نصوص عن النبي ﷺ توافق قول من نازعه، كالمتوفى عنها زوجها وهي حامل، فإن عليا ﵁ أفتى أنها تعتد أبعد الأجلين (٩٩)، وعمر وابن مسعود (١٠٠) ﵄ وغيرهما أفتوا بأنها تعتد بوضع الحمل (١٠١)، وبهذا جاءت السنة (١٠٢) . وسئل النبي ﷺ وكان أبو السنابل (١٠٣) يفتي بمثل قول علي ﵁ فقال النبي ﷺ: [٤/ب] «كذب أبو السنابل قد حللت فانكحي» (١٠٤) قوله لسبيعة الأسلمية (١٠٥) لما سألته عن ذلك.
وقوله: «اللهم انصُر من نصره، واخذل من خذله» خلاف الواقع؛ فإن الواقع (١٠٦) ليس كذلك، بل قاتل معه أقوام يوم صفين فما انتصروا (١٠٧)، وأقوام لم يقاتلوا معه فما خذلوا كسعد ابن أبي وقاص (١٠٨) الذي فتح العراق لم يقاتل معه، وكذلك أصحاب معاوية (١٠٩) وبني أمية (١١٠) الذين قاتلوه فتحوا (١١١) كثيرا من بلاد الكفار ونصرهم الله تعالى.
وكذلك قوله: «والِ من والاه، وعادِ من عاداه» مخالف لأصول الإسلام؛ فإن القرآن قد بين أن المؤمنين مع اقتتالهم وبغي بعضهم على بعض هم إخوة مؤمنون كما قال تعالى: ﴿وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحبُّ المقسطين. إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم﴾ [الحجرات ٩، ١٠] فكيف يجوز أن يقول النبي ﷺ للواحد من أمته: «اللهم وال من والاه وعادِ من عاداه» (١١٢) والله تعالى قد أخبر أنه ولي المؤمنين والمؤمنون أولياؤه وأن بعضهم أولياء بعض، وأنهم إخوة وإن اقتتلوا وبغى بعضهم على بعض.
_________
(٩٩) روي عنه بوجه منقطع. (المغني ١١/٢٢٧) .
وانظر أيضًا: التمهيد (فتح البر في الترتيب الفقهي لتمهيد ابن عبد البر) ترتيب المغراوي ١٠/٥٩١ كتاب الطلاق، باب عدة الوفاة تنتهي بوضع الحمل.
(١٠٠) عبد الله بن مسعود الهُذَلي، أبو عبد الرحمن، من السابقين الأولين، ومن كبار العلماء من الصحابة، مناقبة جمة، مات سنة اثنتين وثلاثين، أو في التي بعدها بالمدينة. (التقريب ص٣٢٣) .
(١٠١) ابن قدامة: المغني ١١/٢٢٧، ٢٢٨، والخطابي: معالم السنن بهامش سنن أبي داود ٢/٧٢٩ كتاب الطلاق، باب في عدة الحامل.
(١٠٢) منها ما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه ٥/٢٠٣٧ (٥٠١٢، ٥٠١٣، ٥٠١٤) كتاب الطلاق باب ﴿وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن﴾ من حديث سبيعة الأسلمية. ومنها: «أفتاني النبي ﷺ إذ وضعتُ أن أنكح» .
مسلم:الصحيح، كتاب الرضاع، باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها بوضع الحمل ٢/١١٢٢ رقم ١٤٨٤ القصة بطولها.
(١٠٣) أبوا السنابل بن بَعْكَك بن الحارث القرشي، قيل اسمه: عمر، وقيل غير ذلك، صحابي مشهور (التقريب ص٦٤٦) .
(١٠٤) أخرجه باللفظ الذي ساقه المصنف أحمد في مسنده ١/٤٤٧.
قال الهيثمي - بعد أن ذكر هذا الحديث -: «ورجاله رجال الصحيح» .
وأخرجه أيضًا الإمام البيهقي في السنن الكبرى ٧/٤٢٩. وانظر التعليق السابق.
(١٠٥) سُبيعة بنت الحارث الأسلمية، زوج سعد بن خولة، لها صحبة. (التقريب ص٧٤٨) .
(١٠٦) قوله «فإن الواقع» في الأصل بالهامش.
(١٠٧) قلت: كان علي ﵁ قريبا من الانتصار العسكري في صفين، لكنه نزل على تحكيم كتاب الله لما دُعي إليه، وأوقف الحرب، لأنه يرى أو كما قال بعد ذلك: «وكتاب الله كله لي» أي يحكم لي. فيرى أنه سيحقق ما يريد عن طريق التحكيم بدلا من القتال، لكن التحكيم فشل ولم يخرجوا منه بالنتيجة التي أرادوها منه. ولم يتمكن بعد ذلك من غزو الشام وإدخالها في الجماعة والبيعة، بسبب ظهور الخوارج ودخول الوهن على بعض جيشه.
ويبدو أن الذي يعنيه شيخ الإسلام بعدم الانتصار هو عدم تحقيق الهدف الذي أراده الخليفة علي ﵁ من غزو الشام وهو إدخاله ضمن خلافته.
أما المعروف عن علي ﵁ فإنه لم يَخِبْ في أي معركة دخلها، ولم يُهزم في معركة قط.
وأما الذين لم يدخلوا المعركة أصلا كسعد بن أبي وقاص فذلك بناء على اجتهاده ﵁، ولا نستطيع أن نقول إنه أراد بذلك خذل عليّ ﵁، فكيف يترتب عليه خذله ﵁.
ولا يشك أحد منا أن عليا ﵁ كان أقرب إلى الحق من معاوية ﵁ بدليل حديث عمار.
وهذا الذي قاله شيخ الإسلام بأن معاوية وأصحابه انتصروا وفتحوا البلاد مع أنهم خذلوا عليا يقال بأن أصحاب معاوية ما أرادوا ذلك وإنما كان همهم شيئًا آخر وهو
القصاص، والذي جعلهم يقاتلونه ﵁ أمر خارجي وليس بغضه، فهذا اجتهاد منهم، وهم على اجتهادهم مأجورون، بل كانوا يحبونه بدليل حديث صحيح مروي عن علي أنه قال: «والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة إنه لعهد النبي إليّ أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق..» صحيح مسلم ١/٦٤ من الجزء الثاني كتاب الإيمان باب حب علي من الإيمان، وبلا شك فهم كانوا مؤمنين وقد وصفهم الله ﷿ بذلك في كتابه: ﴿وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا..﴾ . وبهذا ظهر الأمر جليا أن معاوية ومن معه رضوان الله عليهم أجمعين لم يكن قتالهم ناشئًا من العداوة، وإنما ذلك من أجل القصاص لدم عثمان ﵁، وإلا فهم كانوا يوالونه موالاة المؤمنين بعضهم لبعض ولم يكونوا يعادونه لا قبل تلك المعارك ولا بعدها.
فإذا كان الأمر كذلك فلا معارضة إذًا بين الحديث والواقع، علمًا بأن الحديث لم يصح بجميع أجزائه، وإنما صح منه بعض الأطراف دون غيرها. وقد سبق بيان ذلك ص٢٠،٢١.
(١٠٨) هنا تجنب المؤلف أن يقول: «خذلوه» وقال: «لم يقاتلوا معه» لأن سعدًا جاء عن النبي ﷺ من طريقه أحاديث في فضل علي في الصحيحين وغيرهما، ويعتبر مبايعا له، ولكن توقف عن نصرته لأنه لا يرى القتال بين المسلمين، وصح عنه قوله: «ائتوني بسيف له عينان وشفتان يقول هذا مسلم وهذا كافر» أو كما قال.
(١٠٩) ابن أبي سفيان.
(١١٠) بنو أمية في دولتهم انتصروا في الجهاد في سبيل الله كمن سبقهم من الخلفاء الراشدين والنبي ﷺ. لكنهم أيضًا لم ينتصروا في صفين وهي الحرب الوحيدة مع علي رضي الله
عنه، بل كادوا أن يُهزموا فيها لولا أن عليا أوقف القتال عندما طلبوا منه تحكيم الكتاب بينهم.
(١١١) في الأصل «وفتحوا» .
(١١٢) وذلك لأنه لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق، مثل ما ورد ذلك في الأنصار: «آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار» وفي لفظ آخر: «الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق ...» البخاري: كتاب مناقب الأنصار باب حب الأنصار من الإيمان ٣/١٣٧٩ رقم ٣٥٧٢، ٣٥٧٣.
13 / 1237