وما كان لنا أن نمضي في هذا البحث من غير أن نمهد له بتعريف أولي يتناول نظرية المعرفة عند القورينيين، على الرغم من أننا سوف لا نتناول نظريتهم بالشرح إلا بعد أن نفرغ من الكلام في أرسطبس وأفلاطون، ثم من الكلام في أرسطبس وأرسطوطاليس، غير أن ضرورة التعريف بهذه النظرية في هذا الموطن يلجئنا إلى الإيجاز في شرحها، لنبقي على البيان والإفاضة إلى محلهما من البحث.
ويكفي هنا أن نعرف أن مذهب أرسطبس لم يزود الفكر الإنساني بنظرية فذة في الأخلاق لا غير، بل وضع نظرية في المعرفة
Theory of Knowledge
دعمها أرسطبس، وتوسع فيها خلفاؤه، فكان لها أكبر الأثر في كل ما ظهر من صور الفكر الفلسفي على مدار العصور.
أما المحصل من هذه النظرية فيكفي أن نعرف منه أن القورينيين كانوا يقيمون نظريتهم في المعرفة على قاعدة بسيطة تنحصر في قولهم: «إن الأساليب أو الكيفيات التي نتأثر بها هي وحدها التي يمكن معرفتها.» ولما كانت هذه القاعدة هي لب النظرية، كفى أن نقول فيها إن القورينيين مضوا في شرحها مستعينين بكل ما يخطر ببالك من المثل التي تستمد من إدراك الحس، فهم يقولون بأننا لا نعرف أن «العسل» حلو، وأن «الطباشير» أبيض، وأن «النار» تحرق، وأن «السكين» تقطع، وإنما نعرف من هذه الأشياء وأمثالها حالات الشعور التي نشعر بها؛ أي إن لنا إحساسا بالحلاوة، وآخر بالبياض، وثالثا بالحرق، ورابعا بالقطع وهكذا، وإن هذه الحواس هي طريقنا إلى المعرفة؛ أي إننا إنما نعرف الآثار التي تتركها فينا الأشياء من طريق الحواس، لا ما هي حقيقة الأشياء في ذاتها.
وهنا يجدر بنا أن نعرف أصل حوار ثياطيطوس، وإنما نستطرد في هذا خاصة؛ لأننا سنحتاج إلى معرفته في شرح نظرية المعرفة عند القورينيين فيما بعد.
ثياطيطوس شاب من نبغاء اليونان برز في الرياضيات والعلوم، جرح في إحدى المواقع الحربية في حصار من حول مدينة قورنثية ومرض في المعسكر مرضا مميتا، فأبدى رغبته في أن يحدث به حدث الموت في وطنه؛ ولهذا نقل إلى ثغر ميغارة حيث قابله إقليدس الميغاري، فتحدث إقليدس في شأنه مع صديقه «طرفزيون
Terpsion » - وهو أيضا من تلاميذ سقراط - مبديا أسفه على أن تفقد بلاد اليونان نابغة مثل ثياطيطوس، وجرهم الكلام إلى ذكر حديث اشترك فيه سقراط والرياضي ثيوذورس القوريني وتلميذه ثياطيطوس، أشاد فيه سقراط بالمواهب السامية التي أبداها التلميذ الشاب وعلائم النجابة والنبوغ التي آنسها فيه، وأراد إقليدس أن يرافق الجريح حتى إذا قطع جزءا من الطريق ناله النصب من عناء السفر، فاستقر رأيه على أن يستريح بعد طول الشقة التي قطعها ماشيا، وهنالك وافاه طرفزيون، وكان قد عاد من الريف، فانتهز طرفزيون هذه الفرصة ورغب في أن يسمع تفاصيل ذلك الحديث الذي ألمعنا إليه، فأجابه إقليدس إلى طلبه، وأمر عبدا كان يرافقه أن يقرأ عليهم نص الحوار.
والذي يعنينا من أمر هذا الحديث ما يتعلق منه بمناقشة نظرية المعرفة التي قال بها القورينيون. لهذا نترك كل التفاصيل الأخرى بعد أن مهدنا بالتعريف عن أصل الحوار، لنستخلص من هذا الكتاب مجمل النقود التي وجهها أفلاطون إلى النظرية القورينية في المعرفة على أن نذكر دائما أن هذا الكتاب يعد في مقدمة كتب أفلاطون قوة تفكير ومتانة أسلوب، إذ جمع فيه بين خيال الشاعر ودقة المنطيق، وحيطة الفيلسوف، وفن المنشئ.
يبدأ الحوار بسؤال يوجه إلى ثياطيطوس وجواب يرد به ثياطيطوس على السؤال، وعلى السؤال والجواب يبنى الحوار وتقوم المناقشة، أما السؤال «فما هي المعرفة؟» وأما جواب ثياطيطوس فهو أن «المعرفة هي الإدراك».
صفحة غير معروفة