ومن الأمور الشائقة أن نرى ذلك المفكر القديم الذي كتب «قصة الفلاح الفصيح» منذ 4000 سنة وهو يجاهد ليظفر بالتغلب على تلك العقبة الكأداء، عقبة فساد الحكم التي بقيت منذ ذلك العصر من أعقد المسائل المستعصية على المشرفين على الإدارة في الشرق، وهي في الواقع مسألة لم يهتد إلى حلها حلا كاملا للآن في مصر الحديثة حتى بعد وجودها تحت الإدارة الإنجليزية الحاذقة المجربة.
ومجمل هذه القصة أن فلاحا من أهالي إقليم «الفيوم» في منطقة وادي النطرون الواقعة في الصحراء الغربية كان يقطن قرية تسمى «حقل الملح»، وجد أن مخزن غلال أسرته أشرف على النفاد، فحمل قطيعا صغيرا من الحمير بحاصلات قريته وسار به نحو مدينة «أهناسية» الواقعة بالقرب من مدخل «الفيوم»، يريد أن يستبدل بحاصلاته غلالا، وكانت الحالة تحتم عليه المرور من طريق به منزل رجل يدعى «تحوتي ناخت»، وهو موظف صغير من موظفي «رنزي» الذي كان إذ ذاك من الأشراف، وكان يحمل لقب «المدير العظيم لبيت الفرعون». وكانت بلدة «أهناسية» مقرا للملك، فعندما رأى «تحوتي ناخت» حمير الفلاح تقترب منه دبر حيلة لاغتصابها بما عليها، فأرسل على الفور أحد الخدم إلى منزله فجاء بصندوق مملوء من نسيج الكتان، فأخرج النسيج ونشره على الطريق العامة حتى غطاها كلها، من حافة حقله المزروع قمحا الواقع على الجانب الأعلى من الطريق إلى ماء الترعة الذي يقع في الجانب المنخفض منها.
وكان ذلك الفلاح البريء - كما تقول القصة - يتقدم في سيره «على الطريق العامة لكل الناس» وهي التي سدها «تحوتي ناخت» المذكور بنسيجه ذلك - ويلاحظ هنا ما تكشف عنه عبارة كاتب القصة من الغضب - ولما كان الفلاح يخشى السير في الماء الذي في الجهة المنخفضة من الطريق فإنه آثر السير بحميره المحملة في الجهة العليا منها محازيا حافة حقل القمح، وفي أثناء السير التقم أحد الحمير بضع سيقان من جذور ذلك القمح المغري، فتهيأت بذلك في الحال الفرصة المدبرة التي تمناها «تحوتي ناخت» الماكر الذي كان يترقب ذلك عن كثب. وفي هذا اللحظة تقدم الفلاح إلى «تحوتي ناخت » مقدما له الاحترام والخضوع بكلامه وهيئته، ولكن بما لا يحط من كرامته، فما كان من «تحوتي ناخت» المذكور إلا أن زمجر وسخط وقبض على الحمير. عند ذلك عاود الفلاح إيضاح ظروفه في أدب واحتشام، ثم أردفه باحتجاج جريء فانبرى يقول: «إن طريقي مستقيمة، وقد سد أحد جانبيها، وعلى ذلك سرت بحميري على تلك الحافة. أتغتصب حميري لأن واحدا منها التقم ملء فيه من سيقان قمحك؟ إني أعرف رب هذه الصيغة، فهي ملك «مدير البيت العظيم» «رنزي بن مرو»، وأعرف أنه هو الذي يقضي على كل سارق في أنحاء هذه البلاد، فهل أسرق في ضيعته؟»
فلما أحفظت «تحوتي ناخت» جسارة هذا الفلاح أمسك بغصن من الأثل الأخضر وأخذ يضرب فريسته بدون رحمة ولا مبالاة بصياح الفلاح واحتجاجاته المتكررة، واستاق كل الحمير إلى منزله، وقضى الفلاح المسكين أربعة أيام يرجوه فيها إرجاع الحمير بدون جدوى، وطوال هذه المدة كان يتألم لبعده عن أسرته التي أشرفت على الموت من الجوع، فصمم على رفع شكواه إلى «مدير البيت العظيم» نفسه الذي حدث في ضيعته ذلك الاعتداء الصارخ، وزاد الفلاح شجاعة في رفع شكايته إليه ما اشتهر به «مدير البيت العظيم» من حبه للعدالة حتى صار مضربا للأمثال في عدالته. وبينما يقترب الفلاح من المدينة إذ قابله لحسن حظه «مدير البيت العظيم» المقصود خارجا من باب ضيعته الواقعة على النهر وهو يسير في طريقه للركوب في قاربه الرسمي في الترعة. وعند ذاك استطاع الفلاح، بما أوتيه من أدب جم وسيطرة على أساليب البيان وتوجيه للأقوال الحسنة التي تليق لمثل ذلك المقام، أن يسترعي أذن ذلك الرجل العظيم، فأصغى إليه بعض لحظات في أثناء مسيره لركوب قاربه، ثم أرسل بأحد خدمه ليسمع قصة ذلك الفلاح، فلما رجع الخادم وأخبر «رنزي» بتلك السرقة التي ارتكبها «تحوتي ناخت» لم يسع «مدير البيت العظيم» إلا أن يبسط ذلك الأمر على حاشيته من الموظفين، فكان جوابهم إزاء ما حصل هو بيت القصيد الذي احتال المؤلف بمهارته حتى جعله فرصته لأن يضع أمام القارئ - بدون تعليق - صورة واضحة للمعاملة الشائعة التي كانت تقابل بها مثل شكاية ذلك الفقير في الدوائر الحكومية؛ إذ انحاز في الحال زملاء مدير البيت إلى جانب مرءوسهم «تحوتي ناخت» السارق؛ ولذلك كان جوابهم على «رنزي» جوابا ملؤه عدم المبالاة، قائلين له: «إن القضية يحتمل أن تكون قضية فلاح قد دفع ما يستحق عليه من الضرائب إلى رئيس غير رئيسه خطأ، وإن «تحوتي ناخت» قد استولى على ما يستحقه من الضرائب بحق من الفلاح.» ثم تساءلوا بغضب: «هل يعاقب «تحوتي ناخت» بسبب قليل من النطرون والملح؟ أو على أكثر تقدير في موضوع كهذا، يصدر إليه الأمر بإعادتها، وهو بلا شك معيدها له!» ومما يلفت النظر هنا وينطبق على ما اعتادته طبقة أولئك الموظفين أنهم تجاهلوا الحمير كلية، وهي التي كان ضياعها معناه موت ذلك الفلاح وأسرته جوعا.
وفي ذلك الوقت نفسه كان الفلاح واقفا على مقربة يسمع بضياع ماله وخرابه المحتم، يتغاضى عنه رجال السلطة ويتجاهلون أمره. وفي تلك الأثناء كان «مدير البيت العظيم» يجلس شبه حالم في صمت. وهذا المشهد يمثل لنا باختصار طابعا طبعت به عصور كاملة من التاريخ الاجتماعي في الشرق، فمن ناحية نرى تلك الطائفة المنعمة من أتباع ذلك الرجل العظيم، بما نشئوا عليه من المطاوعة والملق، وهم في ذلك يمثلون الطراز الغالب في طبقة الموظفين. هذا من جهة، ومن جهة أخرى نشاهد صورة ذلك الفلاح المنكود الحظ الذي لا صديق له ينصره وقد اغتصب متاعه فتتمثل فيه صورة مؤثرة للمطالبة بالعدالة الاجتماعية. وهذا المنظر يعد من أقدم الأمثلة الدالة على المهارة الشرقية في تصوير المبادئ المعنوية في شكل مواقف ملموسة، وهي التي صورت فيما بعد أبدع تصوير في أقوال «عيسى» - عليه السلام.
أما ما كان من شأن ذلك الفلاح، فإنه لما رأى أن «مدير البيت العظيم» لم يحر جوابا، حاول مرة أخرى أن ينجي نفسه وأسرته من الموت الذي كان يتهددهم جميعا بسبب الجوع، فتقدم إلى الأمام خطوة وخاطب بفصاحة مدهشة ذلك الرجل العظيم الذي كانت قضيته الآن بين يديه، متمنيا له سياحة طيبة عند نزوله في قاربه الذي كان في الترعة، ثم لهج بشهرة «مدير البيت العظيم» في فعل الخير، مما كان يعلل به نفسه عند رفع قضيته إليه، فكان من قوله له : «لأنك والد اليتيم وزوج الأرملة وأخ لمن هجره الأهلون وستر من لا أم له، دعني أضع اسمك في هذه الأرض فوق كل قانون عادل. يا أيها القائد الذي لا يشوبه طمع، ويا أيها الرجل العظيم الذي يتجنب الصغائر ويحطم الظلم ويثبت الحق، أجب إلى الصيحة التي ينطق بها فمي، فإذا تكلمت فعليك أن تسمع، أقم العدل أنت يا من قد مدحت، ويا من يمتدحه الممدوحون. اكشف عني الضر، انظر إلي فإني أحمل أثقالا فوق أثقال. حقق أمري، انظر، فإني في حيرة.»
3
وقد شعر «مدير البيت العظيم» بسرور عظيم من لباقة الفلاح، الخارقة للعادة، البادية في حسن منطقه وفصاحة لسانه، حتى إنه تركه دون أن يقطع في قضيته برأي، وذهب على الفور إلى البلاط حيث قال للملك: «يا مولاي، لقد عثرت على أحد أولئك الفلاحين يحسن القول بحق.» فسر الملك سرورا عظيما، وكلف «مدير البيت العظيم» أن يصحب الفلاح معه دون أن يقطع في قضيته برأي؛ رغبة في أن يرتجل له الفلاح خطبا أخرى أيضا. وكذلك أمر الملك بتدوين أقواله بدقة، وأن يقدم له الطعام وكل ما يلزمه، وأن يرسل خادم إلى قريته ليتحقق أن أسرته ليست في حاجة إلى شيء ما خلال تلك الفترة التي يقضيها عند الملك. وقد نتج عن تلك الإجراءات أن أخذ الفلاح يلقي على أسماع «رنزي» ما لا يقل عن ثماني شكايات.
وعند هذه النقطة تنتهي هذه المقدمة التمثيلية، وهي التي كان الغرض منها أن تسبغ على ذلك المقال الاجتماعي ثوبا يجعله في صورة قصة، وبعد ذلك تبتدئ الخطب الثمانية التي يتألف منها جميعا ذلك المقال الاجتماعي.
وتلك الخطب الموجهة إلى «مدير البيت العظيم» «رنزي» تصور لنا في أول الأمر خيبة الأمل المحزنة التي صادفها الفلاح في اعتقاده بما اشتهر به ذلك الرجل العظيم من أنه لا يحيد عن العدل.
صفحة غير معروفة