«الفلسفة مضيعة للوقت.» «الفلسفة لا تحل أية مشكلة.» «الفلسفة لا تعالج إلا مشكلاتها الوهمية الخاصة - بل إنها تعجز عن حل هذه المشكلات.» «لم يظهر أبدا فيلسوف تحمل ألما في الضرس.» مثل هذه الملاحظات توجه إلى الفيلسوف المحترف وإلى طالب الفلسفة، وتتكرر إلى حد ينبغي معه النظر إليها على أنها من المتاعب المهنية. شأنها شأن غبار الطباشير في التدريس، أو قذارة الأظافر في أعمال الورش. ومع ذلك، فكما أن المدرس والميكانيكي يغضبان بطبعهما من أي تلميح إلى أن هندامهما الشخصي ليس على ما يرام، فكذلك يغضب الفلاسفة من التلميحات المألوفة التي تنطوي عليها أمثال هذه الملاحظات القائلة إن هندامهم العقلي معيب. وكما أن المدرس أو الميكانيكي قد يجيب كل منهما على النقد بقوله: «كم أود أن أراك وأنت تقوم بعملي وتظل محتفظا بنظافتك!» فكذلك يشعر الفيلسوف في كثير من الأحيان بالميل إلى أن يرد قائلا: «أتراك تتصرف على نحو أفضل لو كنت تعمل في ميدان؟»
ولكن التشابه بين الطرفين ينتهي عند هذا الحد؛ ذلك لأن من ينتقد السترة المغطاة بالطباشير أو الأظافر القذرة يستطيع أن يقول دائما (لنفسه على الأقل) «إن لدى العقل ما يكفي لتجنب أمثال هذه المهن التي تفسد الهندام.» أما في حالة الفيلسوف فليس هناك رد كهذا يمكن أن يوجه إليه؛ ذلك لأننا، كما لاحظ أرسطو منذ وقت طويل، سواء أردنا أن نتفلسف أو لم نرد، لا بد لنا جميعا من التفلسف. فقد يكون في استطاعة الشخص الحريص على النظافة أن يتجنب المهن التي تجعل منظره يبدو غير مرتب، ولكن ليس في وسع أحد أن يفكر منطقيا، وبعمق، دون أن يقوم بدور الفيلسوف، على طريقة الهواة على الأقل. وفضلا عن ذلك، فليس في وسع أحد أن يتأمل تجربته الخاصة، ويصل إلى أية نتائج، حتى لو كانت مفتقرة تماما إلى الدقة، عن العالم، أو الحياة، أو طبيعة الوجود ومعناه، دون أن يكون قد أقحم في تفكيره (ضمنيا على الأقل) مذهبا ميتافيزيقيا كاملا. ذلك لأن ما يفعله الفيلسوف المحترف هو أنه يعرض بالتفصيل ذلك المذهب الفكري الذي توجد بذوره البسيطة في أي رأي ساذج غير واع عن العالم. والفارق الأساسي بين آراء المفكر المدرب وبين الخواطر غير النقدية التي تطرأ بالذهن الساذج من الوجهة الفلسفية، هو فارق في المسافة التي قطعها كل من الذهنين؛ أي إن كل ما يفعله الفيلسوف هو أنه يمضي أبعد في نفس الطريق الفكري الذي يسير فيه المفكر غير النقدي دون وعي. والفيلسوف يسلك عادة طريقا أقصر؛ إذ إنه قد اكتسب مزيدا من الخبرة في تجنب الطرق المسدودة والمسالك الفرعية العقيمة التي قد تعترضه خلال سيره. وفضلا عن ذلك فالأرجح أنه خلال سيره يرى تفاصيل أكثر (أي أكثر أهمية وأعمق معنى بحق)، ومع ذلك فإن الطريق العام الذي يسلكه كل منهما يظل واحدا.
حتمية الفلسفة : من السهل أن يتعرض القارئ للشك في وصفنا هذا للفلسفة بأنها نشاط بشري شامل. فقد تقول: «هذا هراء. فقد أمضيت هذه السنين الكثيرة كلها بلا فلسفة، ولكن من المؤكد أنني خلال طريقي قد قمت ببعض التفكير!» ومع ذلك، فبينما أنه يكاد يكون من المؤكد بالفعل أنك قمت ببعض التفكير خلال وقتك هذا - ولولا ذلك لما كان لديك من التعليم ما يكفي لقراءة كتاب كهذا - فإن الأكثر من ذلك تأكيدا هو أنك لم تفلت من التفلسف خلال جزء من وقتك، هذا على الأقل. صحيح أنك لم تستخدم المصطلح الفني للفلسفة، ولم تكن بطبيعة الحال محترفا يرتزق من تدريس هذا المصطلح لطلاب الكليات، ومع ذلك فلا جدال في أنك كنت تستخدم، بطريقتك الخاصة وبلغتك الخاصة، بعض الأفكار والاتجاهات الفلسفية طوال جزء كبير من ذلك الوقت.
والأمر المؤكد أكثر من كل ما سبق هو أن القارئ لو كان طالبا فيك كلية فلا بد أنه بدأ يتفلسف منذ وقت قريب، وكلما كان بقاؤه في الكلية أطول، كان الأرجح أنه يقف مترددا، في أوقات كثيرة، على حافة التفكير الفلسفي الجاد. مثل هذا الطالب هو عادة شخص ذو ذهن جاد، يهتم بما هو أكثر من الحياة الرياضية والاجتماعية بالجامعة، والأغلب أنه قد انزلق من هذه الحافة مرات كثيرة، وخاض بحر المشكلات الفلسفية العميقة، الذي سبح فيه دون أن يدري، برفقة مجموعة من كبار مفكري التاريخ.
والحق أن من أكثر التجارب التي يمكن أن يمر بها المبتدئ في الفلسفة مدعاة للاستغراب (وربما لخيبة الأمل الشديدة)، أن يكتشف أن مجموعة الأفكار الغامضة، بل المفككة، التي يعتنقها في موضوع الحياة والكون، قد يكون لها اسم، وأن من الممكن، على أساس هذه الأفكار، أن يصنف على أساس أنه «مثالي»، أو «طبيعي»، أو «من أصحاب مذهب اللذة»، وربما على أنه «برجماتي». ذلك لأنك لو كنت شخصا واثقا بنفسه، فأغلب الظن أنك كنت دائما تنظر إلى أفكارك ووجهات نظرك على أنها فريدة في نوعها. وهذا النوع من الأشخاص يدهشه، بل يغضبه، ذلك الهدوء الرزين الذي قد يستطيع أستاذ الفلسفة تحديد الفئة التي تنتمي إليها آراؤه. ومن جهة أخرى فلو كنت طالبا من النوع الأكثر تواضعا وانطواء، فالأرجح أنك تشعر عندئذ بأن ذهنك كان يحتوي على كثير من الأفكار التي هي أكثر «حمقا» من أن تستحق معنوياتها اسما محترما كالفلسفة. وفي هذه الحالة بدورها ستتملكك الدهشة بلا شك، وإن كان سرورك بذلك أعظم؛ إذ إنك لا بد أن تكتشف بدورك أن واحدا أو أكثر من الشخصيات التي حفظها تاريخ الفلسفة، قد قال بنفس هذه الأفكار «الحمقاء»، ووصل إلى الشهرة لا لشيء إلا لأنه قد وسع هذه الأفكار وزادها تكاملا ودقة. وهكذا فإن المبتدئين، سواء أكانوا من الواثقين أم من غير الواثقين بأنفسهم، يكتشفون عادة أنهم ليسوا وحيدين في تفكيرهم؛ إذ إنهم سرعان ما يعلمون أنه لا جديد - إلا القليل جدا - تحت شمس الفلسفة، ولا بد أن تمر بالمرء لحظة هائلة، قد تملكه فيها فرحة طاغية أو خيبة أمل عميقة، عندما يكتشف أنه شريك في الفكر لأفلاطون، أو باركلي، أو اسبينوزا.
الطلاب بوصفهم فلاسفة : يعلم أساتذة الفلسفة في الكليات أن الطلاب الذين يختارون موضوع تخصصهم يفعلون ذلك لأسباب متباينة. ومن الشائع أن يكتشف هؤلاء الأساتذة، من بين الطلاب الذين يختارون منهاج دراستهم لسبب أهم من كونه يتسم بالسهولة أو تلقى محاضراته في مواعيد مريحة، أغلبية يقوم أفرادها بهذا الاختيار لأنهم غير راضين عن الإجابات التي يتلقونها عادة ردا على أسئلة أساسية معينة. وفي معظم الأحيان يقوى هذا الشعور بعدم الرضا كثيرا منذ دخول الكلية؛ لأن من الأسباب التي تبعث في الطالب هذا الشعور، اتساع نطاق معرفته، والمناقشات والمجادلات الحامية التي لا تنتهي، والتي تؤلف عنصرا هاما في الحياة الجامعية. على أن أكثر المؤثرات مدعاة للاضطراب وعدم الاستقرار، قد يكون هو الشعور المتزايد بوجود تباين بين المثل العليا المعترف بها في المجتمع والحضارة، وبين سلوك الناس الفعلي في محيط العمل أو عالم المجتمع - أو في الوسط الجامعي ذاته. وقد يدرك الطالب ذو الضمير الحي أيضا أن المثل العليا التي ينادي بها هو ذاته علنا، كثيرا ما تكون ذات صلة واهية بسلوكه اليومي، ويكتشف أنه ما زال يطيع بلسانه معايير السلوك التي تعلمها في البيت أو في المدرسة، ولكنه يتجاهل معظمها وهو يحيا حياته الجامعية الراهنة.
هذه التناقضات والمفارقات - العقلية، والأخلاقية، والدينية - هي التي تدفع كثيرا من الطلاب إلى القيام بأول اتصال لهم مع الفلسفة، إما في المدرج الجامعي، وإما عن طريق كفاحهم الخاص في سبيل الاتساق العقلي. فكل أستاذ مثلا، يشاهد أمثلة كثيرة لطلاب مثل «بوب». وبوب هذا قد تربى في جو مسيحي محافظ، ولكنه سرعان ما أدرك أن أية إشارة إلى التعاليم التي ظل يقبلها دائما دون مناقشة، تثير على وجوه زملائه من الطلاب نظرات عابسة أو مستنكرة، وربما معبرة عن الحرج الشديد. وفي البداية كان بوب يميل إلى الاستخفاف بهذه الاستجابات السلبية، على أساس أنها تعبر عن حالات استثنائية لا تمثل الموقف العام في الجامعة، ولكن لما كانت كليته تمثل المجموع، فقد كان لا بد له أن يضطر إلى مواجهة الحقيقة الفعلية، وهي أنه هو الاستثناء (أو على الأقل واحد ضمن أقلية)، وأن التعاليم المسيحية لا تؤثر مباشرة إلا في تفكير وسلوك قلة من أصدقائه وزملائه في الدراسة. وقد اشتدت حدة الصراع الذي أثاره هذا الاكتشاف في ذهن بوب بوجه خاص عندما أدرك أن كثيرا من الطلاب الذين كان يقدرهم ويعجب بهم - والأسوأ من ذلك، بعض مدرسيه المحبوبين - يشاركون في عدم الاكتراث العام هذا، أو في تلك العداوة الصريحة، للتعاليم الدينية التقليدية.
ولكي يصل بوب إلى حل لهذا الصراع، فعل ما يفعله أي شخص عاقل في مثل هذه الظروف؛ فقد بدأ يفكر، فاكتسب مزيدا من المعلومات عن أصل وتاريخ تلك التعاليم التي كان يقبلها دائما على أنها «مقدسة»، وحاول فهم الأسباب التي أدت بأشخاص أذكياء مثقفين (ومتمسكين تماما بالأخلاق) إلى التخلي عن هذه التعاليم. فناقش مختلف المشكلات التي يثيرها الموضوع مع ممثلين ينتمون إلى كلتا المدرستين الفكريتين، محاولا أثناء ذلك أن يحتفظ بموقف الحكم النزيه.
ولقد كان هذا الجهد الذي بذله بوب للوصول إلى حل لصراعه هذا، يقتضي منه أن يستخدم العقل لا العاطفة؛ إذ إنه أدرك أن المشكلة عقلية قبل كل شيء، ولا تمس العاطفة إلا بطريق غير مباشر. فانتهى رأيه إلى أن أسرته ومعلميه الدينيين ليسوا «موضوعيين» في الحجج التي يزعمون بها إثبات وجود الله أو خلود النفس، ومن جهة أخرى رأى أن أصدقاءه الشكاك والملحدين لم يكونوا في بعض الأحيان أقل تعصبا وعاطفية، أو كان كل ما يفعلونه هو تبرير تمرد مبني على أسس دينية مشابهة لما لديه. وهكذا بدا له أن كلتا الجماعتين لا تقدم إليه مصدرا موثوقا به للتفكير النزيه، غير الانفعالي، ورأى نفسه مضطرا إلى رفض الاسترشاد بهذا الجانب أو ذاك في حل مشكلته. ومن ثم فقد اضطر إلى محاولة البحث بنفسه عن صيغة منطقية لما يستطيع أن يؤمن به إيمانا صادقا على أسس تجربته ومعرفته التي اكتسبها حتى ذلك الحين.
ومنذ هذه اللحظة، أصبح بوب فيلسوفا، سواء أعرف ذلك أم لم يعرفه. ولو ظل منطقيا وثابر على محاولته صياغة معتقداته الخاصة، لوصل على الأرجح إلى نتائج مشابهة لتلك التي وردت في مذهب ميتافيزيقي معين من المذاهب الموجودة بالفعل. ولكن، سواء أكانت وجهة النظر التي سيصل إليها هي تلك التي اشتهرت بفضل أرسطو، أو وليام جيمس، أم وجهة نظر يستطيع أن يصفها - عن حق - بأنها خاصة به وحده، فإن منهجه لو كان منطقيا، وطريقة معالجته للموضوع لو كانت عقلية، لكان تفكيره هذا، والنتائج التي وصل إليها، جديرا باسم «الفلسفة».
صفحة غير معروفة