في فلسفة ابن رشد
شرح الفقرات السابقة
الفلسفة الرشدية عند اليهود
الفلسفة الرشدية وتاريخها في أوروبا
ناشرو الفلسفة الرشدية في أوروبا ومعارضوها
القديس توما
الرهبان الفرنسيسكان
انتصار الفلسفة الرشدية
الفلسفة اليونانية
الفلسفة الحديثة
في فلسفة ابن رشد
شرح الفقرات السابقة
الفلسفة الرشدية عند اليهود
الفلسفة الرشدية وتاريخها في أوروبا
ناشرو الفلسفة الرشدية في أوروبا ومعارضوها
القديس توما
الرهبان الفرنسيسكان
انتصار الفلسفة الرشدية
الفلسفة اليونانية
الفلسفة الحديثة
فلسفة ابن رشد
فلسفة ابن رشد
تأليف
فرح أنطون
في فلسفة ابن رشد
(وفيها أهم آرائه وتعاليمه، وبيان مذهبه المبني على مذهب أرسطو)
قبل الدخول في فلسفة ابن رشد لبسط مبادئها وقواعدها بسطا وافيا كافيا، نرى من الواجب أن ننشر هنا الخلاصة الوجيزة التي نشرناها في الجامعة عن فلسفته في أثناء ترجمته، وكانت السبب في رد الأستاذ، ومتى فرغنا منها هنا عدنا إلى الإسهاب في كل فقرة منها لإيضاحها إيضاحا لا يبقى معه مجال للإشكال إن شاء الله. وبذلك نكون قد شرحنا فلسفة الفيلسوف شرحا مسهبا. وهذا نص هذه الخلاصة بحسب ترتيبها في الجامعة
الفقرة (1) فلسفة المتكلمين
قبل إيضاح
1
فلسفة ابن رشد نأتي على آراء المتكلمين «الذين عارضوها» إذ في هذه المقابلة تمام الفائدة «إن المتكلمين - أي علماء الكلام - في الدين الإسلامي (وهم الذين يدافعون عن الإسلام بموجب شريعته) قد وضعوا فلسفة خاصة بهم. وربما لم يكن من الصواب أن تدعى تعاليمهم فلسفة؛ لأنها عبارة عن مباحث دينية محضة، ولكن كل ما جرى فيه كلام عن الخالق عز وجل، وعالم الغيب وما وراء الطبيعة؛ فهو فلسفة. ومن المعلوم أن كلمة فلسفة يونانية الأصل وهي مشتقة من كلمتين: (فيلوس) ومعناها (محبة) وسوفيا ومعناها (الحكمة)، فالفلسفة معناها إذن (محبة الحكمة). وهل في عالم الفكر - الذي هو أشرف العوالم شيء - يستحق أن يسمى حكمة غير البحث في أصل الحكمة ومصدرها الأعلى.»
ففلسفة المتكلمين هذه مبنية على أمرين: الأول حدوث المادة في الكون أي وجودها بخلق خالق. والثاني وجود خالق مطلق التصرف في الكون ومنفصل عنه ومدبر له . وبما أن الخالق مطلق التصرف في كونه فلا تسأل إذن عن السبب، إذا حدث في الكون شيء؛ لأن الخالق نفسه هو السبب وليس من سبب سواه. إذن فلا يلزم عن ذلك قطعيا أن يكون بين حوادث الكون روابط وعلائق، وكان ينتج بعضها عن بعض؛ لأن هذه الحوادث قد تحدث بأمر الخالق وحده. وفي الإمكان أن يكون العالم بصورة غير الصورة المصور بها الآن، وذلك بقدرة هذا الخالق.
الفقرة (2) رأي ابن رشد في المادة وخلق العالم
أما فلسفة ابن رشد فإنها تناقض الفلسفة التي تقدمت وإليك خلاصة منها «إن أعظم المسائل التي شغلت حكيم قرطبة مسألة أصل الكائنات. وهو يرى في ذلك رأي أرسطو. فيقول: إن كل فعل يفضي إلى خلق شيء إنما هو عبارة عن حركة. والحركة تقتضي شيئا لتحركه ويتم فيه بواسطتها فعل الخلق. وهذا الشيء هو في رأيه المادة الأصلية التي صنعت الكائنات منها، ولكن ما هي هذه المادة؟ هل شيء قابل للانفعال ولا حد له ولا اسم ولا وصف. «بل هي ضرب من الافتراض لا بد منه ولا غنى عنه». وبناء عليه يكون كل جسم أبديا بسبب مادته، أي أنه لا يتلاشى أبدا، لأن مادته لا تتلاشى أبدا. وكل أمر يمكن انتقاله من حيز القوة إلى حيز العمل لا بد له من هذا الانتقال، وإلا حدث فراغ ووقوف في الكون. وعلى ذلك تكون الحركة مستمرة في العالم، ولولا هذه الحركة المستمرة، لما حدثت التحولات المتتالية الواجبة لخلق العالم، بل لما حدث شيء قط. وبناء عليه، فالمحرك الأول الذي هو مصدر القوة والفعل «أي الخالق سبحانه وتعالى» يكون غير مختار في فعله.»
الفقرة (3) اتصال الكون بالخالق
هذا فيما يختص بخلق العالم وهو مذهب قريب جدا من مذاهب الماديين كما ترى، ولكن كيف يستولي المحرك الأول على الكون ويدبره.
لابن رشد في ذلك تمثيل يدل على حقيقة مذهبه في هذه المسألة الخطيرة. فإنه يشبه حكومة الكون أي تدبيره بحكومة المدينة. فإنه كما أن كل شئون المدينة تتفرق وتتجه إلى نقطة واحدة وهي نقطة الحاكم العام فيها فيكون هذا الحاكم مصدرا لكل شئون الحكومة، ولو لم تكن له يد في كل شأن من هذه الشئون. كذلك الخالق في الأكوان فإنه نقطة دائرتها ومصدر القوات التي تدبرها، وإن لم يكن له دخل مباشرة في كل جزء من هذه القوات. فبناء على ذلك لا يكون للكون «اتصال» بالخالق مباشرة، وإنما هذا الاتصال يكون للعقل الأول وحده. وهذا العقل الأول هو عبارة عن المصدر الذي تصدر عنه القوة للكواكب. وعلى ذلك فالسماء في رأي فيلسوف قرطبة كون حي بل أشرف الأحياء والكائنات. وهي مؤلفة في رأيه من عدة دوائر يعتبرها أعضاء أصلية للحياة. والنجوم والكواكب تدور في هذه الدوائر. أما العقل الأول الذي منه قوتها وحياتها؛ فهو في قلب هذه الدوائر. ولكل دائرة منها عقل أي قوة تعرف بها طريقها، كما أن للإنسان عقلا يعرف به طريقه. وهذه العقول الكثيرة المرتبطة بعضها ببعض والتي تلي بعضها بعضا محكومة بعضها ببعض، إنما هي عبارة عن سلسلة من مصادر القوة التي تحدث الحركة من الطبقة الأولى في السماء إلى أرضنا هذه. وهي عالمة بنفسها وبما يجري في الدوائر السفلى البعيدة عنها. وبناء على ذلك يكون للعقل الأول، الذي هو مصدر كل هذه الحركات علم بكل ما يحدث في العالم.
الفقرة (4) الاتصال
وإن قيل ما هي علاقة الإنسان بالخالق..؟ فالجواب عن ذلك يأخذه ابن رشد - أيضا - عن أرسطو من الفصل الثالث من كتابه «النفس». وخلاصة ذلك أن في الكون عقلا فاعلا وعقلا منفعلا. فالعقل الفاعل هو عقل عام مستقل عن جسم الإنسان وغير قابل للامتزاج بالمادة. وأما العقل المنفعل؛ فهو عقل خاص قابل للفناء والتلاشي مثل باقي قوى النفس. وإنما يقع العلم والمعرفة باتحاد هذين العقلين. ذلك أن العقل المنفعل يميل دائما للاتحاد بالعقل الفاعل، كما أن القوة تقتضي مادة تنفذ فيها والمادة تقتضي شكلا توضع به. وأول نتيجة تحل من هذا الاتحاد تدعى العقل المكتسب، ولكن قد تتحد النفس البشرية بالعقل العام اتحادا أشد من هذا، فيكون هذا الاتحاد عبارة عن امتزاجها جد الامتزاج بالعقل القديم الأزلي. ولا يتم هذا الاتحاد بواسطة العقل الاكتسابي الذي تقدم ذكره، فإنما وظيفة العقل الاكتسابي إيصاله إلى حرم الخالق الأزلي دون أن يدغمه به. وأما إدغامه واتصاله به فذلك أمر لا يتم إلا بطريق «العلم». فالعلم إذن هو سبب «الاتصال» بين الخالق والمخلوق. ولا طريق غير هذا الطريق. ومتى اتصل الإنسان بالله يتصل الإنسان بالله؟ يتصل به بأن ينقطع إلى الدرس والبحث والتنقيب، ويخرق بنظره حجب الأسرار التي تكتنف الكون، فإنه متى خرق هذا الحجاب ووقف على كنه الأمور، وجد نفسه وجها لوجه أمام الحقيقة الأبدية.
أما المتصوفة فإنهم يقولون إن «الاتصال» يتم بواسطة الصلاة والتأمل والتجرد، وليس العلم ضروريا له.
وبناء على ذلك تكون فلسفة صاحب الترجمة عبارة عن مذهب مادي قاعدته العلم. والكون في رأيه كما مر بك إنما صنع بقوة مبادئ قديمة مستقلة محكومة بعضها ببعض، وكلها مرتبطة ارتباطا مبهما بقوة عليا. ومن هذه المبادئ شيء يستولي على العالم، ويضع فيه العقل؛ فهو عقل الإنسانية، وهذا الشيء الذي يسميه عقلا - أيضا - هو عقل ثابت لا يتغير أي أنه لا يتقدم ولا يتأخر، لا يزيد ولا ينقص. والناس يشتركون فيه، ويستمدون منه بكميات متباينة. على أن من كان منهم أكثر استمدادا منه كان أقرب إلى الكمال والسعادة.
الفقرة (5) الخلود
ولكن هل إن نفس الإنسان خالدة أم لا في هذا المذهب؟ وهل كان ابن رشد يعتقد بحياة ثانية؟
ربما كان لابن رشد جوابان على هذه المسألة الخطيرة التي هي الآن دعامة عظيمة من دعائم الإنسانية. فإنما في أثناء مطالعاتنا لبعض كتبه قبل الإقدام على ترجمته، رأينا له في عدة مواضع كلاما يدل أصرح دلالة على اعتقاده بالحياة الثانية حتى بالعقاب والثواب - أيضا - فعجبنا كل العجب من تكفير الناس رجلا يرى هذا الرأي، ولكننا لما وصلنا إلى مذهبه الفلسفي، ورأينا متابعته لأرسطو فيما يختص باعتقاده بالنفس وخلق الكون تغير وجه المسألة. ذلك أن ابن رشد كان يكتب هنالك كرجل مؤمن خاضع لتقاليد آبائه وأجداده؛ فهو يكتب بقلبه لا بعقله. أما عند بحثه بالعقل عن مصدر العقل وعلة العلل؛ فقد كان يكتب كفيلسوف يدخل بجرأة الأسد إلى كهف الحقيقة المحجبة ولا يبالي. ولذلك قلنا إنه ربما كان له في ذلك جوابان:
أما الجواب الأول فيما يختص بالعقاب والثواب؛ فهو قول مشهور، وإنما يزيد عليه ابن رشد وجوب التأويل. وأما جوابه الثاني أي الجواب الفلسفي الذي طلبه بالعقل دون سواه فإليك خلاصته:
قال: «إن العقل الفاعل العام الذي تقدم ذكره من صفاته أنه مستقل ومنفصل عن المادة، وغير قابل للفناء والملاشاة. والعقل الخاص المنفعل من صفاته الفناء مع جسم الإنسان. وبناء عليه يكون العقل العام الفاعل خالدا والعقل المنفعل فانيا، ولكن ما هو العقل الفاعل العام، الذي هو خالد في رأي ابن رشد؟ إن هذا العقل الخالد هو العقل المشترك بين الإنسانية. فالإنسانية إذن هي خالدة وحدها دون سواها. وبناء على ذلك لا يكون بعد الموت حياة فردية، ولا شيء مما يقوله العامة عن الحياة الثانية.»
الفقرة (6) فلسفته الأدبية
أما الفلسفة الأدبية فلم تشغل سوى حيز صغير في مذهب هذا الفيلسوف بإزاء فلسفته المادية. وقد صرف همه في تلك الفلسفة إلى نقض مذهب «المتكلمين» الذين يقولون: إن الخير في يد الله، وأنه يصنعه بالبشر حينما يشاء وكيفما يشاء، وبقدر ما يشاء من غير علة ولا سبب، بل لأن إرادته تقتضي ذلك. فمن رأي ابن رشد في ذلك أن هذا المبدأ ينقض كل مبادئ العدل والحق؛ لأن ذلك يجعل حكومة العالم فوضى، ربما شقي فيها الحكيم الفاضل وسعد الشرير اللئيم.
أما حرية الإنسان؛ فهو يذهب فيها مذهبا معتدلا. فإنه يقول إن الإنسان غير مطلق الحرية تماما ولا مقيدها تماما. وذلك إذا نظر إليه من جهة نفسه وباطنه؛ فهو حر مطلق؛ لأن نفسه مطلقة الحرية في جسمه، ولكن إذا نظر إليه من جهة حوادث الحياة الخارجية، كان مقيدا بها لما لها من التأثير على أعماله.
شرح الفقرات السابقة
(لإيضاح معانيها وبذلك تنجلي فلسفة ابن رشد انجلاء تاما)
ذلك ما نشرناه في الجامعة عن ابن رشد. والآن إليك شرحه
الفقرة (1) فلسفة المتكلمين
كل الفلاسفة والعلماء من حين نشأة الفلسفة والعلم إلى اليوم، تنحصر آراؤهم عن الخالق والخالق في رأيين: الأول؛ «وجود خالق حر مختار في أعماله، يهب متى شاء ويمنع متى شاء. وله عناية إلهية تدبر العالم. وهو سبب قوى الطبيعة، أي أن هذه القوى موجودة فيه لا فيها. ووجود نفس بشرية جوهرها خالد لا يفنى».
والرأي الثاني؛ «إن المادة أزلية، أي لا بداية لها. ونشأة الكون، إنما هي من تحول دقائق هذه المادة بقوتها الخاصة تحولا ترتقي به من حالة إلى حالة أسمى. وذلك يقتضي وجود طبيعة ثابتة، ونواميس ووجوب الوجود، وعقل تبنى عليه النواميس، وفناء الإنسان في الكل الذي أخذ منه مع الاعتقاد بوجود خالق، ولكن اعتقادا مبهما». هذان هما الحزبان اللذان تنازعا ويتنازعان العلم والدين.
ومما لا يحتاج إلى بيان أن أنصار جميع الأديان موجودون في كل مكان حتى الأديان الوثنية نفسها من الحزب الأول، لأن كل صفحة من صفحات كتبهم تدل على تلك المبادئ. كما أنه لا يحتاج إلى بيان - أيضا - أن فلسفة أرسطو من الحزب الثاني؛ لأن كل صفحة في كتبه تدل عليها. وقد تابعه في ذلك فلاسفة العرب كابن سينا والكندي والفارابي وابن رشد، فكانوا من الحزب الثاني.
فبعد هذا البيان لا نظن أحدا يلوم الجامعة على وضعها المتكلمين (من المسلمين أو من المسيحيين) في الحزب الأول. ونحن على يقين أن علماء الدين في المذهبين «الإسلامي والمسيحي» لا يرون في ذلك شيئا يسوءهم، ما داموا يطلبون البقاء على المبادئ الإسلامية والمسيحية التي ربوا فيها. ولكن إذا أريد التوفيق بين هذين المبدأين لجعل مذهب المتكلم واللاهوتي موافقا لمذهب الفيلسوف، وذلك بواسطة التأويل فإن المسألة تتخذ وجها آخر. ذلك أن مريدي التوفيق يضطرون حينئذ إلى إهمال كل ما كان في الكتب المنزلة مخالفا لمذهبهم والتفتيش بالفتيلة والسراج، كما يقول العامة، على كل ما يوافقه. فحينئذ ينفتح باب واسع هائل. وهذا الباب هو تفسير الكتب والآيات كما يشاء المؤول. ومتى ابتدأ الإنسان بالتأويل، فإنه لا يعلم إلى أين ينتهي. وهذا أبلغ سلاح كان في أيدي مناظري ابن رشد. فإن هذا الفيلسوف كان يوجب التأويل للتوفيق بين الدين والفلسفة، وأما هم فإنهم كانوا يقولون: إن تأويلك هذا يخرج الدين عن شرعه ويبدله بدين آخر لا نعرفه. ومما كان يزيد حجتهم قوة ما قرأوه في كتابات الإمام الغزالي من الرد على تلك الفلسفة اليونانية، التي كان ابن رشد يدافع عنا ويدعو إليها. فكانوا يكرهون التوفيق بين الشريعة الإسلامية وفلسفة مردودة منقوصة لم تثبت صحتها. ولو قاموا اليوم من قبورهم الأبدية وسمعوا ما يكتبه الإفرنج من الاستهزاء بفلسفة أرسطو وتلامذته، لأغرقوا في الضحك وعادوا إلى راحتهم الأبدية بنفوس مستريحة؛ لأنها لم تحارب حقا ثابتا.
ففلسفة المتكلمين كما ذكرناها مبنية على قاعدتين: الأولى؛ تنزيه الخالق عن كل قيد. والثانية؛ حفظ الدين من حدوث خرق فيه بواسطة التأويل وتطبيقه على العلم، لاسيما وأن ذلك العلم لم يثبت ثبوتا لا يقبل الجدال. وحسبنا دليلا على ذلك ما ذكره العارف الواحد الصمداني الشيخ محيي الدين بن عربي في كتاب له إلى الإمام فخر الدين الرازي قال: «إن كل موجود عند سبب ذلك السبب محدث مثله، فإن له وجهين وجه ينظر به على سببه، ووجه ينظر به إلى موجده وهو الله تعالى. فالناس كلهم ناظرون إلى وجوه أسبابهم والحكماء والفلاسفة كلهم وغيرهم، إلا المحققين من أهل الله تعالى كالأنبياء والأولياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام، فإنهم مع معرفتهم بالسبب ناظرون من الوجه الآخر إلى موجدهم. ومنهم من نظر على ربه من وجه سببه لا وجهه، فقال: حدثني قلبي عن ربي. وقال الآخر وهو «الكامل»: حدثني ربي إذ ما كان وجوده مستفادا من غيره، فإن حكمه عندنا لا شيء، أي أن الأسباب ليست بشيء تذكر؛ لأن وجودها مستفاد من الله. انتهى بحرفه نقلا عن بهاء الدين العاملي.
فمن ذلك يتضح أن قول المتكلمين
1 (في الإسلام والمسيحية) بأن المادة حديثة (أي غير أزلية تعني مخلوقة بخلق خالق) وأن الخالق متصرف في الكون مختار في تصرفه، وأن الأسباب موجودة فيه لا في الطبيعة، وأنه متى حدث حادث فلا يلزم عن حدوثه أن يكون ناشئا عن حادث سبقه؛ لأن الله يخلق ما يشاء، وأن العالم قد يكون بصورة أخرى غير الصورة المصور بها الآن، إن هذا القول كله إنما قيل لتقديس ذات الخالق وتنزيهه عن كل قيد، وجعله كلي القدرة في الكون. وكل قول يخالف هذا القول يميل بحكم الضرورة إلى المبدأ الآخر والحزب الآخر الذي تقدم ذكره في صدر الكلام ومفاده تقييد الخالق بنواميس ونظام وطبيعة وسنن. ونحن لا نظن أن جميع رجال الدين يقبلون هذا التقييد، لما وراءه من الأمور التي تنزل المعتقد بها في أحدور هائل لا نذكر شيئا عنه الآن. ولذلك استغربنا أشد استغراب أن يكون بين رجال الدين (مسيحيين أو مسلمين) من يرضى بتقييد الخالق ذلك التقييد، ويحاول إثبات أن المتكلمين لا ينكرون الأسباب، مع أنهم يفتخرون بإنكارها ويرون فيه «الكمال»، كما ورد آنفا في كلام العارف بالله محيي الدين بن عربي.
وبناء على ذلك لا يكون كلامنا هناك عن حدوث المادة وحرية الخالق، ووجود الأسباب فيه وحده مقصورا على رجال الدين الإسلامي، بل هو يشمل جميع رجال الأديان؛ لأنهم كلهم يعتقدون ذلك الاعتقاد - وإن كانوا فيه درجات - وبما أننا سنعود إلى هذا الموضوع في الرد الأول على مقالة الأستاذ الأولى في الباب الثالث؛ فإننا ننتقل منه إلى الفقرة الثانية، ونحن واثقون بأننا شرحنا هذه النقطة في هذه الفقرة شرحا أزال الإشكال فيها.
الفقرة (2) المادة وخلق العالم
كل من طالع شيئا من كتب ابن رشد الفلسفية أو وقف على ما كتبه الفلاسفة عنه، علم أن فلسفته مبنية على أمرين: الأول؛ اعتقاده بقدم المادة، أي أزليتها. والثاني؛ مسألة العقول ووحدانيتها.
أما الأمر الأول وهو (أزلية المادة) فهو مسألة من أهم المسائل التي شغلت أفكار المفكرين. ولذلك وجه الأمير يوسف إلى ابن رشد أول مقابلته له السؤال الذي نشرناه في الصفحة (13) عنها. ومقتضى هذا الاعتقاد أن المادة الأولى التي صنع الكون منها كانت موجودة بذاتها منذ الأزل أي بدون ابتداء، وإلا وجب أن يقال بأن العالم صنع من العدم، وهذا قول لا يقبله العلم. ولذلك كان ابن رشد يفترض وجود هذه المادة افتراضا، إذ ليس في الإمكان إقامة الدليل على وجودها. وقد وقع ابن سينا قبله في هذه المشكلة أي العجز عن إقامة الدليل على وجود المادة قبل خلق الكون، ولكنه تخلص منها بقسمته العالم إلى قسمين: قسم ممكن وقسم واجب. فالقسم الممكن ما كان حدوثه ممكنا إذا افترض حدوثه، والقسم الواجب ما كان حدوثه واجبا بنفسه ولا يحول شيء دونه. وقد وضعت مادة الكون في القسم الممكن. ولذلك لما كان ابن رشد يبني فلسفته على أزلية المادة، ويعلل الخلق بها كان المتكلمون الذين يناظرونه يهدمون ذلك البناء بكلمة واحدة، وهي قولهم له أنك تبني على افتراض لا على برهان. ومع ذلك فإن ذلك الافتراض لا بد منه. وقد مر الآن على فلسفة اليونان والعرب عشرات القرون، ولا يزال الفلاسفة والعلماء يعتمدون على هذا الافتراض، حتى في هذا العصر لتعليل خلق الكون؛ لأن هذا الافتراض أقرب إلى العقل من قول القائلين بأن الكون مخلوق من العدم.
وقد كان ابن رشد يحج مناظرته في هذا الموضوع بقوله: «إن ظاهر الآيات الواردة في القرآن عن إيجاد العالم تثبت برأيه. فإن قوله تعالى:
وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء
يقتضي بظاهره وجودا قبل هذا الوجود، وهو العرش والماء، وزمانا قبل هذا الزمان، أعني المقترن بصورة هذا الوجود الذي هو عدد حركة الفلك. وقوله تعالى:
يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات
يقتضي - أيضا - بظاهره وجودا ثانيا بعد هذا الوجود. وقوله تعالى:
ثم استوى إلى السماء وهي دخان
يقتضي بظاهره أن السماوات خلقت من شيء. انتهى ملخصا من كتابه (فصل المقال). وقد قال الكواكبي رحمه الله في كتابه (طبائع الاستبداد) الذي نشر منذ عامين في تأويل بعض آيات القرآن تأويلا ينطبق على أقوال العلماء المعاصرين في خلق الكون، والاكتشافات العلمية الحديثة قد اكتشفوا أن مادة الكون هي الأثير، وقد وصف القرآن بدء التكوين فقال:
ثم استوى إلى السماء وهي دخان
نقول ولعل المرحوم الكواكبي أخذ هذا التطبيق الجميل من ابن رشد نفسه.
بقي علينا أن نذكر رأيه في نشأة الكون من تلك المادة الأزلية، وهنا ننقل ما كتبه عن ذلك في الفصل الثاني عشر من كتابه (ما وراء الطبيعة). وقد قال الفيلسوف رنان أن هذا القول أهم الأقوال التي رد بها ابن رشد على مناظريه من المتكلمين في هذا الموضوع. وهذه خلاصته، قال:
في خلق الكون رأيان متناقضان وبينهما عدة آراء. فالرأيان المتناقضان؛ قول بعضهم أن الكون نشأ بالنمو الطبيعي، وقول البعض الآخر أنه خلق خلقا أي أوجد من العدم. أما أنصار النمو الطبيعي فعندهم أن الخلق إنما هو عبارة عن تولد الكائنات، وخروجها بعضها من بعض. والفاعل في ذلك عندهم لا وظيفة له غير تسهيل هذا الخروج والتوليد؛ فهو إذن بمثابة محرك لا غير. وأما أنصار الخلق فعندهم أن الفاعل يوجد الشيء من لا شيء أي من غير أن يحتاج إلى مادة ولا إلى نمو. وهذا الرأي هو رأي المتكلمين في ديانتنا ورأي النصارى - أيضا - خصوصا يوحنا النصراني (يوحنا فيلو بون) الذي يعتقد بأن قوة الخلق والإيجاد موجودة في الفاعل لا في المادة. بقيت الآراء التي هي بين هذين الرأيين المتناقضين، وهي تنحصر في رأيين - أيضا - الرأي الأول؛ مفاده أن قوة الإيجاد والخلق موجودة في الفاعل، ولكن لا يمكن خلق الشيء إلا من شيء. فوظيفة الفاعل هنا إيجاد الهيئة أو الصورة التي يجب أن تخلق المادة بها، ولذلك يدعونه «واهب الصورة» - وهذا مذهب ابن سينا. والرأي الثاني؛ مفاده أن الفاعل في الخلق أو الموجد تارة يكون متصلا بالمادة، وتارة يكون منفصلا عنها. فالمتصل بها كالنار التي تولد النار على سبيل الاتصال. والمنفصل عنها كالنبات والحيوان. وهذا مذهب تميثوس وربما كان مذهب أبي نصر الفارابي أيضا. بقي هنالك مذهب ثالث وهو مذهب أرسطو. ومفاد هذا المذهب أن الفاعل الموجد يوجد جملة المادة وصورتها معا، وذلك بتحريكها تحريكا يسهل لها الخروج من حيز القوة إلى حيز الوجود. وليست وظيفة الفاعل في هذا المذهب سوى مسهل لها ذلك الخروج وعامل على الاتصال بين المادة والصورة. فكل خلق إذن إنما هو عبارة عن حركة سببها الحرارة، وهذه الحرارة متى انتشرت في الماء والتراب تولدت منها الحيوانات والنباتات التي تتولد من غير لقاح
2
والطبيعة تخلق هذا الخلق بهذا الترتيب البديع، كما لو كانت مسوقة إليه بعقل رفيع، مع أنها خالية من هذا العقل. وتلك القوات التي يتم بها الخلق والإيجاد والتي هي ناشئة عن حركة الشمس والكواكب، وتأثيرها في العناصر هي ما كان أفلاطون يسميه «العقول» - ومن رأي أرسطو في هذا المذهب أن الفاعل لا يخلق الصورة خلقا؛ لأنه لو كان ذلك صحيحا لصح خلق الشيء من لا شيء. وإنما الذي جعل بعض الفلاسفة يقعون في هذا الخطأ ويسمون الفاعل «واهب الصورة» توهمهم أن الصورة شيء حقيقي لا صورة. وهذا ما جعل علماء الديانات الثلاث الموجودة في هذا الزمان، يعتقدون بأن الشيء قد يخلق من العدم أي من لا شيء. وبناء على هذا الاعتقاد قال المتكلمون من مذهبنا (الإسلام) بأن الفاعل يوجد الكائنات بلا واسطة، وبذلك يكون كمن يعمل في وقت واحد عملا واحدا جامعا لعدة أعمال متناقضة متقابلة، ولكن هذا المذهب يقتضي أن كل شيء في الكون مفتقر على مداخلة الخالق، فالنار لا تحرق والماء لا تجري مثلا، إلا بخلق خاص وهلم جرا. وفوق ذلك فإنهم يعتقدون بأن الإنسان متى رمى حجرا فإن القوة التي رمى بها ليست بقوته، ولكنها قوة الفاعل العام أي الله. وهكذا يفنون نشاط الإنسان وقوته.
ولكن (هوذا) مذهب أغرب مما تقدم وهو: كما أن الله يخرج شيئا من لا شيء؛ فهو يجعل - أيضا - الشيء لا شيء. وبناء على ذلك يكون الإعدام عملا من أعمال الله كما أن الإيجاد من أعماله. فالموت إذن من أعمال الله. وأما نحن فإننا نعتقد ما يخالف ذلك. نعتقد بأن الإعدام عمل كالإيجاد أي أنه يتبع نظاما مثله، ذلك أن كل شيء وجد إنما هو مستعد بطبيعته للفناء. فالفاعل سواء كان ذلك في حالة الإيجاد أو حالة الفناء لا وظيفة له غير تسهيل خروج، وذلك الاستعداد من حيز القوة إلى حيز الفعل. فالعمدة إذن في الحالتين إنما هي على الفاعل وعلى القوة الكامنة في المادة معا. وينبغي أن لا يفصل بينهما. وإذا وجد أحدهما ولم يوجد الآخر، فلا يحدث خلق ولا يتم شيء. انتهى مذهب ابن رشد في خلق الكون وهو منقول هنا بمعناه لا بحرفه؛ لأننا لخصناه تلخيصا من الصفحة 108 فصاعدا من كتاب رنان في فلسفة صاحب الترجمة وذلك؛ لأن يدنا لم تصل من سوء الحظ إلى النص العربي. فهل يقبل المتكلمون اليوم هذا المذهب.
والذي يتضح مما تقدم أن الخلق إنما هو عبارة عن حركة. وإن كل حركة تستدعي حركة قبلها، وأخرى بعدها ليتم فعل الخلق.
وإن كل ما هو مستعد للوجود يجب أن يخرج من حيز القوة والاستعداد إلى حيز الفعل، وإلا صار في الكون شيء من الوقوف والفراغ. وبما أن الحركة هي سبب هذا الخروج فلولاها لم يحدث شيء في العالم. وقد استشهد رنان على صحة كل ذلك (فوق الشذرة التي عربناها) بالفصل الثامن من كتاب ابن رشد في الطبيعيات الشذرة 176 و184 و155 و157 والفصل الثالث من الشذرة 47 والفصل الرابع منه - أيضا - الشذرة 82.
الفقرة (3) اتصال الكون بالخالق
أما رأي ابن رشد في اتصال الكون بالخالق فينطوي تحته أمران: الأول؛ «أن السماء حيوان مطيع لله تعالى بحركته الدورية»، كما قال في كتابه (تهافت التهافت). والثاني؛ «أن الله يعلم أنواع الأشياء في العالم لا مفرداتها». وتحت هذين الأمرين تنطوي مسألة الاختيار التي هي من أهم مسائل الفلسفة.
أما قوله: إن السماء حيوان حي مطيع لله بحركته الدورية؛ فقد تقدم تفسيره في الفقرة الثالثة. ومنه يظهر أن العالم إنما هو عبارة عن أجرام تدور في الفضاء في أفلاك خصوصية وحركات دورية. وبما أن هذه الحركات الدورية لا تنشأ إلا عن نفس تحركها وتديرها، وإلا كانت الحركة أفقية أو عمودية؛ فقد وجب أن يكون هنالك نفس محركة، ولكن ما هي هذه النفس المحركة. هل هي الله نفسه سبحانه وتعالى.؟ كلا.. لأن الله منزه عن الاتصال بالكون. وإنما هذه النفس هي ما يسمونه العقل الأول. فالعقل الأول هو محرك العالم وأول ما خلقه الله في العالم. وقد استشهد ابن رشد على ذلك بما جاء في القرآن، من أن الروح هي أول مخلوقات الله. وقال: إن هذه الروح هي العقل الأول، ومن هذا العقل تفرعت العوالم. وهذا العقل متصل بها يصدر القوة والحركة إليها. فالكون إذن متصل به لا بالله. وإنما المتصل بالله العقل الأول الذي يستمد القوة منه. فالله يقبض عليه وهو يقبض عليها.
وبناء على ذلك لا يكون لله علم بالجزئيات التي تحدث في العالم، وإنما يكون له علم بكلياته أي إجمال الأشياء وأنواعها لا مفرداتها. بل إن الله يعلم الجزئيات، ولكنه يعلمها «بعلم غير مجانس لعلمنا بها»، كما قال في كتابه (فصل المقال). وذلك؛ لأن «علمنا معلول للمعلوم به؛ فهو محدث بحدوثه ومتغير بتغيره وعلم الله بالوجود على مقابل هذا فإنه علة للمعلوم الذي هو الموجود. فمن شبه العلمين أحدهما بالآخر فقد جعل ذوات المتقابلات وخواصها واحدة، وذلك غاية الجهل». انتهى قوله في (فصل المقال). ومفاد ذلك أن الفيلسوف لا يعتقد في علم الله بالجزئيات ما يعتقده جميع الناس اليوم.
وإذا كان الله تعالى لا يعلم الجزئيات إلا بعلم غير مجانس لعلمنا فذلك دليل على أنه لا يدبر العالم مباشرة. فشأنه في ذلك شأن حاكم المدينة، فإنه مصدر النظام فيها، ولكن ليس له مداخلة في كل شأن من شئونها مباشرة. ولو كان الله سبحانه وتعالى يدبر العالم مباشرة أي يدير بنفسه كل حركة من حركاته الجزئية والكلية، فإن الشر في العالم يكون صادرا عنه (تعالى الله عن ذلك). فأعظم إكرام وتقديس لله تعالى هو إذن اعتبار عنايته بالكائنات من قبيل الناموس الثابت الموضوع لها. ففي هذا الافتراض يكون كل خير في العالم صادرا عن الله؛ لأنه أراده وسن السنن الطبيعية له. وكل شر في العالم يكون صادرا عن المادة التي خالفت سننه، أو الإنسان الذي عصاها.
وهذا الفكر الأخير هو لباب فكر أرسطو.
الفقرة (4) الاتصال
إن موضوع الاتصال أي اتصال الإنسان بالباري مسألة من أهم المسائل التي دارت عليها فلسفة ابن رشد والمتكلمين. وهي تقسم إلى مسألتين: المسألة الأولى؛ اتصال الإنسان بالعقل الفاعل بطريق الفكر. والمسألة الثانية؛ اتصاله به بطريق الحواس.
وإيضاحا لهاتين المسألتين نذكر رأي موتك ورنان فيهما، هو مستخلص من كتاب ابن رشد (في ما وراء الطبيعة).
قال ابن رشد: في الكون مادة وعقل: «والعقل نوعان نوع فاعل عام ونوع منفعل. فالعقل الفاعل العام جوهر منفصل عن الإنسان، وهو غير قابل للفناء ولا الامتزاج بالمادة. بل هو الشمس الذي تستمد منه كل العقول. والعقل المنفعل هو عقل في الإنسان مستمد من العقل العام الفاعل الذي تقدم ذكره. وبما أن العقل المنفعل مستمد من العقل الفاعل؛ فهو ميال دائما «للاتصال» به والانضمام إليه. ولذلك تنزع نفس الإنسان إلى الباري، ولكن ميل العقل المنفعل (أي الإنسان) على الاتصال بالعقل العام لا يكفي وحده لحدوث هذا الاتصال. فإن العقل المنفعل لا يتصل بذلك العقل العام بمجرد قواه الطبيعية، بل يجب تعليمه طريق هذا الاتصال. نعم إن العقل المنفعل يصل على العقل العام، وهو ما يسمونه العقل المكتسب أو المستفاد، ولولاه لما قدر الإنسان أن يعلم شيئا، ولكن هذا العقل المكتسب ليس سوى نتيجة ميل العقل المنفعل على العقل العام، ونزوعه إلى الامتزاج به. وإنما الطريق الذي يستطيع به العقل العام ونزوعه إلى الامتزاج به. وإنما الطريق الذي يستطيع به العقل المنفعل الوصول إلى العقل العام والاتحاد به أي معرفته حق معرفته - العلم وحده
3 . فبالعلم يقف الإنسان على كل شيء، ويصير عارفا كالباري بكل شيء. فطريق الاتصال بالله إذن وطريق السعادة في هذه الحياة إنما هو العلم والدرس. وما غرض الحياة في هذه الدنيا سوى تغليب الفكر والعقل على الحواس والأهواء والشهوات. ومتى استطاع الإنسان هذا الأمر الصعب؛ فقد أدرك السعادة والجنة في هذه الأرض أيا كان مذهبه ودينه، ولكن هذه السعادة لا يدركها إلا أعاظم الرجال. وهم يدركونها في الشيخوخة بواسطة رياضة العقل والنفس والاكتفاء بما يسد الحاجة أي ترك الفضلات وعدم الافتقار إلى الضروري. وكثيرون منهم لا يدركونها إلا عند وفاتهم وهم على فراش الموت. ذلك لأن هذا الكمال النفساني مناقض للكمال الجسدي. وقد كان أبو نصر الفارابي ينتظر مجيء هذه الساعة في آخر عمره، وإذا لم تأت قال عنها وهو على فراش الموت أنها حديث خرافة، ولكن ما كل الناس مستعدون لقبولها، ولذلك لا يدركها إلا المختارون.»
هذه هي خلاصة فلسفة ابن رشد في المسألة الأولى من مسألتي الاتصال.
وأما المتصوفة؛ فإنهم يقولون: «إن تلك السعادة إنما تدرك بالصلاة والتأمل والتجرد من الجسد لا بالعلم». وعندهم طرق وشرائط لإفناء الإنسان ذاتيته، توصلا إلى الفناء بالله وحينئذ يجوز له أن يقول: أنا الله. وقد قال أحد مؤلفيهم ما خلاصته: «لا تذهب لتسأل ابن سينا عن هذا الحب الإلهي؛ فإنه لا يعرف شيئا من أصول هذا الفن، بل عليك أن تنبذ كل الكتب الفلسفية إذا كان أفلاطون الحقيقي (يعني الله) يدرس في مدرستك». ومما يجب ذكره في هذا المقام أن هذه المبادئ هي في الأصل فارسية وهندية لا إسلامية، وقد ذكرناها هنا لعلاقتها بفلسفة ابن رشد.
أما مسألة الاتصال بالثانية فهي أهم من المسألة الأولى.
ومدار هذه المسألة على هذا الأمر. هل الإنسان يستطيع معرفة العقول والأجرام المفارقة له؛ أي البعيدة عنه في أقاصي الفضاء السماوي
4
وهو ما سماه ابن رشد (اتصال الإنسان بالعقل المفارق)، وقد كتب كتابا في هذا الموضوع وتحت هذا العنوان. ومن رأيه أن العقل المنفعل أي الإنسان يستطيع ذلك لسببين: الأول؛ أن العقول والأجرام البعيدة لم يوجدها الباري إلا وأوجد عقولا تدركها وتعرفها، إذ من المحال أن يخلق الباري معقولا دون أن يوجد عقلا يعقله. والسبب الثاني؛ أن القول بأن العقل لا يعقل الأجرام المفارقة له، إنما قول يحط من قدر العقل البشري ويجعله أدنى من الحواس؛ لأن للحواس محسوسات تحس بها، وما كان للحواس يجب أن يكون للعقل؛ لأنه أرقى منها. ومن ذلك يظهر أن غرض الفيلسوف من هذا الرأي صيانة كرامة العقل ورفع تهمة العجز عنه. وهو رأي ينطبق على لباب فلسفته ومؤيد لها. ولعل هذا المذهب قريب مما ذكره برناردين دي سان بيير في كتابه (الكوخ الهندي) عن علاقة الإنسان بالأجرام السماوية البعيدة؛ فقد قال بلسان الرجل الخارجي ما نصه: «وكنت ألبث ساعات متجها نحو المشرق وعيناي تتأملان في النجوم والكواكب العديدة الطالعة منه. ومع أنني كنت أجهل مصير هذه الأجرام ومبدأها؛ فقد كنت أشعر بأنها مرتبطة بالإنسان، وأحس بأن الطبيعة التي خلقت لنفع البشر بأشياء كثيرة لا تقع تحت نظرهم، يجب أن تكون قد أناطت لهم على الأقل تلك الأشياء التي تحت نظرهم. فكانت نفسي لدى هذه التأملات ترتفع إلى العلا مع الكواكب والنجوم» (الكوخ الهندي) الصفحة 61.
ومهما يكن من القول في مسألتي الاتصال اللتين تقدم ذكرهما، فمما لا ريب فيه أنهما خارجتان عن فلسفة أرسطو لا منها. نعم إن أرسطو وصف في الفصل التاسع من كتابه الأدب السعادة بالعقل في هذه الأرض، ولكنه عاد فقال: «ولكن حياة بالسعادة كهذه الحياة ربما كانت فوق احتمال الإنسانية؛ لأننا لا نجد هذه السعادة بما فينا من البشرية، بل بما فينا من الروح الإلهية» وبذلك راعى حدود الطبيعة البشرية مراعاة تامة.
هذا فيما يختص بالمسألة الأولى. أما رأي أرسطو في المسألة الثانية (أي اتصال العقل المفارق بالإنسان) فلا يعرف الباحثون منه إلا عبارة واحدة، وهي قول أرسطو بعدما تقدم: «وسنبحث في فرصة أخرى إذا كان العقل البشري يستطيع أن يعقل الأشياء البعيدة عنه مع ما بينهما من المسافة أو لا يستطيع ذلك». هذا كل ما كتبه أرسطو في هذا الموضوع، إذ لم يعثر الفلاسفة المعاصرون على قول آخر له فيه. فالظاهر أن ابن رشد أراد أن يتولى إنجاز الوعد من أستاذه أرسطو فوضع رأيه الذي بسطناه في هذه المادة. فكان شأن هذه العبارة التي بنى عليها ابن رشد مذهبه في اتصال الإنسان بالعقل المفارق، شأن العبارة التي بنى عليها فلاسفة العرب مذهبهم في العقول، مما سنفصله في الباب الثالث.
الفقرة (5) الخلود
وصلنا الآن إلى مسألة المسائل، وأهم المواضيع وهي مسألة الخلود. ويسوؤنا أن كلامنا هناك في هذه المسألة قد حمل على غير محمله. ولعل السبب في ذلك أنه كان مختصرا فصار بالاختصار غامضا، ولذلك نشرحه هنا شرحا يزيل ذلك الغموض.
وقبل الشروع في ذلك نعيد هنا ما ذكرناه في مقدمة تلك الفقرة، وهذا نصه: «إننا في أثناء مطالعتنا لبعض كتبه (ابن رشد) قبل الإقدام على ترجمته، رأينا له في عدة مواضع كلاما يدل أصرح دلالة على اعتقاده بالحياة الثانية حتى بالعقاب والثواب أيضا. نقول: وقد قلنا ذلك ونحن نفكر في ما ذكره ابن رشيد في كتابه (فصل المقال) فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال وهذا نصه: «ولكن إذا كان التأويل واجبا (أي تأويل الآيات الدينية) فهو لا يكون في الأصول مثل الإقرار بالله تبارك وتعالى وبالنبوات وبالسعادة الأخروية والشقاء الأخروي، بل يكون في الفروع. وإن كان في الأصول فالمتأول له كافر، مثل من يعتقد أنه لا سعادة أخروية هاهنا ولا شقاء، وإنه إنما قصد بهذا القول أن يسلم الناس بعضهم من بعض في أبدانهم وحواسهم، وإنها حيلة وإنه لا غاية للإنسان إلا وجوده المحسوس فقط». نقول: ولا ريب أن نشرنا هذه الشذرة في الصفحة 534 من ترجمته في الجزء الثامن يدل على إعطائنا الفيلسوف حقه من نشر ما له وما عليه.
بقي علينا الآن بسط فلسفته في مسألة الخلود فنقول:
يؤخذ من فلسفة أرسطو التي شرحها الفيلسوف رنان في كتابه ابن رشد (الصفحة 123) أن أرسطو يوضح في الفصل الثالث من كتابه في «النفس» أن العقل نوعان: نوع فاعل ونوع منفعل، ولكن النوع الفاعل هو النوع الأصلي؛ لأن المنفعل أو المفعول مستمد منه. فالفاعل إذن أرقى من المفعول. والفاعل هو عقل بريء من المادة وغير قابل للامتزاج بها ولا للفناء. وأما العقل المنفعل؛ فهو قابل للفناء. انتهى ملخصنا عن رنان من الصفحة 123 التي شرح المؤلف فيها فلسفة أرسطو مستشهدا بألفاظه اليونانية نفسها.
فبعد هذا ينبغي أن نعلم ما هو العقل الفاعل الذي تقدم ذكره، وما هو العقل المنفعل. فنقول: إنه قد ظهر مما تقدم من كلام ابن رشد أنه يريد بالعقل الفاعل ما أراد به أرسطو أي المصدر الذي يستمد منه العالم، القوة والحركة يعني العقل الأول الذي هو مصدرهما. فالعقل الأول البريء من المادة والمفارق للإنسان أبدي خالد لا يفنى. وهذا قول لا خلاف فيه، ولكن ما هو العقل المنفعل؟ هو كما تقدم الكلام عليه الإنسان نفسه أو العقل الذي في الإنسان. فهذا العقل غير خالد خلودا منفردا بنفسه، وإن كان خالدا خلودا بجوهره.
وبيان هذه المسألة الغامضة التي نرويها من قبيل الرواية لا التقرير، أن العقل الذي استمده الإنسان من واهب العقل لا يعيش بعد الموت مستقلا وحده، كما يعتقد العامة، بل له حياة أخرى مجهولة. ذلك؛ لأن العقل الفاعل لا يفنى من حيث نوعه؛ لأن جوهره خالد أبدي، وإن كان فانيا من حيث الإنسان الذي أودع فيه، ولكن ما هي الحياة التي تكون له بعد الموت؟ أهي فناء في الكل الأبدي الذي أخذ منه فيكون موجودا أو فانيا في وقت واحد. أم هي شيء آخر؟ الله أعلم.
ولسنا نزعم أن هذا المذهب هو مذهب ابن رشد وأرسطو حرفيا؛ فإن أقوال المفسرين متضاربة في هذا الموضوع وكل واحد منهم يفسره كما يشاء. فبعضهم يقول: إن أرسطو قد صرح بأن العقل المنفعل أو المفعول فان، وهو تصريح كاف للدلالة على فكره. وبعضهم يقول: بل إن روح فلسفته تدل على خلاف هذا القول. وكذلك قولهم في رأي ابن رشد في هذا الشأن لا يخلو من نظر. فمنهم من يرى أن ابن رشد يكرر مرارا أن العقل المنفعل غير مفارق للإنسان ولا هو خالد. ولذلك؛ فإنه يعتقد بأنه فان مع المادة. ويستشهدون على ذلك بقوله في بعض المواضع: «إن العناية الإلهية منحت الحي الفاني المقدرة على التوالد لتخليد نوعه، وتعزيته بهذا الخلود النوعي عن الفناء».. (ابن رشد تأليف رنان الصفحة 153.)
ومعنى هذه العبارة واضح عند بعضهم وغامض عند البعض الآخر. أما الأولون؛ فإنهم يفسرونها بقولهم: إن لابن رشد مذهبا خاصا في وحدة العقل في العالم. وبيانه أنه يعتقد أن كل عقل في كل إنسان مصدره واحد، ومأخوذ من نبع واحد، وهو العقل الأول العام الذي تقدم ذكره. فالعقل الذي في كل إنسان إذن هو واحد. وقد كان هذا المذهب من أضعف الجوانب في الفلسفة الرشدية، ولذلك سهل على أعدائه نقضه في أوروبا. وقد كان القديس توما يصيح بأنصار ابن رشد: هل تزعمون أن العقل الذي كان في أفلاطون وأرسطو، والعقل الذي في قطاع الطرق واللصوص هو واحد.
فهذا المذهب يجعل للإنسانية عقلا واحدا وهو ما سميناه عقل الإنسانية، وبحسب رأي ابن رشد فيه يكون هذا العقل خالدا في الأرض دون سواه. أي أن الإنسانية تبقى في الكون متعاقبة قرونا بعد قرون، وأجيالا بعد أجيال، إلى ما شاء الله. فهي خالدة بالحياة لا بالموت.
ولكن إذا نظر إلى تعليم ابن رشد من وجه آخر استطاع الناظر أن يستخرج منه رأيا آخر. مثال ذلك أن ابن رشد يقول إن الحس والذاكرة والحب والبغض مفارقة لعقل الإنسان بعد الموت، فالنفس التي فيه تتجرد منها، ولكن يبقى لها العقل أي أنها لا تفنى. وهذا القول استخرجه من فلسفة أرسطو الباحثون فيها بحثا، يقصدون به تطبيقها على الدين كالقديس توما وألبر. ومن ذلك يظهر أن النص في هذه المسائل حكمه حكم لا شيء، وإنما العمدة على التأويل والتفسير والتأويل حياة وروحا يوافقان مذهبه. وهذا هو السبب في اختلاف الفلاسفة في تفسير فلسفة أرسطو وجميع الكتب الشرائعية العليا، التي يرجع إليها البشر في شئونهم الروحية كالقرآن والإنجيل والتلمود وغيرها.
فمن كل ذلك يظهر أن في فلسفة ابن رشد شيئا من التناقض. ولعله معذور فيه. وأشد ذلك التناقض ظهورا إنما كان في قوله: إن سبب ضعف بصر الشيخ ضعف عينه الباصرة لا ضعف قوة البصر فيه. فلو كان للشيخ باصرة الفتى لاستطاع النظر كما ينظر الفتى. ثم يقول: إن الرقاد خير دليل على بقاء النفس؛ فإنه بينما تكون كل آلات النفس في النوم هامدة ساكنة كأنها معطلة تكون النفس مستمرة الفعل في الجسم. ذلك لأن العقل أو النفس غير مرتبطة بشيء من أعضاء الجسم، ولذلك تبقى منفردة مستقلة فاعلة مع سبات تلك الأعضاء. وهكذا يصل الفيلسوف إلى الاعتقاد ببقاء النفس (أي الخلود) اعتقاد العامة به.
نقول: فهذا قول يدل أصرح دلالة على اعتقاد ابن رشد ببقاء النفس لو لم يردفه ببحث آخر فيها ما خلاصته: إن العقل لا يتجزأ على عدد الأفراد، وأنه واحد في سقراط وأفلاطون، وبما أنه لا شخصية له فالشخصية ناشئة عن الحواس. فالإنسان شخص مفرد من حيث الحواس لا من حيث العقل؛ لأن العقل لا يتجزأ، ومن ذلك تنشأ مبادئ مخالفة للمبدأ السابق (راجع ابن رشد تأليف رنان الصفحة 154 و155).
هذه هي آراؤه المتناقضة في هذا الموضوع. فلا ريب أنك بعد اطلاعك عليها تذكر قولنا في الفقرة الخامسة التي فيها الخلاف «رأينا له في عدة مواضع كلاما يدل أصرح دلالة على اعتقاده بالحياة الثانية حتى بالعقاب والثواب - أيضا - ذلك أن ابن رشد كان يكتب هنالك كرجل مؤمن خاضع لتقاليد آبائه وأجداده؛ فهو يكتب بقلبه لا بعقله. أما عند بحثه بالعقل عن مصدر العقل وعلة العلل؛ فقد كان يكتب كفيلسوف يدخل بجرأة الأسد إلى كهف الحقيقة المحجبة ولا يبالي». نقول: وقد كان في ذلك إشارة إلى تلك المتناقضات.
بقي ما جاء في ختام الفقرة وهذا نصه: وبناء على ذلك لا يكون بعد الموت حياة فردية، ولا شيء مما يقوله العامة عن الحياة الثانية. وإليك تفسير هذا القول الغامض.
إن المقصود بذلك إن الفيلسوف لا يعتقد بحشر الأجساد اعتقادا صريحا. أي أنه لا يعتقد بأن الإنسان يكون في الحياة الأخرى فردا ناطقا آكلا شاربا متزوجا كما يقول العامة. بل هو لا يعتقد - أيضا - بوجوب الثواب والعقاب اعتقادا صريحا. وإليك ما قاله في تلخيصه كتاب لأفلاطون، من الأوهام المضرة اعتبار الناس الفضيلة والخير واسطة للوصول إلى السعادة؛ فإن الفضيلة إذا أنزلت في هذه المنزلة لم تعد فضيلة. ذلك أن الإنسان لا يحرم نفسه الملاذ إلا وهو يؤمل أن يعوض عليه مثلها وزيادة. والشجاع لا يطلب الموت في الحرب إلا فرارا من شر أعظم من شر الحرب.
والحكيم لا يحترم مال غيره إلا لينال بعد ذلك مضاعف ذلك المال (راجع رنان الصفحة 156) وفي موضع آخر يعنف أفلاطون تعنيفا شديدا؛ لأنه وصف في أحد كتبه حالة النفوس في الآخرة فقال في تعنيفه: «إن هذه الخرافات لا تفيد شيئا بل هي تفسد عقول العامة، وخصوصا الأولاد دون أن تعود عليهم بنفع ما. وإنني أعرف أناسا ينبذون كل هذه الأوهام، ومع ذلك فإنهم لا ينقصون فضلا وفضيلة عن الذين يعتقدون بها» (راجع رنان الصفحة 157).
فمن هذا القول الأخير يظهر أن لابن رشد في هذه المسألة هما غير هم البحث العلمي. ولا غرابة في ذلك؛ فإن جميع الفلاسفة العقلاء الذين تخيفهم سطوة المبادئ المادية الدنيئة على العالم لخنق ما فيه من الخير بقوة الشراهة والأثرة يهتمون به أشد اهتمام. ولذلك لم يكن يجادل مناظريه في حقيقة هذا الاعتقاد ولكن في صفته. فقد كان يقول إن الاعتقاد بمعاد الأجسام قد نصت عليه الشرائع، فلا يجب أن يتعرض له بقوة مثبت أو مبطل، ولكن يجب أن يقال أن الأجسام التي تعود بعد الموت «لا تعود بالشخص، بل تعود أمثال هذه الأمثال؛ لأن المعدوم لا يعود بالشخص - كما قال أرسطو - في كتابه الكون والفساد. وإنما يعود الوجود لمثل ما عدم لا لعين ما عدم». ومعنى هذا أن النفس تتخذ جسما آخر غير جسمها الحالي؛ لأن هذا الجسم يفنى بالتراب ولا يعود من غير أسباب. أما الإمام الغزالي فقد كان يقول: «في خزانة المقدورات عجائب وغرائب لم يطلع عليها ينكرها من يظن أن لا وجود إلا لما شاهده. ولم يبعد أن يكون في أحياء الأبدان منهاج غير ما شاهده. وقد ورد في بعض الأخبار أنه يغمر الأرض في وقت البعث مطر قطراته تشبه النطف ويختلط بالتراب. فأي بعد في أن يكون في الأسباب الإلهية أمر يشبه ذلك، ويقتضي انبعاث الأجساد واستعدادها لقبول النفوس المحشورة» (راجع تهافت الفلاسفة للإمام الغزالي).
ربما أننا ذكرنا هنا هذه المسألة، فجدير بنا أن ننقل الفقرة الجميلة التي كتبها ابن رشد في هذا الموضوع؛ فإنها كلها فوائد فرائد فرائد وهذا نصها بالحرف الواحد نقلا عن كتابه تهافت التهافت، الذي رد به على الإمام الغزالي. قال رحمه الله تعالى: «ولما فرغ (أبو حامد الغزالي) من هذه المسألة أخذ يزعم أن الفلاسفة ينكرون حشر الأجساد، وهذا شيء ما وجد لواحد ممن تقدم فيه قول. والقول بحشر الأجساد أقل ما له منتشرا في الشرائع ألف سنة (كذا) والذين تأدت إلينا عنهم الفلسفة دون هذا العدد من السنين (كذا) وذلك أن أول من قال بحشر الأجساد هم أنبياء بني إسرائيل الذين أتوا بعد موسى عليه السلام، وذلك بين من الزبور ومن كثير من الصحف المنسوبة لبني إسرائيل. وثبت - أيضا - ذلك في الإنجيل، وتواتر القول به عن عيسى عليه السلام وهو قول الصابئة. وهذه الشريعة (الصابئة) قال أبو محمد بن حزم أنها أقدم الشرائع. بل القوم يظهر من أمرهم أنهم أشد الناس تعظيما لها (أي شريعة بعث الأجساد) وإيمانا بها، والسبب في ذلك أنهم يرون أنها تنحو نحو تدبير الناس الذي به وجود الإنسان بما هو إنسان، وبلوغه سعادته الخاصة به، وذلك أنها ضرورية في وجود الفضائل الخلقية للإنسان والفضائل النظرية والصنائع العملية. وذلك أنهم يرون أن الإنسان لا حياة له في هذه الدار إلا بالصنائع العملية، ولا حياة له في هذه الدار ولا في الدار الآخرة إلا بالفضائل النظرية. وإنه ولا واحد من هذين يتم ولا يبلغ إليه إلا بالفضائل الخلقية. وإن الفضائل الخلقية لا تمكن إلا بمعرفة الله تعالى وتعظيمه بالعبادات المشروعة لها في ملة ملة مثل القرابين والصلوات والأدعية ، وما يشبه ذلك من الأقاويل التي تقال في الثناء على الله تعالى وعلى الملائكة والنبيين. ويرون بالجملة أن الشرائع هي الصنائع الضرورية المدنية التي تؤخذ مباديها من العقل والشرع، ولاسيما ما كان منها عاما لجميع الشرائع وإن اختلقت في ذلك بالأقل والأكثر. ويرون مع هذا أنه ينبغي أن يتعرض بقول مثبت أو مبطل في مباديها العامة مثل هل يجب أن يعبد الله أو لا يعبد. وأكثر من ذلك هل هو موجود أم ليس بموجود. وكذلك يرون في سائر مباديه مثل القول في السعادة الأخيرة وفي كيفيتها؛ لأن الشرائع كلها اتفقت على وجود أخروي بعد الموت وإن اختلفت في صفة ذلك الوجود، كما اتفقت على معرفة وجوده وصفاته وأفعاله وإن اختلفت فيما تقوله في ذات المبدأ وأفعاله بالأقل والأكثر. ولذلك هي متفقة في الأفعال التي توصل إلى السعادة التي في الدار الآخرة وإن اختلفت في تقدير هذه الأفعال. فهي بالجملة لما كانت تنحو نحو الحكمة بطريق مشترك للجميع كانت واجبة عندهم؛ لأن الفلسفة إنما تنحو نحو تعريف السعادة لبعض الناس العقلاء وهو من شأنه أن يتعلم الحكمة. والشرائع تقصد تعليم الجمهور عامة، ومع هذا فلا نجد شريعة من الشرائع إلا وقد نبهت بما يخص الحكماء، وعنيت بما يشترك فيه الجمهور. ولما كان الصنف الخاص من الناس إنما يتم وجوده وتحصيل سعادته بمشاركة الصنف العام، كان التعليم العام ضروريا في وجود الصنف الخاص وفي حياته. أما في وقت صباه ومنشئه فلا يشك أحد في ذلك، وأما عند نقلته إلى ما يخص فمن ضرورته ألا يستهين بما يشاغله، وأن يتأول لذلك أحسن تأويل، وأن يعلم أن المقصود بذلك التعليم هو ما يعلم لا ما يخص وإنه إن صرح بشك في المبادئ الشرعية التي نشأ عليها أو بتأويل أنه مناقض للأنبياء صلوات الله عليهم وصارف عن سبيلهم؛ فإنه أحق الناس بأن ينطق عليه اسم الكفر، وتوجب له في الملة التي نشأ عليها عقوبة الكفر. ويجب عليه مع ذلك أن يختار أفضلها في زمانه، وإن كانت كلها عنده حقا وإن يعتقد أن الأفضل ينسخ بما هو أفضل منه. ولذلك أسلم الحكماء الذين كانوا يعلمون الناس بالإسكندرية لما وصلتهم شريعة الإسلام وتنصر الحكماء الذين كانوا ببلاد الروم لما وصلتهم شريعة عيسى عليه السلام. ولا يشك أحد أنه كان في بني إسرائيل حكماء كثيرون، وذلك ظاهر من الكتب التي تلقى عند بني إسرائيل المنسوبة إلى سليمان عليه السلام. ولم تزل الحكمة أمرا موجودا في أهل الوحي وهم الأنبياء، ولذلك أصدق كل قضية هي أن كل نبي حكيم وليس كل حكيم نبيا، ولكنهم العلماء الذين قيل فيهم أنهم ورثة الأنبياء. وإذا كانت الصنائع البرهانية في مباديها للصادرات والأصول الموضوعة فبالحري يجب أن يكون ذلك في الشرائع المأخوذة من الوحي والعقل. وكل شريعة كانت بالوحي فالعقل يخالطها. ومن سلم أنه يمكن أن يكون هاهنا شريعة بالعقل فقط؛ فإنه يلزم أن يكون ضرورة أن تكون أنقص من الشرائع التي استنبطت بالعقل والوحي. والجميع متفقون على أن مبادئ العمل يجب أن تؤخذ تقليدا إذ كان لا سبيل إلى البرهان على وجوب العمل إلا بوجود الفضائل الحاصلة عن الأعمال الخلقية والعملية. فقد تبين من هذا القول أن الحكماء بأجمعهم يرون في الشرائع هذا الرأي، أعني أن يتقلد من الأنبياء والواضعين مبادئ العمل والسنن المشروعة في ملة ملة. والممدوح عندهم من هذه المبادئ الضرورية هو ما كان منها أحث للجمهور على الأعمال الفاضلة حتى يكون الناشئون عليها أتم فضيلة من الناشئين على غيرها مثل كون الصلوات عندنا، فإنه لا يشك في أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر كما قال الله تعالى، وأن الصلاة الموضوعة في هذه الشريعة يوجد فيها هذا الفعل أتم منه في سائر الصلوات الموضوعة في سائر الشرائع، وذلك بما شرط في عددها وأوقاتها وأذكارها وسائر ما شرط فيها من الطهارة ومن المتروك أعني ترك الأفعال والأقوال المفسدة لها. وكذلك الأمر فيما قيل في المعاد فيها هو أحث على الأعمال الفاضلة مما قيل في غيرها. ولذلك كان تمثيل المعاد لهم بالأمور الجسمانية أفضل من تمثيله بالأمور الروحانية كما قال الله تعالى:
مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار
وقال النبي عليه السلام: (فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر). وقال ابن عباس (رضى الله عنه): ليس في الدنيا من الآخرة إلا الأسماء. فدل على أن ذلك الوجود نشأة أخرى أعلى من هذا الوجود، وطور آخر أفضل من هذا الطور. وليس ينبغي أن ينكر ذلك من يعتقد أنا ندرك الموجود الواحد ينتقل من طور إلى طور مثل انتقال الصور الجمادية إلى أن تصير مدركة ذواتها وهي الصور العقلية. والذين شكوا في هذه الأشياء وتعرضوا وأفصحوا به، إنما هم الذين يقصدون إبطال الشرائع وإبطال الفضائل، وهم الزنادقة الذين يرون أن لا غاية للإنسان إلا التمتع باللذات، هذا مما لا يشك أحد فيه. ومن قدر عليه من هؤلاء فلا يشك أن أصحاب الشرائع والحكماء بأجمعهم يقتلونه. ومن لم يقدر عليه؛ فإن أتم الأقاويل التي يحتج بها عليه وهي الدلائل التي تضمنها الكتاب العزيز، وما قاله هذا الرجل (يعني الغزالي) في معاندتهم هو جيد. ولا بد في معاندتهم أن توضع النفس غير ثابتة، كما دلت عليه الدلائل العقلية والشرعية، وإن توضح أن التي تعود هي أمثال هذه الأمثال التي كانت في هذه الدار لا هي بعينها؛ لأن المعدوم لا يعود بالشخص، وإنما يعود الوجود لمثل ما عدم لا لعين ما عدم كما بين أبو حامد. ولذلك لا يصح القول بالإعادة على مذهب من اعتقد من المتكلمين أن النفس عرض، وأن الأجسام التي تعاد هي التي تعدم. وذلك أن ما عدم ثم وجد فإنه واحد بالنوع لا واحد بالعدد، بل اثنان بالعدد، وبخاصة من يقول منهم أن الأعراض لا تبقى زمانين». انتهى كلام ابن رشد في خاتمة كتابه (تهافت التهافت).
والجدير بالانتباه مما تقدم ثلاثة أمور :
الأمر الأول:
اكتفاء الفيلسوف بالوحي في تلك المسألة ورغبته في عدم عرضها على العقل مع تأويل صفتها تأويلا ينطبق على العقل. وهذه هي طريقته في كل المسائل التي كان يحتك بها الدين بالعلم أو العلم بالدين.
والأمر الثاني:
تسامح ابن رشد وتساهله بشأن باقي الأديان. فإن قوله: إن الحكيم لا يتعرض للشرائع بقول مثبت أو مبطل في مبادئها العامة، وإن الشرائع كلها نبهت بما يجب تنبيه الخاصة والعامة إليه، وأنه لا يجوز الاستهانة بها والتصريح بشك في مباديها، بل يجب تأويلها أحسن تأويل؛ لأنها كلها حق، وإن الفضائل الخلقية لا تمكن إلا بالعبادات المشروعة للبشر في ملة ملة (أي في كل الملل) مثل القرابين والصلوات وما يشبه ذلك، وإن الحكماء يوجبون على الناس تقليد الأنبياء والواضعين «في كل ملة» لأن المبادئ التي وضعوها لا يقصد بها إلا حث الجمهور على الأعمال الفاضلة. هذه الأقوال ستبقى في كتاب (تهافت التهافت) دليلا على شرف نفس المؤلف ونزاهته التامة وكماله الأدبي الذي لا تزحزحه أهواء الخاصة والعامة. وكأنه رحمه الله قد رسم بهذين القولين طريق الألفة الحقيقية في الشرق ودائرة الإخاء الممكنة. كأنه قال بهما: إن جميع الأديان صحيحة في حد ذاتها إذا عمل الناس بفضائلها؛ لأنها كلها لا غرض لها سوى الترغيب في الفضائل لإبلاغ الإنسان السعادة في الدارين. كأنه قال: إن الذي يطعن في أحد الأديان ليثني على دين آخر سواء كان ذلك بحق أو من غير حق يكون كمن يطعن على جميع المبادئ الدينية العامة المشتركة بين جميع الملل، وبذلك يخرج عن دائرة الفضيلة الدينية والمبادئ الأدبية. فنحن ننحني هنا باحترام أمام أبي الوليد لشكره على هذا القول الذي أظهر به نزاهته. ونهديه هذا الشكر باسم النبت الجديد في الشرق، أي الناشئة الجديدة المجتمعة على مبادئ الإخاء والإنسانية.
بقي الأمر الثالث:
وهو اهتمامه بأمر الزنادقة الذين يقصدون «إبطال الشرائع وإبطال الفضائل» وإيجاب قتلهم على كل من يقدر عليهم.
فنقول في هذا بكل حرية أننا كنا ننتظر من أبي الوليد تساهلا أكثر من هذا التساهل، لأن القتل في شريعة الإنسانية الحقيقية محرم أيا كان سببه، ولكن لا يجب أن ننسى أن أبا الوليد رحمه الله إنما كان في هذا الكتاب (تهافت التهافت) يرد على الإمام الغزالي. ولذلك كان فيه أقل جرأة مما كان في غيره. فلا غرابة بعد هذا أن يقصد تقوية حجته بشيء من التطرف والشدة.
ومع ذلك فربما كان لأبي الوليد في هذه المسألة حجة أخرى. وهي رغبته في أن يتنصل من كل شبهة كانت تقع على المشتغلين بالفلسفة في تلك الأزمان، بسبب بعض من أصحاب العقول الجافة الذين يرون في الفلسفة ذرية إلى الانطلاق من كل قيد.
وتأييدا لهذا القول ننقل ما رواه رنان في الصفحة 171 من كتابه (ابن رشد) وهذا نصه بحرفه: «كان خصوم الفلسفة يقولون إن هذه الصناعة تؤدي إلى الاعتقاد بقدم العالم ووجوب وجوده وإنكار البعث والحساب، والمعيشة بلا قيد ولا شريعة جريا مع الشهوات. (قال الغزالي): ومما لا بد من التصريح به أن العلم الطبيعي أدى أحيانا ببعض العلماء المسلمين إلى شيء من المادية. فإن طائفة «الحشاشين» الذين كان الخلفاء والأمراء يرتجلون منهم في قصورهم، إنما كانوا فلاسفة يقطعون أوقاتهم بتأليف كتب في الفلسفة. ولما دخل جيش المغول إلى قصرهم في علموت ذلك القصر الذي كان بمثابة عش للعقبان، وجدوا فيه مدرسة علمية كاملة ومكتبة واسعة وغرفة لدرس العلم الطبيعي بالتجربة والامتحان، ومرصدا للفلك آلاته في غاية الإتقان. وفضلا عن ذلك؛ فإن الفلاسفة عند العرب كانوا على وجه الإجمال قليلي الاهتمام بالعبادات. فإن (ابن سينا) كان يشرب الخمر ويحب الغناء ويعكف على الملاذ ويفعل أفعال الجاهلية. وكثيرا ما كان يصرف الليالي مع تلامذته في هذه الأمور. ولما قيل له مرة أن الخمر محرمة أجاب: «قد حرمت الخمر لأنها تثير الخصام والعداء بين الشاربين. وبما أنني معصوم من ذلك بحكمتي؛ فإنني أتناولها لتنبيه فكري وحث خاطري» (رواه الغزالي). وبذلك كان فلاسفة العرب معتبرين بين أبناء وطنهم بمنزلة «الفجار» في القرن السابع عشر عندنا؛ لأنه يصعب التصديق بأن رجالا واسعي النظر كأولئك الرجال لم يعلموا من قواعد الدين الرمزية فوق ما كان العامة يعلمونه . وقد قال الغزالي: «وقد نجد أحدهم (أي أحد الفلاسفة) يقرأ القرآن ويحضر الحفلات الدينية والصلوات ويثني على الدين من شفتيه، إذا سئل إذا كنت لا تعتقد بالنبوءات فلماذا تصلي.؟ فإنه يجيب: لأن الصلاة عادة ووسيلة لإنقاذ حياتي من الموت. وهكذا لا يكف عن شرب الخمر وإتيان كل ضروب الشناعات والكفر». انتهى نقلا عن رنان.
نقول: فإذا كان أبو الوليد قد عني بالزنادقة هؤلاء الذين لا يحترمون الفضائل الدينية وينصبون أنفسهم مثالا رديئا للناس وغرضهم إبطال الشرائع والفضائل كما كان غرض «الحشاشين» الذين كانوا بمنزلة الطوائف الفوضوية في هذا الزمان؛ فإن له شيئا من العذر في ما قاله. ولا ريب أنه يكون قد قال ما قاله من صميم قلبه لأن أفعالا كهذه الأفعال تهدم ما تبنيه الفلسفة، وتسد السبيل في وجهها، إذ تنفر العقول منها، ولكن إذا كان أبو الوليد أطلق اسم «الزنادقة» على الباحثين بالعقل والمتطرفين في هذا البحث أكثر منه دون أن ينشأ عنهم ضرر بالفضائل فليس له عذر غير عذر الاتقاء والاحتماء.
والحاصل من كل ما تقدم في هذا الموضوع أن الباحث في فلسفة ابن رشد بحثا عميقا دقيقا يستخرج منها في هذه المسألة نتيجتين متناقضتين - كما تقدم - واحدة سلبية وواحدة إيجابية. وفي هذا القدر كفاية.
ولكن قبل ختام هذا الفصل لا نرى بدا من نشر حكاية صغيرة مختصة بهذا الموضوع، وقد رواها جمال الدين في كتابه (تاريخ الفلاسفة) وعنه نقلها أبو الفرج. ومنها يظهر رأي أحد تلامذة ابن رشد في الموضوع الذي نحن في صدده. وهذا التلميذ هو يوسف بن يهوذا الطبيب الإسرائيلي الذي كان تلميذا لابن رشد وموسى ميمون الفيلسوف المشهور. وقد تقدم أن ميمون هذا هو أكبر دعاة فلسفة ابن رشد بعد وفاته. وقد كتب إليه تلميذه ابن يهوذا المذكور كتابا يدل على ما كان لابن رشد من الشهرة لدى يهود أسبانيا حتى في حياته. وهذه هي خلاصة هذا الكتاب: «لقد أعجبتني أمس ابنتك «الثريا» الجميلة فخطبتها مخلصا بحسب الشريعة المعطاة لنا على جبل سيناء . ثم تزوجتها بثلاثة طرق : الأول إنني أمهرتها ذهب الصداقة. والثاني أنني كتبت لها ميثاق حب؛ لأنني مولع بها. والثالث بضمها إلى صدري كما يضم الفتى الفتاة العذراء. ثم أنني بعد الحصول عليها بهذه الأمور الثلاثة دعوتها إلى فراش الزواج والحب، ولم أستعمل لذلك لا اللطف ولا العنف. فمنحتني حبها؛ لأنني كنت قد منحتها حبي ومزجت نفسي بنفسها. وقد حدث ذلك كله أمام شاهدين مشهورين وهما الصديقان ابن عبيد الله (أي موسى ميمون) وابن رشد، ولكن هذه الزوجة لم تستقر في فراش الزواج تحت سلطتي حتى أخذت تشرد مني وتطلب عشاقا غيري».
انتهى كتاب ابن يهوذا. وهو يعني بهذه الفتاة «الفلسفة» التي تلقنها من أستاذيه ابن رشد وموسى المذكور. والظاهر أنه لم يبرع فيها، ولم يكن على اتفاق معها حتى قال أنها أخذت تشرد منه.
فابن يهوذا هذا روى عنه جمال الدين مؤلف كتاب (تاريخ الفلسفة) ما يلي. قال: «كنت صديقا حميما لابن يهوذا. ففي ذات يوم قلت له إذا كان حقا أن النفس تحيا بعد مفارقة الجسد وتبقى قادرة على معرفة الأشياء الخارجية؛ فعدني وعدا صادقا أنك إذا توفيت قبلي تأتي وتخبرني بما هنالك، لأعدك بأنني إذا مت قبلك أفعل - أيضا - ذلك. فأجابني إلى هذا السؤال وتواعدنا على هذا الأمر. ثم إنه توفي ومرت بضع سنوات دون أن يظهر لي، ولكنني في ذات ليلة رأيته في الحلم فقلت له: أيها الطبيب. أما وعدتني بأن تأتي بعد الموت وتطلعني على ما جرى لك. فضحك وأدار عني وجهه. فقبضت عليه حينئذ من يده وقلت له: «لا أتركك حتى تخبرني كيف يكون الإنسان بعد الموت». فأجابني: إن العام عاد إلى العام والخاص دخل في الخاص. ففهمت حينئذ كلامه الذي معناه أن النفس التي هي جوهر عام قد عادت إلى الجوهر العام. والجسد الذي هو عنصر خاص قد عاد إلى الأرض مستقر العنصر الخاص. ثم انتبهت وأنا أعجب برشاقة جوابه.
الفقرة (6) فلسفته الأدبية
مما هو جدير بالذكر أن العرب لم يهتموا بمؤلفات اليونان الأدبية اهتمامهم بمؤلفاتهم الفلسفية والمنطقية والطبيعية. ولعل السبب في ذلك أن مؤلفاتهم الأدبية كانت مخصوصة بهم. مثال ذلك الإلياذة والأوديسة وخطب ذيموستينوس وغيرها. فإن هذه الكتب الأدبية البديعة لا ذكر فيها إلا للمسائل اليونانية الخصوصية التي قلما يهتم بها باقي الناس سوى طلاب البلاغة، ولكن العرب الذين نبغ في لغتهم من عرفنا من الشعراء والخطباء في الجاهلية وبعدها معذورون إذا لم يقتدوا بالإفرنج في طلب البلاغة من المؤلفات اليونانية.
ومع ذلك؛ فإننا نأسف أسفا شديدا لهذا النقص، لأنه لو أقبل العرب يومئذ على مؤلفات اليونان الأدبية إقبالهم على غيرها من مؤلفاتهم، لأضافوا خزائن البلاغة اليونانية إلى خزائن البلاغة العربية.
وقد تقدم في الفقرة السادسة أن فلسفة ابن رشد الأدبية لم تشغل سوى حيز صغير بإزاء فلسفته الطبيعية. وقد كان الخلاف بينه وبين المتكلمين في الفلسفة الأدبية شبيها بالخلاف بينه وبينهم في فلسفته الطبيعية. وسيرد معنا في الباب الثالث عند الكلام على مسألة «الأسباب» أن هذه المسألة هي النقطة التي تدور عليها كل المسائل الفلسفية والدينية بين ابن رشد ومناظريه. فإن مناظري ابن رشد من المتكلمين كانوا يقولون إن الله يصنع الخير؛ لأنه يشاء صنعه. وهو يشاء صنعه لا لسبب داخلي لازم وسابق لإرادته؛ بل عبارة عن إرادة مطلقة غير مقيدة بسنن ونواميس. ولذلك قال لهم ابن رشد في شرحه كتاب أفلاطون في الجمهورية أن مذهبا كمذهبهم ينقض كل مبادئ العدل والحق، ويهدم كل قواعد الدين التي يقولون إنهم يدافعون عنها. وأما حرية الإنسان؛ فهو يقول فيها ما خلاصته: «إن الإنسان غير مطلق الحرية تماما ولا مقيدها تماما، وذلك أنه إذا نظر إليه من جهة نفسه وباطنه؛ فهو حر مطلق؛ لأن نفسه مطلقة الحرية في جسمه، ولكن إذا نظر إليه من جهة حوادث الحياة الخارجية كان مقيدا بها لما لها من التأثير على أعماله». وهو يقول: إن هذا هو السر في أن القرآن يجعل الإنسان تارة مختارا وتارة مقيدا. وهذا المذهب وسط بين الجبرية والقدرية. وقد شرحه أبو الوليد في كتاب له في إظهار طرق العقائد الدينية. وقال في كتابه في الطبيعيات إنه كما أن المادة الأولى التي صنع العالم منها كانت قابلة لكل الانفعالات التي تحدث فيها بصور مختلفة متقابلة، كذلك نفس الإنسان قابلة لهذه الانفعالات المتقابلة المختلفة، ولها المقدرة على اختيار بعضها دون بعض.
رأيه في السياسة وفي النساء - أما فلسفة ابن رشد السياسية فهي مبنية على فلسفة أفلاطون وقد بسطها في شرحه «جمهورية» هذا الفيلسوف. وخلاصتها أنه يجب إلقاء زمام الأحكام إلى الشيوخ والفلاسفة ليديروها بقسط وعدل. ويجب حث الناس على الفضائل بتعليمهم البيان والعلوم التي تثقف العقل. أما الشعر وخصوصا الشعر العربي؛ فإنه مضر. ولعله رأى أن الشعر العربي مضر لما يكون فيه أحيانا من الغزل الذي يجر إلى التهتك ورغبته في إفناء روح الجاهلية. ومما يقال في هذا المقام أن أبا الوليد كان لا يكره الشعر العربي في حد ذاته، لأنه كان يحفظ شعر حبيب والمتنبي ويكثر التمثيل بهما في مجلسه ويورد ذلك أحسن إيراد «كما قال ابن العبار، ولكن طبيعته لم تكن شعرية. أي أن العقل كان فيه أقوى من القلب، ولذلك كان تحمسه نادرا خلافا للإمام الغزالي. وهذا أمر ظاهر في كتاباته كل الظهور؛ فإنك تراها ثابتة ثقيلة الخطى كأن ألفاظها جبال تتدحرج بعضها وراء بعض بلا وثبة ولا حركة شديدة خلافا لكتابات الغزالي التي يخيل لك أنها مكتوبة بقلم من نار، ولكنك في مقابل ذلك تجد في كتابات أبي الوليد ذلك العقل الرزين المقنع الثابت الجأش الذي يلبث في تلك الجبال المتدحرجة روحا حية تتضوع منها ريح النزاهة والاعتدال.
قال رنان: ويؤخذ من رأي ابن رشد في المملكة أن استغناءها عن القضاة والأطباء كان عنده خير دليل على انتظام شئونها، أما الجيش فلا وظيفة له غير حماية الشعب وحفظه. ولذلك فقد كان يكره الاستبداد العسكري والإقطاعات العسكرية.
أما رأيه في النساء؛ فهو منطبق كل الانطباق على رأي جناب قاسم بك أمين مؤلف كتاب (تحرير المرأة والمرأة الجديدة)؛ فإنه يرى أن الاختلاف الذي بين النساء والرجال إنما هو اختلاف في الكم لا في الطبع. أي أن النساء طبيعتهن شبيهة بطبيعة الرجال، ولكنهن أضعف منهم في الأعمال. والدليل على ذلك مقدرتهن على جميع أعمال الرجال كالحرب والفلسفة وغيرهما، ولكنهن أضعف من الرجال فيها. على أنهن قد يفقن الرجال في بعض الأمور كفن الموسيقى مثلا، ولذلك كان الفيلسوف يرى أن كمال هذا الفن في أن يكون الواضع أو المؤلف رجلا والموقع أو المنشد امرأة. وقد دلت حالة بعض البلاد في المغرب (أفريقيا) على أن النساء قادرات كل القدرة على الحرب ولذلك لا خوف على المملكة من قبضهن على أزمة الأحكام فيها.
5
وقد كان ابن رشد يستشهد على صحة قوله هذا بإناث الكلاب التي تحرس الغنم حراسة شديدة. كحراسة الذكور. وهو يقول في هذه المسألة الخطيرة ما خلاصته: «إن معيشتنا الاجتماعية الحاضرة لا تدعنا ننظر ما في النساء من القوى الكامنة. فهي عندنا كأنها لم تخلق إلا للولادة وإرضاع الأطفال، ولذلك تنفي هذه العبودية كل ما فيها من القوة على الأعمال العظيمة. وهذا هو السبب في عدم وجود نساء رفيعات الشأن عندنا. وفضلا عن ذلك؛ فإن حياتهن أشبه بحياة النبات وهن عالة على رجالهن، ولذلك كان الفقر عظيما في مدننا؛ لأن عدد النساء فيها مضاعف عدد الرجال وهن عاجزات عن كسب رزقهن الضروري.
ومن رأي ابن رشد أن الحاكم الظالم هو ذلك الذي يحكم الشعب من أجل نفسه لا من أجل الشعب. وإن شر الظلم ظلم رجال الدين. وإن أحوال العرب في عهد الخلفاء الراشدين كانت على غاية من الصلاح. فكأنما وصف أفلاطون حكومتهم لما وصف في «جمهوريته» الحكومة الجمهورية الصحيحة التي يجب أن تكون مثالا لجميع الحكومات، ولكن معاوية هدم ذلك البناء الجليل القديم، وأقام مكانه دولة بني أمية وسلطانها الشديد. ففتح بذلك بابا للفتن التي لا تزال إلى الآن قائمة قاعدة حتى في بلادنا هذه (الأندلس).
خاتمة الكلام في فلسفته (ونسبتها إلى فلسفة أرسطو)
هذا ما رأينا ذكره في هذا الباب بشأن فلسفة ابن رشد. وقد تناولنا كل فقرة من الفقرات المنشورة في صدر هذا الباب نقلا عن «الجامعة» وشرحناها شرحا وافيا. فإذا أخذت الآن كل فقرة منها وعرضتها على الفقرة التي شرحناها فيها؛ اتضحت لك صحة كل ما نشرناه أول مرة عن فلسفة هذا الفيلسوف.
بقي علينا أن نظهر ما في فلسفة ابن رشد من الموافقة لفلسفة أرسطو، وما فيها من المخالفة التي نشأت عن الزيادة عليها فنقول.
إن فلسفة العرب في مسألة «العقول» تنقسم إلى خمسة أقسام :
القسم الأول:
الاعتقاد بوجود عقلين هما في الأصل واحد؛ الأول عقل عام فاعل بريء من المادة، وهو صادر عن المبدأ الأول أي الخالق. والثاني عقل منفعل أو مفعول وهو القوى الإنسانية أو الحيوانية القابلة للانفعال من العقل الأول.
والقسم الثاني:
أن العقل العام الفاعل البريء من المادة عقل خالد لا يقبل الفناء. والعقل المنفعل أو المفعول أي القابل للانفعال يقبل الفناء.
القسم الثالث:
إن العقل العام الفاعل هو بمثابة شمس للعقول تستمد كلها نورها منه.
القسم الرابع:
وحدة هذا العقل الفاعل؛ لأنه لا يتجزأ ولا ينقسم.
القسم الخامس:
اتصال العقل الفاعل بالعقل المنفعل الإنساني حتى بالعقل الحيواني؛ لأنه متى عقل صورة صار هو إياها.
فمما لا ريب فيه قطعيا أن القسم الأول والثاني يدخلان في فلسفة أرسطو؛ لأنه أثبتهما في كتبه. والقسم الثالث يمكن إثباته من كتبه، ولكن بعض الفلاسفة المعاصرين ينكرون ذلك وينقضونه.
بقي القسم الرابع والخامس وهما من موضوعات فلاسفة العرب الذين أدخلوا هذه الزيادات على فلسفة أرسطو، حين شرحهم لها وهم يحسبون أنهم يكملونها ويهذبونها.
الفلسفة الرشدية عند اليهود
بقي علينا بعدما تقدم من بسط فلسفة ابن رشد أن نذكر تاريخها في أوروبا فنقول:
إن البحث في هذا الموضوع يستغرق كتابا مفردا على حدة؛ لأن تاريخ الفلسفة الرشدية في أوروبا إنما هو تاريخ الفلسفة اليهودية والفلسفة الأوروبية، ولذلك نلتزم الاختصار بقدر الإمكان لئلا يطول هذا الكتاب أكثر مما يجب.
من المعلوم أنه بعد وفاة ابن رشد كان الفاعل الكبير في إذاعة فلسفته بين اليهود - وبالتالي في أوروبا - عالم يهودي كبير يسميه علماء اليهود «موسى الثاني»، وهو المعروف عند العرب بابن عبيد الله، والمعروف عند اليهود بموسى ميمون الذي تقدم ذكره.
1
وقد روى بعض المؤرخين أن موسى هذا كان من تلامذة ابن رشد. وقد أقام ضيفا في منزله في قرطبة إلى يوم اضطهاده ونفيه منها، ولكن بعضهم أثبت أن موسى برح الأندلس قبل نفي ابن رشد بثلاثين سنة، فرارا من الاضطهاد الذي كان يصيب المشتغلين بالفلسفة في بعض الأزمان. ومع ذلك؛ فإن موسى يقول في أحد مؤلفاته إنه كان تلميذا لأحد تلامذة ابن بجا. غير أنه لا يسمى ابن رشد. وأول مرة سماه فيها كانت في كتاب كتبه في سنة 1191 للميلاد من القاهرة ملجئه إلى تلميذه يوسف بن يهوذا الذي تقدم ذكره. وهذا نص هذا الكتاب: «لقد وصلني في المدة الأخيرة كل ما ألفه ابن رشد في تلاخيص أرسطو لكتابه (الحس والمحسوس). وقد ظهر لي أنه قد أصاب كل الإصابة، ولكني لم أتمكن إلى الآن من البحث في مؤلفاته بحثا وافيا».
ومنذ هذا الحين أخذ موسى يدرس فلسفة ابن رشد، ويقابلها بفلسفة أرسطو الأصلية. ثم استخرج من الفلسفتين فلسفة رام تطبيقها على الشريعة اليهودية. فقال: إن العالم غير قديم، أي أن المادة غير أزلية كما يقول الفلاسفة، ولكن ما ذكر في سفر التكوين من خلق العالم لم يقصد به موسى سوى وصف ترتيب الكائنات بعد تكوينها، لا في بدء تكوينها. ومع ذلك؛ فإنه لا يعتقد بأن القول يقدم العالم كفر؛ لأن ذلك يمكن تطبيقه على الشريعة. وهو يعتقد في شخصية العقل أي انقسامه في الإنسان حتى يصير كل عقل فيه نفسا قائمة بذاتها، ما يخالف اعتقاد ابن رشد في هذا الموضوع من بعض الوجوه. وسبب هذه المخالفة رغبته في التسوية بين حزب الفلسفة وحزب الدين الإسرائيلي. وهذه الرغبة جعلته يؤول مسألة البعث وحشر الأجساد تأويلا ظهر فيه ارتباكه واضطرابه. وخوفا من أن يقع في شيء شبيه بتعليم المسيحيين بشأن الألوهية لم يجسر أن ينسب إلى الله تعالى صفات خصوصية كالوجود والوحدة والأزلية؛ لأن هذه الصفات تجر إلى غيرها وهذه إلى غيرها وهلم جرا. ولذلك قال المقريزي المؤرخ العربي المشهور أن موسى هذا كان يعلم أبناء وطنه الكفر والتعطيل. وقال غيليوم دوفرن طاعنا على الفلسفة، ومستنكرا إقبال اليهود عليها. إن جميع اليهود الخاضعين للعرب في أسبانيا تركوا شريعة إبراهيم وتمذهبوا بمذهب العرب والفلاسفة.
أما رأي موسى في العلم والنبوءة فهو أن العلم ضروري للإنسان إذ به كماله وتمامه. والعالم تبدأ جنته وسعادته في هذه الدنيا، ولكن العلم لا يدركه إلا الخواص، ولذلك لا بد من النبوءة للعوام. وهذا هو السبب في إنزال الله الوحي على الأنبياء. وما الوحي إلا حالة كمال طبيعي يبلغه بعض البشر المختارين، لذلك فهو بمنزلة فيض العقل الفاعل على الإنسان المختار فيضانا مستمرا.
ومما لا يحتاج إلى بيان أن الأكليروس اليهودي قاوم تلك الأصول الفلسفية كما قاومها أكليروس باقي الأديان في كل مكان. وسيرد تفصيل ذلك في موضع آخر، ولكن حزب الفلسفة تغلب على حزب التقليد الديني في بدء الأمر، فاستمر الباحثون اليهود في أبحاثهم الفلسفية إلى أجل مسمى.
ولما هجر اليهود الأندلس إلى بروفنسيا والأقاليم المتاخمة لجبال البيرينة فرارا من الاضطهاد وخالطوا جماعات الإفرنج في بلادهم هجروا اللغة العربية التي كانوا يكتبون ويؤلفون بها، وشعروا بالحاجة إلى ترجمة كتبهم الفلسفية السابقة إلى اللغة العبرانية. فأخذوا منذ ذلك الحين في هذا العمل. وأول من شرع منهم فيه أسرة تدعى أسرة طيبون، أصلها من الأندلس، وقد هاجرت منها إلى لونل في فرنسا. فترجم اثنان من رجالها وهما موسى بن طيبون وصموئيل بن طيبون بعض تلاخيص ابن رشد في فلسفة أرسطو. فكانا أول مترجمي فلسفة ابن رشد إلى لغة أجنبية. وكان الإمبراطور فردريك الثاني - إمبراطور ألمانيا - من محبي نشر الفلسفة ومحالفي الإسلام والمسلمين على الأكليروس المسيحي، كما سيرد تفصيل ذلك، فعهد إلى كثيرين من كتبة اليهود في إخراج فلسفة العرب إلى اللغة العبرانية واللغة اللاتينية. وكان يهوذا بن سليمان كوهين الطليطلي من مقربيه؛ فألف له في سنة 1247م كتابا سماه (طلب الحكمة) واعتمد فيه على ابن رشد. فكان هذا الكتاب في مقدمة كتب ابن رشد التي صدرت باللغة العبرانية.
ومن الكتاب الذين عهد إليهم الإمبراطور فردريك ترجمة فلسفة العرب، مؤلف يهودي من بروفنسيا كان مقيما في نابولي، وهو يدعى يعقوب بن أبي مريم بن أبي شمشون أنتولي. وكان هذا الكاتب صهرا لعائلة طيبون التي تقدم ذكرها. فترجم للإمبراطور في حوالي سنة 1232 عدة كتب من تأليف ابن رشد، وقد أثنى في خاتمة أحدها ثناء عظيما على الإمبراطور، وتمنى لو يظهر المسيح (أي المسيح الذي ينتظره اليهود) في عهده. ذلك لأن هذا الإمبراطور كان مقاوما للأكليروس المسيحي كما تقدم.
ثم قام بعد ذلك كالونيم بن كالونيم بن مير من مدينة أرل الذي ولد في سنة 1287 وأخذ يترجم كتب ابن رشد إلى اللغة العبرانية. وقد كان هذا الكاتب يعرف اللغة اللاتينية؛ فترجم إليها كتاب (تهافت التهافت) في عام 1328 ثم قام بعده عدة مترجمين.
وهكذا لم يأت القرن الرابع عشر حتى بلغت فلسفة ابن رشد عند اليهود أعلى منزلة. ومما زاد في رفعة سلطانها قيام فيلسوف يهودي يدعى «لاوي بن جرشون» من مدينة بانيول، وهو معروف عند الإفرنج باسم «لاون الأفريقي» فهذا الفيلسوف كان أكبر فلاسفة اليهود في عصره، وقد صنع بفلسفة ابن رشد ما صنعه ابن رشد بفلسفة أرسطو. أي أنه شرح فلسفة ابن رشد شرحا تاما، حتى صار شرحه هذا قرينا لفلسفة ابن رشد، كما كان شرح ابن رشد قرينا لفلسفة أرسطو. وذلك يدل على أن العصور الماضية كانت تؤثر التلخيص على التطويل. ولا غرابة في ذلك؛ فإن الملخص الماهر إنما هو بمثابة الغائص على الدرر واللآلئ، يلتقط الأنفس فالأنفس، ويترك الحشو الممل، الذي كان ضروريا في زمنه، وليس بضروري في كل زمان.
وكان هذا الفيلسوف (لاون) أجرأ فلاسفة اليهود الذين تقدموه. فأقدم على ما أحجم عنه موسى ميمون (زعيم فلسفة ابن رشد) فقال بقدم العالم وأزلية المادة وباستحالة إمكان الخلق من لا شيء وبأن النبوءة قوة من القوة الإنسانية الطبيعية . وبذلك لوى قواعد الشريعة اليهودية ليطبقها على العلم وجعلها تابعة له. وكان موسى نربون في ذلك الزمن يفعل فعل لاوي جرشون في الفلسفة.
ولكن لم يأت القرن الخامس عشر حتى ضعفت الفلسفة اليهودية وذهب دور الجرأة والجسارة في العلم والفلسفة. وكان آخر فلاسفة اليهود المشهورين إلياس دل مديجو الذي كان أستاذا في كلية بادو. وكانت كلية بادو تدرس يومئذ فلسفة أرسطو، فامتزجت يومئذ فلسفة اليهود الرشدية بفلسفة بادو المبنية على المبادئ العربية. قال رنان: وقد تحققت إن هذه المدرسة تدرس إلى هذا الزمن كتابا لابن رشد في مختصر المنطق نشر في ريفادي ترنتو باللغة اللاتينية في عام 1560.
وفي أوائل القرن السادس عشر انتبه حزب التقاليد الدينية اليهودية من سباته، وأعاد الكرة على الفلسفة. فنشر أحد رجاله وهو ربي موسى المشنيو كتاب (تهافت الفلاسفة) للإمام الغزالي، وذلك حوالي عام 1538 ردا على فلاسفة اليهود الذين كانوا يؤيدون فلسفة ابن رشد وأرسطو. ثم ضعفت هذه الفلسفة شيئا فشيئا بإزاء الفلسفة الحديثة التي أخذت تحل محلها. فمن ذلك يظهر أن الفلسفة الرشدية لولا اليهود لانطفأ نورها في العالم كما انطفأ في الأندلس ولم تصل إلى الأمم الأوروبية. ولذلك كان لليهود فضل على الفلسفة لا ينكر. وكان شأنهم بين العرب وأوروبا شأن النساطرة والسريان بين اليونان والعرب. فكأن العرب أخذوا من اليونان بأيد سريانية نسطورية، وأعطوا أوروبا بأيد يهودية.
الفلسفة الرشدية وتاريخها في أوروبا
(تمهيد في ترجمة الإفرنج الكتب العربية)
قد يؤخذ من الأسطر السابقة أنه لولا اليهود لما انتشرت فلسفة ابن رشد في أوروبا. والحقيقة أن هذا الانقطاع والاختصاص لا وجود لهما في الطبيعة. فإن فكر البشر بمثابة فضاء لا نهاية له، تتراوح فيه كل النسمات التي تحرك أمواج هوائه. فإذا لم تصل هذه الأمواج بهذه الواسطة وصلت بتلك، إذ ليس في استطاعة أحد أن يوقف وصولها إلى الحد الذي رسمته لها اليد الأزلية بالأسباب الأزلية التي تدير النظام الأزلي. فلو لم يقم اليهود بنقل فلسفة ابن رشد إلى أوروبا لقام غيرهم، أي الذين يكونون في مكانهم؛ لأن الفراغ مستحيل في النواميس الطبيعية.
ولقد كان في العصور الوسطى دليل على هذا النظام الذي يحكم العالم الأدبي كما يحكم العالم المادي، أي نظام تبادل الأفكار في العالم وامتزاج الأشياء بعضها ببعض. وهذا أمر يذكرنا وا أسفاه بانقلاب الحال وتبدل الزمان؛ فإنه ما كما أن الكتب العلمية والأدبية والفلسفية الجديدة التي تنشر في جميع أقطار أوروبا اليوم لا تصدر حتى ترسل إلى المكاتب الإفرنجية القائمة في شارع شريف باشا والإسماعيلية في مصر، وتعرض في بيوتها الزجاجية على الناس، هكذا كانت الكتب العربية ترسل حال صدورها من القاهرة وبلاد المغرب والعراق إلى مكاتب باريز وكولونيا وغيرها. وربما كانت هذه الكتب أسرع في الانتقال من الكتب الإفرنجية التي تنقل اليوم إلينا؛ لأنها كانت مطلوبة في أوروبا طلبا، وهذه معروضة على الشرق عرضا.
ذلك أن الغرب كان يومئذ مغرما بمعارف الشرق. ولم يكن مغرما بها لذاتها فقط، بل لأنه رأى أن ذلك التمدن الإسلامي العظيم الذي قام بجانبه وفي بلاده، لم يقم إلا بها ولم يبن إلا عليها. ولذلك لم ينكر أخذ العلم عن الأجانب عنه ولم يكره التشبه بهم في فضائلهم وحسناتهم؛ لأنه كان يعلم أن التشبه بالكرام فلاح، وأنه لم يكن يحذو حذوهم ويتلو تلوهم إلا لمحاربتهم بعد ذلك بنفس سلاحهم. وهذا مطابق لما جاء في القول الجليل: «اطلبوا العلم ولو في الصين».
ولقد كان الفضل في الشروع في ترجمة كتب الفلسفة العربية في أوربا إلى اللغة اللاتينية لرئيس أساقفة طليطلة مونستيور دريموند؛ فإن هذا الأسقف أنشأ في طليطلة من سنة 1130 إلى سنة 1150 دائرة لترجمة الكتب العربية الفلسفية، أخصها كتب ابن سينا، إذ لم تكن كتب ابن رشد اشتهرت بعد. أما الكتب العربية الطبية والفلكية والرياضية؛ فقد كان سبقه إليها كثيرون مثل قسطنطين الأفريقي وجربرت وأفلاطون دي تريغولي. وقد جعل هذا الأسقف الأرشيديا كردومينيك كونديسالفي رئيسا لدائرة الترجمة. وكانت هذه الدائرة مؤلفة من مترجمين من اليهود أشهرهم يوحنا الأشبيلي. فأخرجت إلى اللغة اللاتينية كثيرا من مؤلفات ابن سينا. وبعد بضع سنوات ترجم جراردي كريمون وألفريد دي لولاي بعض كتب لأبي نصر الفارابي والكندي. وبذلك كانت أوروبا مديونة لأسقف طليطلة بإدخال فلسفة العرب إليها. ومن الغريب أن الفلسفة التي صنعت في أوروبا بعد ذلك ما صنعته بالدين إذ كان دخوله إليها على يد واحد من أكابر رجال الدين.
وكان عالم الأدب الأوروبي متصلا يومئذ بالعالم من جهتين. الأولى من جهة الأندلس وعلى الخصوص طليطلة التي تقدم ذكرها. والثانية من جهة صقلية ومملكة نابولي. وكان المترجمون يترجمون الكتب العربية في هاتين الجهتين. وكانت دائرة الترجمة مؤلفة دائما من اليهود وأحيانا من بعض المسلمين الأندلسيين المنضمين إلى الأوروبيين، وفيها الرئيس من الرهبان لمراقبة صحة الألفاظ اللاتينية. وكانوا في القرن الثاني عشر والثالث عشر يترجمون من العربية إلى اللاتينية مباشرة، إلا أنهم بعد هذا الزمن صاروا يترجمون الكتب العربية من العبرانية.
ولا يسعنا في ختام هذا الفصل إلا مقابلة حالة الغرب الماضية بحالة الشرق الحاضرة. فنقول: إنه إذا كان مبلغ نهضة الأمم يقاس باهتمامها بالمعارف، فجدير بنا أن نقول بعدما تقدم بيانه أن نهضة الشرق بعد كبوته لا تزال في طفولية مؤلمة؛ لأنه إلى الآن لم تتألف فيه دائرة لترجمة نفائس الكتب الأوروبية، فضلا عن إحياء الكتب العربية القديمة.
فعسى أن يعين الله «الجامعة» على عجزها وضعفها للقيام بشيء يسير من ذلك الواجب المقدس، وينبه الشرق من سباته بواسطة نبهائه وفضلائه لطلب المبادئ والحقائق لا التجارة الكتبية والصحافية.
ناشرو الفلسفة الرشدية في أوروبا ومعارضوها
قبل انتشار فلسفة ابن رشد في أوروبا كانت الفلسفة فيها عبارة عن تعاليم لاهوتية مجموعة من عدة كتب مختلفة مما كتبه أصحاب المذاهب اللاتينية. فلما دخلت فلسفة العرب إلى أوروبا، حصلت أوروبا بذلك على مجمل فلسفة أرسطو أي مجمل دائرة المعارف القديمة.
وقد ذكرنا أن أول من أدخل فلسفة العرب إلى أوروبا رئيس أساقفة طليطلة بالأندلس، وذلك بترجمته كتب ابن سينا. أما أول من أدخل فلسفة ابن رشد إليها؛ فهو ميخائيل سكوت وذلك في عام 1230 في طليطلة - أيضا - وذلك دعوة مؤسس الفلسفة الرشدية في أوروبا.
وكان ميخائيل سكوت من المقربين إلى بلاط ألمانيا، وقد عهد إليه الإمبراطور فردريك الثاني الذي كان يكره رجال الدين بترجمة فلسفة أرسطو عن العرب. وسيرد معنا في موضع آخر أن هذا الإمبراطور هو السبب الحقيقي في جرأة الفلاسفة والمترجمين على ترجمة الكتب الفلسفية.
وبعد ميخائيل سكوت قام هرمان الألماني فحذا حذوه محميا من الإمبراطور - أيضا - والأرجح أنه اعتمد في ترجمة كتبه على بعض عرب الأندلس العارفين باللغة العربية الفلسفية.
وقد ذكرنا في أثناء الكلام على تاريخ الفلسفة الرشدية عند اليهود المترجمين الذين حماهم هذا الإمبراطور لترجمة فلسفة ابن رشد. وقد استمر المترجمون بعد ذلك يستغلون تحت حماية هذا الإمبراطور.
1
حتى أنه ما انتصف القرن الثالث عشر حتى كانت جميع كتب ابن رشد المهمة قد ترجمت إلى اللغة اللاتينية. أما كتبه الطبية؛ فإنها لم تنشر إلا بعد كتبه الفلسفية.
ولما نفذت فلسفة العرب إلى أوروبا، وانتشرت بين أيدي الناس في الكليات والمدارس والمكاتب والجمعيات، وذلك قبل بلوغ فلسفة ابن رشد فيها أوج النفوذ والسلطان، اشتغل الأكليروس الأوربي بمقاومتها؛ لأن أصولها مخالفة لقواعد الأديان الموجودة. وأول مقاومة حدثت في وجهها كانت في المجمع الأكليريكي الذي عقد في باريز في عام 1209؛ فإن هذا المجمع حكم على المشتغلين بها وهم أموري ودفيد دي دنيان وتلامذتهما وشجب «تعليم أرسطو الطبيعي وشروحه» وربما كان في هذه الكلمة «الشروح» إشارة إلى شروح ابن رشد؛ لأن كلمة «الشارح» على الإطلاق لا تطلق على سواه. ومهما يكن من هذا الأمر؛ فإن هذا المجمع إنما كان غرضه ضرب أرسطو الداخل إلى بلادهم بواسطة العرب، مترجما عن العرب ومشروحا من العرب.
وفي عام 1215 حرم الأكليروس تعليم أرسطو - أيضا - خصوصا (تلاخيص ابن سينا). وفي عام 1231 أصدر البابا غريغوريوس التاسع حرما بمنع درس فلسفة العرب.
وكان السبب الذي جعل الأكليروس يقومون على فلسفة العرب نفس السبب الذي جعل المسلمين واليهود يقومون عليها قبل ذلك. فإن هذه الفلسفة تجعل للعالم نواميس طبيعية ومن عقائدها أن العالم قديم أزلي غير مخلوق منذ بعضة آلاف من السنين فقط وإن الخالق لا يصنع شيئا في الكون إلا بسبب «لازم». وكان رجل الدين يومئذ لم يتعودوا سماع هذه النغمة؛ لأن العلم الطبيعي لم يكن قد رفع الغطاء عن النواميس الطبيعية. ولذلك؛ فقد كانوا يومئذ معذورين في إنكارها. وإنما ذنبهم الوحيد الاضطهاد لا الإنكار. أي الرغبة في خنق الفكر؛ لأنه يعتقد اعتقادا مخالفا لمعتقدهم.
ولكن من حسن حظ أوربا أنها لم تصر على هذا الخطأ الفاضح؛ فإن اللاهوتيين فيها اضطروا بحكم الضرورة إلى تغيير سياستهم في مقاومة الفلسفة مقاومة عمياء، وصاروا يتخذون منها سلاحا لمحاربتها به. فقام غيليوم دوفرن وحمل على فلسفة العرب خصوصا ابن سينا حملة شديدة، فسماه: «المجدف القاذف»، ولكنه كان يقول عن ابن رشد: «إنه فيلسوف رزين عاقل وإنما سوء فهم تلامذته شوه تعليمه». وكان هذا الرجل (غيليوم دوفرن) أول اللاهوتيين الذين يجوز أن يقال فيهم أنهم كانوا يعرفون فلسفة ابن رشد، ومع ذلك فقد كان أشد أعداء هذه الفلسفة مع كثرة ثنائه على صاحبها؛ لأنه كان من أشد أعداء الفلسفة العربية.
وبعد غيليوم دوفرن قام اللاهوتي ألبير الكبير، وكان من محبي ابن سينا وكان يعتبره أستاذا له. وأما ابن رشد؛ فإنه لم يكن يعبأ به، وإذا اتفق وذكره في كتاباته؛ فإنه لا يذكره إلا لتعنيفه على اجترائه على مخالفة الأستاذ الرئيس (ابن سينا) وقد رد ألبير الكبير على فلسفة العرب ردودا كثيرة. وبعد ألبير الكبير قام القديس توما الذي هو أكبر الخصوم الذين وجدتهم فلسفة ابن رشد في طريقها.
القديس توما
(رده على فلسفة ابن رشد وصورته معه)
وقد قلنا إن القديس توما كان أكبر خصوم فلسفة ابن رشد. ولم نرد بذلك أنه كان أشدهم تطرفا وغلوا في الطعن على حكيم قرطبة، بل نعني أنه كان أقواهم حجة وأقدرهم على نقد فلسفته. أما المتطرفون في الطعن على ابن الوليد فسيرد ذكرهم. ولقد كان القديس توما يعتبر ابن رشد حكيما من الحكماء الأجانب . قال رنان: وفي الإمكان أن نقول إن القديس توما كان أكبر تلامذة ابن رشد؛ فإنه بصفته فيلسوفا فهو مديون بكل شيء للشارح العربي (ابن رشد).
ومما استدل به رنان على أن القديس توما كان تلميذا لابن رشد (أي آخذا عنه) شرحه أرسطو على الطريقة التي شرحه بها ابن رشد، ونقله من فلسفته أقوالا مطابقة لكتابات أبي الوليد.
وكان القديس توما أعظم فلاسفة اللاهوت في العصور المتوسطة، بل هو أعظم حكيم قام في الكنيسة الغربية.
أما نقضه الفلسفة العربية والرشدية فلم يتكلف له عناء شديدا على ما يظهر؛ لأن الهدم سهل. وقد صرف همه في هذا الرد إلى المسائل العليا المبنية عليها الفلسفة العربية. وهي أولا أزلية المادة وعدم المقدرة على وصف حقيقتها. ثانيا ارتباط المبادئ الأولى التي صدر العالم عنها بعضها ببعض. ثالثا كون العقل الأول الذي صدر عن المبدأ الأول أي الخالق عز وجل واسطة بينه وبين العالم الذي صدر عنه أي عن العقل. ووحدة هذا العقل. رابعا إنكار العناية الإلهية كما يتصورها العامة. خامسا استحالة الخلق أي الإيجاد من العدم بلا واسطة التولد والنمو.
ومما هو جدير بالذكر أن القديس توما لم يعتمد على الفلسفة اللاهوتية القديمة في الرد على فلسفة ابن رشد، بل أخذ من المبادئ الأرسطوطاليسية سلاحا لمحاربة هذه الفلسفة. وأول شيء وضعه أن أرسطو أخطأ في شيء، والعرب الذين جاءوا بعده زادوا على فلسفته أشياء، فازداد الخطأ بذلك، ولكن لباب فلسفة أرسطو صحيح. وقد قال القديس توما بصحتها؛ لأنه استطاع أن يستخرج منها مسألة خلود النفس التي هي مسألة المسائل. وذلك أنه أثبت من كتب أرسطو أن هذا المعلم كان يعتقد بأن النفس جوهر قائم بذاته.
أما رد القديس توما على فلسفة ابن رشد في خلق العالم؛ فقد كان بمثابة تخلص لا يرده العقل؛ فإنه قال: إن خلق العالم لم يكن عبارة عن حركة - كما يقول ابن رشد وأرسطو - وأن هذه الحركة تقتضي شيئا تحركه، بل كان عبارة عن صدور وفيضان، ولكن لا يجب أن نعتبر أن أرسطو وابن رشد قد خدشا الإيمان بهذا القول؛ فإنه قول صحيح بالنظر إلى الحالة الحاضرة. ذلك أنه لا يحدث الآن شيء جديد في العالم بدون حركة ومادة، ولكن في بدء الخلق كانت الحالة على غير ما هي عليه اليوم. أي أن وجود الشيء كان عبارة عن صدور وفيضان بلا احتياج إلى مادة يصنع منها. ولقد أخطأ أرسطو خطأ شديدا بقوله بأزلية الزمان والحركة، ولكن لم يكن يجوز لابن رشد أن يستنتج من هذا الخطأ القول باستحالة الخلق.
أما في مسألة وحدة العقل؛ فقد كان الحكيم توما يتحمس أكثر من تحمسه في مسألة الخلق. فقد كان يقول إن القول بوحدة العقل في الإنسانية خطأ عظيم؛ لأنه يفضي إلى الاعتقاد بأن القديسين والأبرار لا فرق بينهم وبين باقي الناس. ورغبة في نقض هذا الجانب الضعيف في فلسفة ابن رشد نقضا تاما، رجع القديس توما إلى حكماء المتقدمين من يونان وعرب فقال: إن هذه المسألة لم يقل بها أحد لا أرسطو ولا اسكندر دفروزياس شارحه اليوناني ولا ابن سينا ولا الغزالي ولا ثيوفراستوس ولا ثميستيوس؛ فإن جميع هؤلاء الحكماء كانوا يعتبرون العقل قابلا للانقسام في البشر. وتوصلا لتأييد هذا القول أثبت القديس توما أن مبدأ الشخصية هو عبارة عن مادة موجودة خلافا لقول ابن رشد أن الشخصية هي صورة لا غير.
وقد قال رنان: لا ريب أن القديس توما مصيب في إثباته شخصية الإنسان وإنكار كونها صورة؛ فإن العقل يقول «أنا» ويعرف أنه موجود مستقل، ولكن أرسطو لا يقول إن الشخصية هي عبارة عن صورة بل يقول إنها عبارة عن صورة وهيولى. ولو كان لكل إنسان عقل مخصوص لوجب أن يكون في الكون عدة أنواع من العقل، وتحتم أن يخلق الله عقولا في كل يوم إلى ما لا نهاية له. فالأبسط من ذلك كله أن يقال أن عقل الإنسان ينمو بنمو جسمه، وشأنه في ذلك شأن باقي الأعضاء.
وقد رد القديس توما على ابن رشد قوله في مسألة اتصال العقل الفاعل بالعقل المنفعل، واتصال العقل المفارق بالإنسان. فقال إننا لا نرى شيئا ولا نفهم شيئا، بل انعكاس صورته عن ذهننا. ولذلك يستحيل على المادة إدراك العقل المفارق لها، ولكن أحد تلامذة القديس توما وهو بييردوفرن لم يتابع معمله فأيد بناء على تعليم القديس دنيس الأربو باجيثي أن العقل الإنساني يمكنه أن يرى الخالق. ورأيه في ذلك موافق لرأي ابن رشد.
وما من أحد يجهل أنه من السهل على الخصم أن ينقض حجج خصمه بعد وفاته. ولذلك سهل على القديس توما أن ينقض فلسفة ابن رشد ويظهر ما فيها من المخالفة لفلسفة أرسطو. فأجله معاصروه أعظم إجلال. وبعد وفاته صوروه في عدة صور تدل على انتصاره على جميع فلاسفة المتقدمين. منها صورة في كنيسة القديسة كاترين في بيزه
1
موضوعة بجانب المنبر الذي يقال أن ذلك المعلم العظيم قد علم الناس منه. وهذه الصورة هي من تصوير فرنسيسكو تريني أحد مشاهير المصورين في القرن الرابع عشر، وقد صورها في سنة 1340 على الأرجح. وهي تمثل في أعلاها العزة الإلهية تحيط بها الملائكة، ومنها يصدر النور إلى موسى والإنجيليين الأربعة والرسول بولس، وجميعهم واقفون في السحاب. وتحت السحاب صورة القديس توما تنعكس على وجهه تلك الأنوار، فضلا عن ثلاثة أشعة خصوصية صادرة إليه من العزة الإلهية نفسها. وفي جانبي الصورة على موازاة كتف الحكيم توما أي في مكان أدنى من مكانه قليلا شخصان يمثلان أرسطو وأفلاطون. وفي يد كل واحد منهما كتاب من كتبهما. ومن كل كتاب من هذين الكتابين يصعد خيط من النور نحو رأس القديس توما، ويمتزجان بالنور الإلهي النازل من فوق. أما القديس توما؛ فهو جالس في الصورة في كرسيه وفي يده الكتاب المقدس مفتوحا عند هذه العبارة: «إن فمي يحدث بالحق وشفتاي تبغضان الضلال»
وحول كرسي القديس توما تحت قدميه أي على مزاراتهما علماء الكنيسة الذين سبقوه وأشعة النور منتشرة عليهم من مؤلفاته العديدة الموضوعة على ركبتيه. ومن هذه الأشعة شعاع يصيب شخصا ساقطا على الأرض في جانب الرسم مع كثيرين غيره من الفلاسفة المخالفين. وهذا الشخص هو شخص ابن رشد دلالة على انتصار توما عليه.
أما هذه الصور هي تدعى «مجادلات القديس توما».
وقد صور القديس توما عدة صور بهذا المعنى للدلالة على أنه نقض فلسفة ابن رشد، وأقام مكانها فلسفة أرسطو الحقيقية. ولعل الآباء الدومينيكيين معذورون في هذا التصوير الذي كانوا يغرون به مشاهير مصوري تلك القرون لرغبتهم في تأييد حجتهم. ذلك أنهم كانوا يرومون إحياء فلسفة أرسطو كما يفهمونها هم، لا كما فهمها العرب، وكان فلاسفة العرب بمثابة عثرة في سبيلهم. ولذلك وجدوا أنفسهم في حاجة إلى إسقاط سلطة العرب لإقامة سلطتهم. ومع ذلك فهم لا يلامون على أنهم حملوا تلك الحملة على الفلسفة العربية؛ لأنهم كانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعا في تأييد آرائهم، وإنما اللوم يقع عليهم لعدم احترامهم حكيما عظيما كابن رشد كان يحترمه وصيفه وتلميذه القديس توما نفسه. ولو كان هذا القديس في قيد الحياة حينما صوروه تلك الصور؛ لأنكر عليهم ولا شك ذلك التصوير لأن الرجل الكبير يحترم دائما الرجل الكبير.
ولما توفي القديس توما كانت الفلسفة اللاهوتية في غاية القوة، ولكن المبادئ العربية كانت تتقدم - أيضا - فقام بعده ريمون مارتيني واعتمد في مقاومة أنصار المبادئ العربية على الإمام الغزالي. وكان يقول: إنه من الأفضل الرد على الفلاسفة بفم فيلسوف. كأنه كان يعتبر الغزالي من أنصار الفلسفة لا من خصومها. ثم قام بعده جيل دي ليسين وبرنار دي تربليا وهرفه نديليك ودافعوا عن مذهب القديس توما - أيضا - وبعدهم قام دانتي الشاعر الإيطالي المشهور وضرب - أيضا - ابن رشد في هذه الحرب الفلسفية، ولكن ضرباته كانت خفيفة. ولما كتب كتابه المشهور «الجحيم» لم يضع فيه ابن رشد في أماكن الكفرة والملحدين بل وضعه في مكان خصوصي احتراما لحكمته. وبعد ذلك قام جيل دي روم لمقاومة فلسفة العرب خصوصا فلسفة ابن رشد. فبلغ في ذلك شيئا من الشهرة التي بلغها القديس توما وألبير الكبير. ثم خلفه تلميذه جيرار دي سيسين في هذه المقاومة.
ولكن كل ما تقدم من المقاومة لمبادئ ابن رشد ليس بالشيء الذي يستحق الذكر بالقياس على مقاومة ريمون لول لها. فإن هذا الرجل الطائش صرف عمره خصوصا من سنة 1310 على سنة 1312 في الجولان بين باريز وفيينا ومونبليه وجنوي ونابولي وبيزه محرضا الناس على العرب وفلسفتهم ومبادئهم. ولما اجتمع مجمع فيينا في سنة 1311 رفع على البابا أكليمنضس الخامس عريضة يطلب فيها ثلاثة أمور. الأول إنشاء جمعية عسكرية كبرى للسعي في إسقاط الإسلام. والثاني إنشاء كليات لدرس اللغة العربية. والثالث حرم المسيحيين الذين كانوا ينصرون مبادئ ابن رشد وتحريم التعليم في كتبه في المدارس الأوربية، ولكن المجمع لم يهتم بهذه العريضة ولا بحث فيها.
الرهبان الفرنسيسكان
(نصراء فلسفة ابن رشد ضد مذهب القديس توما)
فمما تقدم يتضح أنه كان يومئذ في أوروبا علماء أشداء ينصرون فلسفة العرب ومبادئ ابن رشد؛ لأنه من الثابت أن المناظرات والمجادلات لا تكون عنيفة شديدة إلا إذا كانت قوة الجدال في الجانبين. وكيف يقوم عالم كالقديس توما وتكون له تلك الأهمية الكبرى، أو يقوم رجل متطرف مثل ريمون لول ويطلب حرم مبادئ العرب والمشتغلين بها، لو لم يكن هناك قوم أقوياء منصبون على نصرة هذه المبادئ بقوة تعادل قوة الذين كانوا يحاربونها.
وقد أثبت رنان أن هؤلاء النصراء لمبادئ العرب كانوا من رهبان الفرنسيسكان ومن كلية باريز الكبرى.
ذلك أن رهبنة الفرنسيسكان إنما هي في الأصل عبارة عن مسيحية جديدة في المسيحية؛ فإن أهلها يعتبرون «فرنسواي داسيز» مؤسسها العظيم بمثابة مسيح ثان جاء إلى الأرض لتجديد الديانة المسيحية وإصلاحها. ولذلك لم يكونوا يعبئون كثيرا بسلطة البابا المسيحية وإصلاحها. ولذلك لم يكونوا يعبئون كثيرا بسلطة البابا ولا يعتبرون شيئا غير المبادئ المسيحية التي نشأوا عليها. فنشأ عن ذلك بينهم وبين رهبنة الدومنيكيين نزاع شديد في المسائل الدينية، وذهب فيها منهم كثيرون ضحية النار والتعصب. وقد نبغ منهم كثيرون من الرجال الواسعي الصدر المتساهلين، الجريئين في القول والفعل مثل الأخ «إلياس» و«حنا دوليف» و«دون سكوت» و«أوكام» و«مارسل دي بادو »، وكلهم كانوا مقاومين لسلطة روما : وكانوا يعتبرون مقاومتهم لها ولتعاليم القديس توما اللاهوتية والفلسفية التي كادت تكون يومئذ تعاليم الكنيسة الغربية كلها بمثابة بدء تحرير الفكر والانطلاق من الأسر. فكانوا بحكم الضرورة أعوانا للمبادئ العربية.
وأول علماء السكولاستيك (الفلسفة اللاهوتية) الذين قبلوا هذه المبادئ، ونشروا روحها بين الناس، كان اسكندر دي زعيم المذهب الفرنسيسكاني. ثم خلفه جان دي لاروشل، فحذا حذوه في قبول الفلسفة العربية وتعليمها، وقد اعتمد على ابن سينا في كل ما كتبه في علم النفس والأخلاق. ومما هو مشهور أن جميع المبادئ التي تقرر نبذها في باريز في عام 1277 إنما كانت للآباء الفرنسيسكان وتلامذتهم، وهي مأخوذة عن ابن سينا وابن رشد. وفي هذه السنة نفسها كان رئيس أساقفة كنثر بري روبر دي كيلواردبي الدومينيكي يطعن في مجمع عقد في مدينة أكسفور التي كانت مصدر التعاليم الفرنسيسكانية بمبادئ شبيهة بالمبادئ التي طعن فيها في باريز. فغير بعيد أن يكون الفلاسفة الذين حاربهم غيليوم دوفرن وألبير الكبير والقديس توما من الفرنسيسكانيين.
وبناء على ذلك تكون الكنيسة يومئذ قد انقسمت قسمين. فقسم قبل المبادئ والفلسفة العربية، وصار يدعو الناس إليها من بعض الوجوه، وقسم أنكرها وصار يحذر الناس منها.
ومما يثبت أن الفرنسيسكان كانوا في مقدمة أولئك المحامين ما كان في كتابات بعض علمائهم من الاحترام لابن رشد وإن كان بعض منهم - أيضا - قد ردوا عليه ردا شديدا. فمن ذلك ما كتب أحدهم وهو روجه باكون إذ قال: «إن ابن سينا هو أول من أوضح فلسفة أرسطو، ولكن الذين جاءوا بعده أوسعوه ردا وتخطئة، منهم ابن رشد الذي كان أعظمهم بعده؛ فإنه خالفه في عدة أمور. وقد أنكر مشاهير العلماء الذين تقدمونا فلسفة ابن رشد وأهملوها، ولكن الحكماء اليوم صاروا يجلونها بالإجماع، وإن كانوا يعترضون على بعض مبادئها». وقال في موضع آخر: «بعد ابن سينا قام ابن - رشد وهو رجل قوي الحجة أصيل الرأي - فهذب تعاليم الذين تقدموه، وإن كانت تعاليمه نفسها محتاجة إلى التهذيب والتكميل في بعض المواضع». وكان روجه باكون هذا يعجب من عدم ترك الخصوم الفلسفة الأوربية القديمة للإقبال على هذه الفلسفة العربية الجديدة. ذلك؛ لأنه كان على ما يظهر يجهل السم الكامن للدين فيها.
وقد ظهر هذا السم في باريز بعد ذلك ظهورا واضحا؛ فإن مدرسة السروبون فيها كانت مدرسة لاهوتية تعلم تعليم القديس توما، ولكن كلية باريز كانت على خلاف ذلك؛ فإن كثيرين من أساتذة الفنون فيها كانوا من أنصار مذهب ابن رشد. وقد وجد في هذا العصر من آثار هذه الكلية تسعة دفاتر محتوية على تعاليم هذا الفيلسوف، كانت تدرس في القرن الثالث عشر والرابع عشر. وبعضها دلت حالته على أنه كان يستعمل في الدرس كل يوم. فاصطلت يومئذ - بين علماء الفلسفة العربية في باريز وعلماء اللاهوت فيها - نار خلاف حامية كانت أشد من النار التي اصطلت منذ ثلاثة أعوام في باريز، بشأن مسألة دريفوس والسلطة العسكرية. أما الدومينيكيون؛ فإنهم كانوا مع علماء اللاهوت، وقد استصدروا من البابا اسكندر الرابع في مدة ست أو سبع سنوات 40 أمرا بحرمان فلسفة العرب والمشتغلين بها، ولكن لم يكن غرضهم من ذلك دينيا فقط، بل كان في ذلك للسياسة والحسد اليد الطولى. وإنما كان غرضهم أن يكونوا أصحاب النهي والأمر وحدهم في جميع أجزاء الكنيسة الغربية. وقد جاء في شعر بعضهم أن هذه الحرب كانت بين أهل دومينيك. والذين يقرءون «اللوجيك» أي المنطق. فهي إذن حرب سياسية.
وإليك بعض المبادئ التي قرر مجمع باريز اللاهوتي في سنة 1269 حرم المعتقد بها يومئذ، وهي كلها مأخوذة من فلسفة ابن رشد كما ترى: «إن المجمع يحرم كل من يعتقد أن العقل الإنساني واحد» «في كل الناس - وإن العالم أزلي - وإنه لم يوجد قط» «إنسان أول ولد البشر منه - وإن النفس التي هي» «صورة للإنسان تفنى بفناء الجسد - وإن الله لا يعلم» «الجزئيات التي تحدث في العالم - وإن العناية الإلهية» «لا تؤثر في أفعال الإنسان ولا تديرها - وإن الله» «لا يقدر أن يجعل الشيء القابل للموت والفناء (أي)» «الإنسان وما سواه خالدا بقايا»
ولكن مع كون هذه الحرب سياسية؛ فإن الدين تأثر منها تأثرا بليغا. وتزعزعت دعامة الإيمان في صدور الناس. فحدث يومئذ ما كان حدث في الأندلس لو سمع الأندلسيون لفلسفة ابن رشد وقبلوها، ولكنا نرجع أن ابن رشد كان قادرا في حياته على صرف هذه الزوبعة عن نفوس أبناء وطنه لو قبلوها بواسطة التأويل الذي لجأ إليه، والتأويل على ما هو معلوم باب واسع يسع كل الآراء والتعاليم، ولكن ماذا يفيد التأويل إذا كان عرض هذه الفلسفة المساواة بين الناس وتعليمهم أن جميع الأديان حق وهي متشابهة.
ما الفائدة من الدين إذا كان كل مؤمن يجب عليه أن يعتقد بموجب هذه الفلسفة أن دينه ودين غيره على حد سواء. أليست التعزية الكبرى واللذة العظمى في الدين أن يعتقد المؤمن أن الحقيقة في يده وحده وأن الله إله قومه لا إله أحد غيرهم. فوداعا إذن أيتها الآمال الحلوة التي كنت أحسبك مختصة بي دون سواي. وداعا يا فردوسا سماويا ما كنت أظن دخولك ممكنا لمن يعتقد اعتقادا يهين اعتقادي ويجرحه. وقبحا لهذه المساواة التي تحرمني أعظم اللذات.
واأسفاه. هكذا يقول المؤمن الضعيف الذي يقرأ الفلسفة. وهو يقول ذلك، ولا يعلم أن قوله هذا أعظم إهانة للإخاء البشري والإنسانية.
انتصار الفلسفة الرشدية
(وبلوغها في كلية بادق أوج العظمة)
فبناء على ما تقدم صار ابن رشد عبارة عن راية تتحارب حولها شعوب وأمم مختلفة في إيطاليا وفرنسا وأسبانيا. وكان للفيلسوف العربي الجليل سمعتان, الأولى سمعة الفضل والعلم والنزاهة وهي عند أساتذة المدارس الذين كانوا يرومون كسر النير القديم. والثانية سمعة الكفر وبغض الدين وهي عند العامة والبسطاء والجهلاء. ولم يأت القرن الرابع عشر حتى صارت سلطة ابن رشد في أوروبا فوق كل سلطة وتقدم على ابن سينا بعد أن كان محسوبا في القرن الثالث عشر دونه. ولما أراد الملك لويس الحادي عشر ملك فرنسا إصلاح التعليم الفلسفي في سنة 1473 طلب من أساتذة المدارس «تعليم فلسفة أرسطو وشرح ابن رشد عليها؛ لأنه ثبت أن هذا الشرح صحيح مفيد».
ولقد كان أنصار المبادئ الرشدية في القرن الثالث عشر غير معروفين، ولذلك يتعذر تسمية أحد منهم. وإنما عرف وجودهم من حدة الذين كانوا يطعنون في المبادئ العربية كاريمون لول وغيره كما تقدم. (أما في القرن الرابع عشر وما بعده؛ فقد تألف حزب عظيم لابن رشد وكان هذا الحزب يدرس مبادئه جهرا. وبذلك انتصرت هذه المبادئ انتصارا عظيما).
وإن قيل ما سبب هذا الانتصار ولماذا لم تختنق بزور الفلسفة في تربة أوروبا. فالجواب عن ذلك ينحصر في أربعة أمور. الأول أن جميع اللاهوتيين والفلاسفة كانوا مقرين لأرسطو ومعترفين بفلسفته، ولذلك كان الخلاف على تفسيرها لا على حقيقتها. والثاني أن النسل الهندي الأوروبي الذي تألفت منه أمم أوروبا نسل ذو مزية على باقي الشعور من حيث حب الفلسفة والعلم، كما أن الساميين أي الشرقيين كانوا ممتازين بخروج الحرية والدين منهم. ولذلك نبغ في الأوربيين رجال أصحاب جرأة على القول والعلم. والثالث قيام إمبراطور كبير كفردريك الثاني الذي حارب الدين ورجاله في أوروبا محاربة شديدة، ونصر الفلسفة عليهم بالرغم عنهم كما سيرد التفصيل. والرابع أن الدين المسيحي بمجاورته للدين الإسلامي والدين اليهودي في الغرب صار أكثر تساهلا مما كان من قبل، بدلا من أن يزداد تعصبا. ومما زاد هذا التساهل الحملات الصليبية على الشرق ومصادفة المسيحيين الأوروبيين سلطانا مسلما كصلاح الدين الأيوبي في غاية النزاهة والعدل والصدق. فلا ريب أنه كان لهذا السلطان الجليل من التأثير على نصارى الغرب بواسطة أخلاقه وصفاته ما لا يحدثه ألف كتاب في الفلسفة والحكمة. ذلك أنه كان كتابا في الحكمة حيا ناطقا لا يحتاج إلى تفسير أو تأويل.
وكان بدء انتصار فلسفة ابن رشد في كلية بادو المشهورة في إيطاليا. وكانت الحركة الأوروبية والفلسفية في بولونيا وفراري والبندقية تابعة لهذه الكلية. وقد بدأت فلسفة ابن رشد فيها بتعليم كتبه الطبية، ثم تلتها كتبه الفلسفية. وأول مؤسسي تعاليم ابن رشد فيها بطرس داباتو الذي أحرق ديوان التفتيش عظامه بعد موته عقابا له.
ولما انتشرت مبادئ العرب في بادو والبندقية شاعت على الخصوص بين الطبقات العليا. فصار أهلها يفتخرون بأنهم من أنصار فلسفة ابن رشد. فكان هذه الفلسفة أصبحت «موضة» يتزيا بها كل من يطلب استقلال الفكر، ولكنه من المعلوم أن استقلال الفكر الذي لا يضر ولا يؤذي أحدا ولا مبدأ شيء، واستقلال الفكر الذي هو عبارة عن خشونة وغلاظة شيء آخر. ولذلك نشأ تحت راية فلسفة العرب في ذلك الزمن البعيد جيل جديد كان يزدري الأديان، ويدعي العصمة ولا يقابل آراء غيره إلا بكل وقاحة وخشونة. فقام يومئذ بترارك المشهور الذي كان من أشد أعداء فلسفة العرب لمقاومة تلك الأفكار الجديدة.
وبترارك هذا هو أول فلاسفة الفلسفة الحديثة، وإن كان من فلاسفة الفلسفة القديمة. ذلك أنه أول رجل دعا الناس إلى الرجوع لعلوم اليونان والرومان والقديمة. وكان شديد الكراهة لعلوم العرب وعلى الخصوص ابن رشد. وله في ذلك أقوال تدل على حمق وإخلاص معا؛ فإنه كان يقول لصديقه جان دوندي «أرجوك أن لا تخاطبني في شأن العرب؛ فإنني أكره هذا الجنس. وإنني لا أجهل قدر أطباء اليونان، أما أطباء العرب فلا قدر لهم عندي. وأما شعراؤهم؛ فقد عرفتهم ولا شيء أشد حدة ومضرة وركاكة من شعرهم (بخ بخ بخ؟؟) ولقد سمعت بعض أطبائنا يثني عليهم ويقول على مسمع من رفاقه الذين كانوا يوافقونه: إنه لو وجد طبيبا في هذا العصر مساويا لأبوقراط لما سمح له أن يكتب في فن الطب بعدما كتبه العرب فيه. فما هذا القول. كيف كان شيشيرون خطيبا بعد ذيموستينوس، وفرجيل شاعرا بعد هوميروس، وتيت ليف وسالوستوس مؤرخين بعد هيرودوتس وتوسيديدوس. ولا يجوز أن يكون أحد بعد العرب شيئا مذكورا. فقل لي كيف يجوز أننا نحن معاشر الإيطاليين نساوي اليونان في أشياء ونفوقهم في أشياء، ونسبق كل الأمم إلا العرب. فهل قضي على قريحة إيطاليا بالخمود والانطفاء. أم ذلك القول جنون وهوس.
وفي كتب بترارك كثير من هذه الأقوال التي تدل على كراهته للمبادئ العربية. منها أن أحد أهالي البندقية المنتصرين لفلسفة ابن رشد زاره في ذات يوم في مكتبته فيها. وبينما هما في الحديث استشهد بترارك بكلام للرسول بولس. فابتدره الزائر الرشدي بقوله دع كلام هذا المعلم لك أما أنا فمعلمي يكفيني (يعني ابن رشد). فحاول بترارك الدفاع عن الرسول فأجاب الزائر الرشدي ضاحكا: ابق أنت مسيحيا صادقا كما أنت أما أنا فإنني لا أعتقد بشيء من كل تلك الخرافات. وما بولس وأسطينوس اللذان تذكرهما باللذين يستحقان الذكر؛ فإن ابن رشد أعظم منهما بكثير. ويا ليتك تستطيع مطالعة فلسفته. فعند هذا الكلام نهض بترارك بغضب فقبض على رداء زائره ودره من داره.
وبعد بترارك قام في كلية بادو جان دي جاندون، وكان من أعظم أنصار فلسفة ابن رشد حتى دعي «سلطان الفلسفة وأمير الفلاسفة». ثم قام بعده بولس البندقي وكان من السالكين سبيله. وهكذا لم ينتصف القرن الخامس عشر حتى صار ابن رشد صاحب السلطان المطلق في كلية بادو والمعلم الأكبر الذي لا يعارض. ولو شئنا ذكر جميع الأساتذة والعلماء الذين شرحوا فلسفة فيلسوفنا في كليتي بادو وبولونيا في خلال القرن الخامس عشر، لكتبنا بذلك صفحات كثيرة يضيق دونها هذا الكتاب. وقد كان المعارضون لهذه الفلسفة في هذا الزمن ضعفاء الأصوات؛ لأنها كانت في أوج العظمة والسلطان.
ولكن هذه العظمة لم تدم وقتا طويلا. فإن إيطاليا في آخر القرن الخامس عشر اهتمت اهتماما شديدا بمسألة خلود النفس. فقام يومئذ بومبونا المشهور، وأحدث خرقا في تعلم ابن رشد. ذلك أن أنصار الفلسفة الرشدية كانوا يقولون: إن النفس بعد الموت تعود إلى الله وتفنى فيه أي تفقد شخصيتها. أما بومبونا الذي تقدم ذكره؛ فإنه أثبت من كتب اسكندر وفرويزياس الفيلسوف اليوناني - الذي شرح أرسطو قبل ابن رشد والذي كان ابن رشد يعتمد أحيانا عليه - أن الإنسان يفنى بعد الموت، وأنه لا خلود غير الخلود الإنساني النوعي الذي على الأرض. فانقسم يومئذ المشتغلون بالمبادئ قسمين؛ قسم يعتمد على ابن رشد في إثبات الشخصية للإنسان، وقسم يعتمد على اسكندر دفروديزياس. وعهد البابا لاون العاشر إلى العالم نيفوس بالرد على بومبونا. وكان نيقوس من أنصار مذهب ابن رشد. وفي ذلك منتهى العجب؛ لأن مبادئ ابن رشد صارت يومئذ بمثابة النصيرة للكنيسة على العدو الجديد الذي كان ينكر جميع أصول الدين بعد أن كانت عدوة للكنيسة. وهكذا تكون المبادئ في كل زمان ومكان؛ فإنها تختلف باختلاف العقول التي تتصرف بها والأحوال التي تنشأ فيها.
وكان الناس يومئذ يميلون كل الميل إلى هذه المباحثات. فكانوا يحرضون نيفوس للرد على بومبونا ويطعنون في بومبونا، مع أنهم يؤيدونه في السر ويحثونه على الرد على خصمه. وكان لبومبونا خصم آخر وهو أشيليني أحد زعماء مذهب ابن رشد. ومن المشهور - في كلية بادو حتى اليوم - أن أعظم ما حدث فيها هو الجدال الشديد بين بومبونا وأشيليني. وكان أشيليني يتغلب على خصمه في الظاهر إلا أن الجمهور كان يهرع إلى سماع دروس بومبونا ويفضلها على دروسه. ولعل ذلك كان من قبيل الرغبة في سماع الجديد الغير مألوف. وكان بومبونا يقول: إن فلسفة ابن رشد خالية من الأهمية ولا معنى لها، وهو يشك في أن مؤلفها كان يفهمها.
وكان حزب بومبونا يدعى (حزب الإسكندريين) وحزب الفلسفة العربية يدعى (حزب الرشديين) ولم يأت أول القرن السادس عشر حتى صارت تلك المبادئ مبادئ إيطاليا كلها. فرغبة في إيقاف إيطاليا عن نزول هذا الأحدور إلى النهاية انعقد مجمع لاتران وقرر حرم كل من يقول بأن النفس غير خالدة، وبأنها واحدة في جميع الناس، ومحاكمة كل الذين ينشرون هذه المبادئ. وكان ذلك في عام 1512. وقد روى المؤرخون أن بعض الحاضرين في المجمع أنفسهم قد تكلم مدافعا عن تلك المبادئ.
الفلسفة اليونانية
(وحلولها محل الفلسفة العربية)
وقد اتخذت كلية بادو في مدة القرن السادس عشر مبادئ نيفوس الرشدية شعارا لها؛ لأنه كان يمكن تطبيقها على الدين. وأصبحت الكنيسة منذ ذلك العهد تستحسن فلسفة أرسطو أشد استحسان حتى أن الكردينال بالافيسيني كان يقول: إنه لو لم يقم أرسطو في العالم لفقدت الكنيسة بعض براهينها. وكانوا يومئذ مجمعين على أن ابن رشد أفضل شراح أرسطو . ولذلك بلغت مبادئ ابن رشد في ذلك الزمن منتهى النفوذ والانتشار، واضطروا إلى مراجعة كتبه وإعادة ترجمتها وطبعها إجابة للذين كانوا يطلبونها من كل صوب.
فأين كانت يومئذ عينا فيلسوف قرطبة ليرى ما صار له في ذلك الزمان من السلطان على تلامذته الأوروبيين؟ أين كان حساده الذين كفروه ليروا كيف كان رجال الدين يجارون في أوروبا تيار الفلسفة، ولا يقفون في وجهه لئلا يجرفهم؟ هل كانوا ينظرون ذلك من أعالي السماء في ذلك الزمان؟ وإذا كان الخليفة يعقوب المنصور ينظر وهو في جملتهم فماذا عساه يقول بعد أن يرى بعينيه التبعة الهائلة التي وقعت عليه بمجاراته الحساد والوشاة في خنق العلم والفلسفة في أرض الأندلس. ألا يشعر حينئذ بزيادة ثقل تاج الخلافة على رأسه إذا كان بقى له هذا التاج هناك؟ ألا يقطع الفضاء السماوي شرقا وغربا وشمالا وجنوبا للتفتيش عن روح أبي الوليد لطلب الصفح والعفو منها. لا ريب أن أبا الوليد قد انتصر في أوروبا بعد موته انتصارا لائقا بحكيم قرطبة وأعظم فلاسفة الإسلام.
ولكن كل شيء يفنى ويتغير في هذه الحياة ولا يدوم إلا وجه الله ذي الجلال. فإن سلطانا فلسفيا كهذا السلطان لا يمكن أن يدوم وقتا طويلا، وهكذا جرى لابن رشد. ولبيان ذلك نقول: كان الأساتذة في أوروبا يدرسون فلسفة أرسطو من قبل بموجب تلاخيص ابن رشد وابن سينا. فلما قدم العهد بهذه التلاخيص صار الأساتذة يضعون شروحا عليها من عندهم ويتلونها على الطلبة. فصارت فلسفة أرسطو تصل إلى الطلبة بعد مرورها في التلاخيص الرشدية والتلاخيص اللاتينية. فكانت تخسر شيئا كثيرا من صفتها الأرسطوطاليسية. ولذلك كان لا بد من الرجوع إلى النص اليوناني الحقيقي عاجلا أو آجلا.
ومن جهة أخرى؛ فقد تقدم أن أنصار الفلسفة في أوروبا انشقوا حزبين. فحزب مع ابن رشد العربي. وحزب مع اسكندر اليوناني. وذلك مما أوجب - أيضا - الرجوع إلى النصوص اليونانية.
وفضلا عن ذلك؛ فإن علماء إيطاليا كانوا ميالين إلى آداب ذلك التمدن اليوناني القديم الذي كان بمثابة شمس أضاءت حينا ثم خمدت. فأخذوا يعودون إليها.
فنشأ عن كل ذلك حرب جديد أخذ يشتغل بآداب اليونان وعلومهم دون أن يعتمد في ذلك على شيء غير النصوص اليونانية نفسها. وكانوا يسمونهم الحزب الجديد. أم الحزب القديم؛ فهو حزب فلسفة العرب ومبادئ ابن رشد. فبعد أن كان الخلاف بين «رشديين وإسكندريين» على التخصيص أصبح الخلاف بين «رشديين ويونانيين» على الإطلاق.
وفي 4 أبريل من عام 1497 صعد الأستاذ نقولا ليونيكوس توموس إلى منبر التعليم في كلية بادو، وأخذ يلقي فيها لأول مرة فلسفة أرسطو باللغة اليونانية. فنظم يومئذ في ذلك بعض الشعراء أبياتا يقرظ بها هذا الأستاذ دلالة على أهمية هذه الحادثة. ومن ذلك الحين أخذت النهضة اليونانية في إيطاليا بالنمو. فكما أن بادو والبندقية وشمال إيطاليا عادت كلها إلى نص أرسطو الأصلي عادت فلورنسا إلى نص أفلاطون الأصلي - أيضا - فأصبحت البندقية وفلورنسا في ذلك بمثابة قطبي الفلسفة. فإن الأولى كانت عقلا يمثل التحقيق في البحث، والثانية كانت قلبا يمثل رقة الفلسفة وروحانيتها.
فاصطلت يومئذ نار الجدال بين «الرشديين» و«اليونانيين» فنشأ عن ذلك اختلاط غريب في فلسفة العرب واليونان والأوروبيين، ولما قام المذهب البروتستنتي في أوروبا انضم إليه كثيرون من أصحاب العقول المعتدلة الذين كانوا يخافون عافية التهور في مبادئ ابن رشد المادية، وباتوا يحاربون هذه المبادئ. فكأن الإصلاح البروتستنتي كان وسطا بينها وبين المبادئ اللاهوتية القديمة. ومنذ ذلك الحين ازداد فوز «اليونانيين». فلم تأت سنة 1631 - وهي السنة التي توفي فيها قيصر كريمونيني - حتى زالت فلسفة ابن رشد من طريق الفلسفة الأوروبية الحديثة، ودخلت في حيز التاريخ القديم. وكان كريمونيني هذا آخر زعيم لفلسفة ابن رشد في كلية بادو.
الفلسفة الحديثة
(وحلولها محل الفلسفة اليونانية)
وسبب زوال فلسفة ابن رشد والفلسفة اليونانية من طريق الفلسفة الحديثة يومئذ دخول هذه الفلسفة في طريق جديدة؛ فإن فلسفة ابن رشد تحملت هجمات أنصار أفلاطون واللاهوتيين ومجمعي لاتران وترانته، واضطهاد ديوان التفتيش وردت الجميع على أعقابهم خاسرين، ولكنها لم تستطع التغلب على الفلسفة الحديثة الجديدة المبنية على التجربة والامتحان والمشاهدة. وقد كان أبطال هذه الفلسفة ودعاتها المؤسسين ليوناردي فتسي وبروتو وساربي وأكونتريو وغاليله المشهور،الذي غير وجه الأرض باكتشافه دوران الأرض، وديكارت ولوك ولبنز ونيوتن وفرنسيس باكون.
وفرنسيس باكون هذا هو أول من بدأ بهدم الفلسفة اللاهوتية القديمة (السكولاستيك) لإقامة صرح العلم الوضعي الجديد المبني على المشاهدة والتجربة والامتحان. وقد كان من البديهي قيام قاعدة كهذه القاعدة بعد الاختلاط الغريب الذي كان في الفلسفة الأوروبية قبله؛ فإن علماء السكولاستيك كانوا في فوضى، بعضهم يعتمد على أرسطو العربي وبعضهم على أرسطو اليوناني، والاختلاف في التفسير والتأويل قائم بينهم على ساق وقدم. وكان مناظروهم من علماء الطبيعة في نضال ونزاع معهم، ولكنهم كانوا محتاجين إلى بوق جهوري الصوت يترجم عما في نفوسهم ويغطي صوته أصوات خصومهم. فكان فرنسيس باكون هذا البوق. بل كان الريح العاتية التي كنست الفلسفة القديمة كنسا، وذهبت بتعاليمها الجدلية وتصوراتها الخيالية.
وإليك تاريخ هذه الحركة الفلسفية التي انتهت بالقضاء على الفلسفة القديمة.
كانت الفلسفة الأوروبية مبنية من قبل على الفلسفة اليونانية التي وضعها أرسطو ونقلها إلى أوروبا ابن رشد وفلاسفة العرب. وكان يكفي أن يقال «قال أرسطو» لينحسم كل جدال. فكانت العقول خاملة لا تتصرف بشيء ولا تجترئ أن تحدث شيئا حذرا من الخروج عن القواعد المقررة. وكان رأس هذه القواعد «القياس» وهو المعروف «بإله أرسطو» أو ميزانه؛ لأن الحقائق لا تدرك بدونه. مثال ذلك: إذا أخذت النار ووضعت فيها ماء فإن الماء يتبخر. فكرر هذه التجربة عدة مرات فإذا تبخر الماء في كل مرة وجب أن تجزم بأن التبخر ناموس من نواميس الطبيعة. ثم أنك تقيس اللبن على الماء فتقول: بما أن اللبن سائل كالماء؛ فهو يتبخر أيضا مثله. وبناء عليه تكون قد عرفت طبيعة اللبن من قياسه على الماء، هذا هو القياس.
فلما جاء باكون ورأى ذلك الخمول الفلسفي رام إصلاحه. فكتب في ذلك عدة كتب منها كتابه «القياس الجديد» و«الإصلاح العظيم» وهو أهم كتبه ولم يصدر منه سوى جزئين في عام 1597 - وإليك خلاصة الآراء الفلسفية التي نشرها في كتبه.
رأيه في التمدن اليوناني وفلسفته - يحمل باكون في كتبه على الفلسفة السكولاستيك اليونانية حملات شديدة. ومن اعتراضاته إن كل ما يدرسونه اليوم (أي في أيام باكون) يدرسونه بناء على أقوال اليونان، ولاسيما أرسطو مع أن اليونان لم يعرفوا شيئا من نواميس الطبيعة، ولم يقرءوا شيئا في كتابها السامي.
فكيف يريد الفلاسفة تقييد العقل البشري بمعارف اليونان إذا كان هؤلاء لم يدرسوا الطبيعة نفسها. وفضلا عن ذلك؛ فإن اليونان أمة قديمة وقد كان البشر في عصرهم في دور الطفولية ونحن الآن في دور الشيخوخة. فلمن نسمع؟ وممن نتعلم؟ من الأطفال أم من الشيوخ؟ فالواجب علينا إذن أن نطلق العقول من قيود فلسفة اليونان ونترك كل واحد منا يمتحن الأمور بنفسه ويشاهد نواميس الطبيعة بعينيه ويزن أحكامها بعقله. ومع ذلك؛ فإن الفلسفة اليونانية لم تثمر شيئا إلى الآن ولم نحصل بواسطتها على فوائد ومنافع عملية. وكل ما استفدناه منها أنها تعلمنا طرقا سفسطائية في الجدل تجعلنا لا نطلب الحقيقة في مباحثنا، ولكن حب الفوز والغلبة. فيجب تغيير هذه القاعدة التي جعلها العلم دعامته، ووضع دعامة عملية جديدة له ليثمر ثمارا عملية.
ولكن قبل هدم القاعدة القديمة يجب إنشاء «ترتيب» جديد للعلم أصولا وفروعا، لوضع أصول كل فرع منه على الترتيب. وبناء على ذلك وضع باكون «الترتيب» المنسوب إليه وعليه يعتمد العلماء.
الترتيب المشهور بترتيب باكون: قسم باكون قوى نفس الإنسان في هذا الترتيب ثلاثة أقسام؛ «الذاكرة. والتصور والعقل». وجعل أصول العلم وفروعه تتفرع من هذه الكلمات الثلاث. فمن «الذاكرة» يشتق التاريخ، ومن «التصور» يشتق الشعر، ومن «العقل» تشتق الفلسفة.
ثم إن باكون يأخذ التاريخ. والشعر، والفلسفة، كلا بمفرده ويفرع منه فروعه. فالتاريخ طبيعي وبشري. والطبيعي يشمل درس الطبيعة ما فوق وما تحت من علوم الهيئة (علم الفلك) والجيولوجيا والجغرافيا الخ. والتاريخ البشري يشمل التاريخ الديني والتاريخ الاجتماعي (الغير ديني) وتاريخ الأدب والفنون. وأما الشعر؛ فإنه يكتفي بقسيمه إلى ثلاثة أقسام وهي: الشعر للوصف. والشعر للروايات. والشعر للأمثال. وأما الفلسفة فهي ثلاثة فنون؛ فن معرفة الله. وفن معرفة نظام الطبيعة. وفن معرفة نظام الإنسان. ثم يفرغ باكون من كل واحد من هذه الفروع فروعا عديدة يضيق المقام دونها. ولو أتينا عليها كلها لوجد القارئ أنه لا يبقى أصل للعلم ولا فرع خارجا عن هذه الدائرة.
ميزان باكون ضد ميزان أرسطو: فبعد وضع باكون هذا الترتيب للعلم وشرحه كل أصوله وفروعه شرحا كافيا وافيا، وجه همته إلى وضع قاعدة لبنائه. فقال بوجوب ترك قواعد اليونان وأرسطو والاعتماد على العقل في ذلك البناء. وكانت قاعدة أرسطو توجب. كما تقدم أن كل أمر يجرب عدة مرات ويفضي إلى نتيجة واحدة يجب أن يعد ناموسا طبيعيا. وقد ذكرنا مثال ذلك ف تجربة تبخير الماء وقياس اللبن عليه. أما باكون؛ فإنه قال: إن التجربة عدة مرات لا تكفي بل يجب معها أمران؛ الأول إعادة التجربة والامتحان في نفس المادة المطلوب فحصها إلى ما شاء الله، حتى لا تبقى زيادة لمستزيد، واستئناف التجربة في كل جزء من أجزاء المادة ومطاردة الأسرار الطبيعية إلى أبعد مكامنها. وثانيا عدم الاكتفاء بالامتحان الإيجابي بل إجراء امتحان سلبي معه. مثال ذلك: بخر الماء بالنار يتبخر، فأعد التجربة عدة مرات تجده يتبخر دائما. هذا هو الامتحان الإيجابي. أما الامتحان السلبي؛ فهو أن تأخذ بخار ذلك الماء وتبرده، فإذا عاد ماء كان العمل صحيحا، وجاز لك أن تعد التبخر ناموسا طبيعيا. ولا يجوز لك أن تقول: إن أرسطو أو أفلاطون أو أيا كان قد قال ذلك وأثبته، فعلينا أن نصدقه؛ فإننا نريد أن نحكم في أمورنا عقولنا لا عقول الذين تقدمونا. أي أننا لا نصدق أحدا ولا نبني حكما على حكم أحد ما لم تظهر لنا صحة قوله بالتجربة والامتحان والمشاهدة والبرهان - فبناء على ذلك كنست جميع المبادئ القديمة والتعاليم التي من وراء العقل كنسا، وحل محلها علم المحسوسات، أو ما يسمونه العلم الوضعي أو الامتحاني. وقد أطلق باكون وأنصاره بذلك عقول العلماء والفلاسفة من قيود الماضي وأعدوا للعلم ميدانا فسيحا قرن فيه العلم بالعمل، فنشأت عنه الاكتشافات والاختراعات التي عرفتها في عالم العلم والصناعة والزراعة. فكأنه روح الحرية بث في العقل والعلم والعمل فأحياها معا.
ولكن فلنبحث الآن بعد مرور القرون الطوال وانتصار العلم والفلسفة في هذا العصر. هل قام العلم بكل الوظيفة التي انتدبه العقل البشري لها؟ هل قدر إلى اليوم على استئصال كل الشقاء والرذيلة من الأرض وإصلاح شأن البشر فيها إصلاحا تاما. هل استطاع إرواء ظمأ الإنسان إلى ما وراء هذه الطبيعة التي هي عظيمة، ولكنها واأسفاه مادية جامدة. وبعبارة واحدة نقول: هل حل العلم محل الدين حلولا نهائيا بعد تلك الحرب العقلية الكبرى، التي دارت رحاها في أوربا بين أمم مختلفة وفلسفات مختلفة.
كلا.. لم يصنع العلم ذلك صنعا تاما بعد، وإن كان قد صنع شيئا كثيرا منه. ولسنا نعلم السبب الحقيقي في هذا العجز. هل هو ضعف العلم نفسه عن إرضاء الإنسانية وتسكين تأثرها، أم هو ضعف الإنسانية نفسها عن احتمال قوة العلم الهائلة.
صفحة غير معروفة