ولما هجر اليهود الأندلس إلى بروفنسيا والأقاليم المتاخمة لجبال البيرينة فرارا من الاضطهاد وخالطوا جماعات الإفرنج في بلادهم هجروا اللغة العربية التي كانوا يكتبون ويؤلفون بها، وشعروا بالحاجة إلى ترجمة كتبهم الفلسفية السابقة إلى اللغة العبرانية. فأخذوا منذ ذلك الحين في هذا العمل. وأول من شرع منهم فيه أسرة تدعى أسرة طيبون، أصلها من الأندلس، وقد هاجرت منها إلى لونل في فرنسا. فترجم اثنان من رجالها وهما موسى بن طيبون وصموئيل بن طيبون بعض تلاخيص ابن رشد في فلسفة أرسطو. فكانا أول مترجمي فلسفة ابن رشد إلى لغة أجنبية. وكان الإمبراطور فردريك الثاني - إمبراطور ألمانيا - من محبي نشر الفلسفة ومحالفي الإسلام والمسلمين على الأكليروس المسيحي، كما سيرد تفصيل ذلك، فعهد إلى كثيرين من كتبة اليهود في إخراج فلسفة العرب إلى اللغة العبرانية واللغة اللاتينية. وكان يهوذا بن سليمان كوهين الطليطلي من مقربيه؛ فألف له في سنة 1247م كتابا سماه (طلب الحكمة) واعتمد فيه على ابن رشد. فكان هذا الكتاب في مقدمة كتب ابن رشد التي صدرت باللغة العبرانية.
ومن الكتاب الذين عهد إليهم الإمبراطور فردريك ترجمة فلسفة العرب، مؤلف يهودي من بروفنسيا كان مقيما في نابولي، وهو يدعى يعقوب بن أبي مريم بن أبي شمشون أنتولي. وكان هذا الكاتب صهرا لعائلة طيبون التي تقدم ذكرها. فترجم للإمبراطور في حوالي سنة 1232 عدة كتب من تأليف ابن رشد، وقد أثنى في خاتمة أحدها ثناء عظيما على الإمبراطور، وتمنى لو يظهر المسيح (أي المسيح الذي ينتظره اليهود) في عهده. ذلك لأن هذا الإمبراطور كان مقاوما للأكليروس المسيحي كما تقدم.
ثم قام بعد ذلك كالونيم بن كالونيم بن مير من مدينة أرل الذي ولد في سنة 1287 وأخذ يترجم كتب ابن رشد إلى اللغة العبرانية. وقد كان هذا الكاتب يعرف اللغة اللاتينية؛ فترجم إليها كتاب (تهافت التهافت) في عام 1328 ثم قام بعده عدة مترجمين.
وهكذا لم يأت القرن الرابع عشر حتى بلغت فلسفة ابن رشد عند اليهود أعلى منزلة. ومما زاد في رفعة سلطانها قيام فيلسوف يهودي يدعى «لاوي بن جرشون» من مدينة بانيول، وهو معروف عند الإفرنج باسم «لاون الأفريقي» فهذا الفيلسوف كان أكبر فلاسفة اليهود في عصره، وقد صنع بفلسفة ابن رشد ما صنعه ابن رشد بفلسفة أرسطو. أي أنه شرح فلسفة ابن رشد شرحا تاما، حتى صار شرحه هذا قرينا لفلسفة ابن رشد، كما كان شرح ابن رشد قرينا لفلسفة أرسطو. وذلك يدل على أن العصور الماضية كانت تؤثر التلخيص على التطويل. ولا غرابة في ذلك؛ فإن الملخص الماهر إنما هو بمثابة الغائص على الدرر واللآلئ، يلتقط الأنفس فالأنفس، ويترك الحشو الممل، الذي كان ضروريا في زمنه، وليس بضروري في كل زمان.
وكان هذا الفيلسوف (لاون) أجرأ فلاسفة اليهود الذين تقدموه. فأقدم على ما أحجم عنه موسى ميمون (زعيم فلسفة ابن رشد) فقال بقدم العالم وأزلية المادة وباستحالة إمكان الخلق من لا شيء وبأن النبوءة قوة من القوة الإنسانية الطبيعية . وبذلك لوى قواعد الشريعة اليهودية ليطبقها على العلم وجعلها تابعة له. وكان موسى نربون في ذلك الزمن يفعل فعل لاوي جرشون في الفلسفة.
ولكن لم يأت القرن الخامس عشر حتى ضعفت الفلسفة اليهودية وذهب دور الجرأة والجسارة في العلم والفلسفة. وكان آخر فلاسفة اليهود المشهورين إلياس دل مديجو الذي كان أستاذا في كلية بادو. وكانت كلية بادو تدرس يومئذ فلسفة أرسطو، فامتزجت يومئذ فلسفة اليهود الرشدية بفلسفة بادو المبنية على المبادئ العربية. قال رنان: وقد تحققت إن هذه المدرسة تدرس إلى هذا الزمن كتابا لابن رشد في مختصر المنطق نشر في ريفادي ترنتو باللغة اللاتينية في عام 1560.
وفي أوائل القرن السادس عشر انتبه حزب التقاليد الدينية اليهودية من سباته، وأعاد الكرة على الفلسفة. فنشر أحد رجاله وهو ربي موسى المشنيو كتاب (تهافت الفلاسفة) للإمام الغزالي، وذلك حوالي عام 1538 ردا على فلاسفة اليهود الذين كانوا يؤيدون فلسفة ابن رشد وأرسطو. ثم ضعفت هذه الفلسفة شيئا فشيئا بإزاء الفلسفة الحديثة التي أخذت تحل محلها. فمن ذلك يظهر أن الفلسفة الرشدية لولا اليهود لانطفأ نورها في العالم كما انطفأ في الأندلس ولم تصل إلى الأمم الأوروبية. ولذلك كان لليهود فضل على الفلسفة لا ينكر. وكان شأنهم بين العرب وأوروبا شأن النساطرة والسريان بين اليونان والعرب. فكأن العرب أخذوا من اليونان بأيد سريانية نسطورية، وأعطوا أوروبا بأيد يهودية.
الفلسفة الرشدية وتاريخها في أوروبا
(تمهيد في ترجمة الإفرنج الكتب العربية)
قد يؤخذ من الأسطر السابقة أنه لولا اليهود لما انتشرت فلسفة ابن رشد في أوروبا. والحقيقة أن هذا الانقطاع والاختصاص لا وجود لهما في الطبيعة. فإن فكر البشر بمثابة فضاء لا نهاية له، تتراوح فيه كل النسمات التي تحرك أمواج هوائه. فإذا لم تصل هذه الأمواج بهذه الواسطة وصلت بتلك، إذ ليس في استطاعة أحد أن يوقف وصولها إلى الحد الذي رسمته لها اليد الأزلية بالأسباب الأزلية التي تدير النظام الأزلي. فلو لم يقم اليهود بنقل فلسفة ابن رشد إلى أوروبا لقام غيرهم، أي الذين يكونون في مكانهم؛ لأن الفراغ مستحيل في النواميس الطبيعية.
صفحة غير معروفة