لغة الترجيح
الجهة الثالثة: لغة الترجيح
ليس للترجيح مصطلح معين يلزم في التعبير، فإن هذا باب يختلف الناس فيه، ولا مشاحة في التعبير والاصطلاح الصحيح، ولكن يقال تستعمل في الترجيح لغة تحفظ مقام الأدب مع الأئمة والضبط في المسألة، كقولك مثلًا: الراجح هو مذهب الشافعي، فأنت قد حفظت الأدب مع مخالف الشافعي كـ مالك مثلًا، وأيضًا حفظت الضبط في المسألة، فما جعلت المسألة مسألة يقينية في حقيقتها؛ بل جعلت للمخالف اعتبارًا ولمخالفته كذلك، فينبغي أن لا تخرج المسألة عن كونها مسألة فيها تردد عند الفقهاء إلى مسألة فيها يقين وجزم، وما إلى ذلك.
ومن الكلمات التي ينبغي أن يعبر بها في الترجيح: أن يقال: الراجح، والأرجح، والأظهر، والأقرب، والأقوى، والأصح، ونحوها، وتدرأ لغة الترجيح عن طرد الاستعمال - ونقول: طرد الاستعمال حتى يكون هذا منهجًا في لغة الترجيح، فإن الطرد معناه التتابع - وتدرأ عن طرد الاستعمال لكلمات تنافي مقام الأدب مع الأئمة، أو تنافي الضبط للمسألة.
وتدرأ لغته أيضًا عن طرد الاستعمال لكلمات تنافي ذلك، إما بوصف الراجح عند الناظر بأنه هو الصواب المقطوع به، أو بوصف المرجوح بأنه خطأ مقطوع به - وهذا بعد أن اتفقنا على أن محل الترجيح هو الخلاف المعتبر - كقول بعضهم إذا رجح قولًا بعد أن يذكر الخلاف: وهذا هو الصواب المقطوع به، أو يقول: وفصل الخطاب في هذه المسألة كذا، فهذه لغة عزم، فإن فصل الخطاب هو الحكم الصريح القاطع، ولذلك إنما جاء ذكره في القرآن على مثل هذا المعنى.
ومن ذلك أن يقال عما يرجَّح: وهذا هو السنة السلفية، فيفهم من ذلك أن ما قابله ليس سنةً سلفية، مع أنه قد يكون قولًا للشافعي أو لـ مالك؛ بل ربما كان قولًا للجمهور، وقد يكون القول الذي وصف بأنه السنة السلفية قال به البعض كالظاهرية مثلًا، بخلاف قول الأئمة الأربعة فإنه لا يوصف بذلك، وهذا فيه إشكال؛ لأن هؤلاء من أئمة السلف، فهذه الأوصاف ينبغي أن تدرأ عن لغة الترجيح، ولا سيما باعتبار الطرد.
ويدخل في هذا أيضًا وصف المقابل - الذي هو المرجوح - بألفاظ تدل على بطلانه، كقول الناظر عن القول المرجوح في الخلاف المعتبر: وهذا القول بدعة، أو محدث، أو لا أصل له، أو لا دليل عليه، مع أنه قد يكون قولًا لأئمة، وعليه ظواهر من نصوص ودلائل معتبرة ونحو ذلك، وهذه الكلمات يستعملها بعض طلاب العلم أحيانًا في غير موردها، وكما أسلفت أنها قد تقال عن أقوال معروفة للجماهير من الأئمة فيقال: وهذا القول لا دليل عليه، وهذا ممتنع شرعًا وعقلًا: أن يتضافر الجماهير من أئمة الأمصار على قول ويكون هذا القول ليس عليه دليل.
ولذلك من قل فقهه بأقوال الفقهاء، وقل فقهه بمفهوم الدليل، نجد أنه ينغلق عليه الأمر فيقول: إن هناك أقوالًا ليس عليها أدلة، وهذا يصاب به من قل فقهه لمفهوم الدليل، ولاسيما من يقصر وجه الدليل على الدليل اللفظي، ولا يكون له فقه في دليل الاستقراء المعروف عند المتقدمين.
وإنما قلنا: ويدرأ عن طرد الاستعمال فاستعملنا كلمة (طرد) لأنك إذا نظرت في كلام المتقدمين من الأئمة كـ مالك وأحمد وغيرهم - وهذه قد يحتج بها البعض أحيانًا - تجد أنهم قد يعبرون فيما هو من الخلاف المعتبر عن القول الآخر بعبارة أو بكلمة تأتي على مثل ذلك، كقول الإمام أحمد في بعض مسائله عن بعض الآراء التي انضبط أنها لأئمة: إن هذا القول محدث، كما سئل مثلًا عن مسألة القنوت في الفجر فقال: إن المحافظة على القنوت في صلاة الفجر أمر محدث.
وكذلك يقول الإمام مالك عن صيام الست من شوال: إنه محدث، فأحيانًا نجد أن بعض الأئمة قد يستعملون ذلك في بعض المسائل فيأخذونها بقدر من العزم والقوة، فهل هذا منهج مطرد عندهم؟ هذه روايات موجودة ولا جدال فيها، لكن الذي نبحثه الآن هو فقه هذا الاستعمال.
وهنا أحد فرضين: هل هذا يقع تحت أن كل ما رجحه الإمام وظهر له أنه هو الأقرب من الأدلة فيجعل ما خالفه من أقوال الأئمة التي بلغته عنهم على هذا الوصف؟
الجواب: قطعًا هذا ليس موجودًا، ولذلك نجد في جمهور الأقوال عند أحمد أو مالك أو غيرهم أنهم لا يغلقون هذا الإغلاق ويستعملون هذا التعبير، فهم -إذًا- يستعملونه في آحاد من المسائل قد يوافقهم عليها غيرهم من الأئمة، وقد يخالفونهم، كقول مالك مثلًا عن صيام الست من شوال: إنه محدث، فهل هذا مما يرجح قوله فيه؟ الجواب: لا؛ لأن الحديث الدال على استحباب صيام الست من شوال جاء في الصحيح، والجمهور على استحبابه.
إذًا: يقال هنا: إنما كان كثير من الأئمة المتقدمين في بعض المسائل الفقهية المعتبرة في الخلاف يغلقون القول بمثل هذه الكلمات أحيانًا لقصد حماية جناب السنة؛ لأن البدع عند ذلك تظهر، ولذلك إذا استقرأنا هذه الأمثلة نجد أنها تأتي على هذا الوجه، فلما كان الإمام مالك ﵀ يريد إغلاق باب مجانبة الهدي النبوي، والهدي المحفوظ المأثور، وبدأت البدع تظهر، صار يغلق كل ما لم ينضبط عنده عن الأئمة القول به، مع أننا إذا رجعنا إلى مصر من الأمصار وجدنا أنهم يعرفون هذا القول الذي أغلقه مالك، ولذلك إذا قرأنا تمام قوله في مسألة صيام الست من شوال نجد أن من كلامه في الموطأ: أدركنا أهل العلم لا يعرفونه.
فهو لم يغلق لتقوية رأيه على رأي غيره من نظرائه، إنما يغلق لقصد حفظ الهدي النبوي، وكذلك الإمام أحمد وغيرهم من الأئمة.
والخلاصة: أن ما نقل عن الأئمة من الإغلاق فيما هو عند التبين من الخلاف المعتبر، أي: باستقراء أقوال أئمة الأمصار، فهذا ليس مقصودهم فيه الانتصار المحض لآحاد أقوالهم بهذه اللغة التي تغلق الخلاف أحيانًا، وإنما مقصودهم حماية جناب الهدي والسنة النبوية، وهذا باب من حيث الأصل متفق على قصده، أما من حيث آحاد المسائل المنقولة عن مالك أو عن أحمد أو عن غيرهم، فهذه مسائل مترددة، فـ مالك لما أغلق هذه المسألة وجعل القول بها قولًا محدثًا، لا يلزم أن يكون هذا هو الذي يقال به في هذه المسألة؛ لأنه إذا نظرنا فيما خالف قول الإمام مالك وجدنا أنه قول عليه الجماهير من الأئمة.
إذًا: مقصودهم هنا أصل شريف، وهو من مناطات فقههم واجتهادهم، ومن هنا يكون العذر من كلام الأئمة بينًا، وإن كان هذا لا يفهم منه أن هذه هي لغة الترجيح عندهم فيما اشتهر من الخلاف.
فهنا أحد فرضين: إما أنهم يتكلمون بهذا المصطلح لأنه لغة الترجيح عندهم لأقوالهم فيما يعرفونه من مشهور الخلاف، وهذا ليس بصحيح وغير مطرد في جمهور كلامهم، وإما أنهم في أمثلة معينة رأوا أن خلاف المخالف من مخالفة بيّن السنة؛ إما لأن الأقوال لم تبلغهم، أو لأسباب أخرى، فمثلًا: الإمام أحمد في مسألة القنوت في صلاة الفجر لما رأى كثرة من يقول به - وهذا المقام يصلح لمثل الإمام أحمد، لعلو منزلته في الإمامة والاجتهاد وسعة العلم بالآثار - ورأى أنه لا أصل له في الآثار النبوية؛ أوصله إلى هذه الرتبة.
وهذه المسألة لها مثالات لكن ليست منهجًا يطبق فيما هو من مشهور الخلاف، فنجد أن الإمام أحمد تارةً يقول: يا بني! هذا محدث، وتارةً يقول: لا أعرفه، فيتجاهل القول أحيانًا، وهذا نوع من الفقه في حماية جناب السنة والهدي، أو ترك الأقوال التي قد يرى البعض أنها شاذة ويرى البعض الآخر أنها من باب الخلاف المحفوظ؛ لأن الأقوال إذ ذاك كانت تبلغ البعض ولا تبلغ البعض الآخر أحيانًا.
وعليه: فلا ينبغي لمتأخر ومعاصر أن يستعمل في ترجيحه في الخلاف المعتبر لغة: أن المرجوح بدعة، أو لا أصل له، أو لا دليل عليه، ويقول: إن حجته في ذلك أن من الأئمة من استعمل ذلك، فينبغي أن يفقه استعمالهم، ومن وصل إلى رتبة عالية في الاجتهاد فله أن يستعمل ما استعمله الأئمة المتقدمون على منهجهم وطريقتهم وفقههم، أما أن يكون ذلك منهجًا مطردًا كلغة، وكأن الإنسان لا ترضى نفسه بترجيحه إلا أن يرمي القول الآخر المعروف المعتبر بكلمة توهنه عند سامعيه، فيقول: وأما القول الآخر فلا دليل عليه؛ فإن هذا من تضييق الفقه، وتضييق المدارك، وتضييق العقل.
9 / 5