ولنتأمل حالة الطالبة «روث»، وهي حالة نجد لها نظائر في كل جامعة بها تعليم مشترك. فعلى الرغم من أن تعليمها لم يكن محافظا من الوجهة الدينية على قدر ما كان تعليم «بوب»، فإن التعاليم الأخلاقية التي تلقتها من والديها كانت صارمة قاطعة. صحيح أن والديها يعدان نفسيهما «متحررين» ولكن روث قد تعلمت أن هناك أمورا معينة تتجاوز حدود أكثر أنواع السلوك تحررا. وأبرز هذه البنود المستبعدة، كل نوع من السلوك الجنسي يتم خارج نطاق الزواج، ولا سيما بالنسبة إلى امرأة تحترم نفسها. وعلى حين أن والديها قارئان مثقفان، ولديهما بعض المعلومات عن علم النفس وعلم الاجتماع فإنهما قد نشآ ابنتهما على الاعتقاد بأن معايير الأخلاق الجنسية صارمة لا تتغير.
ولكن، بعد أن تمضي روث في الجامعة فصلا دراسيا أو فصلين، تبدأ في إدراك أنه، على الرغم من أن معظم الفتيات قد نشأن في جو أخلاقي مشابه للجو السائد في بيتها، فإن بعضهن قد انحرف عنه نظريا أو عمليا أو كليهما معا. وفضلا عن ذلك فإن بعض هؤلاء الفتيات صريحات فيما يتعلق بسلوكهن، لا سيما حين يتحدثن مع صديقات حميمات. وقد دهشت روث إذ وجدت أن اتجاهاتهن هذه لا يبدو أنها تؤدي إلى الحد من قدرهن في نظر صديقاتهن. ولما كانت روث قد تعلمت دائما أن مثل هذا السلوك يؤدي دائما إلى التعاسة، ولا سيما بالنسبة إلى الفتيات، فإن الأمر الذي كان مصدر أكبر قدر من الإزعاج والحيرة لها، هو أنها لاحظت أن هؤلاء الفتيات لا يبدو عليهن أنهن أقل سعادة وانسجاما مع بيئتهن من معظم زميلاتهن الأخريات.
ولما كانت روث ذكية واسعة الأفق، فقد حاولت بدورها أن تفكر في المسألة من أولها إلى آخرها بطريقة عقلية. وقد أتاحت لها سياسة التسامح التي تتبعها مكتبة الجامعة، أن تطلع على كتب موثوق بها في المشكلات الرئيسية للجنس والزواج، ولكنها سرعان ما أدركت أن حل مشكلتها لن يوجد في هذه الكتب، ولن يستمد من مناقشات منتصف الليل في عنابر بيت الطالبات؛ ذلك لأن ما كانت تحاول كشفه هو شيء أعمق وأعقد وأهم بكثير من أية إجابة على مشكلة العفة الجنسية. فقد كانت تحاول كشف ما يحدد «الصواب» و«الخطأ». فهي قد ظلت حتى الآن تعتمد دائما على كلمة أبويها ومعلميها في تحديد فئتي السلوك هاتين، ولكن ها هي ذي تدرك فجأة أن ذلك لم يعد كافيا، ما دامت كل تعاليمهم قد صيغت على هيئة أوامر محددة تتعلق بأفعال معينة، لا على صيغة معيار عقلي «للحق أو الصواب». أما كون معظم الناس يؤمنون كما يؤمن والدها، فهذا أمر لا يؤثر فيما تبحث عنه شيئا؛ مثلما لا يؤثر فيه كون العفة صفة أثيرة لدى المجتمعات منذ عهود بعيدة؛ ذلك لأنها تدرك أن هذه ليست إلا صورا متباينة للسلطة، التي لا يمكن أن تكون لها قوة عقلية ملزمة لأذهان ترفض السلطة الخاصة المتعلقة بهذا الموضوع بعينه. فلا بد إذن من شيء أكثر تأصلا، وأكثر معقولية.
وهكذا تجد روث نفسها قادرة، آخر الأمر، على البدء بعملية إعادة بناء عقلية. ولا يمضي وقت طويل حتى تكتشف أن مشكلة «الصواب» و«الخطأ» لا يمكن أن تحل إلا بمزيد من التعمق؛ إذ إنها تدرك أن هذين اللفظين يعتمدان على «الخير» و«الشر». ومن هنا فإن بحثها يؤدي بها آخر الأمر إلى هذا السؤال الأساسي: «ما هي الحياة الخيرة؟» وإلى أن يتسنى إيجاد جواب مرض لهذا السؤال - الذي هو أكثر أسئلة الإنسان إلحاحا - فإن روث تدرك أنها لا تستطيع إلا أن تعود إلى سلطة من نوع ما، لتتخذ منها مرشدا لسلوكها، حتى لو كانت سلطة مشكوكا فيها مثل رأي الأغلبية من زملائها الطلاب. ومن الجائز أن بحثها هذا عن جواب شاف عن مشكلة الحياة الخيرة سيؤدي بها إلى اختيار برنامج دراسي في الفلسفة أو الأخلاق. ولكنها - سواء أفعلت ذلك أم لم تفعله - فإنها ستكون سائرة بجد في طريق الفلسفة الفسيح إذا أدت بها جهودها الخاصة إلى بلوغ نقطة قريبة من تلك التي وصفناها.
ولا شك أننا لن نجد جميع الطلاب، حتى لو كانوا أذكياء، ذوي عقول جادة، قادرين على المثابرة في التفكير في مثل هذه المشكلات إلى الحد الذي يكشف لهم بوضوح عن المسائل الفلسفية الأساسية. مثل ذلك أن «بوب» كان يستطيع أن يتوقف فجأة في تحليله بأن يقرر أنه يوجد لدى أي شخص، على ما يبدو، دليل موثوق به على حقيقة المعتقدات الدينية أو بطلانها؛ وبالتالي يصبح «الإيمان» مسألة شخصية بحتة. وكذلك كانت «روث» تستطيع التراجع في رحلتها العقلية بعد البداية مباشرة؛ وذلك بأن تقرر أن أبويها أكبر منها سنا وأحكم عقلا؛ ولذا فمن الواجب اتباع نصائحهما، لا سيما وأن آراءهما تتفق مع رأي الأغلبية فيما يتعلق بالأخلاق الجنسية.
لكن حتى لو لم يكن الطالبان اللذان نتحدث عنهما قد وصلا إلا إلى موقفين مبدئيين من هذا النوع، فإن كلا منهما يكون مؤمنا ضمنيا بفلسفة وجدت خلال التاريخ الطويل للفكر من يعبر عنها بوضوح ويدافع عنها بحرارة. فعندئذ يكون «بوب» مثلا، قد اتجاه نحو مذهب نسبي شكاك من نوع ما، على حين أن «روث» تكون قد ظلت قانعة بنوع من مذهب السلطة المفترض ضمنا.
أمثلة أخرى : ولنبحث الآن حالة «تشارلس». ففي أثناء دراسة تشارلس الثانوية، أبدى اهتماما كبيرا بتلك الألغاز التي لا بد أن كلا منا قد صادفها في وقت ما، من أمثال: «إذا سقطت شجرة في وسط غابة ولم يكن هناك شخص قريب يسمعها، فهل يكون هناك أي صوت؟» وحتى بعد أن عرف أن الجواب يتوقف تماما على تعريف «الصوت»، فقد ظلت المشكلة تخلب لبه، لا سيما بعد أن أخبره شخص أكبر منه سنا أن من الممكن توجيه نفس هذا السؤال بشأن كل تجربة حسية لنا. مثال ذلك، أيكون الفرن «ساخنا»، أو الجو «شديد الرطوبة»، إن لم يكن هناك من يحس به؟ ... وهكذا أخذ تشارلس يشعر بالتدريج أن الشخص، في كل تجربة، يكون أهم من الشيء الذي يمر به في تجربته، بل إن الشخص ليس أهم فقط، وإنما هو أهم وأكثر «حقيقة»، بحيث ينبغي أن يعد الذهن أو الوعي العنصر المركزي الرئيسي في الكون. وبذلك يكون تشارس قد اهتدى، عن وعي أو دون وعي، إلى الفكرة الأساسية لدى مدرسة من أعظم مدارس الفكر الفلسفي وأقواها تأثيرا، وهي المثالية الميتافيزيقية.
وهناك طالب آخر، هو «ديك»، يبدي اهتماما كبيرا بالعلم ولا سيما الجيولوجيا والفلك والدراسات البيولوجية. وقد تعلم مما درسه في هذه الفروع أن العلم، حتى في أشمل تعميماته وأوسع قوانينه نطاقا، يتوقف دائما، وفي نهاية الأمر، على «الوقائع». وهو يشعر بإعجاب متزايد بقدرة العلم على تفسير مختلف أسرار التجربة البشرية واحدا بعد الآخر، ويشعر برضا خاص إذ يدرك أن حدود المجهول والغامض وما هو «خارق للطبيعة» تتراجع وتنكمش يوما بعد يوم. وأخيرا يشعر، كما يشعر كل أساتذته في العلم، أنه على حين أن العلم قد لا يكون قادرا على أن ينبئنا بكل ما نود معرفته، فهناك بالفعل أدلة كافية تثبت أن أي ميدان لا يثمر أكبر قدر ممكن من المعرفة الموثوق منها إلا إذا اتبعت فيه الطريقة العلمية. كذلك يعتقد «ديك» أنه لا يوجد شيء من وراء الكون الطبيعي الذي يدرسه العلم. «فالطبيعة» تشمل كل ما يوجد، بحيث لا يكون ثمة مجال لما هو «خارق للطبيعة». وعندما يصل إلى وجهة النظر الأخيرة هذه، يكون قد عثر (ربما دون أن يعلم مطلقا). على الفكرة الرئيسية في موقف فلسفي رئيسي آخر، هو المذهب الطبيعي.
والمثل الأخير هو «باربارا»، وهي فتاة في السنة الأولى، تتصف بصلابة الرأي وبنزعة عملية مشوبة بشيء من السخرية وعدم الاكتراث، ولا تطيق التفكير النظري أو التأمل أبدا. ففي كل مناقشة نظرية، نراها دائما ترد بقولها: «إلى أين ستؤدي بك؟» وفي الآونة الأخيرة أخذ نطاق تحديها النقدي يزداد اتساعا؛ إذ إنها الآن قد أصبحت تتساءل: «هل نوع النظرية التي تعتنقها يؤدي إلى أي فارق في المدى الطويل - وإذا كان هناك فارق، فما هو؟ وما العائد من النتائج الملموسة - هذا وحده هو ما يهمني!» وهنا نجد أن باربارا بدورها تتخذ موقفا نظريا موجودا بصورة ضمنية في أسئلتها، وإن كانت ستدهش قطعا (وربما غضبت) لو عرفت بالأمر. ذلك لأن أسئلتها توحي بنوع ساذج من «البرجماتية» التي تحاول تقويم كل شيء من خلال نتائج ذات أثر ملموس، وتذهب إلى أن النظريات والتمييزات النظرية لا يكون لها معنى إلا بقدر ما تؤدي إليه من اختلافات يمكننا أن نجربها مباشرة.
وهنا ينبغي أن نؤكد مرة أخرى أنه قد لا يكون هناك واحد من هؤلاء الطلاب الخمسة يعتقد أن النشاط العقلي الذي يمارسه هو نوع من التفلسف، والأبعد من ذلك احتمالا أن تكون نتائج تفكيرهم في نظرهم بوادر أولى لمذهب فلسفي. على أن الفلسفة المنظمة، كما سنرى في الصفحات التالية، قد نمت من تفكير مماثل لهذا تماما، في نفس هذه المشكلات، بل إن تاريخ الفلسفة ليس إلا تعاقبا متصلا من الإجابات المتباينة على هذه المشكلات (وعلى مشكلات أخرى مماثلة لها)، على حين أن أي «مذهب» فلسفي ليس أكثر من محاولة متكاملة شديدة التنظيم للإجابة عن نفس الأسئلة الأساسية التي تلح على ذهن الإنسان كلما بدأ يفكر تفكيرا عميقا شاملا. (1) الاختلافات الرئيسية بين الفلسفة الشعبية والفلسفة المذهبية
صفحة غير معروفة