ونحن إذا اضطررنا إلى الكلام في علاقة هذا المذهب بنواحي الفلسفة الأخلاقية عند اليونان، فإنما نقصد إلى البيان عن تلاقح المذاهب من ناحية، وإلى شرح الملابسات التي تصحب ذيوع المذاهب من نقد وتقرير من ناحية أخرى.
ففي كتاب «فليبوس» حاول أفلاطون - ولا يغيب عنا أنه أحد أخدان أرسطبس في التلمذة على سقراط - أن يضع فواصل بين اللذائذ الحقيقية واللذائذ الخيالية، فكأنه حاول بذلك أن يضع قاعدة جديدة لمذهب اللذة من ناحية، وأن يضع تقسيما للذائذ من ناحية أخرى، على الضد مما ذهب إليه القورينيون، بل حاول أن يجعل تقسيمه للذائذ لا يتناول الكم والكيف وحدهما، بل يتناول تصور اللذائذ وحقائقها، ثم إنك تجده يحاول بعد ذلك أن يضع مذهبا جديدا في الفكرات فيقسمها على غرار التقسيم الذي وضعه للذائذ، ويقضي بأن هنالك فكرات حقيقية وفكرات خيالية.
فكان من ذلك شعبة جديدة من شعب المذهب الأفلاطوني العظيم، وفي كتابه «بروطاغوراس» تأثر كل التأثر بالمذهب القوريني القائل بأن الحياة فن، وأن فن الحياة عبارة عن ضرب من الأقيسة والاستنتاجات الهادئة.
وفي كتابه «ثياطيطوس» تناول مناقشة النظرية القورينية في المعرفة، وحاول نقضها ، أما في كتابه «غورغياس» فقد هاجم النظرية الهيدونية كما وضعها أرسطبس، فكان ضعيفا مضطربا بعد عن موازناته الهادئة، وتقديراته الرياضية. وسننظر في هذا كله عند موضعه من البحث.
ولقد يحسن بنا أن نشير هنا إلى أن الكلام في مناقشة أفلاطون لنظرية المعرفة عند القورينيين في هذا الموطن من البحث؛ سابق لأوانه، وكان الواجب أن نبقى على هذا حتى نتناول نظرية القورينيين في «المعرفة» أولا، ولكن الحاجة تلجئنا إلى الكلام في هذا المبحث لسببين: الأول: أننا نتكلم عن أفلاطون والمذهب القوريني، فالواجب أن نجمل القول في ذلك. والثاني: أننا سوف نمضي في مقارنات نتناول فيها نظرية المعرفة عند القورينيين وعند أفلاطون. وهذا سنبقي عليه حتى نصل إلى موطنه من البحث.
أرسطبس وأفلاطون في كتابه «ثياطيطوس»
أشرنا عند الكلام في «أريطي وأرسطبس الصغير وغيرهما» (في الفصل الثالث) إلى أن النظرية القورينية في «المعرفة» قد ثبتت في عقل أفلاطون، وحاول نقضها في كتابه «ثياطيطوس
Theatetus »، وعلى الرغم من أننا نكاد نؤمن بأن أفلاطون لم يتطلع في كتابه هذا إلى رفض نظرية ما في المعرفة، إلا النظرية القورينية، فإن أفلاطون لم يذكر اسم أرسطبس، ولا أشار إلى النظرية القورينية في «المعرفة»، كما فعل تلميذه أرسطوطاليس من بعده لدى نقده نظرية الأخلاق القورينية في كتابه «الأخلاق». ولعل إهمال هذين العلمين ذكر أرسطبس فيما كتبا وفيما تناولا من أوجه المذهب القوريني نقدا وإثباتا؛ كان السبب الأول في أن العرب لم يعرفوا من أمر أرسطبس شيئا يعتد به، حتى إن ابن القفطي في كتابه الصغير «تاريخ الحكماء» لم يترجم عن حياته إلا ترجمة قصيرة، لا تدل على أثر من المعرفة بحقيقة مذهبه، مع أنه ترجم لرجال من اليونان كان يفخر كثير منهم أن يكونوا من تلاميذ أرسطبس، باستفاضة وبيان.
4
ولا شك عندي في أن معرفة العرب باليونان كانت في أكثر الأمر عن طريق أرسطوطاليس وأفلاطون؛ لأن أفلاطون «الإلهي» - كما كانوا ينعتونه - محبب إلى نزعاتهم، ولأن أرسطوطاليس «المعلم الأول» - كما عرفوه - كان بمنطقه الاستنتاجي أكبر معوان على تقرير مسائل الجدل والكلام، والراجح أن العرب ورثوا هذه النزعة عن السريان الذين نقل عنهم العرب في أكثر الأمر أعمال اليونان.
صفحة غير معروفة