة فحسب، وكذا أمثلة على الاختلاط الثقافي. إن الموقف المطمئن تجاه الشيوعية الموجودة فعليا سمح بإدماج رموزها داخل الثقافة المعاصرة دون أدنى خوف من خطر يعدو ظهور وجه تشي جيفارا على تي شيرت.
شكل 2-6: وانج جوانجي، «سلسلة الرأسمالية العظمى: كوكا كولا».
6
ثمة تشابهات أخرى. فقد وصف الناقد لي شاينتينج الطليعيين الجدد بأنهم «معادون للعقلانية والمثالية، مناهضون للميتافيزيقا والبطولة»، وبالتالي باعتبارهم بعد حداثيين. بالمثل في كوبا، يقتبس يوخينيو فالديز فيجيروا عبارة على غرار البيانات الرسمية لمعرض فني بديل بهافانا - إسباسيو أجلوتينادور:
احتمالات الخطأ لا نهائية.
إذا كان هناك شيء يتجنبه معرض «أجلوتنادور» تجنبا تاما فهو الاتساق، «صلاح» الضمير المثير للضجر والاشمئزاز.
إن أعمالا مثل طائرات الفنان تاتلين الشراعية ولكن بجسد أنثى من تصميم تانيا بروجيرا - والتي تقدم البنيوية الروسية بمواد رقيقة وشفافة - هي نموذج على هذا النفور من الترابط؛ فهي تأتي بمجموعتين من المصطلحات المتقابلة داخل شكل نحتي واحد، مزجت فيه الذكوري مع الأنثوي، والهندسة مع الحياكة، والبناء اليوتوبي مع البناء العشوائي في مجسم صغير ينعكس على نحو بارز على كل مجموعة من المصطلحات. وكما المألوف في عالم الفن المعاصر، يخلو العمل من أي تركيب أو وضوح.
في كلا البلدين، تعبر الأعمال الفنية الأكثر نجاحا بالمحافل العالمية صراحة عن الطبيعة الصينية أو الكوبية أمام الجمهور الغربي، ومع الإنتاج الفني الكوبي الأكثر شهرة، على سبيل المثال في أعمال كاتشو ولوس كاربينتيروس، ثمة عنصر قوي للإنتاج منخفض التكنولوجيا، والابتكار الإبداعي بمواد مجمعة ببطء وعناية، واستخدام المهارات اليدوية القديمة، ومن المؤكد أن جزءا من هذا الأمر من منطلق الضرورة، لكنه أيضا تلبية لتوقعات الغرب عن كوبا. ويستخدم اثنان من بين أكثر مصدري الأعمال الفنية الصينية فاعلية - جو ويندا وشو بينج (يقيم كلاهما الآن في الولايات المتحدة) - فن الخط الصيني كوسيلة رئيسية للتعبير. بصورة أشمل، إن معايير الاندماج واضحة للغاية؛ إذ يجب أن يعكس العمل الفني الأحوال الصينية المعروفة جيدا والتي تمثل محور اهتمام لدى الغرب، على غرار القمع السياسي والنمو الاقتصادي والنزعة الاستهلاكية، وإخضاع المرأة، وتحديد حجم الأسرة. إن هذه الشئون «الصينية» بشكل واضح يجب أن يجري التعبير عنها في أساليب غربية معاصرة مميزة لإنتاج عمل مهجن بوضوح.
اتضح هذا الأمر لي بجلاء حال رؤيتي مجموعة أعمال منتقاة من «المعرض القومي الصيني التاسع للفنون» في هونج كونج عام 2002. كان قسم اللوحات الزيتية بهذا المعرض عبارة عن عرض كبير وهائل لرسومات اشتراكية-واقعية للحياة الصينية المعاصرة، مرسومة بمجموعة واسعة من الأنماط، وغالبا ما كانت بارعة على المستوى التقني للغاية. بعض الأعمال، مثل لوحة وانج هونججيان الحزينة عن العمال المهاجرين المنتظرين لوسيلة نقل إلى الوطن في ضوء القمر، عبرت مباشرة وببراعة عن تجارب الناس في مجتمع يتغير سريعا. وأعمال أخرى، على غرار لوحة جين يي عن أناس ريفيين يبتسمون في ضوء الشمس، بدت (من وجهة نظري) رديئة بصورة يائسة؛ فالعنوان «أرواح بسيطة تبرق تحت الشمس» ليس بعنوان يستطيع المرء أن يتجنب التهكم عليه في لندن أو نيويورك. نتيجة لنقص المراجع الغربية المطلوبة (كان هناك العديد حقيقة، لكن لأنماط أقدم، من ضمنها الفن الانطباعي) وظهور انعدام الجدوى لأن جميعها له وظيفة دعائية، كانت تلك الأعمال مختلفة على نحو حقيقي عن الإنتاج الغربي، ومن ثم غير مرئية لنظام الفن العالمي.
على النقيض من ذلك، بإمكاننا فحص نموذجين ناجحين على المستوى العالمي: شو بينج من الصين، وكاتشو من كوبا، واللذين تمثل أعمالهما ما هو منشود في مثل هذا الفن. اكتسب شو بينج - وهو عنصر رئيسي في البيناليات - شهرته بعد أن قدم عملا في معرض بكين عام 1988 بعنوان «كتاب من السماء».
شكل 2-7: شو بينج، «كتاب من السماء».
7
كان هذا العمل - على غير العادة - عملا تصنيعيا كثيف العمالة من 1250 حرفا مبتكرا، مستوحى من عناصر الصور الرمزية الصينية لكنها لا تعني شيئا. استخدمت تلك الحروف في صنع تجهيزات لكتب ولفائف ضخمة وهائلة، تبدو للقراء الصينيين على أنها أجزاء عظيمة لنص ذي معنى، لكن جمعيها تتعذر قراءته بشكل معقول. إن هذا العمل مشروع متواصل، يتغير مع تجهيزه في أماكن مختلفة، ويتبنى تكنولوجيا الحاسب الآلي، وينتج كتبا لهواة جمع التحف. أثار العمل جدلا واسعا للغاية في الصين، حيث تعرض للهجوم والدفاع في آن واحد، وأصبح مرتبطا بوضع الإنتاج الطليعي تحت الضغط من قبل السلطات في أعقاب مذبحة ميدان السلام السماوي. وقد قال ستانلي كيه آبي - على لسان شو بينج نفسه - عن الاستقبال الجماهيري الصاخب للعمل، الذي تلا فترة طويلة من العزلة كان يصنع خلالها العمل:
إن تقديم عمل المرء إلى المجتمع يشبه تماما توجيه حيوانات حية إلى المذبح، لم يعد العمل ينتمي إلي؛ فقد أصبح ملكية للناس كافة ممن مسوه، فهو الآن شيء مادي وقذر.
في مقال جدير بالذكر، خطط آبي القراءات المختلفة لعمل «كتاب من السماء»، وما إن عرض العمل خارج الصين حتى تغير تغيرا عميقا، فلم يحاول أغلب الجمهور الجديد قراءة الحروف أو استشعار ألفتها الغريبة. وعندما عرض العمل في الولايات المتحدة ، لم يشاهد إلا من منظور مذبحة ميدان السلام السماوي، بوصفه رمزا للخير (التعبير الفردي) مقابل الشر (الاستبداد الشرقي). لم يوافق شو بينج على هذه التفسيرات لكنه لم يرفضها أيضا. على أية حال، لما كانت التفسيرات تتسع مع الانشغال بقضية ميدان السلام السماوي، فإنه فسر على نحو مطلق ووحيد على أنه انتقاد للتقاليد والمؤسسات والتاريخ الصيني، ولم يفسر أبدا - على سبيل المثال - على أنه تعليق عام على المعنى في حد ذاته.
عبر جاو مينجلو عن مسألة التفسير الخاطئ بقوة، عندما كتب عن إفساح النشاط الطليعي النقدي المجال إلى:
نشاط طليعي جديد براجماتي يسعى جاهدا إلى تخطي المستوى المحلي لصالح القبول على الساحة الدولية. إن هذا التحول هو إلى حد بعيد ثمرة الضغوط الخارجية التي أعقبت الحرب الباردة، لكن ثمة نزعة مثابرة في الغرب لتجاهل هذا التحول وتفسير الفن الصيني المعاصر من المنظور الأيديولوجي للحرب الباردة.
يستمر مينجلو في التأكيد بالقدر نفسه بأن ما يسمى «بالفن الطليعي» متواطئ مع ترويج الثقافة الاستهلاكية في الصين (فالانجذاب إلى الفن الشعبي ليس بمصادفة إذن)، وبأن ما قد يبدو طليعيا عندما نراه من خارج الصين ربما يبدو رجعيا عندما نراه من الداخل. ينافس هذا الفن المطلوب على المستوى العالمي فنا يطلق عليه جاو «فن الشقق السكنية»، ويعرض في أماكن خاصة أو في الشارع، ويتألف من أعمال مؤقتة وغير قابلة للبيع. مثال على ذلك الجدار الثلجي الفذ الذي صنعه وانج جين أمام أحد مراكز التسوق الرئيسية بمدينة تشينجتشو عام 1996، كان مطمورا داخل الجدار الثلجي أغراض استهلاكية ثمينة لجأ العامة إلى استخراجها بحفر الثلج كيفما استطاعوا، وفي النهاية دمروا الجدار.
شكل 2-8: كاتشو، «الحديث عما هو بين لم يكن متعة لنا قط».
8
يصنع كاتشو قطعا نحتية، أغلبها من الخشب، تتألف على نحو نمطي من عناصر تذكرنا بهياكل القوارب الصغيرة. حقق كاتشو نجاحا سريعا للغاية بعد أن عرض أعماله في بينالي هافانا عام 1994 وبينالي كوانج جو في العام التالي. ظفر بعقد مع معرض بارز بنيويورك - باربرا جلادستون - واشترى متحف الفن الحديث منحوتة ضخمة - «العمود اللانهائي 1» - في العام الذي صنعها فيه، عام 1996. كانت هذه القطعة أحد هياكل القوارب البديلة لدى كاتشو، مقرونة بالنحت مع إشارات للحداثة الأوروبية (في هذا الحالة، منحوتة برانكوزي «عمود لا نهاية له» التي صنعها عام 1938)، والتي تشير بوضوح إلى المحاولات المفجعة للهجرة الجماعية للكوبيين بعد إعلان الولايات المتحدة بأن جميع الأفراد الذين نجحوا في الوصول إلى شواطئها سيتم قبولهم بوصفهم مواطنين. وكما في حالة شو بينج، موضوع قومي على نحو واضح يقدم بمهارة فنان، ومؤطر داخل نسق فني معاصر مقبول.
إن جزءا كبيرا من هذه الأعمال الفنية، رغم اعتمادها على صدى القضايا السياسية، لا يتبنى أي موقف، ويتميز بالسياسة التهكمية أو الصامتة. حاولت كوكو فوسكو في مقالة لمجلة «فريز» الفنية الرائعة للغاية (وأعادت طبعها في كتابها «الأجساد التي لم تكن أجسادنا»)، فهم عمل كاتشو من منظور سياسي، لا سيما بفحص استخدامها من قبل السلطات في بينالي هافانا. أمام مثل هذه الجرأة في تحليل عمل محبوب جديد للسوق تلقت كوكو تهديدات، واضطرت المجلة إلى التعامل مع شكاوى من موزعي أعمال كاتشو. يعبر هذا الحدث كثيرا عن مستوى الكتابة الفنية في هذه المجلات - والقدر الذي يضمن به الموزعون ذوو النفوذ والمؤسسات الفنية المؤثرة «النقد» الخانع - لدرجة أن مثل هذا المقال ينبغي أن يبرز كحالة استثنائية بدرجة كبيرة في المشهد النقدي. ثمة حاجة ضئيلة بوجه عام للتهديدات والشكاوى، بالطبع؛ لأن أغلب الكتاب يراقبون أنفسهم. كما تشير المجلة الفنية الصفراء - «كواجيلا» - فإن هذا على وجه التحديد سلوك مثير للشفقة من جانب الكتاب لأنهم (مع استثناءات قليلة للغاية) يكسبون مالا زهيدا من ذلك.
في الفن العالمي المتميز، تستعرض الهويات من أجل ترفيه المشاهدين الدوليين. إن ملامح التمازج الثقافي والتهكم والعرض الصريح للهوية أمور تبعث على الراحة لدى المشاهد الغربي الذي لا يشعر بالطمأنينة لفكرة الاختلاف إلا إذا لم يكن هو الآخر في واقع الأمر (كما يؤكد على نحو جدلي سلافوج زيزك). أجملت فوسكو النتائج جيدا: إن العولمة غيرت المجال الفني، جنبا إلى جنب مع إدارة الاختلاف الثقافي والعرقي، بحيث يتبع نموذج الدولانية المشتركة. إن الشهرة في عالم الثقافة ليست بضمان على النفوذ السياسي، والخصخصة المتزايدة للمتاحف والمعارض تدمر الأثر الذي ربما تدفق من تلك الشهرة في السابق. عوضا عن ذلك، جرى تطبيع التنوع فيما ابتعد عن المحتوى النقدي له. يمكننا إيضاح هذه النقطة حرفيا أكثر بالنظر إلى هجرة الفنانين أنفسهم؛ فربما تكون أصولهم متنوعة، لكن الكثير منهم - وبالطبع ليس أولئك الذين فروا من دول بها رقابة قانونية فحسب - انتهى بهم المطاف بالعيش في نيويورك، مركز الفنون العظيم. من ثم أفرز التعدد التجانس، مع مواجهة الجميع لإقرار السوق.
بيد أن جزءا كبيرا من هذا الفن - على جاذبيته المريبة في الغرب - يعبر بالفعل عن أشياء رائعة، وينجح على مستوى الحدة والارتباط بدرجة نادرا ما نجدها في المجتمعات المستقرة والرغدة. أكد فريدريك جيمسون على نحو مقنع عندما كتب عن النظرية، على أن أكثر الأعمال النظامية تنتج في ظروف يواجه فيها المفكرون أقصى التناقضات في المشهد؛ نظرا لتطور متحد وغير متجانس، وكأنهم عاشوا في بيئة يتسنى فيها الانتقال من حقبة تاريخية إلى أخرى. ربما يرفع المزارعون في حقول الأرز ناظرهم نحو السماء ليلمحوا جارهم الجديد، بناية شاهقة الارتفاع ما بعد حداثية الطراز. هذا الأمر - على حد زعم جيمسون - يعزز التفكير النظامي والإجمالي عن التغير التاريخي. في الفن، لا توجد توقعات حيال مثل هذه الصفات النظامية، لكن هذه الظروف لها تأثير بالفعل، لا سيما في التفكير فيما وراء الانتشار الواسع للثقافة الاستهلاكية. بالمثل، ربما يمكن للمرء أن يتوقع إنتاج الأعمال الفنية الأكثر ضحالة وتفككا وانهزامية في الاقتصاديات النيوليبرالية الأثرى والأقدم، وعلى وجه التحديد الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وبالطبع - كما سنرى في الفصل القادم - هو كذلك بالفعل.
ما فحصناه بإيجاز هنا ليس النسق الكامل للإنتاج الفني العالمي الذي يتسم بالتنوع الشديد وينتج لظروف محلية كثيرة معقدة ومختلفة، لكن بالأحرى ما يمر عبر أداة ترشيح نظام الفن العالمي ليحظى بالشهرة الدولية. ورغم أن هذا النمط من الفن يمكن إنتاجه في الأغلب وفي مخيلتنا النخبة الفنية العالمية، فإن عالم الفن يفصح عما فيه؛ فرغم هيمنة الولايات المتحدة وسطوة المحترفين، فإن منتجاتها الفنية لها صدى أوسع بين جمهور متنوع، الكثير منهم لا يزال يتبنى المعتقد اليوتوبي بأن الفن يحمل رسالة أوسع نطاقا. من وجهة نظرهم، ربما يقدم تجارب متنوعة، بل وأحيانا راديكالية.
ما تحدثت عنه بإيجاز هو فكرة أن تنوع الفن المعولم الذي كثيرا ما يشاد به ربما يخفي فنا آخر، وتجانسات أجدد. ومثلما خرجت الرأسمالية كنظام عالمي من تحت عباءة خصمها المنهزم بعد عام 1989، تبين، في تحولها السريع، أنها النظام الجشع العنيد الذي هي عليه، ومن ثم ربما تكون الحال كذلك مع عالم الفن. إن الغاية من استخدامه كأداة في مواصلة الحرب الباردة بينت ما كان قيد التطور بالفعل: وظيفته الجوهرية كداع للقيم النيوليبرالية.
هوامش
الفصل الثالث
الثقافة الاستهلاكية
شكل 3-1: تاكاشي موراكامي، «هيروبون».
1
إذا كان التعبير الاقتصادي للنيوليبرالية هو عدم المساواة الأشد قسوة، والتعبير السياسي لها هو رفع القيود التنظيمية والخصخصة، فإن التعبير الثقافي لها هو النزعة الاستهلاكية الجامحة بلا شك. وفي حين أن «النظام العالمي الجديد» دفع الفن إلى إعادة صياغة نفسه عبر عولمة عملياته، فقد خضع الفن في العالم المتقدم لضغط متزايد من شريكه وخصمه القديم: الثقافة الجماهيرية. منذ السنوات الأولى للقرن العشرين على أقل تقدير، مع اختراع السينما، والفونوغراف، والراديو، اجتمع الاثنان في رقصة غير متكافئة، وكانت الثقافة الجماهيرية هي القائد أحيانا كثيرة.
ينزع الفنانون المعاصرون إلى تناول قضية الثقافة الاستهلاكية بافتتان وقلق، وثمة سبب وجيه لكل ردة فعل منهما؛ فالافتتان سببه أن النزعة الاستهلاكية يبدو أنها تتحول إلى سمة ثقافية على نحو متزايد، فاهتمامها بالبيع أو بمجرد عرض الصور والأصوات والكلمات يضاهي اهتمامها بالأشياء المادية. أما القلق، فمرده إلى أن محركات هذا الإنتاج طائلة للغاية وتمول ببذخ، والناتج صاخب للغاية وواسع الانتشار. وإذا كانت السلع تصير ثقافية، فما المساحة المتبقية للفن إذن؟
إنه قلق قديم، وجد في الحداثة وأيضا ما بعد الحداثة، وإن كان في أشكال مختلفة . وقف فرنان ليجيه أمام المعروضات من الآلات «بمعرض باريس» عام 1924، مندهشا من الحد الذي غطت فيه هذه المنتجات الخالية من العيوب على الجهود المتواضعة الخجولة للفنانين. إن الحجة القائلة بأن الفن لم يعد ممكنا نظرا لأن عالم المنتجات مشبع بالجماليات هي الصورة المختلفة بعد الحداثية للقلق نفسه؛ حلم حداثي بدمج الفن والحياة يبدو أنه قد تحقق، وإن كان باستسلام الطرف الأضعف أكثر منه بالتوليف بينهما.
وفي حين أن قضية انفصال الفن عن الثقافة السلعية أو دمجه معها لها تاريخ طويل، إبان التسعينيات كان هناك تكثيف للقوى المعنية، كثير منها سمات قديمة للرأسمالية، ساهمت في غلبة الثقافة الاستهلاكية المنتصرة ليس على الفن فقط بل أيضا على كافة أنماط الإنتاج الثقافي الأخرى. بدت السلع أنها تصير أقل تشابها مع الأشياء الوظيفية وأكثر تشابها مع حركات ثقافية زائلة في نطاق لعبة معقدة وذاتية المرجع. انتقلت العلامات التجارية بين منتجات غير متصلة، فيما دار الإعلان بين المرجع، والمرجع الذاتي، والمرجع الوصفي في التهام متسارع للارتباطات الثقافية قديمها وجديدها. أما الأرباح الكبرى فقد تواصل تحقيقها ليس في مجال الصناعة بل في مجال الخدمات، ومعالجة البيانات، والموارد المالية؛ وكان نجاح هذه القطاعات مرتبطا إلى أبعد حد بالاقتصاديات النيوليبرالية، لا سيما في الولايات المتحدة. أما في الغرب، فقد استشعر هذا التغيير في وقت مبكر منذ منتصف السبعينيات، إلا أن التسعينيات شهدت انهيار النماذج البديلة، ليس فقط في أوروبا الشرقية، بل أيضا في الاقتصاديات الصناعية العظمى كألمانيا واليابان اللتين عانتا الركود والتراجع. اتجهت أوروبا القارية نحو تبني النموذج النيوليبرالي الذي كان جذابا للغاية خلال أغلب منتصف وأواخر التسعينيات بحوكمة اشتراكية ديمقراطية اسمية. وسع النموذج النيوليبرالي من نطاقه وعمق من سطوته، شأنه شأن التسليع نفسه.
لقد شاهدنا أنه في بعض من هذه المناطق (بما فيها الدول الإسكندنافية) التي أدى الركود إلى فتحها مؤخرا أمام قوى السوق الجامحة والمدمرة، قام الفن بدور أداة للنيوليبرالية، ساحقا المحاسن المريحة وإن كانت خانقة للديمقراطية الاشتراكية، وعبر عن المخاوف المحررة من سياسات الهوية ، والنزعة الاستهلاكية، والابتذال، والاستمتاع بالانحطاط الأخلاقي. وكانت مثل هذه الأعمال حليفا نافعا، وإن كان بصورة ضئيلة، للخصخصة والقوى الاستعمارية للتسليع، وكثيرا ما نوقشت التشابهات بين تقاليد ما بعد الحداثة وروح السوق الحرة تفصيلا. عبر مايكل هارت وأنطونيو نيجري، في كتابهما بالغ الأثر «الإمبراطورية» عن هذا الأمر جيدا:
إن أيديولوجية السوق العالمية لطالما كانت الخطاب اللاتأسيسي واللاجوهري بلا جدال؛ فالتداول والحراك والتنوع والخلط هي شروطها الفعلية للإمكان. إن التجارة تجمع الاختلافات، وكلما كانت أكثر كانت أفضل! والاختلافات (اختلافات السلع والشعوب والثقافات وما إلى ذلك) يبدو أنها تتضاعف إلى ما لا نهاية في السوق العالمية التي تشن أعنف الهجوم على الحدود الثابتة، وتقهر أي تقسيم ثنائي بتعددياته اللانهائية.
إن هذا الأمر ليس بتشابه وقع من قبيل المصادفة، بل بالأحرى (كما أشار فريدريك جيمسون في مقالته التأسيسية عن حركة ما بعد الحداثة) علاقة وظيفية: عنصر جمالي أدمج داخل الإنتاج العام للبضائع الاستهلاكية، والتي تتغير مع الإيقاع المتزايد دائما للموضة. كما أن الشركات التي تنتج مثل هذه السلع تقدم الدعم المالي لسلاحها البحثي والتدويري: الفنون. تصف مارثا روسلر الموقف في كتابتها عن النزعة الراهنة والباهظة في فن الفيديو ذي الإنتاجية العالية: «لا شيء أكثر ملاءمة لصناعة الوعي من وجود فنانين يلهون عند حدوده، يزينون أنماطه ويصيغون حرفيا إلى حد بعيد استراتيجيات جديدة للإعلانات والجرافيك.»
ربما يمكن تخيل الفن كنزعة استهلاكية تسبح في الأحلام، وتجمع من جديد على نحو لعوب عناصر الثقافة الجماهيرية في تركيبات مضطربة، وفي غضون ذلك، تصادف أشياء نافعة. وفي إعادة مزج ما لم يعد مستخدما وتخزينه، ربما يخدم الفن غاية مشابهة للحمض النووي «المهمل»، الذي يعتقد أنه يدخر التسلسلات العتيقة في حال الاحتياج إليها ثانية.
استوعبت ثقافة المؤسسات تماما الخطاب الملطف لحركة ما بعد الحداثة. وكما في الثقافة الجماهيرية، أصبح افتقار الفن الفعلي للعرف هو الأمر المتعارف عليه تماما. أصوات ملحة توجد في كل مكان تحث المستهلكين على التعبير عن أنفسهم، وعلى أن يكونوا مبدعين، ومختلفين، وعلى كسر القواعد، والتميز عن الحشود ، بل والتمرد، لكنها لم تعد كلمات نابعة من مثيري الفتنة الراديكاليين، بل من رجال الأعمال. إن الكتاب في مجلة التحليل الثقافي الأمريكية «ذا بافلر» يصفون وصفا حيا مدى هذه الإيعازات والتوحيد القياسي لها، ونجد المثال الموجز على نحو رائع الذي أوردوه لهذا الإلزام هو ظهور ويليام بوروز في إعلان لنايك. إن قدرا كبيرا من المجال الفني منذ عام 1990 قدم تمثيلا واعيا من منطلق هذه الفضائل الراديكالية التي اختلستها ثقافة المؤسسات.
إن نظرية ما بعد الحداثة نفسها، في انتقالها من كونها قصة ليوتوبيا أو ديستوبيا ممكنة إلى وصف سطحي لواقع قائم، فقدت قوتها النقدية والأخلاقية. وفي حالتها المختزلة، حظيت النزعة الاستهلاكية والتمكين المزعوم للمتسوق على أهمية في خطاب ما بعد الحداثة، في حين أنه إبان التسعينيات تعرضت نظرية ما بعد الحداثة لوابل من الانتقادات على سخافاتها الداخلية وإرهابها للقراء بلغة اصطلاحية علمية لا معنى لها (برزت في قضية سوكال)، فلم تستبدل بقدر ما توارت في جزء كبير من عالم الفن الأكاديمي على الأقل، بقبولها كخلفية لا جدال فيها تخرج منها تصريحات بشأن الفن.
معظم ما ورد في نظرية ما بعد الحداثة أكد على أن المحاكاة قد أشبعت العالم بصورة كاملة، ورأى أنه ليس هناك إفادة في بيان الموضع الذي ينتهي فيه التمثيل وتبدأ الحقيقة. مع ذلك، سارت السمة الطيفية للسلعة العصرية، غير المادية على ما يبدو، جنبا إلى جنب مع ظهور النيوليبرالية. إن هذا النمط العدواني للرأسمالية أضحى ممكنا من خلال التغيرات التكنولوجية بالغة الأثر، لا سيما في مجال اتصالات الكمبيوتر الذي جعل تبادل المعلومات زهيدا وسريعا وسهلا. وكما وصف دان شيلر في كتاب «الرأسمالية الرقمية»، كان تأسيس البنى التحتية الهائلة لشبكات الكمبيوتر مدفوعا باستغلال خصخصة صناعات وسائل الاتصال المملوكة للدولة، كذلك حول ترقيم البيانات المعلومات المجانية في السابق (على سبيل المثال، في المكتبات) إلى سلع، في تطويق لمشاعات البيانات.
ساهم تطور بارز آخر في إظهار السلعة في صورة أقل مادية، وهو: تحقيق التمييز بعلامة تجارية أهمية أكبر على مدار التسعينيات مع إنفاق الشركات المال الذي ادخرته من تعهيد الإنتاج على تحسين صورتها الخاصة. تؤكد ناعومي كلاين في كتابها الشهير عن استحقاق «بلا شعار» أنه مع تصدير الإنتاج إلى الاقتصاديات منخفضة الأجور، انقطعت الصلة بين مستهلكي منتج ما وصانعيه. وفي المقابل ترقت العلامة التجارية، وتحررت من المنتجات المجردة لتصبح شخصية مجازية، وتجسيدا موثوقا لتركيبات بعينها من الفضائل أو الرذائل المحببة. في بعض الأحيان، كما في حالة رونالد ماكدونالد، تجسدت داخل شخصية رسوم متحركة. كنتيجة لذلك، أخذ الفن والتجارة يقتربان أحدهما من الآخر.
لدى الانتقال إلى صفحة الروابط بموقع الفنان المفاهيمي المحنك كلود كلوسكي، يجد المشاهد قائمة أبجدية بالمواقع الإلكترونية التي تضم أسماء مألوفة، لنقرأ منها أسماء نجوم الفن المعاصر: تبدأ بآدامز، آكرمان، آليس، آمر، آندريه، آراكي. جميع الروابط هي في الحقيقة روابط لمواقع شركات؛ لذا عند النقر فوق
www.billingham.com ، على سبيل المثال، تنتقل إلى موقع يبيع حقائب الكاميرات. إن نطاقي المنتجات والخدمات المجتمعين معا اللذين يتشاركان أسماء الفنانين يشكلان قاعدة بيانات صغيرة لافتة للنظر، وهذا الأمر يحث القارئ على التفكير في أسماء الفنانين على أنها علامات تجارية، وفي المواقع الإلكترونية لأعمالهم.
كلما ازداد اكتساب السلع السمة الثقافية، ازداد تسليع الفن أكثر، مع توسع سوقه ومع ازدياد تضمينه داخل المسار العام للنشاط الرأسمالي. أدرك أدورنو التوازي بين الفن والسلع الاستهلاكية حتى في الأيام الأولى لحركة ما بعد الحداثة، لا سيما إبان فترات الانتعاش الاقتصادية: ... حيث تتضاءل أهمية قيمة الانتفاع المادية للسلع، وحيث يصير الاستهلاك متعة بديلة للوجاهة الاجتماعية ... حيث يبدو، في النهاية، أن السمة السلعية للمواد الاستهلاكية تختفي تماما. إنها محاكاة تهكمية للوهم الجمالي.
والنتيجة ظهور موقف تجاه الفن يماثل موقف الأشخاص تجاه السلع، والتي تتظاهر بأنها ليست أقل من الفن. بيد أن هذا ليس بتطور تاريخي حتمي أو غير قابل للتغيير، ولد من منطلق الجوهر المنكشف للفن والسلع، لكنه تطور مرتبط بالإيقاع المتصاعد والمتناقص للدورة الاقتصادية، ولا ينعم به سوى من يتمتع بالثراء الكافي للاستهلاك بتفاخر.
استجابت ممارسات فنية عديدة في التسعينيات إلى هذه التغيرات، واستفادت منها ودفعتها قدما. أخذت سيلفي فلوري ثمار رحلاتها التسوقية إلى المحلات التجارية الراقية ووضعتها فوق أرضية المعرض، أو وضعت أشياء محبوبة وعصرية (فعليا) فوق منصات العرض. تفحصت فلوري أيضا المستويات المختلفة للنشاط الاستهلاكي، وربطت بين الأقل جاذبية والأكثر منفعة والاستهلاك التفاخري من خلال عربات التسوق المطلية بالذهب.
شكل 3-2: سيلفي فلوري، «سيري إي إل إيه 75/كيه (سهل ومريح وجميل)».
2
أما جيوم بيل فقد فتح ببساطة محال تجارية داخل نطاق المتحف. وقد تحول معرض «التسوق» بمتحف تيت بليفربول إلى فرع جيوم بيل الخاص لسلسلة متاجر «تيسكو». قدم فريق عمل متاجر تيسكو الدعم، وأخذوا يعيدون ترتيب السلع ويسعرونها وينظمون الأرفف. مع ذلك، لأنه لم يكن متاحا لأحد أن يشتري شيئا بالفعل، وكانت جميع الأرفف ممتلئة بالسلع ومضاءة بأضواء المتحف الكاشفة، أضحى «المتجر» معرضا جماليا لكتل متعددة الألوان من العبوات المتكررة. من ناحية، يذكرنا هذا العمل بعربات تسوق فلوري من حيث تحويل أقل الخبرات التسوقية جمالية إلى مشهد بصري منفصل مثير للاهتمام. شعر المشاهدون الذين لم يعتادوا على التوقع الضمني بأنه ينبغي أن ينظروا إلى العرض التجاري للسلع المعلبة كخبراء بالإحباط. ومن ناحية أخرى، أسهم هذا الشعور بعدم الارتياح كدحض ثانوي للموقف (نجده في كتابات بودريار) أن الجانب الجمالي قد أتم غزوه للتجارة منذ زمن بعيد.
لدى قراءة بعض التصريحات ما بعد الحداثية ربما يمكن أن نغفر للمرء تفكيره في أنه لا توجد منطقة ثقافية محصنة ضد الغزو الفني، وهذا في واقع الأمر ليس القضية؛ فالمجال الفني يختار حلفاءه بتمييز عنصري، فلا يوجد اهتمام مستدام بلعبة رمي السهام أو بهواية اقتناء الحمام، على النقيض من ذلك، بذل الكثير من الجهود للتقريب أكثر بين الفن وعالم الموضة. يكشف تصريح مثير للضجر من هوجو بوس (راعي معرض فلوري) من خلال اختلاط مصطلحاته ونتيجة لها أيضا، الآلية الأيديولوجية في أرض الواقع:
لطالما سار الفن والموضة جنبا إلى جنب، أحيانا بأسلوب راديكالي وصادم، وأحيانا أخرى بطريقة تقليدية ومحافظة، وكلاهما تصدر الأحكام عليه وفقا لمعايير تذوق ذاتية، وكل منهما يمثل بأسلوبه الخاص أجواء العصور وروحها. إن الفن والموضة يحفزان الحواس ويصنعان أشياء مرغوبة ومعبودات للمجتمعات الثرية وتراثيات ثقافية.
على مدار التسعينيات، ازداد اقتراب صناعة الفن وعالم الموضة أحدهما من الآخر يوما بعد يوم؛ فضمت المجلات الفنية إعلانات أكثر لشركة أزياء برادا، بينما ضمت مجلات الموضة مقالات أكثر عن الفن المعاصر، وظهرت مجلات مختلطة على نحو أصيل (مثل «تانك» أو «فيري») يتعايش فيها العالمان في تكافل. أنتج العديد من مصوري الأزياء على غرار يورجن تيلر وكورين داي كتبا فنية، وظهرت أعمالهم في المعارض إلى جانب ظهورها على الصفحات. يربط ديدريتش ديدريكسون رواج الأعمال الفنية المذهلة بكل من التطور الملحوظ في جودة طباعة المجلات والذي أدى إلى استخدام أكبر للصور (التي حلت محل النص)، وزيادة مجلات الفن والأناقة والموضة المنوعة. وبطبيعة الحال، تميل مثل هذه المطبوعات إلى توليد فن يمكن استيعابه سريعا بمجرد النظر إليه في صورة أو اثنتين.
ارتبطت هذه التطورات بكل من الضغوط التي خضعت لها المعارض والمتاحف العامة لاكتساب الصفات التجارية وميول رعاة المعارض، لكنها عكست أيضا نزعة أوسع نطاقا في الثقافة السلعية لمحاباة الشباب، أو على الأقل ظاهره. إن مرحلة الشباب صفة تسويقية جذابة حتى لتلك المناسبات الفنية التي تجذب جماهير أكبر سنا تحب أن ترى أنفسها كأشخاص مفعمين بالحيوية والنشاط. لقد أضحى الشباب ميزة يتسنى للفنانين استغلالها بطرق عديدة، يستطيع الفنانون البقاء شبابا لفترة طويلة، أو حتى تصنيفهم كشباب. بإمكانهم تصوير مرحلة الشباب، وثمة موجة من هذه التصويرات، لا سيما في التصوير الفوتوغرافي، حيث دوما ما تطمر مرارة التقدم في العمر والموت. يقف العارضون المراهقون بصور رينيكي ديكسترا أمام الكاميرا على نحو مؤلم على الشواطئ أو في النوادي، أو الفتيات الثريات المرتبكات بصور سارا جونز واللاتي اصطففن عبر غرف أنيقة، يحزنهن دراية ما خفية، أو - في تنسيق مختلف - تستخدم فانيسا بيكروفت في عروضها الأدائية وأفلام الفيديو والصور الفوتوغرافية عارضات يقفن في حالات مختلفة من التعري، ويواجهن المتفرج بشعورهن بالذنب من رغباتهن وتطلعاتهن .
إن جميع هذه الأعمال يمكن اعتبارها أعمالا هامة، ويمكن الاستمتاع بها بالمثل كتجسيدات مميزة من الناحية الثقافية لجمال الشباب. في نهاية المطاف، يستطيع الفنانون الأداء في أعمالهم وكأنهم شباب. تعبر جورجينا ستار، وإليزابيث بايتون، وغيرهما الكثير عن الثقافة الاستحواذية للمعجبين من المراهقين، في حين أنه يكمن في المعارضة الصريحة لإجادة الفنانين البارعين والمتمرسين من الطراز الأول على غرار بيل فايولا - الذي لا يزال يحمل شعلة الجودة الجمالية والعبقرية - ترويح خفيف عن سوء الأداء الخجول المثير للشفقة، كما في أعمال شون لاندرز الهزلية.
شكل 3-3: فانيسا بيكروفت، «في بي 29-243».
3
من بين هؤلاء الذين قطنوا العالم الواصل بين المعارض والمجلات، واحد من أكثر الفنانين نجاحا وهو فولفجانج تيلمانس. اكتسب تيلمانس شهرته من عمله العصري والحر بطريقة الصور الفوتوغرافية الخاطفة لمجلات مثل «آي-دي»، و«ذا فيس»، لكنه عرض أيضا بصفة منتظمة في المعارض والمتاحف. فاز بجائزة تيرنر عام 2000، وقدم معرضا هاما في متحف تيت ببريطانيا عام 2003. إن موضوع تيلمانس هو الشباب، وعينه (كما ينبغي أن نستنتج من الطابع غير الرسمي لعمله) هي العين البريئة للشباب، والتي تركز بدهشة على كل جزء مرئي من العالم، سواء كان مبتذلا أو استفزازيا؛ فالطبقة الرفيعة فوق فنجان قهوة سادة، فأر يهرب عبر المصرف، قضيب بجانب صينية فطور بجانب السرير ينظر إليها جميعا بنفس النظرة المحدقة. تلك الرؤية، كما لك أن تتوقع، تجد الجمال في أماكن غير متوقعة، على غرار صورة لمجموعات ملونة بألوان الحلوى لمعطرات الجو منعكسة على السطح المعدني الأملس لمبولة.
إن عالم تيلمانس هو ميدان لشريحة من الشباب الموسرين، البيض في الأغلب، وبعيدا عن الأشخاص الذين يرتدون ملابس مجارية لأحدث خطوط الموضة، يصور تيلمانس الأشخاص المترددين على النوادي الليلية وموكب الحب ببرلين، ويضعها جنبا إلى جنب مع اهتمامات سياسية شبابية مختلفة: مهرجانات فخر الشواذ، والتشرد، ومعارضة الحرب. وكل هذا يطغى عليه روح الشباب نفسه بصراحته، وجاذبيته الجنسية، ومثاليته، وإدراكه الكئيب بسرعة زوال المرحلة العمرية (كما هو واضح في صور تيلمانس، على نحو تقليدي تماما ، بزهور ذابلة وفاكهة ناضجة أكثر مما ينبغي). إن أعمال تيلمانس ذات نفع؛ نظرا لأنها تمثل إلى حد بعيد جزءا كبيرا من إنتاج الفن والموضة في المجلات والكتب والمعارض والتي تعبر فيها عن نفس الارتباطات بالضبط وتفترض القيم نفسها. ونظرا لأهمية هوس الثقافة التجارية بالشباب، فإن لهذه الرؤية زخما هائلا، وإذا نفرنا منها، فسوف يدين هذا المرء على الفور لكونه فظا ورجعيا.
ينبغي طرح السؤال: هل هذه الصور الفوتوغرافية تتأمل التوترات المتأصلة في عقيدة الشباب أم أنها تضرب مثالا لها فحسب؟ هل هذا التجاور بين الصور يبني الدلالة أم فقط يوحي بها؟ لقد ذكر تيلمانس أنه في تصوير السبائك الذهبية يشير إلى شيء له مغزى عن المال والقيمة. إن ملاحظة قديمة لبرتولت بريشت تصلح في هذا السياق: إن صورة فوتوغرافية لمصنع لا تخبرك شيئا عن العلاقات بين الناس داخله. إن عنوان معرضه بمتحف تيت وكتابه أيضا - «إذا كان شيء ما مهما، فكل شيء مهم» - يكشف لنا الأمر، إلى جانب أنه يعكس انحياز المجال الفني مؤخرا للتصوير المباشر «للواقع». إن ما يقدمه هنا هو لمحات طبيعية متنوعة للأشياء والناس، وإن الوصول إلى الواقع يتطلب سعرا أعلى، في الفكر والمعرفة وتشييد البنى، وفي إدراك أن بعض الأشياء لها أهمية أكثر من غيرها.
كل هذا لا يجب أن يقودنا إلى الاعتقاد أن الفن والموضة قد اندمجا معا، مثلما لم يندمج الفن والثقافة الجماهيرية ككل، أو الفن ووسائل الترفيه (كما أشار عرض أخير بمركز ووكر الفني). إن الانجذاب المتبادل ما كان سيصمد إذا لم ينتج عن تقاطع الأقطاب المتقابلة شرارة نافعة: شرارة التميز الثقافي والجدية للموضة، وشرارة رونق وتألق للفن. كيف يدوم هذا الفصل؟ إن الخطاب الفني الاحترافي يسير في اتجاه واحد مرتبطة به الطريقة التي تشير بها الأعمال الفنية في أغلب الأحيان إلى أعمال فنية أخرى؛ مما يتطلب من المشاهد الخبير معرفة بالتاريخ والمجال المعاصر، إلى جانب امتلاك لغة اصطلاحية فنية. سنرى أيضا في الفصل القادم كيف يتحاشى الفن أي تهديد بالدمج مع الثقافة الأوسع نطاقا عن طريق الدفاع عن استقلاليته من خلال تطلعات لتبوء مكانة احترافية.
مع ذلك، لعل امتزاج الفن مع الموضة أو وسائل الترفيه ليس بتهديد بقدر ما هو ارتباط كامل مع السلعة نفسها. إذا حدث ذلك، فسيفقد الفن كل ادعاءاته بالمثالية وكل تبريراته للإعانات الحكومية. من وجهة نظر ماركس، إن السلعة شيء غريب ومعقد، لكونها شيئا ماديا يقدره المشتري لأن له نفعا، وفي الوقت عينه - بفضل حركة السوق - شيئا يحمل قيمة تبادل نقدية. في حين أن الاستخدامات متنوعة ويستحيل قياسها، فإن قيم التبادل جميعها توضع على مقياس واحد. من وجهة نظر بنجامين بوكلو، في وصفه التشاؤمي للفن المعاصر، رضخت قيمة الانتفاع بصورة متزايدة، والفن - مثله مثل المال - أضحى سلعة لها قيمة تبادل خالصة إلى حد بعيد (ما دام أن المال والفن ظلا أشياء مادية، فلا يمكن لأي منهما إبعاد قيمة الانتفاع كلها، كما ذكر ماياكوفسكي، إبان الحرب الأهلية الروسية كانت الكتب تطبع على النقود التي لم يعد لها استخدام، أما في العمل الاستفزازي الفاضح لدوشامب، فيمكن استخدام لوحة لرامبرانت كمنضدة مكواة). في مرحلة متقدمة، حتى ادعاء تحقيق قيمة الانتفاع في الفن قد توقف، مع توجه الفنانين إلى عكس المشهد الجديد وفحصه ببساطة، والذي لا يوجد فيه تمييز بين الفن والمال، وهم يفعلون ذلك دون نقد أو رغبة في التغيير.
لقد أصبح رفض التحيز في عمل فني ما أو في مناقشته منهجا قياسيا في الفن المعاصر الغربي. والنموذج هنا هو أندي ورهول، بالطبع، الذي تحدث وكتب كثيرا لكن في كلمات فقط صدرت من شخصياته التي تحمل علامته التجارية، وبذا لا يستطيع أحد التأكد من وضعها: «إن إجادة العمل التجاري هي أكثر الأنماط الفنية روعة» مع اقتراب الفن أكثر وأكثر إلى السلعة القياسية، قد يكون من الحماقة توقع صدور تعليق انتقادي على منتج من صانعه؛ لذا في أعمال بيل وبيكروفت وفلوري، ليس من الواضح ما إذا كانت صناعة الموضة والنزعة الاستهلاكية تتعرض للإشادة أم للإدانة. إن مثل هذه الأعمال تلقي الضوء ببساطة على وجود السلع أو النماذج من خلال إظهارها بمظهر غريب، بتغيير البيئة التي تشاهد فيها هذه الأشياء في المقام الأول. ورغم تصريحات الفنانين والنقاد التي تحيط بهذه الأعمال الفنية، وتؤكد للمشاهد على حياديتها، فإن الازدواجية واضحة تماما. إذا نظرنا إلى هذه الأعمال الفنية باعتبارها انتقادية، فهي أعمال متواضعة وضعيفة، وإذا نظرنا إليها باعتبارها أعمالا إشادية، فهي قوية ولاذعة؛ نظرا لأنه في النهاية - وعلى وجه الخصوص في أعمال فلوري وبيكروفت - ما ينتج على نحو براق وبارع هو مجموعة أخرى من السلع، وترتيبات الدعاية والرعاية التي من خلالها تشاهد وتباع. إن في استهلاك هذه السلع، التي تحمل شيئا من انتقادها لنفسها ولاستهلاكها، التعريف الفعلي لكلمة «معسكر» التي أكدت سوزان سونتاج منذ زمن طويل على أنها المنهج الذي يستخدمه المفكرون لإجازة استمتاعهم بالثقافة الجماهيرية.
من ثم يقترب الفن، وهو التجسيد المادي لقيمة التبادل، من حالة السلعة الأكثر تجريدية، وهي النقود - ويستخدم بالفعل كذلك من قبل الأثرياء كصورة شبه سائلة لرأس المال المضارب - بحيث تخبأ الأعداد الهائلة للأشياء التي تكمن فيها تلك القيمة بعيدا في مخازن آمنة ومشيدة خصوصا لذلك الغرض.
إلا أن هناك اختلالات بهذا المخطط البسيط للتقريب بين الفن والسلع الأخرى في الطابع، كما بين المعارض والمتاجر. إن مادية العمل الفني تبقى حتى في فنون الفيديو وفنون الميديا، والتي حظيت بقبول عام كنمط فني فقط بعد أن دفعت الثمن عن طريق تحولها إلى صورة مادية جزئيا. إن السوق الفنية ما زالت تعتمد على بيع وشراء أشياء نادرة وفريدة مختلفة أيما اختلاف عن السلع التي تنتج على نحو جماهيري وتوجد في المتاجر العادية. في معظم الأسواق، تتحكم بضع شركات مهيمنة في الإنتاج، لكن هناك عددا محدودا من الأسواق ينظم فيه الاستهلاك. إن عالم الفن التجاري يسعى إلى إحكام قبضته حول الزمامين جيدا، فغالبا ما يكون الإنتاج محدودا على نحو اصطناعي، وغالبا ما يكون للرعاية بعد شخصي. إذا نظرنا إلى عالم الفن المعاصر، فسنحصل على لمحة داخل نظام سوقي أقدم يسبق انتشار التصنيع.
وفوق هذا وذاك، فبما أن السلع العادية تحيا أو تموت وفقا لقرارات ملايين الأفراد بشرائها أو بعدم شرائها، فإن آليات ردود الأفعال التي تقرر مسار الفن المعاصر منظمة وحصرية، وليس للمشاهد العادي للفن أي دخل فيها. أبرز فيتالي كومار وألكسندر ميلاميد هذه القضية من خلال تطبيق المناهج القياسية لاستبيانات المستهلك على الرسم، وأخرجا نتائج تلبي الذوق المتوسط لسكان بلدان مختلفة. كانت النتائج سلسلة من اللوحات المضحكة والمتشابهة على نحو مفاجئ، يسيطر عليها اللون الأزرق بدرجاته، وتسكنها حيوانات جذابة وشخصيات تاريخية شهيرة في مناظر طبيعية رعوية تلائم على نحو مثالي حياة الإنسان.
إن الفنون - بمنأى عن التشددات الكاملة للسوق - بإمكانها مغازلة الثقافة الاستهلاكية فيما تبقى مطمئنة بشأن حدودها الآمنة. لا شك أن تلك الأعمال التي يبدو أنها تهدد مثل هذا الاختلاط بين الفن والسلعة (مثل عمل بيل) تعزز هذه الحدود من خلال إظهارها إياها. ثمة طريقة أخرى لضمان بقاء التمييز واضحا، وهي تحويل التركيز إلى الأمور الداخلية، كما داخل صندوق به مرايا، بحيث يضطلع الانعكاس بدلالة غير مبررة، ويميل النظر إلى تحركات الفنانين مقارنة بتلك الخاصة بفنانين آخرين، ونادرا ما يكون في نطاق العالم الخارجي. وهنا تحاكى أعمال السلف على نحو لاه متكرر، وتستخدم أيضا المواد المستمدة من الثقافة الجماهيرية.
إن هذا الخطاب المطلع المتخصص لا يقدم سوى وهم الهروب من صورة السلعة. يتظاهر ماركس بأن السلعة التي يتمحور حولها تركيز المجتمع بمقدورها الحديث عن حالتها الخاصة، وهذا ما تقوله:
إن قيمة الانتفاع الخاصة بنا ربما تثير اهتمام الإنسان، لكنها لا تنتمي إلينا كأشياء. إن ما ينتمي إلينا كأشياء، مع ذلك، هو قيمتنا. إن ارتباطنا كسلع يبرهن على ذلك، نحن نرتبط ببعضنا كقيم تبادل ليس إلا.
ورغم أن الفن يسعى إلى حماية نفسه بخطاب داخلي في الأعمال الفنية والتصريحات، بحيث تربط الأشياء الأهم التي تقال عن نمط فني هذا النمط بنمط فني آخر على ما يبدو، فهو يحاكي فقط اللهو بقيم التبادل غير المقيدة التي تتجلى على أبرز نحو في أوقات الوفرة .
منذ لحظة ترسيخ هذه المنطقة المحمية للفن، تحدى الفنانون بالطبع مدى أمانها، وكان هذا جزءا من مغزى لصق صفحات الجرائد على لوحات الرسم، ومحاولة وضع مباول عتيقة بها نقوش في المعارض، أو - على نحو أكثر تطرفا - إجبار الفن على أداء دور خادم للإنتاج الجماهيري. ورغم أن هذه التحديات ارتبطت بالوقت والسياق، فإن الأشياء التي تجسدت فيها لم تكن كذلك، ومع استمرارها على مر التاريخ، عززت صبغتها الراديكالية من بريقها الجمالي وقيمتها السوقية مع تحولها إلى سلع فنية تقليدية يوما بعد يوم.
بعد أن أصبحت الثقافة الجماهيرية أكثر إذهالا واستحواذا باستمرار - مع الأجهزة التليفزيونية عالية الدقة الأضخم وشاشات العرض السينمائي الهائلة، والمنظر المغلق والمدروس بعناية لمركز التسوق أو الحديقة الترفيهية - كان على الفن منافسة ذلك. تمكن الفن من فعل ذلك - كما شاهدنا - من خلال استغلال إغراء الثقافة الجماهيرية فيما يضيف ميزته الجمالية الخاصة والمستبعدة. تمكن الفن من المنافسة عن طريق عكس قواعد الثقافة الجماهيرية؛ فإذا ضربنا فن الفيديو كمثال، تمكن الفن من إنتاج مقاطع بطيئة ومذهلة بدون حركة كاميرا، أو سرد، أو معنى واضح، في مواجهة القصص ذات المغزى الأخلاقي الاعتيادية والواقعة البصرية الاعتيادية للتليفزيون. كما تمكن من تقديم بيئات وأشياء مؤثرة - مختلفة عن تلك الخاصة بمراكز التسوق أو المنتجعات - وغير وظيفية وغير مصممة للبيع (أو على الأقل ليس للأغلبية الكبيرة من مشاهديها)، وأخيرا تمكن من عمل تمثيلات بأحجام، وثراء ألوان، ودقة غير معهودة في وسائل الإعلام الجماهيري.
أثمر هذا النهج الأخير عن بعض من أكثر الأعمال نجاحا على المستوى التجاري في التسعينيات وما بعدها، وهي الصور الفوتوغرافية الملونة الضخمة. إن مثل هذه الصور الفوتوغرافية التي صنعت بكاميرات ذات تنسيق ضخم، وطبعت أحيانا على ألواح من الألومنيوم لتصل إلى حجم لوحات ضخمة تنقل رؤى العالم المعاصر؛ تتمتع بالوضوح المدهش والعمق اللوني. يغلب إنتاج هذه الصور الفوتوغرافية في طبعات صغيرة وبأحجام مختلفة؛ مما يجعلها ملائمة لعرضها في المتاحف وكذلك بغرفة معيشة شخص يهوى جمع التحف. إبان ركود أوائل التسعينيات، ابتاعت المتاحف التي كانت تبحث عن أعمال مذهلة ومتاحة الكثير من هذه الأعمال الفنية، وبدأت أسعارها في الازدياد بحدة نتيجة لذلك. تنافس أسعارها الآن أسعار أعمال أهم الرسامين؛ ففي عام 2002 بيعت صورة فوتوغرافية ضخمة لجورسكي مقابل أكثر من 400 ألف جنيه استرليني بأحد المزادات، وهو رقم قياسي لصورة معاصرة.
ثمة خيط تاريخي فني ربما يمكن تتبعه من أبرز المصورين الفنيين الألمان (جورسكي، وتوماس ستروث، وكانديدا هوفر، وتوماس روف) رجوعا إلى معلميهم بأكاديمية دوسلدورف للفن، بيرند وهيلا بيشر، ومنهما إلى ذاك الإثنوغرافي الفذ من جمهورية فايمار «أوجست ساندر». فمن جانب، بدأ الأمر بإيمان ساندر بقدرة الصور الفوتوغرافية في سلسلة طويلة ونسبية على نقل المعرفة الاجتماعية، مرورا بالرثاء التسلسلي الغريب لأنماط الحداثة الصناعية لآل بيشر، إلى إصرار روف - مثلا - في الصور التي يبلغ طولها ستة أقدام وتأخذ طراز جوازات السفر على عجز الأداة على نقل أي شيء يحمل دلالة، بصرف النظر عن قدر التفاصيل التي تواجه المشاهد به. لدى تتبع هذا الخط في المعارض (بدلا من النسخ) يتجلى شيء آخر: مطبوعات ساندر البيضاء والسوداء مصنوعة بدقة، وأكبر قليلا بصورة عامة من حجم اليد، وعمل آل بيشر أيضا في الصور البيضاء والسوداء، وطبعا الصور بأحجام مختلفة، وفي أحيان كثيرة وضعا الصور المطبوعة في تقاطعات داخل إطار واحد ليصنعا عملا تبلغ مساحته خمسة أو ستة أقدام، أما أعمال الجيل التالي الفنية فقد تدفقت في صور غنية ومشبعة بالألوان، وفي الأغلب فاقت أعمال السلف على نحو هائل. سمحت أضخم أعمال جورسكي وستروث الفنية، التي بلغ ارتفاعها سبعة عشر قدما، للمتفرج أن يخطو فوقها مباشرة ويتفحص أسطحها الصافية التي تخلو من التحبب، وتفاصيلها الغزيرة. في نطاقها، تبدو القيم الإنتاجية والجاذبية الواعية والتكلفة أنها الرسم الزيتي التاريخي الجديد، وعلى غرار الرسم التاريخي، فقد صنعت في المقام الأول للعرض في المتاحف.
كثير من هذه الأعمال استعرضت بصورة متزايدة براعته الفنية؛ فقد حول ستروث في مشاهد الشوارع الأولى له تركيز ساندر وأسلوبه نحو ملامح المدينة في صور بيضاء وسوداء بأحجام متوسطة وتجميع بارع ، كما أخذ جورسكي المظهر الباهت لصور الهواة الفوتوغرافية القديمة ذات الأطر العادية وطبقها على مشاهد العطلات المبتذلة والمتفرجين الذين يشعرون بالملل. إن هذه الأعمال تدبرت بدرجات متباينة في إرث الحداثة. التقط روف صور المباني التي صممها ميس فان دير روه، ونزع منها الألوان البراقة ليضفي عليها مظهرا عتيقا، مبرزا قدم تلك المباني، أو لون صورا فوتوغرافية قديمة بألوان باهتة ليعطي التأثير ذاته.
شكل 3-4: أندرياس جورسكي، «تايمز سكوير».
4
شكل 3-5: توماس ستروث، «تايمز سكوير، نيويورك».
5
شكل 3-6: توماس روف، «إتش إي كيه 4».
6
وثق ستروث وجورسكي البنيات الجاهزة للعقارات والمكاتب والمباني الصناعية والمنشآت الترفيهية. ومؤخرا، اتسع نطاق الإشارات الفنية التاريخية؛ فكل من جورسكي وستروث تركا المتفرج الآن بشيء من الريبة حول ما يشاهده؛ فكثيرا ما يشير إنتاجهما الباذخ إلى فن الرسم، وغالبا ما يتعاملان مع المعرض نفسه كموضوع العمل. أقام كلاهما مؤخرا معارض بأهم متاحف الفن بنيويورك، حيث عرض جورسكي في متحف الفن الحديث عام 2001، أما ستروث فقد عرض بمتحف المتروبوليتان للفنون عام 2003. أكدت معارضهما والكتالوجات الخاصة بها على تدرج التصوير الفوتوغرافي إلى ذروة الفنون، أما الكتابات (على وجه الخصوص كتابات بيتر جالاسي عن جورسكي) فقد أشارت بصورة أكبر إلى التماثلات في فن الرسم عنه في التصوير الفوتوغرافي. من ثم، يعتمد الشكل الفني بإشارته إلى شكل فني آخر، وأعيدت صناعة التصوير الفوتوغرافي كشيء مبهر بالمتاحف. كذا حثت صورهما الفوتوغرافية المتواضعة الأولى على فهم نقدي للموضوعات وضاهت المشاهد المبتذلة بالصور الفوتوغرافية الجامدة؛ كما مال أحدث إنتاجهما إلى تحويل المشاهد المعاصرة إلى مناظر ملحمية بل ومهيبة، وإلى تعزيز الدهشة أكثر من الفكر.
لا يزال الفن المعاصر يعرف نفسه بوصفه مقابل الثقافة الجماهيرية، وهذا أمر ضروري؛ نظرا لأنه يتجنب الإنتاج الجماهيري الذي يملك تأثيرا أبعد على موضوعه. زعم ماركس أن الإنتاج والاستهلاك يرتبطان ببعضهما إلى حد الوحدة، فلا يعتمد أحدهما على الآخر ويتممه فحسب، بل دائما ما يتضمن الإنتاج استهلاكا (على سبيل المثال، المواد الخام)، ويتضمن الاستهلاك إنتاجا (على سبيل المثال، يقوي الطعام الجسد العامل). إن التركيز على الاستهلاك وحده في أغلب جوانب عالم الفن مسألة أيديولوجية تنبثق من أهمية الإعلان وغيره من الدعاية المؤسسية، فكلما قل تفكير المستهلكين في الإنتاج (من يعمل؟ وما المقابل المادي؟ وفي أي ظروف؟ وما المخاطر؟ وفي إطار أي شكل من أشكال الإكراه؟ وبأي عواقب بيئية؟) كان أفضل. إن هذا الجهل تعززه الممارسات الإنتاجية العتيقة في عالم الفن، وتفصله عن الشأن العادي للإنتاج الجماهيري. ثمة أعداد هائلة من الأعمال الفنية التي تناولت، على سبيل المثال، الطابع الغريب للدمى في مجال الاستهلاك (لنضرب بعض الأمثلة المتنوعة، في أعمال مارتن أونرت، ومايك كيلي، وماريكو موري، وجورجينا ستار)، وقليل منها يتطرق إلى الكلفة العادلة للتناقض بين استخدامها المنشود والظروف التي صنع معظمها في ظلها، في الصين مثلا، العمالة ذات الضوابط القاسية للنساء صغيرات السن اللاتي يسافرن بين مصنع غير آمن ومهجع مكتظ (ثمة استثناء حديث هو عمل مايكل وولف «قصة الدمية الحقيقية»، والذي عرضه في هونج كونج عام 2004).
هناك بضعة فنانين ممن يجمعون مجالي الإنتاج والاستهلاك في نقطة اتصال ونزاع. تفحص صور جورسكي الفوتوغرافية، للمتاجر والمعارض وأيضا المصانع، التوحيد الثقافي أكثر من الاقتصادي بين الاستهلاك والإنتاج؛ فصوره - مثلا - لمصنع جروندج، ومركز بومبيدو، ومتاجر البيع بأسعار موحدة وزهيدة، تظهر أشخاصا بكما محاطين بأطر شبكية ضخمة. من الممكن أن تصلح هذه الأعمال كرسومات توضيحية نموذجية لحجج ثيودور أدورنو في مقاله «أوقات فراغ» عن الصلة والاعتماد المتبادل السريين بين العمل ووقت الفراغ، التي تتبنى فيها أوقات الفراغ - المقتطعة من أوقات العمل على ما يبدو - هيكل العمل وأنماطه. إن ظهور مثل هذا التفكير في أعمال فنان ألماني له عدة أسباب؛ أحدها هو النجاح الطويل للاقتصاد الصناعي الألماني الذي عزز داخل الكثير من الفنانين الألمان اهتماما بالإنتاج مستمدا من عقول معظم الفنانين في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة اللتين تشهدان عملية لاتصنيع متسارعة. إن هذا الاهتمام دفع أيضا جورسكي وستروث إلى التقاط صور في نظم اقتصادية مماثلة، من بينها اليابان وهونج كونج. يتمثل سبب آخر (ومتصل) في الحراك المستمر للتفكير الحداثي (المشتمل على أعمال أدورنو) في ألمانيا، بعد انتصار حركة ما بعد الحداثة في مناطق أخرى. إلا أن المشهد الاستهلاكي في التسعينيات بوجه عام - الذي تحرك على نحو موات لميول المجال الفني - انتصر على التفكير النقدي حيال الترابط الوثيق بين الإنتاج والاستهلاك. وسنرى في الفصل الأخير كيف بدأ هذا الأمر في التغير.
هوامش
الفصل الرابع
استخدامات الفن وأسعاره
ارتبط الفن الطليعي، الذي تأمرك مؤخرا، للمرة الأولى بالأموال الطائلة. وهذا يعود إلى أن أهدافه الغامضة ومستقبله الملتبس قد ترجما بنجاح إلى مصطلحات بسيطة؛ فمن الممكن أن نقرأ «أسهم النمو المضاربة» للحداثة غير التقليدية، و«جاذبية السوق» للجودة الظاهرية، و«التقادم التقني» لتغير الأذواق للضد، وهذا إنجاز لغوي للتبرؤ من تغير الموقف. إن الفن في النهاية ليس كما ظننا؛ فمن المنظور الأوسع، يتعلق الفن بالأمور المادية البحتة. إن الفن بكل جوانبه، متضمنا قمته المتنامية، يشبه بالقيم المألوفة. وبعد عقد آخر، سيكون لدينا صندوق استثمار تعاوني قائم على أوراق مالية في صورة صور مودعة في خزائن البنوك. (ليو ستاينبرج، «معايير أخرى»، محاضرة ألقاها في متحف الفن الحديث، نيويورك، عام 1968)
إن هذه الفقرة، لدى قراءتها بعد أربعين عاما تقريبا، تحمل السمة العجيبة لكونها مفاجئة ومألوفة إلى حد بعيد. عندما كتب ستاينبرج هذا الكلام، كان الفن المعاصر لا يزال في طريقه إلى الوفاق مع المال، مع تخلص السوق من حالتها القديمة كمنطقة اختصاصية وضيقة، وكان هناك اندهاش مقتضب من تغير المشهد الناجم عن ذلك. وفي حين أن ذلك المشهد أضحى ببساطة البيئة المسلم بها التي يعمل الفن في إطارها، فإن المفاجأة سببها صراحة وصف ستاينبرج. إن الافتراض العام في الوقت الراهن هو أن الحديث عن هذا الأمر إما كلام مكرر أو فظاظة (أو كلاهما).
إن كلا من صنع الأعمال الفنية وبيعها يخضعان للسيطرة على نحو غير مألوف في السوق الفنية، غالبا ما يوقع التجار عقودا حصرية مع الفنانين الذين يشجعون بناء على ذلك على إنتاج أنواع وأحجام وأعداد معينة من الأعمال الفنية أو يكلفون به. كم مرة شاهد المرء في المعارض التجارية منتجات فرعية مزدانة ومعلقة على الجدار لتجهيز متمرد ومعاد للتجارة في ظاهره؟ لأسباب واضحة، إن هذه التحريضات تبقى سرية في العادة. يخضع المشترون للمراجعة في التزامهم بجمع الأعمال الفنية، لأنه قد يكون من الخطير على سمعة فنان ما أو حتى السوق ككل حدوث بيع مفاجئ وغير متوقع لعمل فني. هناك قواعد تنظيمية أقل تحكم ما يسمى ب «السوق الثانوية» بالمزادات العلنية، لكن حتى في تلك المزادات، ليست السوق حرة. وبعيدا عن الفضائح المتعلقة بتحديد الأسعار المنهجي؛ فالأسعار التحفظية تعين، ودونها لا تباع الأعمال الفنية، إضافة إلى أن المزايدة تتعرض للتلاعب من جانب هواة جمع الأعمال الفنية والتجار.
يظهر تفسير هذا الموقف على أبرز نحو في الفنون المصنوعة في الوسائط القابلة لإعادة إنتاجها، فبمقدور الفنانين إنتاج صور فوتوغرافية أو أقراص مدمجة أو مقاطع فيديو بأعداد هائلة وبمال زهيد، وكذلك السعي لتحقيق ملكية واسعة لعملهم. مع ذلك، تنتج الأغلبية العظمى منهم إصدارات محدودة، وكل إصدار مرفق به شهادة توثيق، مقابل أسعار عالية للغاية. تمنح ملكية مثل هذا العمل لمن يقتنيه مكانة اجتماعية، وبالتبادل، يمنح السعر المدفوع مكانة للعمل.
إن هذه هي السمة المميزة للفن مقابل المجالات الأخرى للثقافة الراقية؛ إذ تحقق المسرحيات، والحفلات الموسيقية أو الأوبرا الميزة الحصرية من خلال استيجابها حضور الجمهور للعرض المباشر (وبالطبع، بمقدور الفن الرفيع فعل هذا أيضا)، أما الأشكال الأخرى - الرواية، والشعر، والموسيقى، والأفلام - فتنتج أعمالا تخرج بصورة صناعية بأعداد هائلة ويمكن امتلاكها على نطاق واسع. لكن في الفن الرفيع وحده تكمن التجارة الأساسية؛ حيث إنتاج الأعمال النادرة أو الفريدة التي لا يستطيع امتلاكها سوى من هم على قدر كبير من الثراء، سواء كانوا دولا، أو شركات، أو أفراد.
عندما ينتج الفن باستخدام أساليب حرفية، يصير معروض أي فنان محدودا بصورة حتمية، وإذا كان الطلب على هذا العمل كبيرا، فسترتفع الأسعار. لكن هناك الكثير من الفنانين ممن لا يزالون يوجدون القيمة من خلال استخدام مقادير هائلة من العمل اليدوي (الذي يقوم به الفنان أو في أغلب الأحوال مساعدوه) على أشياء غير قابلة لإعادة الإنتاج. إلا أنه على مدار التسعينيات اتجه عدد أكبر من الفنانين إلى استخدام الوسائط التقنية والقابلة لإعادة الإنتاج - على رأسها التصوير الفوتوغرافي والفيديو - حتى بدا تقييد الإنتاج شيئا مصطنعا بصورة متزايدة، أدى هذا الوضع إلى بعض الطرق الغريبة للغاية لصنع الأعمال الفنية؛ ففي عمل جيف كونز الأخير، يلتقط صورا تجارية متنوعة، ويجمعها ويغير فيها باستخدام الكمبيوتر. عندما تنتهي هذه العملية، يجري إعداد نسخة مطبوعة عملاقة وتسلم بعدها إلى مساعدي كونز الذين (على حد وصف روبرت روزنبلوم في كتالوج معرض جوجنهايم الألماني) يصنعون «بالدقة التحليلية التي تميز العاملين بالمجالات العلمية» تصويرا فريدا جاهزا للبيع بالزيت على لوح الرسم. إن هذه المرحلة النهائية والأكثر ميكانيكية تؤكد على حالة القطعة الفنية باعتبارها عملا فنيا فريدا.
إن القيد المفروض على العرض يجعل السوق الفنية حالة استثنائية للغاية، إلى الحد الذي جعل الكثير من الخبراء الاقتصاديين راغبين عن تفسيرها باستخدام المصطلحات العادية. عادة، عند التسوق مثلا لشراء علبة حساء، فإن السعر يقابل رغبة المشتري في المنتج، يمكن العثور على العلب المشابهة أو المطابقة في أماكن مختلفة وبأسعار مختلفة، وتتراوح تلك الأسعار حسب العرض والطلب. وعلى حد وصف نيل دي مارشي للموقف في كتاب عن تفكير علماء الاقتصاد في الفنون، ينطبق القليل من هذا الأمر على السوق الفنية. إن الموضة - وليس الاستخدام - لها تأثير كبير على الطلب؛ مما يحطم العلاقة المألوفة بين النفع والرغبة، كذلك يعد الكثير من الأعمال الفنية فريدا؛ مما يحطم قوانين العرض، والتي تصير مسألة إما كل شيء أو لا شيء، من ثم لم يترسخ توازن يضاهي استجابة العرض والطلب لبعضهما البعض. والأسوأ من ذلك، لدى شراء شيء فريد من مورد احتكاري، لأنه لا تتوفر مقارنة مع أعمال أخرى، فمن الممكن ألا تجد معلومات سوقية موثوقة عن الصفقة.
في واقع الأمر، إن الوضع أكثر نمطية قليلا؛ فكثير من الأعمال الفنية فريد، لكن هذا لا يعني أنه لا يمكن أن يقارنها التجار والمشترون بأعمال يرونها مماثلة، خصوصا أعمال نفس الفنان، رغم أن الحجم وتكلفة المواد والعمل الذي استوعبته القطعة الفنية كلها عوامل تلعب دورا هي الأخرى. قد تكون أسعار المزادات بعيدة عن المؤشرات الخالصة لحكم السوق، لكنها - في بعض الأحيان على الأقل - تكون مقاربة للأسعار التي يحددها التجار. مع ذلك، تبقى السوق مفتقرة إلى المعلومات (كثير منها يبقى في طي الكتمان)، ويخضع العرض فيها للتنظيم، ويخضع الطلب للإدارة، أما التسعير فيتأثر بالموضة والظروف.
شكل 4-1: جيف كونز، «دوائر».
1
على النقيض من التصور العام واسع النطاق، المرتكز على الأسعار الرائعة للأعمال الضخمة التي تتحقق في المزاد (وهو تصور تعززه كثيرا بالطبع دور المزادات نفسها)، فإن الفن بوجه عام ليس استثمارا جيدا، وبالتأكيد ليس على المدى البعيد، وأداؤه أردأ من الأسهم والحصص باستمرار. وفي حين أن بعض الفئات من الأعمال الفنية تزداد قيمة بالفعل لبعض الوقت، فإن السعر الحقيقي للفن ينخفض غالبا. إن المضاربة على الفن المعاصر منخفض الثمن هي استثمار محفوف بالمخاطر للغاية. قدم بيتر واطسون وصفا مفصلا عن الأداء الاقتصادي للفن، وزعم أن الاستثمار لا يكون منطقيا إلا على المدى القريب كمضاربة عالية المخاطر، وأن المبالغ الهائلة من المال لا تجنى إلا عند بيع الأعمال الفنية إبان إحدى الانتعاشات السوقية المذهلة؛ من ثم ليس من المفاجئ أن يكون شراء عمل فني يحظى بقيمة عالية بالفعل استثمارا سيئا على الدوام تقريبا. أظهرت دراسات مختلفة أن الاستثمار في الفن على المدى البعيد يصل إلى نصف كفاءة الأنواع الأخرى من الاستثمار. هذا هو المقابل الذي يقدمه المرء لامتلاك عمل فني، وهو يفسر سبب أن عددا قليلا نسبيا من الأثرياء يهوون جمع الأعمال الفنية، ومن بين هؤلاء الذين يهوون الجمع، يجمع كثير منهم بهدف المتعة والوجاهة الاجتماعية بقدر الجمع بهدف الاستثمار.
إن الفن، شأنه شأن سائر أنواع الاستهلاك التفاخري، يزدهر في أوقات الوفرة ويذبل في أوقات العسرة. إن الفترة الزمنية التي نناقشها هنا مرتبطة بركودين، وكلاهما تفاقما بالحروب ضد العراق: الركود الأول تسبب فيه غربلة الشركات بعد انتعاش الثمانينيات؛ مما أدى إلى القضاء على الكثير من عمالقة المجال الفني. انخفضت قيمة اللوحات الضخمة (باهظة الثمن بدرجة هائلة) شبه التاريخية والتعبيرية الجديدة لأنسليم كيفر أو جوليان شنابل والتي كانت سجلا رائعا لغزارة الإنتاج والأسلوب الفخم في الثمانينيات، وسرعان ما اختفت من صالات البيع (جنبا إلى جنب مع عدد قليل من صالات البيع نفسها). وكانت إعادة تقديمها إلى السوق بعد عدة سنوات مسألة حساسة للغاية، حتى إن ناقدا أعرفه كتب مقالة بكتالوج عن أحد هؤلاء العمالقة لمعرض تجاري، وكان تاجر الأعمال الفنية واقفا إلى جانبه بكل ما في الكلمة من معنى.
كانت للتطورات باليابان أهمية في سرعة الركود في السوق الفنية وعمقه، وعلى وجه الخصوص نتيجة لضخامة حجم مشتريات اليابانيين من الأعمال الفنية على مدار الثمانينيات، وقد تعزز بفعل الزيادة الجامحة التي يتعذر إيقافها على ما يبدو في أسعار العقارات والأسهم، كذلك تفاقم انخفاض الأسعار نتيجة للفساد. قدم بيتر واطسون وصفا تفصيليا حول الفضيحة التي استخدمت فيها الأعمال الفنية لغسيل أموال الفساد الضخمة لصالح ساسة فاسدين والجريمة المنظمة، كما التف حول القيود الحكومية المفروضة على التربح من العقارات عن طريق «شراء» البائعين للوحة الفنية شريطة أن يتم شراؤها منهم سريعا ربما مقابل عشرة أضعاف السعر الأصلي. لم يتمثل الضرر هنا في مجرد الصفقات السرية التي عقدت أو في التهرب الضريبي - وهي السمات الاعتيادية للساحة الفنية اليابانية - لكن في تشويه عمليات النصب للسوق. وفجأة، بدا أن الولع الياباني بدفع مبالغ مالية كبيرة مقابل لوحات انطباعية وما بعد انطباعية غير مرموقة لا يتعلق بسذاجة الذوق بقدر تعلقه بحسابات مجردة من المبادئ الأخلاقية. كان لانكشاف الفضيحة تأثير وخيم على السوق التي تعرضت لهزة أخرى بالإفلاسات اليابانية الشهيرة، وبالتهديد أن الأعداد الكبيرة من الأعمال الفنية التي بيعت إبان ذروة الازدهار الاقتصادي ربما تباع فجأة؛ مما يؤدي إلى انخفاض أكبر للأسعار. عندما بيعت بعض الأعمال الفنية التي ارتبطت بعمليات الغش عام 1993، كانت مقابل كسر بسيط (ما يقل عن واحد بالمائة) من الأسعار التي دفعت في الأصل.
لم تؤثر الموجات الاقتصادية على حجم الأعمال الفنية التي بيعت فحسب، بل أيضا على طابعها. يخضع فن الرسم الزيتي - أكثر الأشكال الفنية التي يسهل بيعها - لانتعاش متوقع مع كل ازدهار اقتصادي، فيما تنتقل الممارسات التجارية بصورة أقل صراحة - من بينها الفن الأدائي والأنماط المتنوعة للفن ما بعد المفاهيمي - إلى مكانة بارزة مع كل أزمة اقتصادية. يتكشف هذا الأمر في صراع مستمر بين السوق والأنماط التي تبدو غير رائجة (ربما تصب المصداقية في تجنب الأنماط السلعية الصريحة في نهاية المطاف في صالح السوق). إنها عملية ميكانيكية ويمكن التنبؤ بها؛ من ثم، نضرب مثالا واحدا، أسفر الانتعاش الاقتصادي في الولايات المتحدة في منتصف التسعينيات عن هجوم منسق على الفن السياسي الذي ساد الأعوام السابقة، ومحاولة متواصلة لإعادة اعتبار الجمال في الفن، وتأكيد رأي السوق باعتبارها الفيصل النهائي للذوق (سنعود إلى هذه النقطة في
الفصل الخامس ).
استغرق التعافي من انهيار عام 1989 عدة سنوات، وتساءل الكثيرون هل ستستعيد السوق في يوم من الأيام ذروة ازدهار الثمانينيات. في حين أنه في الاقتصاديات النيوليبرالية المتقدمة - لا سيما الولايات المتحدة - كان النمو الاقتصادي قويا بدرجة كبيرة، ففي بلدان أخرى حدثت سلسلة من الكوارث: فوقعت صدمات إقليمية قاسية هددت بانهيار الاقتصاد العالمي في المكسيك (1994)، وجنوب شرق آسيا (1997)، وروسيا (1998)، والأرجنتين (2002). إن تصورات هذه الفترة متنوعة على نحو مذهل، إذ تركن إلى الموقع الذي تنظر منه إلى تلك الفترة، من منظور الولايات المتحدة في أكثره، كانت فترة نمو مستدام وانخفاض للبطالة، ومن منظور المناطق التي مرت بالأزمات الإقليمية، كانت فترة كارثة اقتصادية، صاحبها في الغالب اضطرابات اجتماعية وسياسية وكوارث بيئية. انعكس هذا الانقسام بوضوح في الأنواع المختلفة للفن الذي أنتج في كل منطقة.
هذا لا يعني أن الفن في المناطق المضطربة عكس فحسب تلك الاضطرابات، لنأخذ المكسيك كمثال: في الأعوام التي تلت اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية
NAFTA (نافتا)، والتي خلقت تكتلا تجاريا بين الولايات المتحدة والمكسيك وكندا عام 1992، كان الفن المكسيكي الذي حظي بأكبر نجاح في السوق الدولية تهكميا وفارغا من المحتوى السياسي، رغم الخراب الكبير والمقاومة الثورية في البلد نفسه. أشارت كوكو فوسكو إلى أعمال جابرييل أوروزكو، وفرانسيس أليس، وميجيل كالديرون كنماذج، واصفة محاولة إدخال الفنانين الشباب الملهمين من الناحية المفاهيمية في السوق العالمية، بالتعاون مع المؤسسات الأمريكية؛ وبالتالي ترويج صورة محدثة للثقافة المكسيكية. تصف سينثيا ماكملين كيف أن هذا التحول جاء تحت قيادة إيميليو أزكاراجا - مؤسس شركة تيليفيزا، وأحد أشهر منتجي المسلسلات الاجتماعية بالمكسيك - بالمركز الثقافي للفن المعاصر بمكسيكو سيتي الذي يمتلكه. ارتبطت شركة تيليفيزا بحزب بي آر آي، الحزب الحاكم بالمكسيك على مدار سبعين عاما حتى سقوطه عام 2000، وكانت المصالح التجارية والفن مترابطين على نحو وثيق؛ لذا، عندما شهدت المكسيك أزمة اقتصادية عنيفة منذ عام 1994 فصاعدا - أغرقت أكثرية السكان في فقر مدقع وصل إلى حد المجاعة - استمرت سوق الفن المكسيكي المعاصر، الذي أصبح دوليا وارتبط بالمؤسسات متعددة الجنسيات، في انطلاقتها رغما عن ذلك. لم يكن بعض من هذه الأعمال معتدلا ومنعزلا فحسب، لكن أيضا كان معاديا على نحو فعال للمشاركة السياسية الشعبية؛ إذ أظهر حدث فرانسيس أليس وفيديو «قصص وطنية» (1997) خرافا مساقة في دوائر حول سارية علم عملاقة تقف في مركز ساحة زوكالو، الموقع التقليدي للحشود السياسية في مكسيكو سيتي.
شكل 4-2: فرانسيس أليس، «زوكالو».
2
كان لفقاعة نمو البورصة في التسعينيات، المرتبطة على وجه الخصوص بصناعات التكنولوجيا المتقدمة، أثرا تضخميا على أسعار الأعمال الفنية. تحققت مبالغ قياسية بالمزادات على مدار أواخر التسعينيات، وعندما انفجرت الفقاعة مرة أخرى - في أعقاب انهيار سعر أسهم الشركات المعتمدة على الإنترنت، والفضائح المحاسبية (من بينها تلك الخاصة بشركة إنرون)، وأحداث الحادي عشر من سبتمبر - تراجعت السوق الفنية وقطاع المتاحف أيضا، رغم أن تأثير التراجع حتى الآن كان أقل حدة من الركود السابق.
مع امتداد أمد الركود الاقتصادي، تبددت القناعات الظاهرية للعقد الماضي، وحتى تعاظم القوة الاقتصادية الأمريكية ربما يكون وهما. استخدم روبرت برينر، في كتابه نافذ البصيرة «الازدهار والفقاعة»، تحليلا بعيد المدى للموقف النسبي للكتل التجارية الصناعية العظمى منذ الحرب العالمية الثانية بغية إظهار أن الولايات المتحدة ضحت في بعض الأحيان بالمكسب الاقتصادي القريب (على سبيل المثال، من خلال حفاظها على قوة الدولار) في سبيل حصد فوائد تطور الاقتصاديات في بلدان أخرى على المدى البعيد، وخصوصا في ألمانيا واليابان. أسفر انحسار السخاء الاستراتيجي في التسعينيات عن صعود مؤقت في فرص تفوق الولايات المتحدة وتراجع تلك الخاصة بشركائها التجاريين الرئيسيين، في تطور أدى إلى قدر كبير من التخويف من رجحان كفة النموذج الاقتصادي النيوليبرالي. مع ذلك، مع مواجهة الركود في الولايات المتحدة، الذي تسبب فيه انهيار فقاعة الإنترنت، والفضائح المالية، وأخيرا الحرب، مقرونا بالكساد طويل الأمد في أوروبا وشرق آسيا، تطور موقف منذر للغاية.
إذا كان قد جرى التخفيف من آثار الركود على السوق الفنية حتى الآن، ولم تصل إلى مستويات انهيار عام 1989، فهذا يعود إلى أن أسعار الفائدة المنخفضة للغاية تجعل من الفن استثمارا أكثر جاذبية. كما شاهدنا، تسبب الركود الأخير في موجة من اختفاء الفنانين نتيجة لتغير المناخ، وهو ما تزامن مع موت الكثير من فطاحل التعبيرية الجديدة الأمريكان والألمان. أما الركود الجديد، وهو أضحل لكنه أطول أمدا، ربما ينتهي به المطاف بفعل الأمر نفسه. إذا كان الركود طويل الأمد - الذي يرجع في جزء منه لاتساع نطاق الاقتراض الأمريكي وطابعه المنهجي (الذي ازداد نتيجة للاقتطاعات الضريبية والإنفاق العسكري الضخم تحت إدارة الرئيس بوش) - متوقعا؛ فمن ثم سيصبح الطابع الكامل للسوق الفنية ومنتجاتها عرضة للتغيير مرة أخرى.
ربما تكون السوق الفنية غير مألوفة للمشترين، لكنها غريبة بالمثل للمنتجين. وفقا لهانز آبنج، تحكم الخواص الفريدة للسوق على الأغلبية العظمى من الفنانين بالفقر المدقع. ورغم أن مكانة المهنة رفيعة للغاية (جزئيا؛ لأنها تدعي أنها منعزلة عن المسار العام للتجارة) ودخول قلة من الفنانين الناجحين فلكية، فإن الطبيعة الإجمالية لاقتصاد الفنون تتنصل منها الأطراف المشاركة فيه، لا سيما الفنانين، ممن يغضون الطرف أو ينكرون توجههم نحو المكافأة المالية. إن الفنانين يجهلون على نحو استثنائي احتمالات نجاحهم، وهم عرضة للمجازفة، وفقراء لكن ينحدرون من أسر ثرية (وهي حالة شاذة؛ لأن معظم الفقراء ينحدرون من أوساط فقيرة، لكن ليس على المرء التنقيب أكثر عن السبب وراء ذلك)، ويميلون إلى دعم أعمالهم الفنية من إيرادات أخرى. إن هذه العوامل، على حد زعم آبنج، تتسبب في أن يصير العالم الفني مزدحما، وتجعل من فقر الفنانين سمة هيكلية (في المملكة المتحدة، تضاعف عدد طلاب الفنون الجميلة الملتحقين بالكليات كل عام ثلاث مرات منذ عام 1981، متجاوزا بكثير الزيادة العامة في أعداد الطلاب). إن فقر الفنانين يسهم في مكانة الفنون؛ نظرا لأن النجاحات القليلة يجب أن ينظر إليها على أنها منتقاة من مجموعة شاسعة، ويجب النظر إلى كافة الفنانين على أنهم يخاطرون بحياة الفقر في سعيهم وراء حرية التعبير.
يذكر آبنج أن سمات هذا الاقتصاد تشبه عصر ما قبل الرأسمالية، من ناحية أهمية الهبات والرعاية، والدور الذي تلعبه تلك الشخصيات في منحها. غير أن سمات أخرى تذكرنا أكثر بالمرحلة المبكرة من الرأسمالية، وعلى وجه التحديد النسبة الضئيلة للنجاحات إلى الإخفاقات. بوجه عام، إن السوق الفنية حيز مغلق عتيق ومصون، ومحصن حتى الآن من رياح الحداثة النيوليبرالية التي اجتاحت الكثير من الممارسات الأقل تجارية الأخرى. إن مكانة الفن تمنحه التميز الاجتماعي وشيئا من الاستقلالية، حتى في بعض الأحيان من السوق الغريبة التي تشكل أساسه.
استقلالية الفن
قدم عالم الاجتماع نيكلاس لومان وصفا فعالا بدرجة كبيرة لاستقلالية الفن، فقد قارنه بالنظم الوظيفية الأخرى في المجتمع الحديث (على غرار العلوم والسياسة والقانون). يتمتع الفن بالميل نفسه نحو «الإغلاق الفعال»، وهو الدافع لاكتشاف وظيفته الخاصة والتركيز عليها وحدها. من وجهة نظر لومان، إن السمة الحصرية للفن تكمن في استخدامه للتصورات وليس اللغة، ومن ثم هو منفصل عن الأشكال الروتينية للتواصل، ربما يكون دوره هو إدماج الأشياء التي يتعذر توصيلها في شبكات الاتصال بالمجتمع (سنشاهد فيما بعد، على الأقل كوصف للفن الحديث، أن هذا الوصف يتناول مشكلة أن الفجوة بين الاثنين يبدو أنها آخذة في التضاؤل).
من وجهة نظر لومان، كلما حاول الفن غمس نفسه أكثر في الاتجاه العام للمنتجات والمناقشات في المجتمع، انتهى به المطاف معززا استقلاليته أكثر:
ليس من ديدن الشيء العادي أن يصر على أن يعتبره الناس شيئا عاديا، لكن العمل الذي يفعل ذلك يفضح نفسه بمسعاه هذا في حد ذاته. وما يقوم به الفن في مثل هذه الحالة هو إعادة إبراز تمايزه. لكن الحقيقة المجردة أن الفن يسعى إلى إلغاء هذا التمايز ويخفق في مسعاه هذا ربما توحي بالكثير عن الفن أكثر مما يستطيع فعله أي ذريعة أو نقد.
غير أن النظام الفني يحمل سمات مميزة؛ فالمشاركة فيه اختيارية (وهذا لا ينطبق بالطبع على علم الاقتصاد والقانون)، كما أنه يوعز بمستوى ضئيل فحسب من المشاركة (نسبة كبيرة من الشعب البريطاني، على سبيل المثال، ليست من مرتادي المعارض الفنية). إن وسيلته للتضمين والاستبعاد مستقلة عن تلك الخاصة بالنظم الأخرى، وهو مجال نشاط منعزل نسبيا (مرة أخرى، الصلة بين السياسة والقانون وثيقة للغاية، على سبيل المثال).
تعد رؤية لومان وصفا منهجيا، لكنها مثالية أيضا؛ إذ تتجاهل آثار الطبقة الاجتماعية والتميز، وضغوط السوق والدولة على الفن. بمقدورنا أن نكون أكثر دقة فيما يتعلق بمن يشارك في الفن، على سبيل المثال، دققت الدراسة الاجتماعية الشاملة التي أجراها بورديو ومعاونوه «حب الفن» النظر في عادات ارتياد المعارض والمتاحف لدى الأوروبيين، وأبرزت بشدة مدى توقف مثل هذا النشاط على التعليم. ببساطة، الأشخاص الذين يتمتعون بقدر أكبر من التعليم تزيد احتمالات ذهابهم إلى المعارض، ويشعرون بارتياح أكثر هناك، ويمكثون فترة أطول، ويكونون أكثر قدرة على الحديث عما شاهدوه هناك.
مع ذلك، يركز كتاب لومان على الاستقلالية الفعلية للفن، وهي التي تفسر على نحو ينطوي على تناقض اتصاله بالنظم الأخرى واستخدامها له. إن تلك الاستقلالية، وهي بعيدة تماما عن كونها أمرا وهميا، ذات أهمية محورية للوظيفة الأيديولوجية للفن، وتحافظ عليها المؤسسات المختلفة للفن، من بينها الأوساط الأكاديمية (الكليات الفنية، وأقسام تاريخ الفن والثقافة المرئية)، والمتاحف، والهيئات المتخصصة. وأحيانا ما يكون الفن الذي ينشر في تلك الأوساط متناقضا مع ذلك الذي يحقق النجاح في السوق.
تحلل رؤية هاورد سينجرمان الرائعة عن تطور الفن كفرع من فروع الدراسة في الجامعات نتائج إضفاء الطابع المؤسسي على المنتجات الفنية. تسعى الجامعات إلى فصل الفنانين المحترفين عن الرسامين الهواة، ولا تنتظر من طلبة الفنون التمتع بمهارات يدوية، أو أنهم يجدون متعة ترويحية في عملهم، أو استخراجه من أرواحهم المعذبة. بل يتحتم عليهم إظهار معرفة مميزة يمكن اعتمادها، في لغة نظرية ومقصورة على فئة قليلة، تكفل السمة الحصرية لمهنة الفن ومكانتها. لا يتلقى الفنانون التدريب بالجامعات فحسب، لكن أحيانا ينزلون بها باعتبارهم معلمين بدوام جزئي، أو كمؤدين متجولين يرافقون أعمالهم. إن الفن الأكاديمي الذي يصفه سينجرمان على نحو مقنع - المشتمل على فنون الفيديو والفيلم والأداء - عادة ما يستلزم حضور الفنان لعرض عمله على الأقل، ويروق للجمهور الأكاديمي، ويرتكز على المنح، والزمالات، والأعمال التي قدمها الفنان في المؤسسات الفنية. إن هذا العمل الفني الذي يرافقه الفنان ربما يحقق مبيعات، لكنه يحقق استقلالية عن السوق التجارية؛ لأن وقت الفنان هو ما يشترى فضلا عن عمله. كما أنه يحقق أيضا الاستقلالية عن المسار العام للثقافة الجماهيرية، في مقابل التكيف مع مجموعة أخرى من الاهتمامات المؤسسية، تلك الخاصة بالجامعة الخاضعة للتدقيق المتزايد والإدارة الاحترافية. إن غرضه الأساسي هو توليد حوار بين المتخصصين، لكن النتائج أوسع نطاقا بكثير عن ذلك؛ إذ تطال قدرا كبيرا من الخطاب الفني.
تتمثل النتيجة الأولى في أنه بغية إنشاء قسم للفنون لا بد أن يكون هناك كيان موحد ومحدود، يسمى «الفن». والثانية أن يكون قابلا لإجراء أبحاث حوله، وأن يكون من الممكن وصف الكثير مما يقوم به الفنانون بحثا. أما النتيجة الثالثة فأن يقتضي هذا المجال وصفا بلغة متخصصة يميز اكتسابها المتخصصين الفنيين. إن جميع هذه النتائج تجنح إلى إنتاج فن يخاطب أفراد المجال الفني على أفضل وجه، ويستبعد الجمهور الأعرض.
هذه الاستقلالية ليست ثابتة، أو وحدوية، أو مسلما بها. إن عالم المتخصصين الذي يخدم السوق مختلف أيما اختلاف عن ذاك المرتبط بالأوساط الأكاديمية. في سبيل الحصول على فهم تقريبي - لكن يفي بالغرض - لهذا الأمر، سنقارن بين نموذجين بارزين: مجلة «فلاش آرت» (انظر جودة ورقها واستنساخ الألوان، وكذلك عدد الإعلانات التي تحملها وطابعها، والأسلوب السهل في الكتابة)، ومجلة «أكتوبر» المتخصصة، بأسلوبها المرئي المتحفظ، ورسوماتها التوضيحية أحادية اللون، وكتابتها النثرية المعقدة والرفيعة، وأعمالها النظرية المبهمة.
علاوة على ذلك، فإن التخصص الذي ترنو إليه الأوساط الأكاديمية - كما سنرى - موجه ضد مبدأ الشعبوية الذي تشجعه الدولة، وبدرجة محدودة، الشركات. إن متخصصي المتاحف من ذوي المهارات العالية ممن أمضوا سنوات في اكتساب الخطاب الفني المتخصص بجهد جهيد، يأمرون بالتغاضي عنه عند التواصل مع العامة؛ فالمعارض في الأماكن العامة لا بد أن يفهمها غير العارفين بالعالم الفني.
شكل 4-3: ليام جيليك، «مقترح تجديد مركز روزيم للفن المعاصر، مالمو».
3
من الممكن تبيين هذه التوترات جيدا في النقاش الذي أحاط العمل الناجح جدا الذي قدمه ليام جيليك، الذي ولد الفنان نفسه جزءا كبيرا منه.
بدت الشاشات والقواعد الشفافة ذات الألوان البراقة بمعرض وايت تشابل الذي أقامه جيليك، «طريق الغابات»، أنها تقدم صورة تجارية ليوتوبيا معمارية حداثية تجلب فيها شفافية الزجاج الضوء والنضارة والصفاء الذهني والانفتاح والطبيعة نفسها إلى المساحة الداخلية الكئيبة. إذا أخفق ذلك التصور، فهذا - على حد تعبير إرنست بلوخ اللافت للنظر - يعود إلى أن النافذة ذات الألواح الزجاجية التي تعود للثلاثينيات لم تطل على أي شيء مبهج، بل أطلت بالأحرى على العالم الرأسمالي والفاشي:
إن النافذة الضخمة التي أطلت على عالم خارجي يعمه الضجيج، كانت بحاجة إلى عالم خارجي مليء بالغرباء الفاتنين وليس بالنازيين، أما الباب الزجاجي حتى الأرض فاستلزم حقا إطلالة أشعة الشمس على المكان وتدفقها إليه، وليس أفراد البوليس السري النازي.
لطالما اهتمت أعمال جيليك بالموقف البيروقراطي والتكنوقراطي المعتدل الذي تتخذ منه معظم القرارات - في العالم المتقدم على الأقل - من قبل الساسة ورجال الأعمال ورجال التخطيط والإدارة. وهو يسأل بإلحاح: كيف يمكن التحكم في المستقبل القريب في موقف ما بعد اليوتوبيا؟ وفي ظل الافتقار إلى الأهداف المطلقة للافتداء الديني والمساواة أو الأمة المتوائمة والنقية، ما الرؤية الضمنية التي تدفع المستقبل قدما؟ يستعين جيليك في صناعة العمل بمادة من عالم المؤسسات التجارية - على غرار الألوان والشعارات وخطوط الطباعة - ويضعها في إطار جمالي عابث. في ظاهره، يهدف هذا الأمر إلى أخذ آلية البيروقراطية الذرائعية والدفع بها في نزاع مع نقيضها: علم الجمال العابث. بيد أن هذه لم تكن المهمة التي نفذت تماما؛ لأنه في حين أن محصلة العرض التجاري والسياسي هي نتيجة ذرائعية (المعادل الحسابي للشراء أو عدم الشراء، أو صوت آخر لصالح مرشح في الصندوق)، فإن الوسيلة إلى تلك الغاية - الموجهة عبر الوعي الإنساني والتحكم في البيئة - مشبعة بالأيديولوجية والجمالية.
إن في صنع عمل يسعى إلى ضرب مثل على التأثير الأيديولوجي والجمالي للبيروقراطية على العالم أكثر منه التوثيق، تكمن الخطورة في أن يصير الفن مماثلا لموضوعه. كان على جيليك التغلب ليس فقط على هذا الخطر، بل أيضا على صعوبات صنع أعمال فنية وعرضها في المعارض. عولجت المشكلة الثانية بصورة جزئية بأسلوب التجرد، فأعماله وكتبه لا تبدو تعبيرية أو تهكمية، وهذا سبب للشعور بالراحة الهائلة لدى مرتادي المعارض التقليديين. يبدو أنها لا تزعم أنها تحظى بمكانة خاصة باعتبارها أعمالا فنية، كما علق جيليك أن العمل الفني يصير إشكالية عندما يفترض الناس أنه يحمل أهمية متأصلة أكثر من البنى المعقدة الأخرى في العالم. مع ذلك تزيد هذه الخطوات، وهي نافعة في حد ذاتها، من الخطر الأول.
تتعامل أعمال جيليك مع هذا الخطر بعدة طرق - أبرزها العبث بالماضي القريب والمستقبل القريب - مستخدمة وسيلة تستند إلى تفكير والتر بنجامين الذي نظر بالمثل إلى البنى التجارية العتيقة وغير العصرية - ممرات التسوق المقنطرة بباريس - بحثا عن رؤى معمارية مثالية أذنت بيوتوبيا حداثية وشيوعية وشيكة. يتأمل جيليك البنى التجارية والإدارية لماض آخر قريب لا يمكن استعادته حتى اللحظة، وهو السبعينيات، في سبيل جعل البنى الأيديولوجية والجمالية الحالية بارزة وغريبة.
ثمة طريقة أخرى، ألا وهي الهجوم على الحركة الإنسانية. إن لهو جيليك الجمالي، في حين يبدو أنه يوفر فرصة للمشاركة والعمل والحوار الديمقراطي، غالبا ما يثبط تلك التوقعات، بالتنظيم الثابت للطاولات والكراسي الذي يتسم بالغرابة، ومن غير المحتمل أن يشجع على الحوار، وأيضا بكتالوج المعرض الذي وضع بعيدا عن متناول الجمهور، وكذلك بمخطوطة مزيفة ذات صفحات فارغة، وبوجه عام بالتنسيقات - رغم ألوانها التجارية المبهجة - التي تبدو معادية ومنفرة. من ثم ينكشف دور البيروقراطية - الإدارة غير الإنسانية للبشر - بدهاء. إن المعرض والمتحف - خادمي المؤسسات التجارية بوضوح متزايد - هما المكان البارز لعرض هذا الكشف، رغم مكانة الأعمال الفنية نفسها - باعتبارها تمثيلا لتلك الحالة بقدر ما هي رفض لها - تبقى متناقضة بشدة.
زعمت مشرفة المعارض إيفونا بلازفيتش، لدى كتابتها عن معرض «طريق الغابات»، أن جيليك: «أوجد فرصا لنا للالتقاء، ولاسترداد فكرة المناقشة أو المشورة أو التجديد أو الإرجاء، ومن أجلنا كي نصير أبطالا في صياغة سيناريوهات المستقبل المحتملة.» إن كلمة «لنا» في هذه العبارة غير محددة، مما يجعلها محلا للجدال، إن عمل جيليك يبدو بالفعل أنه يقدم تلك الفرص لنخبة محدودة من المعاونين، ومشرفي المعارض، وحتى هواة الجمع، وقد استخدمت مجموعات أكبر من مرتادي المعارض المساحات التي صنعها في أشكال متنوعة من اللهو أو النقاش. مع ذلك كانت الحواجز التي تحول دون مثل تلك المشاركة عالية، وربما أن طابع الحصرية، والتميز، والهرمية في حد ذاتها تضفي على الأشياء والنصوص التي قدمها الجاذبية التي تجلب إليها المجموعة الثقافية المتجانسة معها.
إن ما يظهره عمل جيليك جليا هو بعض من التوترات بين الخطاب الاحترافي للفن ووظائفه ومبادئه المثالية الأوسع. وإذا ما تمت المغالاة في التوجه الاحترافي للفن، فهذا سيقوض مرة أخرى مزاعم الفن للعالمية (ومن ثم الأسباب الداعية لحمايته). إذا تمت المغالاة في الإتاحة والذرائعية، فسيتلاشى تميز الفن عن سائر جوانب الثقافة بالنتائج نفسها.
إلى جانب هذه التوترات العامة بين النماذج المختلفة من الاستقلالية - التي أوجدها السوق والجامعة والمتحف - هناك بعض القوى الحديثة بعينها التي تهدد بتفكيك نسيج استقلالية الفن، وهي تحديث السوق الفنية، والمطالبات المتنافسة التي تروج لها الدولة والمؤسسات التجارية بأن الفن يجب أن يقدم نفعا.
التحديث
ثمة بعض الدلائل على أن العالم الفني يتعرض لدفعة تحديثية بفعل التغير الاقتصادي والتكنولوجي. لقد مثل الابتكار التكنولوجي تهديدا مستمرا على المنطقة المعزولة المصونة للفن. لم يجر استيعاب التصوير الفوتوغرافي إلا بالتأكيد على الحرفة اليدوية لإنتاج المطبوعة، ومن خلال أساليب أخرى سحبت حافز قابلية إعادة الإنتاج، على غرار استخدام مواد مستقطبة للضوء (وهي مطبوعات فريدة وفردية)، ومؤخرا - كما شاهدنا - تضخيم المطبوعات إلى حجم يناسب المتاحف. استوعب فن الفيديو من خلال التقليل من شأن النقد الاجتماعي اليوتوبي له والتطلعات إلى مشاركة وتوزيع واسعي النطاق لصالح ربطه بالتجهيز في الفراغ لصنع أشياء تبعث على الراحة ومرتكزة في المتاحف، تذكرنا بالرسم أو النحت.
ثمة تحد أكثر حداثة وجوهرية، وهو فنون الإنترنت. فمنذ منتصف التسعينيات فصاعدا، بدأ الفنانون في استخدام شبكة الإنترنت لصنع أعمال ليست قابلة لإعادة الإنتاج فحسب، بل والتوزيع مجانا أيضا. يتسنى نسخ مثل تلك الأعمال على نحو مثالي من جهاز إلى آخر، وجزء كبير من الرموز التي تشغلها متاح للمشاهدة والنسخ وإعادة الصياغة. إذا كانت ثقافة الإنترنت الخاصة بمشاركة البيانات تهدد حتى تلك المجالات التي تبنت مناهج الإنتاج الصناعي، فما مدى السوء الذي يبدو عليه الأمر مع الفن الذي لم يفعل ذلك؟ إن الملكية في مثل هذه الظروف ليست ذات أهمية كبيرة، لا سيما نتيجة لأن منظومة المعتقدات الخاصة بفنون الإنترنت تجنح إلى التركيز على الحوار أكثر من إنتاج أعمال مكتملة، ناهيك عن الغايات. إن فنون الإنترنت لا تتحدى الإنتاج والملكية وبيع الأعمال الفنية نفسها، بل تفتح مجالا جديدا ينتج فيه الفنانون أعمالا غير مادية يمكن اعتبارها فنا، ويمكن أن تكون بعيدة عن تدخل التجار وبرامج المؤسسات الحكومية والمؤسسات التجارية. لقد كان لهذا الفن تأثير استثنائي، وسنعود إليه في الفصل الأخير.
من الدلائل الأخرى على التحديث دخول دور المزادات الكبرى - التي أصبحت شركات مطروحة أسهمها للتداول العام بالبورصات، ومن ثم صارت ملزمة قانونا بتحقيق أعلى الأرباح - إلى مجال الفن المعاصر. قدمت تلك الدور معارض أشرفت عليها شخصيات مرموقة وصاحبتها كتالوجات لها ثقلها، كسبيل لمساندة أعمال الفن المعاصر التي تأتي لاحقا لعرضها للبيع، كما أنها حاكت الأماكن «البديلة» التي يديرها الفنانون عن طريق تقديم معارض في مبان صناعية مهجورة، بل إنها اشترت وكالات بيع. كانت هذه الخطوات ناجحة في جزء منها نتيجة لأن الفنانين ارتئوا فائدة في كسر احتكار التجار. ومنذ الثمانينيات على الأقل، بيعت أعمال الفن المعاصر بالمزادات بصورة مربحة، وإن وجود مثل هذه السوق «الثانوية» في حد ذاته يوهن من احتكار التجار.
جاء هذا استجابة لظهور نوع من التجار وهواة الجمع في نفس الوقت، كما ساهم في ظهور هذا النوع أيضا، وهم أشخاص يشترون بغرض الاستثمار القائم على المضاربة، غالبا ما يكون خارج الدائرة العادية للمعارض، عبر المزادات أو هواة جمع آخرين. وفي المملكة المتحدة، يعد تشارلز ساتشي أبرز نموذج على هذا النوع؛ نظرا لأنه يتاجر في الأعمال الفنية لأغراض المضاربة، ومجموعته من الأعمال الفنية مرتبطة بالموارد المالية لشركاته، كما أنه يشتهر بشرائه مباشرة من الفنانين أو حتى من معارض التصنيف. تتمثل نتيجة مثل هذا النشاط - كما أكد تيموثي كون - في تضاؤل سيطرة المعارض على الأسعار التي يضعها الفنانون، وأنه صار عليها الاستجابة لمكانة الفنان في السوق الثانوية. مع ذلك، يستطرد كون بقوله إن قدرا كبيرا من تحديد الأسعار ونقص الشفافية لا يزال موجودا. تحدد المزادات أسعار عمل الفنانين، وكثيرا ما تتعرض للتلاعب من قبل هواة الجمع أو التجار الذين يقدمون مبالغ أكثر من المتوقعة بغية تعزيز قيمة ممتلكاتهم. في عالم الفن، مثل هذه الممارسات المتعلقة بتحديد الأسعار والمتاجرة بناء على معلومات داخلية، والتي يمكن أن تكون غير قانونية في أي مجال آخر من الاستثمار، تبقى شيئا مألوفا.
ثمة عامل آخر ألقى بظلاله بدرجة كبيرة على السوق، وهو جمع المؤسسات التجارية للأعمال الفنية، وهذه ظاهرة حديثة إلى حد ما، تشكلت الغالبية العظمى من تلك المقتنيات الفنية بعد عام 1945، تقريبا منذ عام 1975. استعرض ألكسندر ألبيرو في فترة مبكرة بعضا من العواقب على مسار الفن المعاصر في كتابه المميز عن تسويق الفن المفاهيمي في وقت أضحى فيه جمع المؤسسات التجارية للأعمال الفنية أمرا هاما للمرة الأولى. جمعت المؤسسات التجارية الأعمال الفنية المبتكرة التي تعكس على نحو موات قيمها الخاصة بالإبداع وريادة المشروعات، ورغم أنه كان نشاطا محدودا، منفصلا عن الإدارة العامة للشركة، وغالبا ما يكون مستندا إلى اهتمامات المسئولين التنفيذيين الفردية وميولهم، فقد تغير جمع الشركات للأعمال الفنية مؤخرا. بين المؤسسات التجارية الضخمة، أضحى جمع الأعمال الفنية جزءا من خطة العمل، ويصمم بحيث يتوافق مع صورة الشركة، ولم يعد موجها للبحث عن شيء زخرفي فحسب لتعليقه على جدران المكتب، مع ذلك، يؤكد تشين-تاو وو في رؤيته عن جمع المؤسسات التجارية للأعمال الفنية أنه لا يزال هناك تفضيل بين الشركات للأعمال السطحية الزخرفية التي لا يحتمل أن تثير الجدل حول القضايا الاجتماعية أو السياسية أو الدينية؛ فهذه الأعمال الفنية، في نهاية المطاف، الغرض منها أن تشاهد في إطار ليس خاصا تماما أو عاما تماما.
من الصعوبة بمكان تقييم أثر جمع المؤسسات التجارية للأعمال الفنية على الفن المعاصر؛ نظرا لأن معظم الصفقات تظل في طي الكتمان. بمقدورنا تخمين أن هذا الجمع يشكل قدرا هائلا من مبيعات الفن المعاصر، لكن من الصعب تحديد هذا القدر بالضبط، وذلك لأن شراء الأعمال الفنية غالبا ما يندرج ضمن ميزانيات العلاقات العامة أو الإنشاءات أو تأثيث المكاتب. ويستشهد وو بدراسة أجريت عام 1990 زعمت أن جمع الشركات التجارية للأعمال الفنية في الولايات المتحدة مسئول عما يقرب من عشرين أو ثلاثين في المائة من السوق الفنية في مدينة نيويورك، وخارج المدينة تصل هذه النسبة إلى نصف السوق الفنية تقريبا. من الجائز أن حجم هذا الشراء المؤسسي الذرائعي يدفع السوق الفنية إلى أن تؤدي كسوق عادية.
يزعم آبنج أن هناك دلائل على أن الطابع الاستثنائي للاقتصاد الفني آخذ في التضاؤل، أحدها موقف الفنانين المبهم على نحو متزايد تجاه مكانة الفن، وزيادة النشاط الاقتصادي المكشوف. وفقا لهذه الرؤية، من الممكن اعتبار كل من الفنانين الذين يهجون ادعاءات العالم الفني (على غرار فناني البنك الجماعي الذي اتخذ من لندن مقرا له وقد انفرط عقده الآن) وأولئك الذين يسعون وراء الثراء على نحو واضح (على غرار كونز وموراكامي أو هيرست) دلائل على أن المكانة الرفيعة للفن، وانفصاله الظاهري عن عالم التجارة المبتذل، لم يعودا بأمان. مع ذلك، من غير الواضح ما إذا كانت هذه السمات هيكلية أم دورية، فترتبط بصعود وهبوط السوق. في نهاية المطاف، يسهل الإشارة إلى نماذج سابقة لكلا النوعين من الفنانين (سرعان ما يتبادر إلى الذهن فنانو جماعة «الفن واللغة» والفنان ورهول للنوع الثاني).
استخدامات الفن
ثمة تحديات جوهرية أمام استقلالية الفن تبدو أقل جدوى من تلك العناصر الخاصة بالتحديث. إن طابع الفن المتمم للنيوليبرالية آخذ في التجلي أكثر مع سعي كل من المؤسسات التجارية والدول، المدركة لغياب التجارة الحرة، إلى تضخيمه من خلال عمل مطالب ذرائعية من الفن. تريد المؤسسات التجارية استخدام الفن بغية ضمان ارتباطها بالعلامة التجارية التي لا يمكن شراؤها بالإعلان، وترغب الدولة في معالجة الآثار المدمرة للتجارة الحرة على التماسك الاجتماعي؛ من ثم، فكلتاهما تسعيان إلى مواجهة القوى الفعلية التي أطلقتاها بالاشتراك معا، حتى إن الدول الغنية تشهد الانهيار الاجتماعي الذي تسبب فيه انعدام المساواة المتزايد؛ مما دفع الكثير من الناس نحو الفقر المدقع وانعدام الأمان، وتضع مزيدا من الضغط على الطبقات الوسطى التي تدعم النظام الكلي للاستهلاكية. لقد رأينا أن ناعومي كلاين زعمت أن «تعهيد» الإنتاج للدول النامية مرتبط بالتأكيد الآخذ في التصاعد على الشعار والعلامة التجارية. وكجزء من هذا الهوس بصورة العلامة التجارية، أضحت مطالب الشركات من الأعمال الفنية أوسع نطاقا وأكثر منهجية.
انتقلت الشركات من الرعاية الخيرية العرضية للفنون إلى بناء شراكات مع المتاحف أو الفنانين، والتي ترتبط فيها العلامة التجارية لأحدهما بالعلامة التجارية للآخر في مسعى لتعزيز كليهما، كما أنها التفتت أكثر إلى جمع الأعمال الفنية وتكليف فنانين بصناعة أعمال لها، وعرضها في معارض، وفي الآونة الأخيرة، إلى الإشراف حتى على معارض تقام في أماكن عامة.
شكل 4-4: داميان هيرست ، «أبسولوت هيرست».
4
هناك مثال معبر على هذا التحالف، وهو مشاركة سلسلة سيلفريدجز في مجال الفن في السنوات الأخيرة، والتي يفحصها كل من نيل كامنجز وماريشا لواندوسكا كجزء من مشروعهما «قيمة الأشياء». رعت سلسلة المتاجر متعددة الأقسام معرضا باسم «النظرة الورهولية» بمعرض باربيكان عام 1998، وانتهزت الفرصة لكساء نوافذ المعرض بمظهر ورشة عمل آندي ورهول التي يطلق عليها «المصنع»، ولعرض جلسة تصوير أزياء مستوحاة من أعمال ورهول. ضم قسم الطعام على نحو متوقع أكواما من علب حساء من ماركة كامبل، وصناديق بريللو، وزجاجات كوكا كولا، جنبا إلى جنب مع مطبوعات خاصة بورهول، كما كان هناك عرض لأفلام ورهول صاحبته دعايات ملائمة في قسم ملابس الرجال. بالطبع، كان ورهول ليحبذ هذه المعاملة تحديدا، لكن هذا لم يكن سوى بداية لمجموعة من الخطوات الاستراتيجية التي اتخذتها سلسلة سيلفريدجز لاستغلال عالم الفن المعاصر لكسب الزبائن.
مثال آخر هو سلسلة إعلانات ولوحات ومنتجات أبسولوت التي أعيد إنتاجها كصفحات مجلات، والتي شكلت تحالفا للعلامة التجارية بين الفنان وشركة مشروب فودكا، أطلق ورهول هذه السلسلة على نحو ملائم عام 1985. لقد استمرت هذه الأعمال، التي جعلت العلاقة بين الفنان والشركة التجارية جلية إلى حد بعيد، حتى وقتنا الحاضر، صنعها الكثير من الفنانين البارزين، من بينهم كيث هارينج، وديفيد ليفينثال، وإد روشا، وفيك مونيز. على نحو مماثل، تحالف تاكاشي موراكامي - وهو فنان يسعى جاهدا بصورة واضحة لتحقيق النجاح التجاري - مع شركة لويس فيتون لتصميم حقائب حققت مبيعات عالية للغاية، ومؤخرا أنتج فيديو فني ترويجي لدار الأزياء هذه. وهذا الفيديو «مونوجرام سوبرفلات» (نسبة إلى حركة «سوبرفلات» ما بعد الحداثية التي أسسها موراكامي) هو نسخة محدثة من «أليس في بلاد العجائب»، تسبح فيه فتاة باحثة عن هاتفها المحمول، في عالم مثير للحيرة من شعارات الشركة. يعد هذا الفيديو منتجا مختلطا تماما، لكونه إعلانا طويلا وفيديو رسوم متحركة بأسلوب موراكامي المميز، عرض في القاعة الأولى من معرض فرانشيسكو بونامي للرسم الزيتي في بينالي فينيسيا عام 2003، وكذلك بمتاجر لويس فيتون الرئيسية على مستوى العالم ، لتعزيز مبيعات حقائب موراكامي أكثر.
حتى وقت قريب، كانت مشاركة المؤسسات التجارية في الفنون منطقة غامضة، تكتنفها اتفاقيات سرية، ويسلط عليها الضوء في أوقات متقطعة بتلميحات نيرة في الأعمال الشهيرة لهانز هاكي التي خضعت لرقابته، والتي تناولت الصفقات الفاسدة للرعاة الفنيين أو الأنشطة التجارية لأفراد مجالس إدارة المتاحف. نحن محظوظون الآن لأننا نملك رؤيتين مهمتين مفصلتين عن مشاركة المؤسسات التجارية في الفن لتشين-تاو وو ومارك ريكتانوس، وكلاهما اضطر لكتابة عمله رغم السرية المحيطة بالموضوع؛ إذ لا ترغب المؤسسات الفنية أو الشركات الراعية في الإفصاح عن تفاصيل الاتفاقيات مع بعضها.
تركز رؤية وو على الدول النيوليبرالية والولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وتصف تفصيلا عملية خصخصة الفن، في المملكة المتحدة على وجه التحديد، حيث سحب تمويل الدولة من المتاحف وغيرها من المؤسسات الفنية. في كلا البلدين انتقلت المؤسسات التجارية إلى رعاية الأحداث الفنية، وتكليف الفنانين بأعمال فنية خاصة، وجمع الأعمال الفنية، وعرض مقتنياتها في أماكن عامة. في المملكة المتحدة كان تغيير الطابع السياسي على نحو مزعج للفن المعاصر هدفا صريحا لحكومة المحافظين تحت قيادة مارجريت تاتشر من خلال جعله أكثر اعتمادا على قوى السوق، وبالمثل، دعم رونالد ريجان شخصيا تدخل الشركات في الفنون، بدءا من شركات النفط والتبغ، من بين شركات أخرى.
إن للرعاية وغيرها من الصفقات الأطول أمدا مع المؤسسات الفنية فوائد واضحة يمكن قياسها للمؤسسات التجارية. هناك اجتذاب لعملاء محتملين يصعب الوصول إليهم: جماهير الفن أكثر ثراء ويتمتعون بقدر أكبر من التعليم في المتوسط من الجمهور العام؛ ومن ثم تقدرهم الشركات كثيرا، كما أن هناك فائدة أخرى تأتي من المظهر الخيري للشركات. كثير من الشركات الراعية للفنون تعاني مشكلات متعلقة بصورة الشركة، وتسعى إلى تحسين سمعتها بالسخاء الثقافي. هذه هي الحال، على سبيل المثال، مع شركة بريتيش بتروليوم في تحالفها الطويل مع مؤسسة تيت. على نحو مماثل، كانت شركة التبغ الألمانية ريمستما راعية لمعرض «دوكيومنتا» التاسع للترويج لسجائر ويست من خلال علب سجائر وملصقات محدودة العدد، وتظهر النماذج في خلفية كتالوج الحدث. كما يمكن استغلال رعاية الفنون واسعة النطاق لتأثير سياسي. يقدم وو رؤية مثيرة للاهتمام عن مكائد شركة السجائر، فيليب موريس، وهي راع رئيسي للفنون في الولايات المتحدة، والتي عارضت - بغير نجاح كما تبين - تشريعا مقترحا مناهضا للتدخين في نيويورك عن طريق التهديد بسحب دعمها للفن كافة من المدينة.
كما أوضح وو وريكتانوس، تجني الشركات الكثير من الفوائد مقابل ما تقدمه من مال؛ لأنها ترعى المعارض - سبعون في المائة من تكاليف المعارض في أوروبا الآن تأتي من مصادر خاصة - فهي تحصل على أغلب الدعاية المرتبطة بتلك المناسبات. أما تمويل الباقي - الأمور غير الجذابة التي تبدأ من فهرسة المجموعات إلى صيانة مصارف المياه - فيقع على عاتق الدولة التي تقدم بنية تحتية مدعمة تعتمد عليها الهبات المحدودة للشركات.
كل هذا له تأثير مباشر على الثقافة. تملك الشركات معايير خاصة لا بد من الوفاء بها قبل تقديمها للرعاية، والمشروعات التي تقع خارج نطاق تلك المعايير لها فرصة مشاهدة ضئيلة، وبالطبع ليست في المعارض البارزة التي تعتمد على الصفقات مع الشركات. يذكر ريكتانوس أن المعايير الأساسية هي: هل مجال النشاط الثقافي يتوافق مع الأسواق الجوهرية للشركة (فمن غير المحتمل أن ترعى شركة نايك معرضا لرامبرانت)؟ وهل من المحتمل أن يحظى العرض بتغطية إعلامية جيدة؟ وهل الأفراد أو المجموعات المعنية أهداف ملائمة للدعاية؟
لقد تفحصنا النتائج بالفعل في الفصل السابق، وهي: التأكيد على صورة الشباب، وانتشار أعمال تنسخ جيدا على صفحات المجلات، وظهور فنانين مشاهير، وأعمال تقترب من الثقافة السلعية وعالم الموضة، وتلعب دور عوامل جذب يسيرة للرعاة، وندرة في الأعمال النقدية، باستثناء في ظروف محددة وخاضعة للسيطرة. بالطبع، إن الشهرة المجددة مؤخرا لهانز هاكي هي مثال على ذلك؛ حيث جرى في منتصف التسعينيات استعراض أعمال هذه الشخصية الموقرة من الماضي السياسي الراديكالي للفن المفاهيمي كتحفة أثرية منعزلة، الأمر الذي حمل معه (عكس نواياه بلا شك) نفحة ثقيلة من حنين آمن وواهن إلى الماضي.
ينزع الرعاة إلى إنتاج أعمال مذهلة وباهظة التكلفة، يعد فيها الإنفاق سمة جلية. إن هذا الاستهلاك التفاخري يؤكد على أهمية الفنان والمتحف والجهة الراعية في آن واحد، وهو يمثل قوة أخرى تحفز فنون التجهيز في الفراغ والفيديو الضخمة وغيرها من عروض التكنولوجيا المتقدمة. علاوة على ذلك، عندما تقدم المؤسسات التجارية الضخمة الرعاية أو تقيم تحالفات مع مؤسسة فنية، فهي تتوقع - في ضوء مداها العالمي وتوقعها الخاص بوفورات الحجم - المشاركة في ثقافة متعددة الجنسيات، وهذا ضغط مألوف آخر على الهيئات الفنية لجعل عروضها ذات نسيج هجين.
تأمل المؤسسات التجارية إعلاء شأنها من خلال الارتباط بما لا يمكنها تجسيده، بما في ذلك العبث الحر في الفن الرفيع. كما يقول الشعار المشهور لشركة فيليب موريس الآن: «الفن ضروري لبناء شركة عريقة.» في الوقت نفسه - كما شاهدنا - تسعى الشركات جاهدة إلى اكتساب سمات إبداعية وثقافية. ذكر ريكتانوس أن حديث الشركات عن الفنون يسهم في إجازة الشركة باعتبارها تملك الإبداع، وكونها راعيا أو تاجرا أو - على الأقل - سمسارا وجامعا للأعمال الفنية، وكجزء لا يتجزأ من جمهور الفن؛ الجماعة التي ينبغي أن تروق لها الفنون. إذا ساعد الفن المؤسسات التجارية في هذه الأنشطة المتعلقة بتحسين صورتها والتي من شأنها زيادة الأرباح، فإن المخاطرة تكمن في أنه إذا أضحت هذه العملية واضحة أكثر مما ينبغي، فسيفقد الفن تشبعه بالاستقلالية التي تمنحه المكانة التي تخول له تنفيذ هذه الوظيفة.
تتمم مطالب الدولة مؤخرا من الفن تلك الخاصة بالمؤسسات التجارية، فكلتاهما لها اهتمامات مشابهة في تعزيز الهدوء والتماسك والاحترام الاجتماعي في وجه رياح الدمار الإبداعي التي تسبب فيها النظام الاقتصادي الذي تلتزم الدولة بالترويج له باستمرار. تنظر حكومة حزب العمال في بريطانيا إلى الفن باعتباره وسيلة لتعزيز الاقتصاد، لا سيما فيما يسمى «الصناعات الإبداعية»، ومساعدا على التنمية الإقليمية، وعقارا اجتماعيا لمداواة الصدوع الاجتماعية المسببة للشقاق والتي حدثت نتيجة السنوات الطوال من حكم المحافظين. ينبغي أن ينعم الفن بالجودة دون أن يكون نخبويا، ويجب أن يجذب جماهير جديدة ومتنوعة. ثمة خطوات مماثلة في الولايات المتحدة، حيث ظهرت تبريرات لتمويل المنحة الوطنية للفنون - والذي طالما تعرض لهجوم السياسيين المحافظين - مؤخرا أساسها أن الفن له أدوار يلعبها في البرامج الاجتماعية، من بينها خفض الجريمة، والإسكان، والتعليم. تتمثل خطورة مثل هذه الخطوات في كشفها عن الدور الذرائعي للفن، وهي أيضا تكشف بوضوح شديد للغاية العلاقة بين الفن والدولة، والتي من المفترض - رغم كل شيء - أن تبنى على المثالية والقيم الإنسانية الخالدة. إذا مولت الدول الفنون بغية الإعلاء من نفوس المواطنين، فإن هذا التأثير يتحطم إذا جاب مستهلكو الفن تلك المعارض يفكرون في الاستراتيجيات الإعلانية والتنمية الإقليمية، أضحت هذه الأفكار لا يمكن تجنبها بصورة متزايدة. يستطيع الفن الوفاء فقط بالمطالب الذرائعية للشركات والدولة إذا أخفى المبدأ المثالي الخاص بالحرية وظيفته، ودعم بحق انفصاله النوعي عن التجارة الحرة.
تشعر الدولة والشركات بالرضا عن وضع الفن بعيدا عن نطاق مضاعفة الأرباح المجردة؛ فلدى شعوب كثيرة، تلعب الدولة دورا كبيرا في جمع الأعمال الفنية وعرضها، بما يلقي بظلاله على تحديد الذوق ومسار الكتابة الفنية. إذا كانت الأعمال الفنية سلعا حقا شأنها شأن غيرها، ينبغي أن تكون الحكومات راضية عن ترك شرائها والاحتفاظ بها وتصريفها لقوى السوق. ورغم الاعتقاد أن السلع تقسم الهوية وتحددها أيضا، بما يروق لدوافع متنافسة لدى الفرد، فإن ثمة افتراض مثير للريبة بأن العمل الفني داخل المتحف يشكل الترابط الاجتماعي حتى مع احتفائه بالاختلاف، ويعزز الذاكرة الجماعية حتى مع إعادة صياغته للمراجع المتنوعة والمتباينة وإعادة تجميعها.
إن نمو المتاحف في جميع أنحاء العالم على مدار التسعينيات لم يسبق له مثيل، من بين الأمثلة الكثيرة على المتاحف الجديدة: متحف تيت مودرن، ومتحف هيوستن للفنون الجميلة، ومتحف شيكاغو للفن المعاصر، ومتحف جوجنهايم في بلباو. حدد أدريان إليس على نحو مقنع بعضا من الأسباب المحتملة وراء ذلك؛ أولا: لطالما كانت المتاحف سبيلا للتعبير عن المكانة الاجتماعية التي تمنحها الثروة، وفي التسعينيات أضحت تلك الثروة أكثر تركيزا؛ من ثم فعل الأغنياء ما فعلوه على الدوام، الفارق أنهم باتوا أكثر غنى الآن. ثانيا: تلعب المنافسة القومية والإقليمية دورا ، وقد تفحصناه بالفعل. ثالثا: تحتاج البرامج الجديدة التربوية والترفيهية في المتاحف إلى مساحات أكبر. رابعا: إن أنماط قضاء وقت الفراغ المتغيرة تعني التردد على المتاحف أكثر. أخيرا: تخلق توسعات المتاحف المنافسة بين المتاحف نفسها، فالبقاء على الحال نفسها فيما يتوسع كل شيء محيط لا يبدو خيارا جذابا. يستطرد إليس في جداله بأنه في ضوء حالة المتاحف التي ينقصها المال الكافي باستمرار الذي يجعل من الصعب عليها صيانة المباني والاحتفاظ بفريق العمل، غالبا ما يتم اللجوء إلى هذا التوسع من منطلق حالة الضعف. تعتمد المتاحف على الإعانات المتضائلة بوجه عام من الدولة، والرعاية أو غيرها من الاتفاقيات مع الرعاة والشركات. من بين أكثر السبل شيوعا لإعادة التمويل تقديم عروض محبوبة للغاية، والتوسع؛ فالحصول على تمويل خاص لمشروعات توسعية جذابة أيسر كثيرا من دعم الإدارة الاعتيادية للمتحف. تكمن الصعوبة في مسألة التوسع في أنه على المدى البعيد، ما لم يحقق البرنامج نجاحا كبيرا بحيث يولد فرص تمويل أخرى كثيرة، يفاقم المشكلة الضمنية؛ مما يترك المتحف بمبان أضخم تحتاج إضاءة وتدفئة وفريق عمل وصيانة. حث الازدهار الاقتصادي إبان التسعينيات على مزيد من توسعات المتاحف، فمع الارتفاع السريع في البورصة أضحت المتاحف بصورة مباشرة وغير مباشرة على حد السواء أكثر ثراء. لقد أحدث الركود الأخير توقفا كبيرا في الكثير من البرامج - من بينها تلك الخاصة بمتحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون ومتحف ويتني ومتاحف أخرى - وإغلاق فرعين لمتحف جوجنهايم، في منطقة سوهو بنيويورك ولاس فيجاس.
من نتائج هذا النمو الهائل، بوضوح، تحفيز إنتاج الأعمال الفنية. كما أوضح هاورد بيكر، لم نصادف يوما متاحف فارغة نتيجة لنقص الأعمال الفنية الجيدة بدرجة كافية لعرضها؛ لذا لا بد أن تتسم معايير الحكم وكم الأعمال المنتجة على حد سواء بالمرونة لملء المتاحف. لقد كان هذا بلا شك حافزا آخر في توسيع النطاق العالمي للفن المعاصر، وهو سبيل رئيسي لتوسيع حيز الإنتاج.
في هذه البيئة التي يحتدم فيها التنافس، ميزت المتاحف نفسها بعلامات تجارية. من أبرز الأمثلة على ذلك مؤسسة جوجنهايم ، وهي امتياز عالمي للمتاحف، ومن أشهر فروعها جوجنهايم بلباو. توسعت مؤسسة جوجنهايم، تحت إدارة توماس كرينس، بفروع جديدة في برلين في إطار تحالف مع مصرف دويتشه بنك، وبفرعين آخرين تحولا إلى ضحيتين للركود (كما رأينا). كانت أكثر مشروعات المؤسسة جرأة في بلباو، التي كانت مدينة صناعية ثرية في السابق بعيدة عن درب المعالم السياحية، وانقسمت بفعل السياسة الانفصالية، والتي اشتملت على تفجيرات واغتيالات شنتها منظمة إيتا الانفصالية. جاء في الوصف المفصل لكيم برادلي، أن المتحف ارتبط بتطوير ميناء ومطار المدينة وبناء مترو أنفاق بالمدينة، والأهم من ذلك، متاجر التجزئة ومكاتب ومساكن. لقد كان نجاحا فائقا بكل تأكيد في تحويل بلباو إلى وجهة سياحية، وتميزت المدينة بالمبنى النحتي البارز لفرانك جيري، والذي كساه بمادة التيتانيوم. تكبدت الحكومة الإقليمية مبلغا كبيرا، لتغطية كافة تكاليف مشروع جوجنهايم بدءا من وضع التصور للمكان وتصميمه وبنائه وحتى إدارته. أنشئ صندوق اقتناء بقيمة خمسين مليون دولار، مع أن الأعمال التي ستبتاع ستبقى ملكية لمؤسسة جوجنهايم. والأهم من ذلك، كانت هناك رسوم معفاة من الضرائب بقيمة عشرين مليون دولار لاقتراض باقي مجموعة جوجنهايم ولاستخدام العلامة التجارية. وقد جرى التسويق للمعرض للسائحين الأجانب في الأغلب، وكان مدى تعامل المتحف مع اهتمامات إقليم الباسك مثارا لجدل ساخن في السنوات الأولى له. إضافة إلى أن مشترياته وعروضه، رغم المبلغ المالي الضخم الذي منحته الحكومة الإقليمية بغية تشكيل مجموعة إسبانية وباسكية، كانت «لأساتذة» أمريكيين وأوروبيين مشهورين. لقد رأينا أن فن التجهيز في الفراغ يضمن حضور جمهور الفن الملتزم، يستطيع البذخ المعماري فعل الأمر نفسه، وعادة ما يجتمع الاثنان في تضامن؛ إذ يستجيب التجهيز في الفراغ مع بيئته.
من منظور أوسع نطاقا، بالنسبة لمنظمة فنية، فإن مؤسسة جوجنهايم مؤسسة تجارية تتسم بالشفافية بصورة خاصة، فمعارضها تركز على مصالحها المالية. كان معرض «فن الدراجة النارية» الأول ضمن عدد من المعارض التي بدا أنها توفر فرصا للرعاة أكثر من تقديم عرض ثقافي. أما معرض «جورجو أرماني»، الذي أقيم في جوجنهايم نيويورك عام 2000، فكان عرضا إطرائيا يرتبط، كما ظن البعض، بصفقة الرعاية المقدرة بخمسة عشر مليون دولار بين دار أزياء أرماني والمتحف. كان المعرض استعراضا للبضاعة المتوفرة في الوقت الحالي أكثر منه استعراضا تاريخيا لمنتجات دار الأزياء، ولم يقدم العرض أو الكتالوج شيئا يعدو الاحتفاء بتصميمات أرماني. استأجر دار أزياء أرماني، في الواقع، المتحف لعرض إعلانات له.
تشير مشروعات جوجنهايم إلى توجهات أوسع نطاقا؛ فقد ازدهرت العلامات التجارية في الساحة الفنية، فطورت المعارض والمتاحف شعاراتها الجديدة بجهد جهيد منها لطبع السمة الخاصة بالعلامة التجارية لها في أذهان الناس. أسفر استخدام «تيت» بوصفها علامة تجارية (يشن العاملون بالتسويق هجوما منهجيا ضد مواد محددة وغير محددة) عن كيان يفوق فروعها المادية المتعددة، ويحقق تضامنا بين علامات تجارية مختلفة عبر صفقات، على سبيل المثال، لمباركة مجموعة من الطلاءات المنزلية التي تباع عند عملاق بيع المواد التي تحمل شعار «اصنعها بنفسك»، بي آند كيو. يكافح الكثير من الفنانين على نحو مماثل لاكتساب تمييز تجاري، وقليل منهم يحالفه النجاح، لقد أضحت تريسي إمين علامة تجارية تستمد منها أعمالها الفنية. إن مثل هؤلاء الفنانين الذين يمثلون علامات تجارية هم شخصيات مجازية ينفذون، على غرار الإنسان الآلي، سلوكا معينا ومتوقعا إلى جانب نتاجات أخرى. في أحد الاجتماعات حول رعاية الفنون - أقيم بالجمعية الملكية للفنون عام 2001 - عبر ممثل سيلفريدجز عن الأمر بصراحة: إن عرض صور لسام تايلور وود على واجهة المحال التجارية أثناء تجديدها يمثل توحيدا لعلامتين تجاريتين، في صالح كل منهما.
لقد لاحظنا أن رعاية الشركات للمعارض تميل إلى مناهضة المحتوى النقدي أو الراديكالي. إن تمييز المعارض بعلامات تجارية لا يزال يمثل قوى أكثر فاعلية في إخماد الفكر النقدي. إذا أضحت الدار التي تعرض الأعمال الفنية شعارا استثنائيا (يظهر على أكياس التسوق والحلي الصغيرة التي تباع بمتجر المتحف)، وإذا كان المتحف قد صنع على نحو باهظ الكلفة نمطا تسويقيا لنفسه يتسم بألوان وخطوط وصور معينة تشكل هوية العلامة التجارية، فإن محتويات المتحف هي الأخرى مميزة بعلامة تجارية بصورة ضمنية، حتى من خلال المواد التي تطلق عليها تسمية أو تشرح معلومات عنها. إن الاتجاه هنا هو إنتاج عروض تستعرض عملا بعد الآخر بتزكية متساوية، كما لو أن الأعمال الفنية لا تتنافس أو تتعارض فيما بينها أبدا. تحظى محتويات المتحف بغطاء تأميني، وهي تكتسب تمييزا تجاريا بإدراجها الفعلي تحت الغطاء التأميني.
مع استيعاب المتاحف والمعارض الفنية للممارسة التجارية وبحثها عن جماهير أعرض وأكثر تنوعا، تغير طابعها. يقول بورديو في كتاب «حب الفن» عن المتحف الأوروبي في أواخر الستينيات الذي لم يكن تغير بعد، فارضا على مشاهديه فكرة أن ما يختبرونه هناك شيء مختلف أيما اختلاف عن الحياة اليومية: ... تعذر لمس الأشياء، والصمت الروحاني الذي يفرض نفسه على الزوار، والجمالية المتزمتة لوسائل الراحة، القليلة دائما وغير المريحة نوعا ما، والغياب شبه المنهجي لأي معلومات، والهيبة العظيمة للزخارف والاحتشام ...
إن زيارة متحف تيت مودرن كافية لإدراك قدر التغيرات التي وقعت؛ فلا تزال الدراما المعمارية تعمل على الترسيخ في ذهن المشاهد أهمية ما يراه، لكن النتيجة ليست مؤثرة. وتكتظ المعارض، التي تلعب دورا ثانويا بالنسبة لوسائل الراحة ومساحات التجوال، بالناس الذين يجدون سعادة في التعبير عن أنفسهم، فالمعلومات غزيرة وهناك مجالات، على الأقل، يشجع فيها التفاعل.
هذه التغيرات كانت من بين أسباب انفتاح الحيز المغلق للفن أمام عمليات العرض السلعي. يضغط توجهان من التوجهات التي تفحصناها في هذا الفصل في اتجاهين معاكسين: الإتاحة والأنماط الأكثر نموذجية للتسليع نحو الاندماج الجزئي على الأقل مع الثقافة التجارية، والمهنية الأكاديمية للفن نحو الاستقلالية والخطاب النخبوي. إن تدخل الدولة يخفف من حدة هذا التناقض؛ وذلك لأن الغرض الفعلي من المهنية، في المتاحف على الأقل، هو الاتصال العام الفعال.
ثمة مجالات تصل فيها استخدامات الدولة والمؤسسات التجارية للفن إلى توتر أكبر. تسعى الدولة إلى مجابهة تفريغ الديمقراطية من محتواها وتراجع الروح الاجتماعية التي تسببت فيها النزعة الاستهلاكية الجامحة، وهي النتيجة ذاتها لأفعال المؤسسات التجارية. إن الغاية الرئيسية للمؤسسات التجارية بيع سلع لجمهور يزداد ولعا بالانتقاد، ويرتاب في أساليب التسويق التقليدية، كما أن منحنى سياسات الدولة يسير في اتجاه الاحتواء الاجتماعي وتوسيع نطاق جمهور الفن. تكمن مصالح المؤسسات التجارية في السمة الحصرية للفن في حد ذاتها والارتباط بالنخبة والمشاهير، وهو شأن مميز يكسبها مصادقة الثقافة الرفيعة والوصول إلى أرباح وتغطية إعلامية باستمرار، وكلما أصبحت تلك العلاقة أكثر شفافية، تلوث الفن بفعلها، فيبدو أنه ليس سوى جزء آخر من المسار العام للثقافة الجماهيرية بأداتها المرهقة للدعاية والشهرة. لا شك أن جلب مادونا لإعلان جائزة تيرنر بمتحف تيت عام 2001 كان الهدف منه إكساب الحدث شهرة أكبر، وبالمثل إعلاء شأن نجمة البوب في غضون ذلك بربطها بالثقافة الرفيعة. مع ذلك، تجلت النتيجة في إدراك كل متفرج لموقعه، داخل النطاق المألوف تماما للثقافة الجماهيرية، ولعبت الأعمال الفنية المعروضة دور إلهاءات مشوقة إلى حد ما للمشهد الرئيسي الخاص بالسلوكيات السيئة للنجمة المتعطشة للشهرة.
إن حروب العلامات التجارية في التسعينيات جعلت الفن عنصرا أشد أهمية في إدارة الصور التجارية، ربما يمكن لهذا الحط من مكانة الفن أن يستمر فحسب؛ فالمؤسسات التجارية التي تهتم بصورتها العامة أو المشاركة في «الصناعات الثقافية» لا يمكن أن تترك ميزة المساهمة في الفنون لمنافسيها. وعلى نحو نظامي، لا يسع المؤسسات التجارية سوى الاستمرار في تقويض استقلالية الفن، وهي الأساس الفعلي لجاذبيته.
يتمثل التناقض الجوهري في أن الفن الرفيع، من حيزه المنغلق العتيق والمصون، يروج للقوى الفعلية للنيوليبرالية، والتي إذا طبقت على الفن ستؤدي إلى تدميره. يشير بنجامين بوكلو إلى أن النموذج الثقافي الذي تؤيده الدول أصبح مؤسسيا، كما ترغب المؤسسات التجارية في تقليل التجربة الجمالية للأزياء؛ وهذا النموذج - كما يذكر بوكلو - يتناقض بشدة مع المبدأ المثالي الديمقراطي للثقافة الذي تعرف فيه العامة نفسها وتدركه. إن أطياف هذه المبادئ المثالية لا تزال تتشبث بالفنون (ويستغلها فنانون أمثال جيليك)، كما أنها تظل ذات أهمية محورية في وجهات نظر الكثير من الناس تجاه الفن، بغض الطرف عن مدى عدم الوفاء بتوقعاتهم بانتظام. إن هذه القضية هي العنصر الأهم في معارضة استخدام الفن كخادم للتجارة والدولة، وسنعود إلى هذه النقطة في الفصل الأخير.
هوامش
الفصل الخامس
قواعد الفن الآن
من المعتقدات التقليدية الأساسية بعالم الفن، وما يتردد في كل مكان تقريبا، أن الفن المعاصر معقد ومتنوع على نحو يتعذر فهمه. إن تنوع الأنماط والأساليب والموضوعات المعاصرة في الفن محير بالطبع؛ فالوسائط التقليدية للرسم والنحت والطباعة زاد عليها فن التجهيز في الفراغ و«الوسائط الجديدة»، التي يمكن أن تشتمل على أي شيء بدءا من فن الإنترنت إلى البيئات الصوتية حاسوبية التحكم. يرسخ الفنانون لأنفسهم صورا تبدأ من المعلم الروحي أو الديني التقليدي إلى الشخص الانتهازي الوصولي ذي النوايا غير الصادقة، وشخصيات تتضمن الفتيات المراهقات المهووسات بالشهرة أو الأفراد المضطربين المتعالين. إن اهتمامات الفن متنوعة أيضا، فتتطرق إلى الحركة النسائية وسياسات الهوية، والثقافة الجماهيرية، والتسوق، والصدمة. لعل الشرط الجوهري للفن هو أن يكون لا سبيل إلى معرفته (يمكن أن تنطوي تلك المفاهيم المتجسدة في صورة مرئية على تناقض)، أو لعل هؤلاء الذين يعتقدون في هذا الرأي يساهمون في إخفاء تماثل مختلف.
ثمة أسباب عديدة تدعو للارتياب في أن الآراء التقليدية تخفي شيئا ما؛ أولا: معظم الأعمال الفنية تعرف على الفور لكل من المبتدئين والمطلعين على حد سواء، وليس فقط لأنها معروضة في المعرض. ثانيا: إن العشوائية التامة هي شكل من أشكال التماثل التام؛ فكل عنصر من المجموعة المتنوعة للفن يمتزج مع غيره في عملية تقود إلى تجانس أوسع. ثالثا: (وهي في تضارب مع الفكرة الثانية)، كما رأينا، فإن الإباحية بعيدة تماما عن المجموع، وقدر كبير من الإنتاج الثقافي يستثنى على نحو صارم من عالم الفن المعاصر. أخيرا: ثمة أعمال حالية (على غرار الإعلان) تستخدم رموزا مرئية بطريقة تقليدية إلى حد بعيد؛ لذا لعل قابلية الفن على التعريف آخذة في الازدياد، جنبا إلى جنب مع التصريحات التي تتباهى بغير قابليته جوهريا للتعريف.
بالطبع لا يمكن أن يكون هناك ادعاء بالموضوعية العلمية في أية رؤية من الرؤى الفنية، فلا يمكن أن يكون تحليل ما موضوعيا على غرار دراسة لخنفساء مثلا؛ نظرا لأن أية رؤية لها تأثير على المشهد عينه الذي تفحصه. ساهم التأثير الساحق لرؤية جرينبرج عن تطور الفن الحديث بوصفه تقدما هيجليا نحو التجريد الرسمي في تحفيز الفن الشعبي الذي يمثل تفنيدها الصريح.
منذ ظهور الفن الطليعي، لم يبد سوى الفن الذي ينظر إليه من بعد تاريخي أنه يتسم بالتوجه والترابط، فيما يبدو الحاضر دوما غامضا ومشوشا. إن فقدان التوجيه في الحاضر الذي يبدو أننا نشعر به حين نتأمل الماضي شعور راسخ منذ زمن بعيد. في واقع الأمر، إن هؤلاء الكتاب الذين تبينوا دون غموض، وبقطع النظر عن الظرف، حافزا في الحاضر (على غرار جرينبرج) كانوا الاستثناء. لعل النمط التاريخي في النظر إلى الفن يبسط ما نراه، فيختزله فيما له أهمية للحاضر، لكن لعله ببساطة هذا هو الواجب الضروري للأعمال الفكرية التي لا بد فيها أن تكون الظواهر المتنوعة منظمة، وموضوعة في تراتبات هرمية حسب الأهمية، والكثير يطويه النسيان أو التجاهل، بغية تحقيق منظور هادف حول مشهد ما. تتجلى هذه الأعمال في فترتنا الراهنة، فالفن الذي اعتبر في السابق أنه يقع على الأطراف الهامشية انتقل إلى مركز انتباه الساحة الفنية.
أحيانا ما ينظر إلى الفن في التسعينيات على أنه توليف بين فن الثمانينيات المتسم بالعظمة والإدهاش وبعض من اهتمامات الفن المفاهيمي. وتمثلت النتيجة في ربط اللهو اللغوي والمفاهيمي مع الأشياء المبهرة من الناحية المرئية. ملأ توبياس ريبيرجر في «تخوم العالم السبع»، على سبيل المثال، غرفة بمجموعات من البالونات الزجاجية تتوهج بأضواء مختلفة الألوان في مشهد جميل يتغير ببطء، تعد الأضواء داخل البالونات تمثيلا لأحوال الإضاءة المحلية في أماكن مختلفة حول العالم، المنقولة عبر الإنترنت.
شكل 5-1: توبياس ريبيرجر، «تخوم العالم السبع».
1
إن هذا العمل الفني من الناحية التقنية هو عمل بارع ومدهش وجذاب، وكذلك تجسيد لفكرة.
ربما أن هذا التوليف هو نتيجة لجدل سلبي، والذي لم يفرض على الفن إدراكا بل تحجيما للنقد الراديكالي للفن المفاهيمي، في مصالحة زائفة مع أكثر ما يمقته. هذا بالتأكيد مغزى عمل تجهيزي لفنانين مفاهيميين متمرسين من جماعة «الفن واللغة» بمعرض ليسون عام 2002. وهناك أعادوا صنع عملهم الشهير «الفهرس» - وهو في الأصل قطعة فنية تهدف إلى تشجيع التفاعل والحوار - كتمثال بلا جدوى ملون بألوان قطع الحلوى، يجاور نصا إباحيا بلا معنى، وهو إشارة إلى السلوكيات الغريبة لشباب الفنانين البريطانيين.
يتألف نطاق فني من العناصر المتفاوتة لهذا التوليف، أحد طرفي هذا النطاق - الطرف الأكثر تقليدية والأكثر عرضة للارتباط بالأفكار الرجعية الخاصة بعبقرية الرجال - يمزج أكثر العناصر وضوحا بإطار عمل مفاهيمي مع كميات كبيرة من العاطفة أو الروحانية أو النزعة الإنسانية ليضمن إنتاج أعمال ملحمية. ربما يتبادر إلى أذهاننا هنا بيل فيولا، أو أنيش كابور، أو أنتوني جورملي، و(مؤخرا) ماثيو بارني. وعند الطرف الآخر - وهذا الآن ممارسة عامة أكثر كما شاهدنا - تدفع المفاهيم إنتاج أشياء مادية أو وسائطية منتقاة لتلائمها. يقاوم كلا الطرفين تغلغل وسائل الإعلام؛ فالطرف الأول يقدم للمشاهد مشهدا مهيبا أو جليلا يصور الكميات الهائلة للمادة أو (لاحقا) البيانات، وفي الأداء، يشكل جسد الفنان - وأحيانا دماؤه - تأكيدا لحضور حيوي وفريد، كمقابل لكل ما ينسخ وينقل. وعند الطرف الآخر، توضع العناصر العادية من البيئة أو الوسائط في تلاعب غير عملي، يمكننا تبين هذا بوضوح في أعمال تأخذ مشهدا من وسائل الإعلام وتحذف المشهد ببساطة، مثال واضح على هذا التغيير الرقمي لبول فايفر في فيلم عن مباراة الملاكمة بين محمد علي وجورج فورمان، «هدير في الأدغال»، ليحذف فيه الملاكمين. لقد كان بالطبع هذا العبث بالصور والمواد والوسائل المستعارة سمة مميزة للفن منذ انتهاء الحرب الباردة، والتي وهنت مع فن العباقرة العميق والجاد حتى بدا ممارسوه - وهم قلة الآن - كناجين غرباء من عصر سابق، فيما لا يسع المتمسكون بالفن التقليدي سوى العويل بسبب هيمنة «الفن المفاهيمي» و«فن التجهيز في الفراغ».
شكل 5-2: بول فايفر، «العد الطويل (هدير في الأدغال)».
2
إن ما يميز هذا الإنتاج الجديد دون غيره هو تحريك الرموز والأشياء الجاهزة (أو على الأقل الأشياء التي تميز بسهولة) من مكان إلى آخر، وتجميعها في تشكيلات جديدة. فكر في تناول الفنانين لذلك الشيء الذي يحظى بأكبر تقدير بين الأشياء الاستهلاكية، ألا وهو السيارة: في عمل أوروزكو الشهير «لا دي إس» (1993)، تقسم سيارة سيتروين دي إس طوليا، ويؤخذ جزء من منتصفها، ثم يلصق النصفان معا مرة أخرى ليخرج موديل أنحف، أو عمل جابينيته أوردو أموريس عن سيارة أجرة من طراز لادا المطول (ثلاثة أجزاء جمعت معا) ليصنع سيارة أجرة ليموزين كوبية، منتقدا على نحو جميل غرائب ظهور طبقة الأثرياء الجديدة على الجزيرة الكوبية؛ أو عمل داميان أورتيجا الذي يظهر سيارة فولكس فاجن منفجرة، وتتدلى مكوناتها الداخلية كمخطط ثلاثي الأبعاد لقطع الغيار المجمعة معلقة بأسلاك (ثمة الكثير من الأمثلة الأخرى، من ريبيرجر، وفلوري، وتشارلز راي، وغيرهم). إن هذه العناصر القابلة للتحريك ربما تكون صفات وأشياء أيضا، كما في عمل باولا بيفي لطائرة نفاثة مقاتلة مقلوبة، وأوروزكو «طاولة بلياردو بيضاوية» (1996)، أو عمل موريزيو كاتيلان «الاستاد» (1991)، وهو عبارة عن طاولة ممتدة للعبة كرة القدم يمكن أن تستوعب اثنين وعشرين لاعبا في وقت واحد.
شكل 5-3: صورة جابرييل أوروزكو، «لا دي إس».
3
شكل 5-4: باولا بيفي، «بلا عنوان (طائرة)».
4
أنتجت مجموعة واسعة من الأعمال الفنية التي تشمل مثل هذه التركيبات البسيطة من العناصر. إن استقصاء عدد كبير من هذه الأعمال يعني حصولنا على انطباع (مخادع) عن وجود آلة في الساحة الفنية تأخذ عناصر من أماكنها الوظيفية في العالم وتعيد تدويرها وتجميعها، بحيث يدرك - بوجه عام - أي تجميع لرموز وأشياء في نهاية المطاف. يعد الإبدال تقنية رئيسية في الإعلان، على غرار الفن، والذي يتحتم أن يسبب صدمة أو يقدم تسلية أو على الأقل يثير اهتمام المشاهد، والاستخدام وتعيين المكان هما العنصران الرئيسيان اللذان يفصلان الفن عن الإعلان، وبخلاف ذلك يظلان متقاربين ويسرقان بصورة متكررة أحدهما من الآخر.
شكل 5-5: زبجنيف ليبيرا، «معسكر الاعتقال بمكعبات الليجو».
5
ثمة سبب هيكلي لهذا الاستكشاف المنهجي لمثل هذه التركيبات يتمثل في تنافس الفنانين على العثور على مكان مميز داخل عالم الفنون. فعلى حد تعبير هاورد سينجرمان: «إن مهمة طالب «الفنون»، على غرار تلك الخاصة بأعماله، أن يجد - ويميز - مكانه.» ومع امتلاء المزيد والمزيد من الأماكن، يبدو كما لو أنه ليس هناك إثم في أي جمع بين العناصر. هناك حالة متطرفة وهي عمل زبجنيف ليبيرا «ليجو» (1996)، وهو عبارة عن سلسلة من معسكرات الاعتقال بنيت بمكعبات الأطفال، وعرضت جنبا إلى جنب مع أعمال استفزازية مشابهة عن الهولوكوست بالمتحف اليهودي في نيويورك في معرض بعنوان «انعكاس الشر» عام 2002.
لدى تأمل هذه الأعمال الفنية من منظور المشروعات الفردية لكل فنان نجد أنها متنوعة ومتميزة وذاتية، وكل منها يحمل معنى خاصا. ولدى تأملها من وجهة نظر العالم الفني بوصفها نظاما، تبدو كأنها أجزاء لآلة تماثلية، تنتج نطاقا ضخما من التركيبات الجديدة يجري اختبارها أمام جماهير مختلفة لمغزى تسويقي.
مخافة أن يعتقد القارئ أن رأي هيوم - بأن خيال البشر أجمع لا يعدو كونه دمجا لعناصر موجودة - ينطبق هنا، يجدر ذكر أن هذه التركيبات قد أضحت أبسط مقارنة بالممارسات الحداثية وحتى بعد الحداثية، وعناصرها موجودة بوضوح أكثر، وإعادة دمجها أضحت أكثر عشوائية، والمغزى الذي تولده أضحى سريع الزوال ومقتضبا أكثر. لعل هناك ارتباطا بين التلاعب السريع بالصور وتطور التجارة الحرة، وتدمير الحواجز، والذكرى التاريخية، والهويات لصالح قابلية الأشياء والرموز والأجساد للاستبدال والتحريك.
إن هذا الارتباط برأس المال غالبا ما ينكر لصالح فهم آخر أكثر توافقا، في حين أن المؤرخين الفنيين رأوا أن التناقض أو التنافر الأسلوبي في الماضي هو تعبير لاشعوري عن التناقضات الاجتماعية (الاقتباس الكلاسيكي هنا هو تحليل ماير شابيرو عن المنحوتات في سوياك)، يستخدم الآن أداء متعمد تماما لهذه المتناقضات للتأكيد على الوعي بانحطاط الثقافة المعاصرة. بطبيعة الحال، إن هذا الوعي ذاته وتمثيله في الأعمال الفنية يسمح للمشاهدين بالاستمتاع بمشهد الانحطاط، ويضمن لهم أن مجرد الوعي به كاف ليحملهم إلى مستوى أسمى.
ينعكس هذا التماثل في صنع الأعمال الفنية على رؤى نقدية شهيرة عن الفن المعاصر في منتصف التسعينيات، وهو ما ينبغي ألا يدعو للدهشة، لأن إنتاج الأعمال الفنية والكتابات التي تدعمه غير منفصلين. مع ذلك، ثمة تباين صارخ بين الكثير من الكتابات الأكاديمية الخاصة بالفن والنقد الفني؛ فقد نزعت الكتابة الأكاديمية إلى التعلق بالهيمنة المستمرة للتفكيكية، والنماذج الفرويدية واللاكانية العتيقة (وهي غير موثوق بها على نطاق واسع في المجالات الأخرى)، والرؤى القائمة على الهوية. من جانب، تعد الكتابات الأكاديمية التي تتكون من قراءات متعمدة على ما يبدو، وتذخر بالاتحادات الشعرية والقفزات الاعتباطية، انعكاسا للحرية التي توجد على نحو مثالي في الفن نفسه. إن أداء الكاتب عمل إبداعي شأنه شأن أداء الفنان، وقدر كبير من الكتابة الفنية الأكاديمية أيضا يظهر تماثلا خفيا أفرزته الضغوطات المؤسسية، يكمن أسفل أسطحها المتنوعة في الظاهر. تتمثل الميزة الخاصة في الكتابات التفكيكية والنفسية التحليلية المهيمنة في أنها يمكن أن تطبق عشوائيا على أقل الأعمال من حيث الملائمة ومع ذلك يمكن توقع الخروج بنتائج «خطيرة»؛ فما إن يتقن المنهج، فإن أية مادة يمكن إدخالها في الآلة. اكتشفت مؤخرا فراغات صادمة حتى في الأسطح الملساء المصقولة بأعمال سام تايلور وود، وهكذا تلبى حصص النشر التي تطلبها المؤسسات من الأكاديميين الذين أمامهم وقت بحثي محدود.
إن هؤلاء الكتاب ممن يساهمون إلى حد بعيد في العالم الفني، ولديهم جمهور عريض من القراء، لهم اهتمامات مختلفة تماما. في النقد الفني إبان التسعينيات كان هناك إحياء في الكتابة عن موضوع كان مهملا في السابق وهو الجمال، والذي عكس ظهور الفن الزخرفي القابل للبيع مع انتعاش الاقتصاد. يمكن أن ننظر إلى هذا الأمر بصورة جزئية باعتباره سبيلا للتغاضي عن قضايا السياسة والمال والاختلاف والنخبوية التي مارست ضغوطا (أكثر مما ينبغي بالنسبة للبعض) على الفن في الولايات المتحدة في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات.
بغية فهم لهذه التطورات، سنتحدث عن ثلاثة من الكتاب الأمريكيين المهمين - وهنا سنعود إلى المركز المهيمن لاستهلاك الأعمال الفنية - وهم يتقاسمون سمات مشتركة، رغم مواقفهم المختلفة بدرجة كبيرة: آرثر دانتو، وتوماس مكافيلي، وديف هيكي. ثلاثتهم ذكور بيض ليبراليون (لذا نستثني هنا المحافظين البارزين المتذمرين من حالة الفنون، على غرار روبرت هيوز وهيلتون كرامر)، وثلاثتهم لهم قاعدة عريضة من القراء. ارتبط دانتو وهيكي بالتركيز المجدد على الجمال في الفن المعاصر.
يكتب آرثر دانتو للمجلة الليبرالية اليسارية «ذا نيشن»، وهو فيلسوف ومنظر ذائع الصيت عن الفن المعاصر، لا سيما ما يعتبره وقفة في الإنتاج الفني بدأه آندي ورهول. وعلى حد زعمه، إذا كانت عبوات سلك الجلي ماركة بريللو التي صممها آندي ورهول لا يمكن تمييزها من الناحية المرئية عن عبوات بريللو الحقيقية، فهذا يترتب عليه أن الفن لا يمكن أن يعرف من منظور التمييز المرئي، ولا بد عوضا عن ذلك أن يعرف من الناحية الفلسفية. أما مكافيلي فهو محاضر متميز في تاريخ الفن بجامعة رايس، وحاصل على الدكتوراه في الفيلولوجيا الكلاسيكية، كما أنه محرر مشارك في مجلة آرت فورم، وقدم الكثير في سبيل تعزيز فهم الفن المعاصر غير الغربي، كما أنه حاز اهتماما واسعا بنقده المنهجي والمتشدد للفرضيات التي انطوى عليها معرض متحف نيويورك للفن الحديث لعام 1984 «البدائية في فن القرن العشرين»، والذي أدى إلى جدال مطول وغاضب مع مشرفي المعرض. أما ديف هيكي، فهو أستاذ نظرية الفن والنقد الفني بجامعة نيفادا بلاس فيجاس، وهو كاتب ذائع الصيت للغاية يملك أسلوبا نثريا مشوقا، وقد حصل على «جائزة النبوغ» من مؤسسة ماك آرثر. جلب كل من هؤلاء النقاد الثلاثة مجموعة من الاهتمامات المحددة والغريبة إلى النقد الفني، مثلما فعل الكثير من أفضل كتاب الفن؛ بالنسبة لدانتو، فقد جلب الفلسفة، وبالنسبة لمكافيلي الأنثروبولوجيا والكلاسيكية، ولهيكي الأدب والموسيقى الشعبية.
يزعم دانتو في كتاب «بعد نهاية الفن» أن طابع الفن قد تغير بصورة جذرية منذ السبعينيات ومنذ أن لفظ الفن الطليعي أنفاسه الأخيرة، وهو الآن ما بعد تاريخي على الأرجح. إن وجهات النظر الحداثية والطليعية ارتبطت بفكرة التقدم التاريخي ربما نحو التجريد الرسمي، أو امتزاج الفن والحياة. من وجهة نظر دانتو، على النقيض، «تبدأ الحياة فعليا عندما تصل القصة إلى نهاية.» وهؤلاء الذين يتوقعون الآن أن يتقدم الفن أغفلوا المغزى الرئيسي، ألا وهو أن التوليف النهائي قد أدرك بالفعل. وفي حين أن دانتو لم يذكره، فإن هذا الموقف يقترب من موقف الآراء السياسية لفرانسيس فوكوياما في كتاب «نهاية التاريخ وخاتم البشر»، وهو مستمد من الادعاء الهيجلي نفسه بأن التاريخ قد بلغ النهاية، فيما تستمر الأحداث في الوقوع بالطبع، وبأننا اكتفينا للأبد بنسخة من النظام الذي يدعمنا الآن. على نحو مماثل من وجهة نظر دانتو، ما إن اجتاز التاريخ الليل الأسود للسبعينيات (والتي يقارنها، في ظل أعمالها المريعة المعنية بالسياسة، بعصور الظلام)، حتى دخل في الجنان المشرقة للتسامح العالمي، ولن يغادرها أبدا. وفي تلك الجنان، أي مزج بين الأنماط أو وصل بين القصص مقبول من حيث المبدأ كأي شيء آخر.
شاهدنا أن هذا، من منظور واحد، وصف جيد ومعقول للفن المعاصر، وكان له صدى هائل في عالم الفنون، حتى إن الشخصيات التي على خلاف كبير مع دانتو في نواح أخرى تردده. على سبيل المثال، في كتابه «التصميم والجريمة»، يصف هال فوستر - وهو واحد من بين أعمق الكتاب الأكاديميين عن الفن المعاصر أثرا ونفوذا - «انعدام الوزن الرمزي» للفن في الوقت الراهن، وانفصاله عن التاريخ:
زيادة في الإيضاح: لم يعد الفن المعاصر يبدو «معاصرا»، بمعنى أنه لم يعد له تأثير متميز على الحاضر، أو حتى «عرضيا»، على الأقل بقدر يزيد عن أية ظواهر ثقافية أخرى.
يود دانتو أن يقول إن الفن المعاصر هو معاصر لكن هذا يعني ما هو أكثر من مجرد الأعمال الفنية التي تصنع الآن: «إن المعاصرة هي، من منظور واحد، فترة اضطراب معلومات، وحالة من الإنتروبيا الجمالية المثالية، لكنها بالمثل فترة من الحرية التامة إلى حد بعيد.» تلك الحرية أفرزتها نظرة إلى الفن طرحت أسئلة فلسفية عن شروط وجوده، ولم تعد مرتبطة بأسئلة عن الكيفية التي كان عليها. يستطيع الفنانون بعد أن تحرروا من عبء التاريخ ذاك صنع أعمال «بأية طريقة يرغبونها، أو لأي غرض يرغبونه، أو دون غرض على الإطلاق.» إن هذا إنجاز يوتوبي مكتمل يتردد دانتو قليلا في مقارنته برؤية ماركس وإنجلز عن الشيوعية التي يحقق فيها الناس رغباتهم في نشاطات من اختيارهم.
في كتاب «الفن والاختلاف» - رؤية مكافيلي عن عالم الفن المعاصر - قوض أشخاص آخرون عالميون حظوا بقدر متساو وكامل من التعبير، الحقائق اليقينية الحداثية وسمحوا للتنوع بعد الحداثي بالازدهار. أما الحداثة السيئة والعتيقة والعالمية الغائية (كما يصفها بقراءات مختلفة لكانط وجرينبرج) فقد هزمت على يد حركة ما بعد الحداثة التعددية والتطلعية، ومن خلالها يتسنى لنا أن نلمح مستقبلا يوتوبيا محتملا. إن وصف الحداثة المبين هنا (وهو وصف ربما يحظى بمصداقية أكبر في الولايات المتحدة، حيث لا يزال طيف جرينبرج يلوح في الأفق) يتسم بالسلاسة والوحدوية، وبراء من الكثير من الاختلافات والتناقضات والنزاعات التي كانت تشتمل عليها حركة الحداثة. على أي حال، في ضوء أحكامها العابرة على الجودة - التي اعتبرت في السابق أنها مطلقة - من الممكن تطبيق النسبية عليها، وفي فعل ذلك بمقدورنا الاعتماد على أدوات الأنثروبولوجيا. ومن وجهة نظر مكافيلي:
في أوقات الحراك الاجتماعي الشديد، يمكن للفن أن يسهم في عرقلة أو إخفاء أو تشويه أرجحية المجتمع للتغيير. واليوم، رغم كل الصعاب، يؤدي الفن الدور المعاكس، وفي تتبع المستقبل، يستشعر سبلا ربما تظهر بمحاذاتها ذات جديدة في ضوء تاريخ له معنى جديد.
في مثل أوقات الريبة هذه، ينتج الفنانون أعمالا قاتمة وتكهنية ومبهمة بالضرورة، وتكون انعكاسا صادقا للعصر. جزء من هذه الريبة سببه ظهور وجهات نظر غير غربية متعددة، وتطبيق مصاحب للنسبية على القيم الغربية، والتي رأى مكافيلي أنها انبثقت من الثمانينيات على وجه الخصوص. من وجهة نظر مكافيلي هذا لا يعني نهاية التاريخ، بل نهاية نظرة واحدة فردية ومحددة له؛ فقد أنتجت الكلية الأيديولوجية للحداثة تعددية عظيمة للمواقف، لكن هذا لا يعني أنه لن يظهر توليف جديد، بل إنه لم تظهر له بارقة بعد فحسب. وفي الوقت الراهن، لا بأس في ذلك تماما:
لماذا لا يتنسم العالم لبرهة دون نظريات ما وراء قصصية تحاصره داخل مساحة ضيقة يزعم أنها نهائية؟ لماذا لا نتركه يستشعر طريقه إلى المستقبل دون تلك الخرافات الجامعة والعولمية والتعميمية والتخليصية التي تتقاسم سمات مشتركة كثيرة مع النبوءات الدينية؟
هذه الرؤية، شأنها شأن رؤية دانتو، هي رؤية مبهجة عن تنوع مشهد الفن المعاصر، وهي تحظى بالمصداقية لأنه، في حين أن الحداثة لم تكن قط بمثل هذه البساطة أو الوحدوية حسب رؤية مكافيلي، كانت هناك زيادة محسومة وإيجابية في تنوع الأصوات المسموعة في العالم الفني. في كتاباته عن بيئة جمالية محددة في أفريقيا وآسيا، عزز مكافيلي ذلك التغيير وتبين أنه أكثر تأثرا بالمتناقضات والتعقيدات التي ينطوي عليها من المزاعم العامة التي يقدمها في كتاب «الفن والاختلاف».
يرغب ديف هيكي أيضا في أن يسترخي المشاهد ويستمتع بالفن، وعلى وجه الخصوص أن ينسى شرور السوق. يضم كتابه «جيتار هوائي» التماسا للسماح للفن بأن يزدهر متحررا من التجهم في وجه ما يصفه هيكي بأنه اختراع أمريكي خاص: «سوق فنية كبيرة وجميلة» والتي تعكس ببساطة وديمقراطية الذوق العام. يزعم هيكي في كتابته عن موقف الأكاديميين بلاس فيجاس تجاه مسقط رأسهم «أنهم يرون أن كل شيء يتعلق بالمال، وهو ما أتفق دوما على أنه أسوأ سبيل للتمييز بين الأفراد، لكني أخالفهم الرأي بشأن بقية النقاط الأخرى.» ومن ناحية بديل السوق، الذي تولد في كنف تمويل الدولة للفنون ويجري الترويج له في الأوساط الأكاديمية، هو ثقافة ذات إدارة حكومية، سليمة من الناحية السياسية، ومصونة من الناحية النظرية، تتألف من ««نقد للتمثيل»، ويكون في صميمه نقدا للحكومة النيابية؛ أي تأييد صريح لشرطة ثقافية حكومية جديدة.»
استخدم هيكي أسلوبه البياني الرفيع في دعم فكرة أن «الديمقراطية» تتجسد في آليات السوق، بحيث تحدد قوانين العرض والطلب التراتب الهرمي للأسعار، الذي يعكس في الحقيقة ما يريده الناس من الفن. إن هذه الرؤية ترتبط على نحو عام بالاتجاه القياسي للفكر الليبرالي القائل بأنه لا يمكننا أن تحظى بديمقراطية في غياب السوق. إنها قضية أخرى، مع ذلك، أن تقول بأن السوق يمكنها أن تؤدي دورا بديلا للديمقراطية. إذا كان هذا ادعاء مريبا حتى عند تطبيقه على الأسواق الحرة، فتطبيقه على السوق الفنية - وهي كما شاهدنا سوق عتيقة ومحكومة ومقيدة بدرجة كبيرة - أمر سخيف.
لكي يظهر هذا الرأي معقولا إلى حد بعيد، كان على هيكي الاعتقاد بأن التميز الثقافي ليس له أهمية، وأن النظر إلى الفن لا يتطلب مهارة أو تعليما خاصا، وأن الدخول إلى عالم الفن هو أمر تطوعي تماما (إذا أردت الدخول، فستدخل). إنها نظرة مثالية على نحو مؤثر ليؤمن بها شخص مطلع على أسرار العالم الفني، وبريئة على ما يبدو من آليات التميز الاجتماعي والمال والسلطة. يود هيكي أن يجعلنا نؤمن بأن: «كل فرد» في هذه الثقافة يعي حرية تفويض الفن وإجازته، بعبارة بسيطة: «إن الفن ليس بمستعص على الفهم.» وفيما وراء الميل للاستجابة والإذن لفعل ذلك، ليس هناك شروط مسبقة للنظر إليه.
هناك أجزاء من الحقيقة في هذا الرأي: إن الفن بوصفه مهنة ليس محميا من الدخلاء على غرار الطب أو المحاماة أو الهندسة، فتقدير الفن ليس حتما بمستعص على الفهم، وبمقدور الناس فهم أشياء عنه بمجرد التعرض للمجال العام للثقافة التجارية. مع ذلك، يعد العامل المحدد الأكبر لارتياد المعارض هو التعليم (كما رأينا)، وهذا يعود جزئيا إلى أن الفن على كل المستويات (من الأكاديمية إلى التجارية) يعرف نفسه في مقابل الثقافة الجماهيرية. وفي فعله ذلك، يستخدم بانتظام إشارات مرجعية معقدة لتاريخ الفن تتطلب معرفة متخصصة لدى مشاهديه. هيكي نفسه، وهو بعيد كل البعد عن كونه شخصا عاديا، أمضى سنوات في تحضير الدكتوراه، ومن ثم اجتاز أكبر الحواجز المنيعة أمام الوصول إلى مجال الفن.
يعتبر هيكي نفسه معجبا بالفن، مثلما هو معجب بالروك آند رول، ولا ينبغي أن يزعج معجب الفنون نفسه بكون الفن سلعة أكثر من قلقه حيال شراء أو بيع الأقراص المدمجة. للرد على هذا الرأي، علينا اللجوء إلى ناقد آخر شهير كتب الكثير أيضا عن الروك، وهو ديدريتش ديدريكسون. في فحص ثاقب النظر لحالة نقد الفن المعاصر، يشير ديدريكسون إلى الاختلاف الواضح بين أدب المعجبين والنقد الفني؛ فأدب المعجبين يكتب لهؤلاء الذين سيشترون المنتج على الأرجح، ويساعدهم في تقرير فعل ذلك أم لا ، ونتيجة لذلك، فهو يتسم بالتركيز والذرائعية بدرجة عالية. أما جمهور النقد الفني أجمع تقريبا، فليس أمامه احتمال امتلاك الأعمال التي يقرءون عنها. تؤدي المؤلفات أيضا - في صورها الأكاديمية المتخصصة والشعبية - وظائف أخرى تماما، يكون فيها الحكم على الجودة لا يذكر صراحة على الإطلاق، أو يذكر فقط على أساس أنه استعراض ذاتي للذوق، وبالطبع تندرج مؤلفات هيكي ضمن الفئة الثانية.
أشرف هيكي مؤخرا أيضا على معرض دولي في إطار حملته لإعادة الجمال إلى حالته السابقة والترويج للفن من خلال إزاحة ما يراه اهتماما نخبويا بالخطط السياسية والاجتماعية. كان المعرض - الذي افتتح عام 2001، وهو البينالي الدولي الرابع في «سايت سانتا في» - تحت عنوان متواضع: «المجتمع الراقي: نحو كوزموبوليتانية مفتداة». في الكتالوج الخاص بالمعرض، ذكر هيكي أن ما تذكره الجماهير عن المعارض هو الأجواء (وليس الأفكار)، ولذا فقد عزم على إضفاء لمسة من الفرح والبهجة على كل شيء. تحولت ساحة تخزين «سايت سانتا في» إلى معرض بحدائق ونافذة ضخمة وتفاصيل معمارية مبهرة، وجرى ترتيب الأعمال الفنية في مشاهد جذابة. كان التقيد بالتقاليد في البيناليات الهدف المفترض للاستعادة المنشودة. زعم هيكي أن هذه المناسبات «مكرسة على نحو خاطئ لتسويق أفكار الهوية الإقليمية والصفة الاستثنائية المحلية باللغة المعيارية للممارسة الفنية ما بعد التبسيطية.» أساء هيكي فهم الغرض من مثل هذه المعارض، بالطبع، فقد رأينا كيف تأسست على فكرة الامتزاج والتبادل الثقافي، رغم أن هيكي محق بشأن اللغة الموحدة التي تنتهي فيها كل هذه الاختلافات، وسوء الفهم هذا سمح لهيكي بتزكية نزعة أممية تمتزج فيها الموارد الثقافية وتستهدف في الواقع الافتراضات الأساسية التي تنطوي عليها الدولانية التي يتذمر منها. إن التناقض الفعلي هو سياسي بصورة مباشرة أكثر، ويتضح في الادعاءات غير العادية التالية التي يقدمها هيكي، في حين أن المعارض التي تتعامل مع الهوية الثقافية تنزع إلى أن تتألف من الأعمال الفنية التي تطرح مشكلات، فالأعمال الفنية في معرض «المجتمع الراقي» يتطلع إلى حلها: «إن الحل الواضح للتنافر الثقافي له عواقبه الأخلاقية والفكرية، ومجازاته الاجتماعية ، واستخداماته ، ووظيفته.» (من الغريب أن البراعة العادية لهيكي مع اللغة البسيطة تخلت عنه هنا، ربما تحت ضغط سخافة الادعاء.) إن تحول البينالي في معرض «المجتمع الراقي» هو تحول تثقيفي. في سبيل الحفاظ على الاحتفاء بالامتزاج، بدل الاستجابة القياسية للعمل من إيجابي إلى سلبي، لكن بأثر دعائي مماثل، يحبذ البينالي التقليدي التعددية الثقافية ويتذمر من أن الحواجز العتيقة والمتحفظة للتجارة والتبادل الثقافي تعيق تقدمه، لكن معرض «المجتمع الراقي» افتخر بنجاحاته الحالية والجمال الذي تولد عنها.
عدد الفنان رينيه جرين بعضا من العبارات المبتذلة بالعالم الفني الحالي، والتي تجسدت في تفكير هيكي: (1)
لا حدود للفن. (2)
إن التفكير يسبب زيادة الجدية وتناقص المرح والجمال، اللذين يعادلان المتعة الجمالية. (3)
أن تفكر يعني أن تفكر أكثر من اللازم، وهو ما يتعارض مع التجريب (الذي يرى بلغة ثنائية ومن ثم يرتبط بالإحساس؛ أي إن الإحساس/التجريب مقابل التفكير).
يفترض هيكي على نحو غريب أن الناس - وجماهير الفن المثقفة على وجه الخصوص - لا يمكنهم الاستمتاع بعمل مرهق، أو عمل سياسي، أو حتى تلاعب بالأفكار.
يصل النقاد الثلاثة، دانتو ومكافيلي وهيكي، عبر طرق مختلفة تماما إلى وجهات مماثلة: أن عالم الفن المعاصر (على حد التعبير الشائن لروبرت فينتوري ومعاونيه في كتاب «التعلم من لاس فيجاس»، والذي يضرب بجذوره في حركة ما بعد الحداثة) «لا بأس به تقريبا». ينبغي على مشاهدي الأعمال الفنية أن يتملكهم السرور جراء التمتع بالتنوع العظيم الذي لا يمكن تطويقه للفن.
رأينا أن هناك أسبابا عديدة وراء تحول هذا التنوع بعينه إلى تماثل محدد. يشير بورديو إلى سبب آخر: إن كلا من إنتاج الأعمال الفنية واستهلاكها، والتي انبثقت من تقليد مديد خاص بكسر التقاليد، يحملان معهما قدرا هائلا من الإشارات التاريخية، فتصير تاريخية وغير مؤرخة تماما في آن واحد؛ فهي تشير إلى عدد هائل من الأنماط لكنهما لا يذكران أيا منها، أو ظروف نشأتها؛ فيختزل التاريخ في تاريخ خالص للأنماط، ويمتد كأنه طاولة يتسنى انتقاء أي مزيج من الخيارات منها.
إن السمة المميزة لهذا السيناريو هي التقارب بين التفسيرات الأكاديمية للفن وتلك الكتابات الأكثر شعبية التي تحبذ الاستمتاع مطمئن البال بالجمال. يحبذ كل من الأكاديميين الذين يلتزمون بتطبيق مبدأ شفرة أوكام ضد أية مشكلة ثقافية محتملة، والنقاد الذين يجتهدون من أجل وضوح عقلاني ومدروس ومسل، كلهم يحبذون التشظي، الفرد أو النفسية المنقسمة، وحدود المعرفة المولدة اجتماعيا وسوء النية تجاهها، والإحساس المؤثر بالدوار من المجهول، وهم يفعلون ذلك في وقت تزداد فيه هيمنة أساليب وتقنيات معقولة تماما على الفن.
على أية حال، تعرضت مصداقية هذه الآراء مؤخرا لصفعة؛ فمنذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر على وجه التحديد، يتعارض ظهور الإمبريالية الصارخة للولايات المتحدة - باستهانتها غير المبالية والفادحة بالقانون الدولي - مع العولمة والتعددية الثقافية المثالية التي تجلت في رؤية مكافيلي. إن عودة المعارضة القوية للرأسمالية، ومعها الفن الطليعي، كان يجب أن تكون مستحيلة إذا كانت رؤيتا فوكوياما ودانتو دقيقتين. أما تأييد هيكي للجمال والسوق، فقد بدا مقبولا فقط ما دام أن الاقتصاد منتعش، واستمر مستهلكو الفن في التلذذ بالأشياء الجميلة. سنرى في الفصل القادم كيف أن هذه العوامل وغيرها فاقمت التوترات الحالية في نظام عالم الفن.
هوامش
الفصل السادس
تناقضات
الفن المعاصر، لا بأس، لكن معاصر لأي شيء؟ (بول فيريليو، «الفن والخوف»)
من الناحية الأيديولوجية، زعم ماركس وإنجلز أن الأشياء تبدو مقلوبة رأسا على عقب. يحتفي الفن المعاصر بكل ما هو مفروض علينا باعتباره ممارسة للحرية، ويفعل ذلك على نحو معقول لأن الحرية المتحالفة مع الاستهلاك هي تجربة النخبة، التي ترى الفن - من حيث تبني الأدوار ونبذها، والهويات المتعددة التي تكونت - في ضوء اختيار المستهلك. لقد بدأت أحداث أخيرة - مداهمة ركود عالمي جديد، وظهور الحركات السياسية الراديكالية، والعواقب الكثيرة لمشروع إمبريالي تنتهجه الولايات المتحدة علنا - في تحطيم الاتفاق الذي ظل لفترة طويلة حول دور الفن وطابعه، ونتيجة لذلك، بدأ التعبير عن بعض من الآراء المتنوعة للغاية حول الفن، حتى من داخل نطاق النخبة المثقفة.
ربما يمكن لرؤيتين فرنسيتين حديثتين عن الفن المعاصر تقديم أمثلة على ذلك. من وجهة نظر نيكولا بوريو في كتابه المؤثر «الجمالية العلائقية»، اتصف فن التسعينيات في مجمله بأعمال جعلت من التفاعل الاجتماعي ميدانا جماليا، من خلال تقديم خدمات أو عقود للزائرين أو بتيسير الاتصال بينهم ببساطة. يشرح أحد الأمثلة التي أوردها الفكرة جيدا: يذيع ينس هانينج نكات بالتركية من خلال مكبر للصوت في ميدان في كوبنهاجن، مشكلا رابطا بين هؤلاء الذين يفهمونها ويضحكون. من وجهة نظر بول فيريليو، في محاضرات نشرت تحت عنوان «الفن والخوف» (واستقبلت على نحو سيئ عندما نشرت في فرنسا عام 2000)، ينشغل منطق الفن دوما بكسر المحرمات، وتضخيم المشهد، وتوسيع حدود ما يعد إنسانيا، حتى إلى حد الانشغال بالتلاعب الجيني الإبداعي. إن مثل هذا المنطق يتجه في النهاية نحو اغتيال الغايات الجمالية، وكما رأينا في
الفصل الثاني ، صنع سيرجي بوجايف أفريكا فيلما يصور حدثا حقيقيا لمحبي الجمال. إن مثل هذا العمل يصادق على موقف فيريليو حول انعدام الرحمة وسيادة الجلبة بالفن المعاصر، ورغم أن الحقيقة والجمال والأخلاق، بصورة تقليدية ومثالية، قد اجتمعت معا، فإن فيريليو يطرح السؤال التالي: «الأخلاق أم الجمالية؟» كما لو أن الواحد منهما يستبعد الآخر.
إن الانقسام الهائل بين وجهتي النظر يعود جزئيا إلى خلفيات الكاتبين؛ فبوريو مشرف معارض، وهو حاليا مدير مساعد لموقع مخصص للفن المعاصر تديره الدولة في «باليه دو طوكيو» بباريس. وقد تشكلت آراؤه من خلال العمل مع الفنانين والحديث معهم؛ فكتابه لا يقدم نقاشا فحسب، بل ترويجا لأعمال فنية يوصي بها بأسماء أصحابها؛ مثل أعمال فانيسا بيكروفت وليام جيليك وفيليب بارينو، وروكريت تيراوانيت، وغيرهم. أما فيريليو، فهو فيلسوف ومتخصص في التخطيط العمراني وناشط سياسي محنك، وتعود مساهمته في العالم الفني إلى عمله على الزجاج الملون مع براك وماتيس، كما أن أفكاره - لا سيما المتعلقة بالرؤية والسرعة والحرب - مالت إلى الكابوسية، وليس من المثير للدهشة أنه يكتب عن الفن الحالي باعتباره غير منتم إليه.
من وجهة نظر بوريو، فإن الفن الذي يحث على التفاعل الاجتماعي بين متابعيه يتحرك مباشرة ضد اتجاه عام لزيادة التشظي الاجتماعي ، بدءا من تخصص وظيفي متزايد باستمرار إلى ميل الناس لحبس أنفسهم داخل منازلهم في صحبة الإعلام بدلا من صحبة أشخاص آخرين. يهون الفن من هذه الحالة: «عبر تقديم خدمات بسيطة، يستطيع الفنانون ملء الفراغات بالرابطة الاجتماعية.» لا يقدم الفن تعليمات نظرية فحسب، بل «يوتوبيا تقوم على المشاركة»، يوتوبيا صغيرة وخاطفة وذاتية يستطيع فيها الناس تعلم العيش بطريقة أفضل، إلا أن «ميدان التبادل» هذا يجب الحكم عليه من منظور جمالي عبر تحليل لنمطه، كما تعامل العلاقات الاجتماعية باعتبارها وسيطا فنيا آخر يسهم في الفوتوغرافيا والفيديو والتجهيز في الفراغ. إن هذه الأعمال ربما تتضمن أشياء تبدو أنها قطع فنية تقليدية وربما تشترى وتباع، رغم أنه ينبغي أيضا الحكم عليها في النهاية باعتبارها جزءا من المشهد الكلي للنشاط الاجتماعي. إن هذا النموذج من الفن - كما يزعم بوريو - هو إنساني وديمقراطي.
ثمة مثال معبر عن نوع الفن الذي يحبذه بوريو، وهو عمل جافين تيرك «قصة تشي جيفارا». أعقب هذا الحدث سلسلة من الأعمال التي قدمها تيرك، والتي أدخل فيها وجهه الخاص في صور شهيرة لتشي على لوح إعلانات بالأحمر والأسود وتمثال شمعي بالحجم الطبيعي للصورة الشهيرة التي التقطت لإثبات وفاة الثائر.
شكل 6-1: جافين تيرك، «تشي جيفارا».
1
في عام 2001، في ابتعاد طموح عن المسار السابق في العمل، قدم تيرك سلسلة من الاجتماعات والجلسات النقاشية عن حياة تشي وإرثه في قاعة فسيحة في شورديتش. أعقب اجتماعات الاستراتيجية السياسية جلسات نظم فيها نشطاء تظاهرة من المفترض أن تكون ذروة السلسلة. كانت الفكرة وراء هذا العمل - كما ذكر تيرك - استخدام مكانته بوصفه فنانا يحظى بأهمية إعلامية لإعداد مساحة للنقاش والفعل تحظى بفرصة الظهور في وسائل الإعلام.
إن الانجذاب المتجدد لتشي يعود إلى أن حياته وصورته تمزج سحر الشباب مع الالتزام الثوري الراسخ، وتضفي واحدة شيئا من الخطر شبه الغائب عن البال على الأخرى. من بين أسباب فكرة هذا العمل تسليط الضوء على التباين بين السياسات الثورية لأمريكا اللاتينية والابتذال المحتدم «للفن البريطاني اليافع»؛ ومن ثم التركيز - من وجهة نظر تيرك - على إشراقات التاريخ التي تشع في الحاضر. إن النضالات اليسارية القديمة بدأت في التوهج ثانية نظرا لظهور حركات مناهضة للرأسمالية، والتي طورت سبلا جديدة لإنشاء تحالف بين العمل السياسي والثقافي؛ فهي تجسد ذلك الدمج الخطير للراديكالية الثقافية والسياسية والتي تذكر بها صورة تشي.
دفع تشي عصاباته الثورية إلى قراءة رواية «دون كيشوت»، ومشروع تيرك كان بالفعل كيشوتيا؛ فلا يمكن إحضار مجموعة قليلة متنوعة من الناس على مدى أسبوعين وتصميم برنامج سياسي من لا شيء. كانت المناقشة التي حضرتها مشوقة لكنها كانت أيضا بلا هدف ويعوزها التركيز، وكان آخرون ممن تحدثت معهم وحضروا الجلسات النقاشية يتملكهم شعور مماثل. ومما يدعو للغرابة أن الحدث الختامي هيمن عليه جدال مؤيدي التعري حول حقهم في التعري في العلن.
إن «قصة تشي جيفارا» هي نموذج لطابع الكثير من الأعمال التفاعلية على المستوى الاجتماعي؛ فهناك توازن بين عدد المشاركين وتنوعهم والخطاب المحتمل. ينزع المشاركون النشطاء إلى أن يكونوا قلة، ونخبويين، وانتقائيين، وفي هذه الفقاعات اليوتوبية المؤقتة لا يتم التوصل إلى أية سياسة جوهرية؛ وذلك لأنه حتى بين هؤلاء الذين يحضرون بالفعل، يجري إنكار الاختلافات وتضارب المصالح أو نسيانها بصورة مؤقتة، وتكون النتيجة على الأرجح سياسة رمزية ليس إلا.
من ناحية، فإن استخدام تفاعل الجمهور يدخل من جديد حضورا فعالا لا يقبل الجدال إلى فن يهدد بأن يتحول إلى لهو مفرغ لإشارات وأشياء جاهزة. لم يعد الحضور ذاك الخاص بعبقرية الفنان، بل بالجمهور الذي يتحمس مؤقتا بالمبدأ المثالي الديمقراطي الذي يتعامل مع أفكارهم وأفعالهم باعتبارها شيئا ذا قيمة، أو على الأقل يميز احتمالهم للمشاركة الإبداعية.
إذا كان هذا العمل بلا فائدة ورمزيا بإدراك ذاتي، فإن ظهور هذا النمط من الفن ربما يكون أقل إيجابية مما يرى بوريو. لدى اقترانه بالتفكير في تفريغ السياسات الديمقراطية من فحواها (تذكر مشروع «المواطن العادي» بالسويد)، فما يصفه بوريو هو استيعاب آخر لعالم الفن لما انتهى أو أهمل، وتمثيل جمالي لما كان في السابق تفاعلا اجتماعيا، وخطابا سياسيا، وحتى علاقات إنسانية عادية. إذا كانت الديمقراطية توجد في الأعمال الفنية فقط، فهي في مشكلة كبيرة.
إن هذا النمط من الفن، مع ذلك، يلائم كلا من الحكومات (لا سيما الحكومات ذات التحول الديمقراطي الاشتراكي، ومن هنا جاء انتشاره في أوروبا إبان التسعينيات)، وعالم المؤسسات التجارية. إن الحكومات - كما رأينا - تنظر إلى الفن باعتباره مهدئا اجتماعيا، وتأمل أن يؤدي الفن التفاعلي على المستوى الاجتماعي دور ضمادة للجروح الخطيرة التي يستمر رأس المال في التسبب فيها. أما المؤسسات التجارية فربما توظفه على وجه خاص لتخفيف وطأة بيئات العمل بلهو إبداعي، وتحرير بنى الشركات ومناهجها بفكر ابتكاري، وهكذا تعاد صياغة الفن باعتباره مستشارا إداريا.
على النقيض من ذلك، لم تكن ملاحظات فيريليو حول الفن المعاصر ما ترغب في سماعه الدول والشركات؛ فهي تحمل الكثير من الأخطاء بالفعل؛ لأن التعبير عنها كان بلغة متشددة وتهويلية، وتحتوي على أخطاء كبيرة، كما أنها استفزازية لإقرانها قدرا كبيرا من إنتاج الفن المعاصر مباشرة بالقتل الجماعي. مع ذلك، فإنها تعبر بوضوح عن قلق حول أن يضع هذا الفن نفسه في مقابل الخطاب الإنساني والسكينة والتأمل، وفي خدمة القوى الذرائعية. لتوحيد آراء بوريو وفيريليو، ربما يمكننا القول إن من بين الأساليب التي اتبعها الفن لفعل هذا الأمر تحديدا تغليف التفاعل الاجتماعي بغلاف الأداء الجمالي.
إن منطق رأس المال تحريك جميع المواد والأجساد والثقافات والارتباطات بقوة في إطار البحث الآلي عن تحقيق الأرباح. يكمن شكل مماثل لهذا الأمر في استبدال الرموز عديم الأهمية في الفن. من وجهة نظر فيريليو، إن الإبداع الفني - المتحالف مع رأس المال - موجه ضد الإنسانية نفسها، وهو ما يظهر على أبرز نحو في ممارسة التلاعب بالجينات. لقد كانت هناك رؤى عديدة لبشر معدلين وراثيا في التصوير الفوتوغرافي الرقمي الحديث - على سبيل المثال، تلك التي قدمها كل من مارجي جيرلينكس وإينيز فان لامسويردي - ساهمت، بمناظرها المصقولة، في إضفاء طابع سحري لآفاق التغيير الإبداعي في الجينات. تمادى فنانون آخرون في الزعم بأنهم تلاعبوا فعليا في جينات كائنات حية للحصول على أثر فني. سواء أجرى إدواردو كاك تعديلات وراثية على أرنب أخضر فسفوري كعمل فني أم لا، فإن المغزى واضح: يملك الفنان الحق في استخدام التلاعب الجيني لغايات جمالية معلنة.
شكل 6-2: إدواردو كاك، «ألبا، الأرنب الفسفوري».
2
في وجه هذا التحول المستمر، فإن الحصن الأيديولوجي الأعظم هو ذاتية المشاهد. منذ وقت طويل، شعر ليو ستاينبرج أن عملا تفاعليا لروبرت روشينبرج اختزله في وظيفة مفتاح كهربائي. حدث هذا قرب استهلال أعمال السبرانية التي كان لها مثل هذه النوايا تجاهنا. ومع ذلك، رغم التلاعبات الواضحة للغاية بالمشاهد، فإن طابعها المنيع وغموضها المقترن باق. يطرح بورديو سؤالا (اقتبسته في
الفصل الأول ) عن سبب وجوب تفادي الفن لجميع التفسيرات، فيقول إن السؤال عن تفسيرات «يشكل تهديدا مميتا للتظاهر الشائع للغاية (بين محبي الفن على الأقل) ومع ذلك «المختلف» للغاية عن تفكير المرء في نفسه على أنه فرد يسمو فوق الوصف، وقادر على خبرات تفوق الوصف.»
وفي نهاية المطاف، إن غرض الفن هو أن يكفل لمشاهديه المثقفين أنهم - رغم فساد الديمقراطية، وتلاعب الإعلام، وتلوث البيئة العقلية بالدعاية التجارية القوية التي لا تتوقف - كما هم، لم يمسسهم سوء، ويتمتعون بالحرية. عندما يصادق الفنانون عليه، بإمكانهم المشاركة في نقاش اجتماعي هادف مع غرباء من ذوي الميول المشتركة.
يواجه المشاهد العالمي بعالمية من نوع آخر. بين سيرجي جيلباوت كيف أن النزعة الإقليمية والنزعة القومية - الاهتمامات المحلية الخاصة - بفن الولايات المتحدة أخذتا تتناقصان مع تحرك الولايات المتحدة تجاه ترسيخ هيمنتها العالمية. في مرحلة متقدمة، بطلت هذه الهيمنة، بحيث أنه لم يعد يشترط أن يكون الفن أمريكيا، بل يجب أن يصنع وفقا للنموذج الأمريكي للنيوليبرالية العالمية.
يمكننا أن نخلص إلى أن الفن المعاصر الذي يحظى بأكثر إشادة هو الفن الذي يسهم في تدعيم مصالح الاقتصاد النيوليبرالي، وكسر الحواجز التجارية، وآليات التكافل المحلية، والارتباطات الثقافية في إطار عملية مستمرة من التهجين. لا ينبغي أن يكون هذا سببا يدعو للدهشة، لكن ثمة تباين ضخم بين نظرة عالم الفن المعاصر لنفسه ووظيفته الفعلية.
يتجاوز الفن حدود الخصوصية المحلية، ويساعد في تغيير ثقافات واقتصاديات العالم ومزجها. إن الجوانب التصاعدية والتنازلية لهذه العملية متصلة على نحو معقد. تنهزم مواطن المقاومة المحلية، وفي أماكن كثيرة تسوء الأوضاع نتيجة لذلك. على نحو مماثل، يمهد الفن الطريق أمام اندماج أكبر، وظهور تضامنات أوسع، أوضحها هارت ونيجري على نحو مقنع للغاية في كتاب «الإمبراطورية». ومع ذلك، فإن أية سمة تصاعدية بدعم عالم الفن للنيوليبرالية هي معاكسة لنظرته الخاصة لأفعاله، والتي تنصب على الخاص والشخصي وغير الذرائعي، وبالطبع ليس على التضحية بالطبائع الخاصة في سياق التجانس العالمي. هذا التباين تحديدا هو الذي يشكل الإسهام الرئيسي للفن، في النهاية، فيما تنفذه الثقافة الجماهيرية بصورة أكثر فاعلية كثيرا: اجتذاب قطاعات من النخبة تسمو فوق ثقافاتها المحلية وتبتعد عنها، وذريعة أيديولوجية فعالة للغاية لأفعال ذلك الجمهور في تواطئه مع رأس المال العالمي.
إلا أن هذا الموقف يتميز بتوترات وتناقضات مختلفة. لقد رأينا أن انعدام جدوى الفن - وهي جدواه الرئيسية - تشوه بحاجات خاصة بالحكومة والشركات. وفي تطور متصل، تعرضت نخبوية الفن للتشكيك نتيجة لمحاولة توسيع نطاق جاذبيتها: إذ تثمن الشركات الفن لسمته الحصرية، فيما تهتم الدول بوجه عام بالنقيض، وترغب في توسيع حيزه. وفي النهاية إن وسيلة الفن الإنتاجية، وهي تكنولوجية بصورة متزايدة، دخلت في صراع مع علاقاته الإنتاجية العتيقة.
تندرج فرص استغلال هذه التوترات ضمن فئات أربع. الأولى: تحطيم الأيقونات؛ فتدمير الفن - أو حتى محاولة فعل ذلك - هو الاعتراض الأساسي على الفكرة الضمنية للفن المعاصر القاضية بأن كل الرموز متاحة بالتساوي أمام التلاعب. إن أقارب ضحايا مايرا هيندلي رأوا أن صورتها لا يجب أن تكون عرضة لمثل هذا التلاعب، ودعمهم شخصان حاولا تدمير عمل ماركوس هارفي «مايرا» إبان عرضه في معرض «شعور»، بالمثل تعرضت لوحة كريس أوفيلي «مريم العذراء»، التي جاور فيها الرسم الرئيسي بمقصوصات من مجلات إباحية، للهجوم عند عرضها بمعرض «إحساس» بنيويورك. إن مثل هذه الأعمال تتحدى أيضا الرأي الذي يؤمن به الكثيرون بأن جميع الأعمال الفنية جيدة، وهو نتاج التعبير المطلق عن الذات. حين تتعرض الأعمال الفنية العامة للهجوم، يتبين محيطها وغايتها وسياسة مباشرتها. كان الإحراق المتعمد المخطط جيدا في برمنجهام لمنحوتة «إلى الأمام» لريموند مايسون، والذي مقته الكثير من سكان المدينة؛ ممارسة للسلطة المبتذلة على قطعة فنية الغرض منها الدعاية للسلطة المحلية.
أما الفئتان الثانية والثالثة فتتمثلان في مذهب النشاط السياسي في الفن، والاستغلال المتصل لوسائل تكنولوجية لتفادي نظام عالم الفن. كان هناك بعض الانتقادات الصريحة للنيوليبرالية داخل نطاق البيناليات العالمية. اتخذت أحدث مناسبتين لمعارض «دوكيومنتا» من المشاركة السياسية موضوعا لهما: فمعرض «دوكيومنتا العاشر»، تحت إشراف كاثرين ديفيد، اتخذ سمة لا سياسية لعالم الفن في ذروة انتعاش التسعينيات، ونتيجة لذلك أدين أشد الإدانة في مناح كثيرة لكونه يتأمل الماضي ويشتاق إليه؛ ومعرض «دوكيومنتا الحادي عشر»، أشرف عليه أكوي إنويزر، وكان إشارة واضحة أخرى على أن الفن الهامشي انتقل إلى مركز الاهتمام، فقد ضم مجموعة هائلة من الأعمال النقدية، دعمها نقاشات جرت في أماكن كثيرة حول العالم، ونشر حوارات عن الديمقراطية، والصدق والتصالح، والكريولية والمدينة في أمريكا اللاتينية. مع ذلك، ما دام أن هذه الأعمال تبقى داخل نطاق بنى العالم الفني التقليدية، فإن هذه الانتقادات تحتوي تناقضات واضحة في ذاتها توهن من قوتها المحتملة.
في كتاب صغير مازح - يصور حوارا بين ماثيو أرنات وماثيو كولينجز عن معرض «دوكيومنتا الحادي عشر»، ومن خلاله حديث بالمثل عن شخصيهما ولغتهما النقدية - يعبر الكاتبان عن انزعاجهما من استعراض الأعمال المغايرة. وبصورة نمطية، لا يملك كولينجز، وفي سبيل جعل القارئ غير منزعج من سهوه وقلة خبرته، سوى ذكريات مبهمة ومشوشة عما شاهده، مع ذلك يذكر اعتراضه على الطريقة التي «عبس بها جميع الموجودين فوق المنصة بالمؤتمر الصحفي، ويشعرون بألم المعاناة، أو معاناة الألم، أو على الأقل كانوا يتحدثون بتكلف وكانوا يجفلون كثيرا.» إن المغزى المهم هنا أن مثل ردود الأفعال هذه متفق عليه مقدما. بالنسبة لهؤلاء - أمثال كولينجز - الذين يعادون الافتراضات «السليمة سياسيا»، فمثل هذه الأعمال ضعيفة.
يحدد أرنات، بلغة نثرية منمقة عدوانية، ما يمكن أن يمثله حراك هذه الرؤى من مغزى صنعها إلى فخامة الفن الألماني:
الجميع «يعلم»، وذلك بناء على عرفانية معكوسة - شيء مثل العجرفة ذات المبادئ - التي توظف في «خدمتها» الكائنات الحية بأفريقيا (الغنية بالألوان والراقصة في كل فرصة)، «والمشاعر» المعذبة لضحايا «البشاعات» السياسية والاقتصادية المبعدين جغرافيا، وتوحد بينها. بتلك الطريقة، فإن اعتذار المركز على مركزيته الخاصة ينسحب على إدارة شئونه المريعة والشاذة، إذ يأتي بفاكهة الغيرية العجيبة، ويخفقها لتتحول إلى شيء هلامي القوام؛ كم هو أمر مقزز!
كما يذهب إلى أن هناك تناقضا بين الفردانية الاحترافية لهذا الحدث (يحاول المشرفون، شأنهم شأن الفنانين، شغل مساحة فريدة) وانشغالات الحدث الجذرية (التي يبدو أنها تميل نحو المذهب الجماعي).
إلا أن السوء الذي انطوى عليه عرض هذه المشكلات في الفن لا يكمن في أن هذه الموضوعات هي ردود أفعال انعكاسية للتيار اليساري، ولا في إخفاق في توجيه اللوم إلى أناس تعرض أمامهم مثل هذه الأعمال، بل يكمن في الاحتمال الطفيف للغاية أن العالم الفني وحده يمكنه فعل أي شيء للمساعدة. إذا كانت الأعمال الفنية تعرض دون أي احتمال أن يكون لها صدى، فسيصبح عرضها مجرد أداء ومشاهدتها شكلا من أشكال التسلية. سيقال إن العالم الفني ليس منفصلا بحواجز فاصلة عن باقي المجتمع، بحيث يكون لهذه المعارض تأثير أوسع، وهذا يمكن أن يكون صحيحا بصورة متزايدة إذا استمر تدمير استقلالية الفن، بيد أن تهميش الفن الحالي، عند مقارنته بباقي الجوانب الثقافية، يعني أن تلك الآثار من المحتمل أن تكون ثانوية. إن وجهة نظر والتر بنجامين القديمة لا تزال قائمة هنا: إن الفن الراديكالي يحتاج إلى فعل شيء أكثر من جعل السياسة موضوعه، لا بد أن يغير من الطريقة التي يصنع ويوزع ويشاهد بها.
كان الخروج من الميدان التقليدي لعروض المعارض والمتاحف أحد ردود الأفعال. منذ منتصف التسعينيات، مع ظهور متصفح الويب، هدد نزع الصفة المادية من الأعمال الفنية - لا سيما في توزيعها اليسير عبر شبكات رقمية - النظام المصون للفنون. ماذا ستصنع السوق بعمل قابل للنسخ بدقة مثالية ، ويمكن وضعه على آلاف من الخوادم وملايين من أجهزة الكمبيوتر في آن واحد، ويمكن للمستخدمين تفكيكه وتعديله؟ كيف يتسنى للمرء شراء أو بيع أو امتلاك مثل هذا الجزء من البيانات؟ وهذا هو الموقف - ذا الأهمية المحورية في نظرية ماركس - الذي يتعارض فيه تحديث وسائل الإنتاج مع علاقات الإنتاج. وفي الفن الرقمي، يتعارض استخدام وسائل التكنولوجيا الجديدة لإعداد العمل الفني وتوزيعه مع الممارسة القائمة على الحرفة ومع الرعاية وكذلك مع النخبوية التي يتسم بها العالم الفني.
أسهم فنانون في عالم الإنترنت، جنبا إلى جنب مع الشركات التجارية التي بذلت جهودا منسقة لتغيير الإنترنت من كونه منتدى إلى مركز تسوق تجاري. لقد كان هذا الاستعمار التجاري موضوعا ثريا لفناني الإنترنت الذين أنتجوا أعمالا فنية ذكية ومعقدة تهدف إلى جذب المتسوق وإدهاشه. من بين أكثر الأعمال شهرة ذلك العمل الذي نشرته مؤسسة الأعمال الفنية إيتوي؛ فعملها «اختطاف رقمي» حول المتصفحين الذين كتبوا في محرك البحث كلمات مثل «مادونا»، و«بورش»، و«بنتهاوس»، ونقروا فوق الموقع الأعلى تصنيفا لإيتوي، ثم حياهم بهذا الرد: «لا تحرك ساكنا، إن هذه عملية اختطاف رقمي.» تلاها تحميل لملف صوتي عن محنة مخترق حاسوب مسجون وهو كيفن ميتنيك، واختطاف الإنترنت من قبل شركة نتسكيب. وآخرون - من بينهم ريتشل بيكر، بفحصها الدقيق للدراسات الاستقصائية الخاصة بالعملاء، والتنقيب في البيانات، وبطاقات خصومات العملاء - دخلوا في نزاع مع الشركات التجارية التي استخدمت قوانين حقوق النشر لكبت حرية التعبير عن الرأي. صممت بيكر موقعا يعد مستخدمي الويب الذين سجلوا للحصول على بطاقة خصومات العملاء من شركة «تيسكو» بتقديم نقاط لهم أثناء تصفحهم الشبكة، شريطة أن يستكملوا استمارة تسجيل تطرح أسئلة على غرار: «هل تقدم غالبا بياناتك الشخصية للمسوقين؟» و«ما مدى أهمية بياناتك الشخصية لعملاء التسويق؟» وسرعان ما تلقت خطابا من شركة تيسكو تهددها فيه بإرسال أمر زجري قضائي ومطالبة بتعويض عن أضرار.
شكل 6-3: إيتوي، «مؤسسة، موقع توي وور».
3
هذا النمط الفني دليل على تطور هائل أوسع نطاقا؛ فمن نوع فتاك مستعاد للرأسمالية - في وقت انتصارها الظاهري - خرجت حركة معارضة متماسكة، مكونة من السياسة المتشظية القائمة على الاهتمام بقضية واحدة. يزعم مايكل هارت وأنطونيو نيجري أن هذا ليس بمصادفة، أن تنبثق القيم التعاونية من تحول الاقتصاديات الأساسية بعينه إلى معالجة البيانات، والتي يمكن أن يمثل فيها التعاون بين الشركات والمستخدمين والمنتجين قوى تنظيمية أكثر أهمية من رأسمال الاستثمار. وتأتي النتيجة في «احتمال ظهور نوع من الشيوعية تلقائي وأولي». إن حركة البرمجيات الحرة - التي قامت على هذا التعاون العالمي التطوعي تحديدا المحمي بصيغة غير أصلية من قوانين حقوق النشر - هي تحد لهيمنة شركة مايكروسوفت وتضرب مثالا بارزا على هذا العمل الجماعي في أرض الواقع.
إن المنهج الرابع في استغلال التوترات داخل نطاق الفن المعاصر هو تحدي وهم انعدام جدوى الفن من خلال إنتاج أعمال لها نفع صريح. إن التأليف بين التقنيات الإنتاجية وغير الإنتاجية في المضمار الرقمي أيقظ شيئين كان الظن أنهما دفنا منذ زمن بعيد حتما: الفن الطليعي، والاستخدام السياسي للفن. من وجهة نظر بنجامين بوكلو، فإن النموذج الفني الرئيسي الذي يحمل قيمة انتفاع هو البنيوية السوفييتية التي تشكلت بعد الثورة لأغراض محددة واضحة المعالم. في عالم الإنترنت على وجه الخصوص، حيث تكون الحدود بين الإنتاج والنسخ واهنة، كان الفنانون يكتشفون من جديد قيمة الانتفاع. حارب بول جارين التسمية الحصرية والمحكومة بصورة مركزية للمواقع على الويب، وهو - كما يزعم - ما يتناقض مع الآفاق الديمقراطية للشبكة. صمم حلا تقنيا عمليا بشأن نطاقات المواقع،
Name.Space ، وأصر على استخدامه العملي ونفعه السياسي في تحد للذين يظنون أن العمل الفني لا بد وأن يكون غير وظيفي. تحالفت أعمال نشطاء آخرين مع الحركات السياسية الجديدة - على غرار برنامج
FloodNet
الذي صممه بريت ستالبوم - وانشغلت بالاختلال المباشر للنزعة الاستهلاكية. أثبتت حملة ضد مؤسسة الإنترنت العملاقة - إيتويز التي استخدمت إجراء قانونيا لإغلاق موقع الجماعة الفنية إيتوي - فعاليتها للغاية لدرجة أن الحملة (جنبا إلى جنب مع الركود) فرضت على الشركة الحراسة القضائية. لعل أكثر الأعمال تطرفا وإنتاجية في غضون السنوات القليلة الماضية لم يكن تلك الأعمال التي ركزت على نطاق قوة النزعة الاستهلاكية وفي إطارها، بل تلك التي استكشفت حدودها، وما يكمن وراءها.
إن الفن على الإنترنت يثير - بدرجة أكثر فاعلية من معالجته العتيقة بالمعارض - قضايا الحوار والديمقراطية بوضوح. إن الديمقراطية هنا منفصلة عن السوق، والحوار سريع، والاقتراض متكرر، والانفتاح جزء من الأخلاقيات العامة، وثمة خط ضبابي بين صناع العمل ومشاهديه. هناك تباشير بالتضحية بالفنان المستقل والمشاهد المنعزلة لصالح المشاركة الجماعية إضافة إلى الصفات الأكثر حتمية ومراوغة بالفن، وردود الأفعال الهادفة والفعالة.
إن مثل هذه الأعمال المفيدة ليست مقيدة بعالم الإنترنت، رغم أنها تزدهر في ذلك العالم نظرا لأن الشركات الراعية والمتاحف المشرفة لا تحدد ما يشاهد. أنتج آلان سيكولا كما ضخما من الأعمال الفنية، تتناسج فيها الصور الفوتوغرافية مع النصوص، وتعالج موضوعات هامة في مشروعات طموحة طويلة الأمد: التجارة البحرية، على سبيل المثال، في كتابه الذي يتسم بالدقة والانعكاس الذاتي «قصة سمكة». ومؤخرا، قدم إسهاما صغيرا ببضع عشرات من الصور التي ظهرت في معارض كعرض شرائح (عرضت على نحو معبر عند النصب التذكاري الفاشي لكريستوفر كولومبوس في لشبونة)، وأعقب أيضا النصوص في كتاب بعنوان «خمسة أيام هزت العالم»، و«الخمسة أيام» هي التظاهرات المناهضة لمنظمة التجارة العالمية التي جرت في سياتل قرب نهاية عام 1999. كانت النصوص التي أحاطت هذه الصور - لألكسندر كوكبرن وجيفري سانت كلير - تصف الأهداف والأساليب والفصائل الموجودة بين المتظاهرين، والرد الوحشي (وبالطبع، القاتل على الأرجح) من الشرطة. لا يدعم سيكولا نفسه - على غير العادة - الصور بنصوص كثيرة، زاعما أنه في وجه مثل هذه الغرابة «فإن فراسة وصفية بسيطة مكفولة» علاوة على ذلك:
أتمنى أن أصف مواقف المتظاهرين العزل، وأحيانا يتعرون عمدا في صقيع الشتاء، وهم في انتظار قنابل الغاز والطلقات المطاطية والقنابل الارتجاجية. كانت هناك لحظات من الفعاليات بالمجتمع، ولحظات أخرى من الاضطراب بالحضر، وغيرها من لحظات الاحتفال.
شكل 6-4: آلان سيكولا، «في انتظار قنابل الغاز».
4
إذن في غضون الانتظار، طبعت لحظات جامدة في إطار فوتوغرافي، لكنها تضم قدرا هائلا من الوقت مضمنا داخلها، وقت يتطلع للمستقبل لكن من المؤكد للغاية في توقع ورهبة، ويتأمل الماضي أيضا؛ لأنه كان هناك سمة عتيقة حيال كل من التظاهرات وتلك الصور، شعور بأن التاريخ يعيد تأكيد نفسه. ماذا أعاد تنشيط الوقت في مثل هذه الصور؟ ليست الأحداث بسياتل وحدها بل الطريقة التي بدت بها تضمنها داخل نظام أوسع للتغيير؛ فالجماعات سريعة الغضب التي ركزت على قضية واحدة في السابق تندمج داخل انتقاد واسع للنحو الذي تسير عليه الأمور. إن المشروع الإيجابي للحركات الحديثة هو مثار جدال، لكن خطوطه العريضة بينة: حماية البيئة، وزيادة المساواة، وجعل الديمقراطية تعني ما هو أكثر من انتخابات دورية للحكام والأحزاب في بلوتوقراطيات (حكومات أثرياء) ثابتة.
مجددا، يحمل هذا العمل قيمة دعائية واضحة، ولا يسعى إلى أن يكون لغزا في ذاته أو إلى تملق المشاهدين عن طريق التأكيد لهم على العمق الهائل لتفكيرهم. لا شك أنه من الممكن أن يصب تقديم المعارض لهذا العمل في صالح تكريم مضيفيه. مع ذلك إن الدور الأكبر الواضح والمحدد للعمل يتعارض مع تلك الوظيفة؛ لأنها لا تتواءم مع المثاليات الضبابية المعتادة التي تدعم مكانة الفن والمعرض.
إن سؤال جدوى الفن يأخذنا، بطبيعة الحال، مرة أخرى إلى حرية الفن. إن اهتمامات الفن بعينها - الإبداع والتنوير والإلحاح والنقد الذاتي - مبنية على أسس ذرائعية بقدر الأشياء التي تساعد في إخفائها - التعاملات التجارية وتصنيف الحكومة للأعمال الفنية والحرب - وهذا هو الاعتبار الذي لا بد من إخفائه. ويمكن فعل هذا؛ نظرا لأن التحرر المحلي المتوفر في إنتاج الأعمال الفنية، وفي الاستمتاع بها، أصيل. يستشهد بورديو بخطاب لفلوبير حول حرية الفن:
لهذا السبب أحب الفن؛ فهناك - على الأقل - كل شيء يتسم بالحرية في هذا العالم القصصي، وهناك يشعر المرء بالرضا، ويفعل كل شيء؛ فيكون ملكا ورعاياه، نشطا وسلبيا، ضحية وقسا. لا توجد حدود، الإنسانية بالنسبة إليك دمية بها أجراس تقرعها في نهاية الجملة كشعور الإثارة الذي يسببه المهرج.
يلمح فلوبير كثيرا إلى أن السيادة الحرة للفنان (والقارئ أو المتفرج ) هي قوة عاتية. في تحليل بورديو، ابتيعت الحرية عند فلوبير، وتلك الخاصة بالفن الطليعي بوجه عام، مقابل الانفصال الفعلي عن عالم الاقتصاد. كان كتاب بوهيميون آخرون هم السوق الرئيسية وغير الملائمة بصورة فادحة لهذا النمط من الأعمال، وألفت كتب في تحد متعمد للفهم البرجوازي. تشكلت استقلالية الفن من رد فعل ضد كل من المؤلفات البرجوازية الرفيعة والأدب الواقعي المنشغل بالقضايا، وتحقق الاستحسان - إذا كان تحقق على الإطلاق - بعد مرور وقت طويل من الزمن، مع أنماط طليعية جديدة حلت محل القديمة وروضتها. من اليسير رؤية أن شروط تلك الحرية لم تعد موجودة في عالم الفن؛ فالفنانون يشعرون بالراحة في كنف السوق، والأعمال الفنية تصنع للتودد إلى العامة، مع الإبقاء على قدر كاف من الاستقلالية لتعريف الفن على أنه فن، لكن بخلاف ذلك فمعظم الأنماط والموضوعات منغمس فيها، وغالبا ما يأتي النجاح سريعا، أو لا يأتي على الإطلاق.
في مثل هذه الظروف، تتناقص مصداقية حرية الفن وسلطته. من بين الملاحظات الافتتاحية في كتاب «النظرية الجمالية»، قال أدورنو عن الحرية الفنية: «إن الحرية المطلقة في الفن دائما ما تقتصر على شيء خاص؛ مما يتناقض مع غياب الحرية الثابت للكل.» وحتى انمحاء غياب الحرية الأوسع نطاقا هذا، فإن الحريات الخاصة للفن تتخلل الأصابع كالرمال. وفي حين أنها قد تفتح نافذة يوتوبية على عالم أقل ذرائعية، فهي تخدم أيضا دور ذرائع فعالة للاضطهاد. على النقيض من ذلك، تشكل الأعمال التي تحمل فائدة واضحة ضغطا على التناقضات المتأصلة في النظام الفني، وتسعى إلى تحرير نفسها من عبودية رأس المال. إن انتهاك استقلالية الفن الحر يعني رفع أحد أقنعة التجارة الحرة، أو العكس بالعكس، وإذا تقرر هجر التجارة الحرة كنموذج للتطور العالمي، فسيسري ذلك حتما على حليفها؛ وهو الفن الحر.
هوامش
المراجع
الفصل الأول: منطقة حرية؟
Rasheed Araeen,
The Other Story: Afro-Asian Artists in Post-War Britain (London: Hayward Gallery, 1989).
The Art Sales Index:
www.art-sales-index.com .
The Rules of Art: Genesis and Structure of the Literary Field (Cambridge: Polity Press, 1996), p. xiv.
Benjamin Buchloh, 'Critical Reflections’,
Artforum , vol. 35, no. 5, January 1997, pp. 68-9, 102.
Centre Georges Pompidou,
Magiciens de la terre (Paris: Editions de Centre
Douglas Davis, 'Multicultural Wars’,
Art in America , vol. 83, no. 2, February 1995, pp. 35-9, 41, 43, 45.
Jacques Derrida,
Of Grammatology , tr. Gayatri Chakravorty Spivak (Baltimore: Johns Hopkins University Press, 1976), pt. II.
Coco Fusco,
The Bodies That Were Not Ours and Other Writings (London: IVA/Routledge, 2001).
Thelma Golden,
Black Male: Representations of Masculinity in Contemporary American Art (New York: Whitney Museum of American Art, 1994).
Karl Marx and Frederick Engels,
The Communist Manifesto: A Modern Edition (London: Verso, 1998), pp. 39-40.
Julie H. Reiss,
From Margin to Center: The Spaces of Installation Art (Cambridge, Mass.: The MIT Press, 1999).
Justin Rosenberg,
The Follies of Globalisation Theory (London: Verso, 2000).
Donald Sassoon, 'On Cultural Markets’,
New Left Review , new series, no. 17, September/October 2002, pp. 113-26.
Joseph Stiglitz,
Globalization and Its Discontents (London: Allen Lane, 2002).
الفصل الثاني: نظام عالمي جديد
Carol Becker, 'The Romance of Nomadism: A Series of Reflections’,
Art Journal , vol. 58, no. 2, Summer 1999, pp. 22-9 (p. 27).
Alexander Brener, 'Ticket that Exploded’:
http://www.ljudmila.org/interpol/intro2.htm .
Jen Budney, 'Who’s It For? The 2nd Johannesburg Biennale’,
Third Text , no. 42, Spring 1998, pp. 88-94.
Mikhail Bulgakov,
The Heart of a Dog , tr. Mirra Ginsburg (London: Picador, 1990).
Eugenio Valdés Figueroa, 'Trajectories of a Rumour: Cuban Art in the Postwar Period’, in Block (ed.),
Art Cuba: The New Generation , tr. Cola Franzen/Marguerite Feitlowitz (New York: Harry N. Abrams Inc., 2001), p. 20.
Jean Fisher, quoted in Kobena Mercer, 'Ethnicity and Internationality: New British Art and Diaspora-Based Blackness’,
Third Text , no. 49, Winter 1999-2000, pp. 51-62.
Coco Fusco,
The Bodies That Were Not Ours and Other Writings , (London: inIVA/Routledge, 2001), p. 156.
Eduardo Galeano,
Memory of Fire , tr. Cedric Belfrage (London: Quartet Books, 1995).
Hou Hanrou, interviewed in Franklin Sirmans, 'Johannesburg Biennale: Meet the Curators of “Trade Routes: History and Geography”’,
Flash Art , vol. 30, no. 190, October 1997, pp. 78-82 (p. 78).
Fredric Jameson, 'Marxism and Postmodernism’, in
The Cultural Turn: Selected Writings on the Postmodern, 1983-1998 (London: Verso, 1998).
1st Liverpool Biennial of International Contemporary Art: Trace (Liverpool: Liverpool Biennial of International Contemporary Art/Tate Liverpool, 1999).
Rosa Martínez, cited in Carlos Basualdo, 'Launching Site’,
Artforum , vol. 37, no. 10, Summer 1999, pp. 39-40, 42 (p. 39).
Thomas McEvilley, 'Report from Johannesburg: Towards a World-Class City?’,
Art in America , vol. 83, no. 9, September 1995, pp. 45-7, 49.
David McNeill, 'Planet Art: Resistances and Affirmation in the Wake of “9/11”’,
Australian and New Zealand Journal of Art , vol. 3, no. 2, 2002, pp. 11-32.
Charles Merewether, 'Naming Violence in the Work of Doris Salcedo’,
Third Text , no. 24, Autumn 1993, pp. 31-44.
Gao Minglu, 'Extensionality and Intentionality in a Transnational Cultural System’,
Art Journal , vol. 57, no. 4, Winter 1998, pp. 36-9.
Gerardo Mosquera, 'New Cuban Art Y2K’, in Block (ed.),
Art Cuba: The New Generation , tr. Cola Franzen/Marguerite Feitlowitz (New York: Harry N. Abrams Inc., 2001), p. 13.
Moderna Musset,
Organising Freedom: Nordic Art of the '90s (Stockholm, 2000).
Tom Patchett (ed.),
Most Art Sucks: Five Years of Coagula (Santa Monica: Smart Art
Katya Sander and Simon Sheikh (eds.),
We Are All Normal (and We Want Our Freedom): A Collection of Contemporary Nordic Artists’ Writings (London: Black Dog Publishing, 2001), p. 70.
Måns Wrange, 'To Change the World: On Statistical Averages, the Art of Social Engineering and Political Lobbying’, in Sander and Sheikh,
We Are All Normal.
See also
www.averagecitizen.org .
Slavoj Žižek, 'Multiculturalism, or, the Cultural Logic of Multinational Capitalism’,
New Left Review , no. 225, September-October 1997, pp. 28-51.
الفصل الثالث: الثقافة الاستهلاكية
Theodor W. Adorno,
Negative Dialectics , tr. E. B. Ashton (London: Routledge, 1973).
Theodor W. Adorno, 'Free Time’, in
The Culture Industry: Selected Essays on Mass Culture , ed. J. M. Bernstein (London: Routledge, 1991).
Benjamin H. D. Buchloh, 'Moments of History in the Work of Dan Graham’ and 'Parody and Appropriation in Picabia, Pop, and
Neo-Avantgarde and Culture Industry: Essays on European and American Art from 1955 to 1975 , October, Cambridge, Mass. 2000.
Claude Closky,
www.sittes.net/links .
Dallas Museum of Art and Metropolitan Museum of Art, New York,
Thomas Struth, 1977-2002 , Dallas 2002.
Diedrich Diedrichsen, 'The Boundaries of Art Criticism: Academicism, Visualism and Fun’, in Jürgen Bock (ed.),
From Work to Text: Dialogues on Practise and Criticism in Contemporary Art (Lisbon: Fundaçaõ Centro Cultural de Belém, 2002).
Marcel Duchamp, 'Apropos of “Ready-mades”’, in Michel Sanouillet and Elmer Peterson (eds.),
The Essential Writings of Marcel Duchamp (London: Thames and Hudson, 1975).
Thomas Frank and Matt Weiland (eds.),
Commodify Your Dissent: Salvos from The Baffler (New York: W. W. Norton, 1997).
Michael Hardt and Antonio Negri,
Empire (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 2000), p. 150.
Fredric Jameson,
or, the Cultural Logic of Late Capitalism (London: Verso, 1991), chapter 1.
Naomi Klein,
No Logo: Taking Aim at the Brand Bullies (London: Flamingo, 2000).
Fernand Léger, 'The Machine Aesthetic: The Manufactured Object, the Artisan, and the Artist’ (1924), in
Functions of Painting , ed. Edward F. Fry (London: Thames and Hudson, 1973).
Karl Marx,
Grundrisse: Foundations of the Critique of Political Economy (Rough Draft) , tr. Martin Nicolaus (Harmondsworth, Middlesex: Penguin Books, 1973).
Karl Marx,
Capital: A Critique of
, Volume I, tr. Ben Fowkes (Harmondsworth, Middlesex: Penguin Books, 1976), pp. 176-7.
Vladimir Mayakovsky, 'Broadening the Verbal Basis’,
Lef , no. 10, 1927; reprinted in Anna Lawton, (ed.),
Russian Futurism through Its Manifestoes, 1912-1928 (Ithaca, NY: Cornell University Press, 1988).
Martha Rosler, 'Video: Shedding the Utopian Moment’, in Doug Hall and Sally Jo Fifer (eds.),
Illuminating Video: An Essential Guide to Video Art (New York: Aperture/Bay Area Video Coalition, 1990), p. 49.
Dan Schiller,
Digital Capitalism: Networking the Global Market System (Cambridge, Mass.: The MIT Press, 1999).
Susan Sontag, 'Notes on “Camp”’, in
Against Interpretation [1961] (London: Vintage, 1994).
Tate Liverpool,
Shopping: A Century of Art and Consumer Culture , ed. Christoph Grunenberg/Max Hollein (Ostfildern-Ruit: Hatje Cantz Publishers, 2002).
Walker Art Center,
Let’s Entertain: Life’s Guilty Pleasures (Minneapolis, 2000).
Andy Warhol,
The Philosophy of Andy Warhol (From A to B & Back Again) (New York: Harcourt, Brace, Jovanovich, 1975).
Renate Wiehager (ed.),
Sylvie Fleury (Osfildern-Ruit: Cantz, 1999).
Joann Wypijewski,
Numbers: Komar and Melamid’s Scientific Guide to Art (New York: Farrar, Straus, and Giroux, 1997).
الفصل الرابع: استخدامات الفن وأسعاره
Hans Abbing,
Why Are Artists
(Amsterdam: Amsterdam University Press, 2002), p. 286.
Alexander Alberro,
Conceptual Art and the Politics of Publicity (Cambridge, Mass.: The MIT Press, 2003).
Walter Benjamin,
The Arcades
, tr. Howard Eiland and Kevin McLaughlin (Cambridge, Mass.: The Belknap Press of Harvard University Press, 1999).
Ernst Bloch,
The Utopian Function of Art and Literature: Selected Essays , tr. Jack Zipes/Frank Mecklenburg (Cambridge, Mass.: The MIT Press, 1988), p. 187.
The Love of Art: European Art Museums and Their
, tr. Caroline Beattie/Nick Merriman (Cambridge: Polity Press, 1991).
Kim Bradley, 'The Deal of the Century’,
Art in America , vol. 85, no. 7, July 1997, pp. 48-55, 105-6.
Robert Brenner,
The Boom and the Bubble: The US in the Global Economy (London: Verso, 2001).
Benjamin Buchloh, 'Critical Reflections’,
Artforum , vol. 35, no. 5, January 1997, pp. 68-9, 102.
Timothy Cone, 'Regulating the Art Market’,
Arts Magazine , vol. 64, no. 7, March 1990, pp. 21-2.
Neil Cummings and Marysia Lewandowska,
The Value of Things (Basel: Birkhäuser, 2000).
Deutsche Guggenheim,
Jeff Koons: Easyfun and Ethereal (Berlin, 2000), p. 56.
Adrian Ellis, 'Museum Boom Will Be Followed by Bust’,
The Art Newspaper , no. 116, July-August 2001, p. 14.
Coco Fusco,
The Bodies That Were Not Ours and Other Writings (London: inIVA/Routledge, 2001).
Liam Gillick,
Literally No Place: Communes, Bars and Greenrooms (London: Book Works, 2002).
Kassel, Internationale Austellung,
Documenta IX (Stuttgart: Edition Cantz, 1992).
Naomi Klein,
No Logo: Taking Aim at the Brand Bullies (London: Flamingo, 2000).
Niklas Luhmann,
Art as a Social System , tr. Eva M. Knodt (Stanford: Stanford University Press, 2000), p. 145.
Cynthia MacMullin, 'The Influence of Bi-Nationalism on the Art and Economy of Contemporary Mexico’, in Deichtorhallen Hamburg,
Art and Economy , ed. Zdenek Felix/Beate Hentschel/Dirk Luckow (Ostfildern-Ruit: Hatje Cantz, 2002).
Neil De Marchi and Craufurd D. W. Goodwin,
Economic Engagements with Art (Durham, NC: Duke University Press, 1999).
Mark W. Rectanus,
Culture Incorporated: Museums, Artists and Corporate Sponsorships (Minneapolis: University of Minnesota
Howard Singerman,
Art Subjects: Making Artists in the American University (Berkeley: University of California Press, 1999).
Leo Steinberg,
Other Criteria: Confrontations with Twentieth-Century Art (New York: Oxford University Press, 1972).
Modern Art Market (London: Hutchinson, 1992).
Whitechapel Art Gallery,
Liam Gillick: The Wood Way (London, 2002), p. 5.
Chin-tao Wu,
Corporate Art Intervention since the 1980s (London: Verso, 2001).
الفصل الخامس: قواعد الفن الآن
The Rules of Art: Genesis and Structure of the Literary Field (Cambridge: Polity Press, 1996).
Arthur C. Danto,
After the End of Art: Contemporary Art and the Pale of History (Princeton, NJ: Princeton University Press, 1997) .
Diedrich Diedrichsen, 'The Boundaries of Art Criticism: Academicism, Visualism and Fun’, in Jürgen Bock (ed.),
From Work to Text: Dialogues on Practise and Criticism in Contemporary Art (Lisbon: Fundaçaõ Centro Cultural de Belém, 2002).
Hal Foster,
Design and Crime (and Other Diatribes) (London: Verso, 2002), pp. 124, 12, and 15.
Francis Fukuyama,
The End of History and the Last Man (New York: The Free Press, 1992).
Renée Green, 'Introductory Notes of a Reader and “A Contemporary Moment”’, in Jürgen Bock (ed.),
From Work to Text , p. 248.
Dave Hickey,
Air Guitar: Essays on Art and Democracy (Los Angeles: Art Issues Press, 1997), pp. 21, 71, and 107.
Dave Hickey (curator),
Beau Monde: Toward a Redeemed Cosmopolitanism (Site Santa Fe’s Fourth International Biennial, 2002), p. 79.
David Hume, 'An Inquiry Concerning Human Understanding’, in
On Human Nature and the Understanding , ed. Antony Flew (London: Collier, 1962).
Thomas McEvilley,
Art and Otherness: Crisis in Cultural Identity (Documentext/McPherson, 1992), pp. 12 and 145.
Museum of Modern Art, 'Primitivism’ in Twentieth Century Art: Affinity of the Tribal and the Modern (New York, 1984).
Meyer Schapiro, 'The Sculptures of Souillac’, in
Medieval Studies in Memory of A. Kingsley Porter , ed. Wilhelm R. W. Koehler (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1939).
Howard Singerman,
Art Subjects: Making Artists in the American University (Berkeley: University of California Press, 1999), p. 186.
Robert Venturi, Denise Scott Brown, and Steven Izenour,
Learning from Las Vegas: The Forgotten Symbolism of Architectural Form (Cambridge, Mass.: The MIT Press, 1977).
Art and Fear , tr. Julie Rose (London: Continuum, 2003).
الفصل السادس: تناقضات
Theodor W. Adorno,
Aesthetic Theory , tr. Robert Hullot-Kentor (Minneapolis: University of Minnesota Press, 1997).
Matthew Arnatt and Matthew Collings,
Documenta 11 (London: Artswords Press, 2002), pp. 10-11 and 12.
Rachel Baker:
http://www.irational.org/tm/archived/tesco/front2.html
Walter Benjamin, 'The Author as Producer’ (1934), in
Selected Writings, Volume 2, 1927-1934 , ed. Michael W. Jennings, Howard Eiland, and Gary Smith (Cambridge, Mass.: The Belknap Press of Harvard University Press, 1999).
The Rules of Art: Genesis and Structure of the Literary Field (Cambridge: Polity Press, 1996), p. 26.
Nicolas Bourriaud,
Relational Aesthetics , tr. Simon Pleasance/Fronza Woods (Dijon: Les Presses du réel, 2002).
Benjamin H. D. Buchloh,
Neo-Avantgarde and Culture Industry: Essays on European and American Art from 1955 to 1975 , October, Cambridge, Mass., 2000, p. 198.
Alexander Cockburn, Jeffrey St Clair, and Allan Sekula,
Five Days that Shook the World: Seattle and Beyond (London: Verso, 2000), p. 122.
Digital Hijack:
http://146.228.204.72:8080/ .
eToys dispute:
http://www.toywar.com/ .
http://name.space.xs2.net/ .
Serge Guilbaut,
How New York Stole the Idea of Modern Art: Abstract Expressionism, Freedom, and the Cold War , tr. Arthur Goldhammer (Chicago: University of Chicago Press, 1983).
Michael Hardt and Antonio Negri,
Empire (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 2000).
Karl Marx and Friedrich Engels,
The German Ideology (Amherst, NY: Prometheus Books, 1998).
Leo Steinberg,
Other Criteria: Confrontations with Twentieth-century Art (New York: Oxford University Press, 1972), p. xv.
Art and Fear , tr. Julie Rose (London: Continuum, 2003).
صفحة غير معروفة