شرح رسالة رفع الملام عن الأئمة الأعلام [١]
رسالة رفع الملام عن الأئمة الأعلام لشيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ من الرسائل النافعة في بابها، القيمة في موضوعها، فقد بين فيها ما يجب على المسلمين من موالاة المؤمنين، وخاصة العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، وذكر أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة يتعمد مخالفة رسول الله ﷺ في شيء من سنته، وأنهم جميعًا متفقون على وجوب اتباع ما صح من النصوص وسلم من المعارضة، وقد بسط الأسباب التي دعت المجتهدين إلى عدم الأخذ بالنص، والتمس لهم العذر في ذلك .. وهي رسالة تدل على كمال فقه وورع هذا الإمام ﵀ رحمة واسعة.
1 / 1
مكانة العلماء في هذه الأمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا شرح لرسالة (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) لـ شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية ﵀.
قال المصنف رحمه الله تعالى ونفعنا بعلمه في الدارين آمين: [الحمد لله على آلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في أرضه وسمائه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخاتم أنبيائه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاة دائمة إلى يوم لقائه وسلم تسليمًا.
وبعد:
فيجب على المسلمين بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين كما نطق به القرآن، خصوصًا العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم يهتدى بهم في ظلمات البر والبحر، وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم؛ إذ كل أمة قبل مبعث محمد ﷺ فعلماؤها شرارها، إلا المسلمين فإن علماءهم خيارهم؛ فإنهم خلفاء الرسول في أمته، والمحيون لما مات من سنته، بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا.
وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولًا عامًا يتعمد مخالفة رسول الله ﷺ في شيء من سنته، دقيق ولا جليل، فإنهم متفقون اتفاقًا يقينيًا على وجوب اتباع الرسول، وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ، ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه فلابد له من عذر في تركه].
هذه مقدمة هذه الرسالة الفاضلة لـ شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀، وقد ذكر فيها فضل العلماء في هذه الأمة، وهذا الفضل لا يذكر من جهة التقدير المحض لدرجتهم ورتبتهم، وإنما يذكر لأن هذا من أخص مقومات ثبات هذه الأمة وقيامها شاهدة على الناس؛ فإن الأمة متى قل علماؤها بل متى فسد علماؤها -وهذه هي الرتبة الأقل التي حذر منها النبي ﷺ فإذا فسد العلماء فسدت الأمة، ولهذا فإن صلاح هذه الأمة مرتبط بصلاح علمائها.
ولذلك قال النبي ﵊ كما ثبت عنه في الصحيح: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من قلوب الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالمًا -أو لم يَبقَ عالمٌ- اتخذ الناس رءوسًا جهالًا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا).
ولذلك ينبغي أن يكون وجود العلماء من أخص مقاصد هذه الأمة، والأمر هنا يتعلق بأحد جهتين:
الجهة الأولى: جهة العناية بإعداد طلبة العلم، وإعداد الطلاب الذين يعنون بعلم الشريعة، وتربية ملكتهم العلمية والفقهية على الأخذ بكلام أهل العلم والنظر في النصوص، والترقي بهم إلى أن يأذن الله ﷾ لمن يخص منهم بدرجات عالية في العلم، حتى يصلوا إلى رتبة الاجتهاد.
فالعناية بهذا التأسيس من أخص ضرورات الأمة في سائر أحوالها.
ومن جهة أخرى: فإن البقية الباقية في الأمة، وهم علماؤها في سائر أمصار المسلمين، لا يختص ذلك بمصر من الأمصار ولا ببلد من البلدان؛ بل كل العلماء أينما كانوا وأينما صار مقامهم -ما دام أنهم قائمون بالعلم المأثور عن سلف هذه الأمة، وهو علم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، العلم المبني على الكتاب والسنة، واعتبار كلام الفقهاء المتقدمين في الإفتاء والنظر والترجيح وما إلى ذلك؛ فهؤلاء يجب أن يصان قدرهم، ويعظم مكانهم، ويرجع إليهم عملًا بما أمر الله به في كتابه في قوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل:٤٣] وقوله: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء:٨٣].
فمثل هذه المقامات هي من أخص المقامات التي ينبغي -بل يجب- أن يربى الناس عليها في سائر أمصار المسلمين.
والعلماء وإن اختلف الناس في بعض الأمصار عن بعض في شأن مقامهم، فإن هذا من طبيعة الناس، ولا يلزم في العالم أن يكون سائر ما يقوله مبنيًا على قبول سائر العامة؛ بل ربما قال بعض العلماء قولًا لا يصلح لبعض العامة، أو قد يصلح لبعض العامة دون بعض، وقد يختلف اجتهاد العلماء في مسائل كثيرة.
فمثل هذه الأمور لا ينبغي أن تكون مؤذنة عند أحد من عامة المسلمين بتأخير رتبة العلماء في الأمة، فإن العلماء متى ما أخرت رتبتهم في الأمة فإن هذا من أمارات الفتنة الكبرى في هذه الأمة.
1 / 2
عدم تعمد أحد من الأئمة مخالفة النبي ﷺ
وقد أشار المصنف ﵀ إلى مقام فاضل، فقال: (وليُعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولًا عامًا يتعمد مخالفة رسول الله ﷺ، ويقصد بهم: أولئك الكبار من الفقهاء؛ كالأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وأمثالهم ممن قبلهم أو ممن بعدهم، فمثل هؤلاء الكبار المعروفين عند الأمة ليس أحد منهم يتعمد مخالفة النبي ﵌.
وهذا يرجع إلى قاعدة ذكرها القرآن، وهي من قواعد العلم وقواعد العقل والفطرة، فإن الله قال لنبيه: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ [القصص:٥٠] فجعل للإنسان مقامين:
المقام الأول: أن يكون متبعًا مستجيبًا للنبي ﷺ وللوحي.
المقام الثاني: أن يكون متبعًا لهواه.
ولا يجوز أن يُظَن بأحد من فقهاء المسلمين في سالف عصورهم، وكذلك في حاضر عصرهم -وأعني بهم الفقهاء الذين سبقت الإشارة إليهم، وهم القائمون بقصد الكتاب والسنة واتباع الحق، واقتفاء آثار الأنبياء وآثار السلف الصالح أهل القرون الثلاثة الفاضلة- فهؤلاء أصحاب هذا المقام لا يجوز أن يُظَن بواحد منهم أنه يتعمد مخالفة النبي ﷺ، بمعنى أنه يتعمد أن يكون مستجيبًا لهواه.
وإن كان يشار هنا إلى أن القرآن ذكر مقامين، وهما: الاستجابة لله ورسوله، واتباع الهوى، فهل معنى ذلك أن الإنسان المعين إما أن يكون صاحب هوى، وإما أن يكون مستجيبًا استجابة محضة؟
يقال: من حيث الواقع في أحوال الناس فإن هذا المقام -أعني مقام الاستجابة- هو من مقامات الإيمان، بمعنى أنه يدخله الزيادة والنقص، وله أصل وله كمال، فالعلماء الربانيون الراسخون في العلم كأئمة العلم من الصحابة كالخلفاء الأربعة وأمثالهم ومن بعدهم، فهؤلاء يصانون عن اتباع الهوى بسائر درجاته، ولا يحسب في حالهم إلا أنهم من أهل الاستجابة لله ولرسوله.
وقد يوجد بعض الفقهاء بعد عصر الصحابة رضي الله تعالى عنهم من يكون أصل مقامه على الاستجابة، ولكن مقام الاستجابة عنده يدخله شيء من عوارض النقص، فربما دخل عليه طرف من مادة الظن أو الهوى، ومادة الظن تتعلق بالعلم، ومادة الهوى تتعلق بظلم النفس.
وقد ذكر المصنف ﵀ في منهاج السنة: أن ما هو من مقام الهوى الخفي -ولاحظ وصف هذا الهوى بأنه خفي! - يقول: ما هو من مقام الهوى الخفي قد يعرض لبعض الكبار من أهل العلم؛ بل قد يعرض لمن هو من كبار أهل الإيمان والديانة عند المسلمين.
بل أشار ﵀ إلى قدر أكثر من ذلك، ومن شاء أن يقف عليه فليقرأه في منهاج السنة، وقد ذكره في معرض كلامه عن مسألة أئمة أهل البيت وبعض الصحابة.
فهذا الطرف من الهوى الخفي -ونسميه طرفًا لأنه عارض وليس بأصل- قد يعرض لكثير من الناس، وقد يعرض لكثير من الفقهاء المتأخرين؛ بل ومن قبل المتأخرين، وهذا الهوى الخفي لا ينافي أصل الاستجابة، ولا ينافي المقصود الكلي منها، وقد يكون من صوره -كما سيأتي تفصيله- تلك الصور التي وقعت كثيرًا في التاريخ من التعصب الغالي في بعض المذاهب الفقهية، فإن هذا التعصب إذا زاد أثره وصار تقليدًا وتعصبًا يتجافى عن أثر السنة والوحي، إذا زاد هذا التعصب فلا شك أنه ليس وجهًا من الاستجابة لله ورسوله ﵊؛ بل إنه يكون من النوع المذموم.
إذًا: عندما ذكر القرآن المقامين لا يفهم من ذلك أن الناس إما أن يكونوا أهل استجابة محضة أو أهل هوى محض؛ بل من حيث واقع المسلمين فإن منهم المحققين لمقام الاستجابة، ومنهم من أتى مقام الاستجابة من حيث الأصل، ولكن قد يعرض له ما هو من مقامات الهوى الخفي، وهذا الهوى تارة يكون بوجه من الظلم، وتارة يكون بوجه من الجهل، فإن جماع الخطأ -كما ذكر القرآن- هو الجهل والظلم، قال الله تعالى: ﴿وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب:٧٢].
فمن حقق الاستجابة تجرد عن الظلم والجهل، ومن نقصت استجابته أصابه طرف من الظلم أو طرف من الجهل، وهذا من حيث الأصل.
1 / 3
اختلاف العلماء والفقهاء
ذكر المصنف أن من ترك العمل بحديث من الفقهاء، فإن جماع العذر في هذا الترك أنهم لا يقصدون ذلك عمدًا، وذكر أن جماع العذر في هذا يعود إلى ثلاثة أسباب.
ثم يذكر المصنف في رسالته هذه الأسباب الثلاثة ثم يعود بعد ذلك إلى تفصيلها إلى عشرة أسباب.
قال المصنف ﵀: [وجميع الأعذار ثلاثة أصناف:
أحدها: عدم اعتقاده أن النبي ﷺ قاله.
والثاني: عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول.
والثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ].
وهذه الأسباب الثلاثة التي جعلها المصنف جِمَاع الأسباب، هي متعلقة بجهة الدليل العلمي، وبخاصة فيما يتعلق بحديث النبي ﷺ، ولهذا لما فسر هذه الأسباب الثلاثة بعشرة أسباب بعد ذلك دار كلامه ﵀ على هذا.
ومن المعلوم أن هذا وجه من أسباب اختلاف العلماء والفقهاء، لكن إذا أُخذت مسألة الخلاف الفقهي والذي كانت بدايته لا أقول في زمن الصحابة، بل في زمن النبوة، وإن كان من المسلَّم به عند المسلمين أن النبي ﵌ عاصم وقوله قاطع، ومع ذلك قد اختلف الصحابة رضي الله تعالى عنهم في زمنه لكن ليس بحضرته، ومن الأمثلة على ذلك: اختلافهم في تفسير حديثه لما قال في حديث ابن عمر في الصحيح: (لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة) فإن الصحابة اختلفوا في المراد بهذا الحديث، ومنها: اختلافهم في معنى قوله ﵊ كما في حديث ابن عباس المتفق عليه حين ذكر الأمم، ثم ذكر أمته فقال (ومنهم سبعون ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب) قال ابن عباس: ثم نهض فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئًا، وقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله ﷺ
الحديث.
1 / 4
أقسام الخلاف
إذًا: الصحابة قد اختلفوا زمن النبوة في مثل هذه الأحوال، ولما توفي ﵊ انتشر مثل هذا الخلاف في مسائل الفقه وفروع الشريعة، فقد اختلفوا في مسائل كثيرة، وإن كان هذا الخلاف الذي وقع بعده ﵊ انقسم في الجملة إلى قسمين:
القسم الأول: ما يحسم بنص بين، فيستقر الأمر ويرتفع الخلاف، كما خالف بعض آل البيت كفاطمة ﵂ في ميراث النبي ﷺ، فظنوا أن النبي ﵌ يورث، وأرسلت فاطمة -كما في الصحيح- إلى أبي بكر تسأله ميراثها من أبيها، فكتب إليها أبو بكر ﵁ أن النبي ﵌ قال: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة) والحديث صحيح كما هو معروف.
فمثل هذه الأوجه من الخلاف كأنها ترتفع بوجود النص، فيستقر الأمر، وكما حصل في زمن عمر رضي الله تعالى عنه لما سار بالأجناد إلى الشام، فبلغه أن الطاعون قد وقع بالشام، فاستشار المهاجرين الأولين فاختلفوا عليه، ثم استشار الأنصار فاختلفوا عليه، فمنهم من قال: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله، ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، ومنهم من قال: يا أمير المؤمنين! قد خرجت لأمر ولا نريد أن ترجع عنه، فكان هذا جواب المهاجرين والأنصار، ثم أمر أن يدعى من بقي معه من مسلمة الفتح، فاجتمعوا على كلمة واحدة وهي أن يرجع، فنادى: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه، فقال أبو عبيدة: أفرار من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة!
لكن هذا الخلاف كأنه ارتفع بمجيء عبد الرحمن بن عوف وقوله: إني سمعت النبي ﷺ يقول: (إذا سمعتم به -أي: الطاعون- بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا يخرجنكم الفرار منه) فهذا النص الصريح ارتفع به هذا الخلاف الذي عرض في زمن عمر رضي الله تعالى عنه.
إذًا: هذا النوع من الخلاف يرتفع بوجود نص قاطع.
القسم الثاني: الخلاف الذي لا يرتفع؛ بل تبقى مادة الخلاف موجودة في المسألة المختلف فيها؛ وذلك لأنه يكون مبنيًا على مناطات من النصوص ومقاصد من الشريعة ونحو ذلك، وقد وقع هذا الخلاف في زمن الصحابة ﵃، فقد اختلفوا في بعض مسائل المواريث، وفي بعض مسائل الحج، ومن المعلوم أن الخلاف ظل فيها إلى ما بعد عهد الصحابة حتى نقلت مذاهب فيما بعد، فصار لبعض الصحابة مذهب وصار للبعض الآخر ما يخالف ذلك.
إذا كان كذلك فإن الخلاف الفقهي واسع، والخلاف الفقهي في الجملة -وإن كان هذا تعبيرًا اصطلاحيًا- كأنه يقابله الخلاف المتعلق بالعقائد وأصول الدين، ومعلوم أن باب أصول الدين محكم عند الصحابة وليس فيه مادة للخلاف، ولهذا فإن المخالف فيه هم أهل البدع والأهواء، وأما ما يتعلق بالخلاف الفقهي فإن السبب فيه لا بد من فقهه على وجه من السعة، ومن فَقِه السبب في هذا الخلاف الفقهي وسار على حسن إدراك له عرف مراتب الخلاف.
1 / 5
مكونات الخلاف الفقهي
أسباب الخلاف تتعلق بأربع جهات، وإذا أُخذت هذه الجهات الأربع ونُظر إليها نظرًا منطقيًا؛ وُجد أنها هي الجهات المكونة للخلاف الفقهي، أي: عنها يتكون الخلاف الفقهي، وهي كما يلي:
الجهة الأولى: جهة الدليل، والدليل فيه ثلاث حيثيات:
الحيثية الأولى: الدليل من حيث التعيين.
الحيثية الثانية: الدليل من حيث درجة الاحتجاج أو درجة الحجية.
الحيثية الثالثة: الدليل من حيث الثبوت.
الجهة الثانية: جهة المدلول من حيث الإفادة للحكم، وهي جهة الدلالة كما تسمى.
الجهة الثالثة: جهة المستدل، وهذه الجهة الكلام فيها قليل عند أهل الأصول، وإذا تكلموا فيها فإنما يتكلمون فيها من معتبر واحد في الجملة.
والمستدل: هو الفقيه، سواء كان مجتهدًا أو لم يكن مجتهدًا، ومعلوم أن أكثر من يتكلم ويفتي ليس هم أهل الاجتهاد؛ لأن المجتهدين أقل من الفقهاء غير المجتهدين، وهذه نتيجة طبيعية، فإن الذين يستطيعون أن يجيبوا عن كثير من المسائل -اليوم- هم كثير، ولكن إذا نظرنا إلى المجتهدين الذين بلغوا رتبة الاجتهاد العالية وجدناهم قليلين بالنسبة لسائر الفقهاء.
إذًا: المقصود بالمستدل من يفتي الناس وينقل لهم أقوال الفقهاء، أو يرجح في الخلاف الفقهي، سواء كان من أهل الاجتهاد، أي: من مؤسسي الخلاف، أو كان من ناقليه ومقرريه والمنتصرين له بوجه من الوجوه.
والمستدل فيه أربعة معتبرات:
المعتبر الأول: من حيث المجموع العلمي عنده، والمجموع العلمي في الغالب هو ما يذكره الأصوليون فيما يسمونه بشروط المجتهد، ومما يذكرون: أن يكون عارفًا بالناسخ والمنسوخ، عارفًا بأحاديث الأحكام، عارفًا بدلالة اللغة ..
إلخ.
المعتبر الثاني: البيئة الخاصة -وهذه الأسماء أو المصطلحات قد تكون جديدة من بعض الحيثيات، ولكن من حيث الحقائق هي مؤثرة، وقد أشار إلى درجاتها في التأثير جماعة من العلماء منهم المصنف، وابن حزم، والشاطبي ..
وغيرهم- والبيئة الخاصة قد تكون بيئة مذهبية؛ كانتحال الفقيه لمذهب فقهي، كانتحال الشافعي لمذهب الشافعية، وانتحال الحنفي لمذهب الحنفية، فهذه البيئة التي عاشها تؤثر فيه: أهو من متقدمي الأحناف أو من متأخريهم؟ وعلى أي كتب المذهب تمذهب؟ وعلى أي درجات فقه المذهب تمذهب؟ ..
وهكذا.
فالبيئة الخاصة قد تكون بيئةً مذهبية فقهية على أحد المذاهب الأربعة، وقد تكون بيئة على مذهب أهل الحديث؛ كبعض الصور التي ظهرت في التاريخ بعد عصر الأئمة، وهي أحوال لبعض أهل الحديث في الانفكاك من المذاهب الفقيه أو التمذهب بمذهب فقيه معين، وقصدهم هو التمذهب والالتزام بما دلت عليه النصوص وما إلى ذلك، والبيئة لها صور سيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى.
المعتبر الثالث: البيئة العامة، سواء كانت بيئة إقليمية تتعلق بإقليم، أو بحدود جغرافية معينة، فيكون أهل هذا البلد لهم طبيعة معينة أو تأثير معين، أو كانت بيئة تتجاوز إقليمًا معينًا، وهذا أيضًا يؤثر في النتائج الفقهية.
المعتبر الرابع: التكوين الذاتي، ويقصد بالتكوين الذاتي: طبيعة المستدل: كيف خلقه الله؟ ومن المعلوم أن الله ﷾ خلق الناس متفاوتين، والفقيه واحد من الناس، فقد تكون له طبيعة تختلف عن الفقيه الآخر من حيث حرارة الطبع وبرودته، ومن حيث سعة العقل وعدم سعته، ونحو ذلك مما سنذكره إن شاء الله.
الجهة الرابعة لأسباب الخلاف هي: المسألة المستدل عليها، التي يراد إعطاء حكم لها، وأثر هذه الجهة هو من جهة اعتبار الفقيه لمحل المسألة من الشريعة: هل هي من الرتب الأولى في الشريعة، أم هي مما دون ذلك؟ وهل صرحت بها النصوص أم لم تصرح بها؟ وهل مقصود هذا الباب يتأتى عليها؟ وهذه سنتكلم عنها لاحقًا إن شاء الله تعالى.
هذه هي الجهات الأربع، وإذا تأملتها تأملًا منطقيًا -ولا بأس بهذا التعبير- وجدت أن مناط المسائل العلمية لا يخرج عن أثر هذه الجهات الأربع.
1 / 6
شرح رسالة رفع الملام عن الأئمة الأعلام [٢]
هناك أسباب ومكونات للخلاف الواقع بين الفقهاء، وهذه الأسباب هي التي يترتب عليها الخلاف ويقع بسببها، وأول هذه الأسباب: الدليل الفقهي، وفيه معتبرات ثلاثة: تعيين الدليل، ودرجته في الحجية، وثبوته.
2 / 1
الجهة الأولى: الدليل الفقهي
ذكرنا فيما سبق الجهات الأربع لأسباب الخلاف الفقهي إجمالًا، والآن سنذكرها -إن شاء الله- تفصيلًا، وسنبدأ بالجهة الأولى وهي جهة الدليل الفقهي، وهذه الجهة فيها ثلاثة معتبرات:
2 / 2
تعيين الدليل الفقهي
-المعتبر الأول: تعيين الدليل الفقهي: هناك ثلاثة أدلة اتفق في الجملة على حجيتها الفقهية، وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع، وإنما قلنا: في الجملة؛ لأن مسألة الإجماع فيها بعض التقييدات عند بعض أهل العلم، لكن لك أن تقول: إن الكتاب والسنة والإجماع حجة بالاتفاق، حتى الذين يترددون في: متى يصدق الاجتهاد؟ وهل يمكن الاجتهاد بعد الصحابة أو لا يمكن؟ فإن هذه السؤالات لا تعود إلى التردد في الإجماع؛ بل إن الكل متفقون على أنه متى تحقق الإجماع فهو دليل لازم، ولا أحد يجادل في ذلك.
وبعض الأصوليين من المتكلمين يقولون: إن الإجماع فيه نظر، وهذا ليس بصحيح ..
نعم، هناك تردد في كيفية إثبات الإجماع، لكن لا يوجد فقيه يقول: إن الإجماع الذي تحقق ثبوته في نتيجته نظر، فإن هذا لم يقله ولم يلتزم به أحد من أهل العلم؛ لأنه خلاف مقتضى الشرع، وخلاف مقتضى العقل، ففيه نوع من التمانع الشرعي والعقلي، إنما هناك سؤالات: هل ينعقد الإجماع بعد الصحابة؟ وهل يمكن أو لا يمكن؟ لكن من يفرض أنه يمكن يقول بأنه حجة، ومن يفرض أنه لا يمكن يقول: لا أعتد به، لا لكونه إجماعًا؛ بل لكونه ليس إجماعًا من هذا الوجه.
ومن المعلوم أن نصوص الشريعة الإسلامية وهي الكتاب والسنة والإجماع -كما يذكر أهل المنطق وأهل الأصول، ومنهم ابن رشد مثلًا- هذه النصوص التي في الأحكام لها حد من حيث التناهي، فإن النبي ﷺ قد قال كلامًا في ثلاث وعشرين سنة، في حين أن شريعته باقية إلى قيام الساعة، والفروع التي تنشأ وتحدث عند الناس كثير منها ما يسمى بالنوازل، وإن كانت كلمة (النوازل) أخص من كل ما ينزل، بمعنى: أن النازلة هي مصطلح على القضية الكبرى التي تنزل بالأمة، أما الجديد فلا يسمى نازلة؛ فمثلًا: بعض الناس قد يقول: إن مسألة الأسهم تعتبر من النوازل، والصحيح أنها ليست من النوازل، ولكنها فرع فقهي عادي يقبل الخلاف، ولا يحتاج إلى مرجعيات كلية لتحسم فيه.
والنوازل هي أخص من ذلك، فهي قضايا نازلة تحتاج إلى اجتماع المجتهدين، ولذلك فإن عمر ﵁ -مثلًا- في خلافته عرضت له آحاد من المسائل فكان يحسمها بنفسه، مع أنها تعتبر جديدة، لكن لما جاءت قضية الطاعون اعتبرها عمر تحت مصطلح النازلة، فجمع الصحابة واستشارهم فيها.
ومن النوازل مثلًا: مسألة إقامة المسلمين لظروف ما في غير بلاد المسلمين، واستجابتهم للأحكام المدنية ونحوها في تلك البلاد، فهذه المسألة لا يجوز لأحد أن يتصرف فيها ويقول رأيه فيها دون الرجوع إلى العلماء، فإن هذه تعتبر اليوم نازلة، وهناك جزء من واقع المسلمين يحتاج إلى تأصيل شرعي مثل هذا.
2 / 3
اعتبار أقوال الصحابة والقياس من الأدلة الشرعية
إذًا: من حيث التعيين فإن هذه الأدلة الثلاثة لا جدال فيها، أما من حيث استيعاب النصوص الصريحة لآحاد المسائل، فإن هذا لا يمكن أن يكون متوافقًا على هذا التمام؛ لأنه ليس كل المسائل قد صرحت بها النصوص، ومن هنا ظهرت هناك جهات من الأدلة بدأت من زمن الصحابة، ثم ظهرت كمصطلحات علمية، ومنها: قول الصحابي والقياس، وهذان الأمران هما من أخص ما تعلق به الفقهاء بعد الأصول الثلاثة التي هي: الكتاب، والسنة، والإجماع.
ومن المعلوم أن الفقهاء بعد انتشار الفقه في العراق وغيره صاروا في الجملة أهل اتجاه للأثر -وهو ما اشتغل به المحدثون- أو أهل اتجاه للفقه والرأي -وهو ما اشتهر في الكوفة- فلكثرة اشتغال المحدثين بالسنن والآثار وبآثار الصحابة؛ غلب عليهم التعظيم لأقوال الصحابة بعد الكتاب والسنة والإجماع، فتأثر فقههم أكثر ما تأثر بعد الكتاب والسنة والإجماع بأقوال الصحابة.
أما مدرسة الفقهاء في الكوفة فأكثر ما تأثر فقهها بعد الكتاب والسنة والإجماع بالقياس.
إذًا: من حيث التعيين اتفق أهل الرأي -إن صح التعبير- وأهل الحديث على اعتبار أقوال الصحابة كدليل في الجملة، وعلى اعتبار القياس كدليل في الجملة، فما من فقيه من الكوفيين إلا وهو يعتبر في بعض الصور العمل بما هو من أقوال الصحابة، وما من فقيه من أهل الحديث إلا وهو يعتبر في بعض الصور العمل بما هو من القياس، وإن كان المحدثون ضيقوا القياس، وهم في تضييق القياس درجات، وكذلك أهل الكوفة ضيقوا العمل بالآثار -غير آثار النبي ﷺ إلى القياس، وهم أيضًا في ذلك درجات.
ولذلك فإن المصنف يقول هنا -وهذا يذكره حتى المحققون من الأحناف- يقول: "إن أبا حنيفة لم يكن يبطل أقوال الصحابة؛ بل له مسائل أخذ فيها بكلام الصحابة، كما أن أحمد وأمثاله من أهل الحديث لهم أقوال أخذوا فيها بما هو من القياس".
إذًا: هناك ثبوت في تعيين هذين الدليلين.
وهاتان الجهتان -جهة الآثار غير النبوية وهي آثار الصحابة، وجهة القياس- هما أكثر المكونات للرأي الفقهي بعد الأصول الثلاثة، وقد ظهرت بعد ذلك عدة أدلة، منها: عمل أهل المدينة، والمصلحة المرسلة، والاستحسان، وهذه الأدلة هي التي عرفت فيما بعد عند الأصوليين بالأدلة المختلف فيها، وهذا التعبير بأنها مختلف فيها لا بد أن نفقهه على أن الاختلاف لا يلزم أن يكون في التعيين، فقد يتفق العلماء على التعيين، كاتفاقهم في الجملة على الاعتداد بالقياس وبآثار الصحابة، مع أنه من المعلوم أن كثيرًا من الكتب الأصولية تحكي مذاهب لا ترى القياس، وتحكي مذاهب لا ترى أقوال الصحابة، وليس معنى هذا أنه لا يوجد هذا الدليل الذي لم يقولوا به.
ولذلك فإن ابن حزم ﵀ صرح بإبطال القياس، وابن حزم متأخر عن داود بن علي الظاهري ﵀ إمام المذهب الظاهري، فـ ابن حزم ﵀ أبطل القياس، ورد كثيرًا من قياس الحنفية، وقياس الفقهاء من غير الحنفية، وإذا تعاملنا مع الأمور كمصطلحات فلنا أن نقول: إن من الأصوليين والمتقدمين أيضًا من يبطل القياس ومنهم من يقبله، ومنهم من يأخذ بأقوال الصحابة ومنهم من لا يأخذ بها، لكن إذا جئنا من حيث الواقع العلمي عند هؤلاء وجدنا أن ابن حزم قد استعمل بعض الصور التي هي وجه من القياس، وبنى بعض المحصلات التي هي وجه من القياس، وإن كان المصطلح لا يصدق عليها.
ومن هنا نعلم أن المصطلحات أحيانًا تحكم حكاية الخلاف، فـ ابن حزم صرح بإبطال القياس كثيرًا، مع أنه عند التطبيق لا ينفك أحيانًا عما هو من القياس، هذا مع غلو ابن حزم في ترك القياس، فما بالك بأهل الحديث المتقدمين! صحيح أن هناك تجافيًا عند المحدثين عن كثير من الرأي والقياس إلى آثار الصحابة، هذا أمر موجود، لكن إبطال القياس من حيث الماهية لم يوجد، كما أن إبطال آثار الصحابة وفقههم من حيث الماهية لم يوجد.
وأحيانًا يذهب بعض الكوفيين إلى أن أقوال آحاد الصحابة ليست حجة، وأن الصحابة إذا اختلفوا فإن الاستدلال بأقوالهم ليس معتبرًا، فإن هذا يصل إليه بعض الكوفيين، أما إبطال فقه الصحابة وآثارهم من كل وجه، أو إبطال القياس من كل وجه، فإن هذه صور حكمتها المصطلحات في كتب الأصول المتأخرة.
فإذا قرأت الرسالة للإمام الشافعي ﵀ وتأملت فيها؛ وجدت أن الشافعي كأنه قصد أن يكتب صيغة توافقية -ولا أقول: وسطية؛ حتى لا يفرض أن غيره ليس وسطًا- قصد أن يكتب صيغة توافقية بين مذهب الكوفيين من الفقهاء ومذهب أهل الحديث؛ ولذلك تجد في الرسالة تأكيدًا على الأثر والنص كثيرًا، وأيضًا تجد فيها تأكيدًا على الفقه، وعلى أوجه كثيرة من القياس، كما أن الشافعي تجافى عن بعض أوجه القياس فشدد في القياس، ولما تكلم عن الإجماع أحكم الإجماع بكلام، وانتقد بعض الصور التي تفرض على أنها إجماع؛ لكنه لم يتخلَّ عن الإجماع مطلقًا، ولم يتخلَّ عن القياس مطلقًا، كما أنه لم يلتزم بالآثار على حساب ترك القياس، وكأن الشافعي ﵀ أراد أن يقول: لا يوجد هناك تمانع بين القياس وبين آثار الصحابة؛ بل هذا فقه معتبر، وهذا فقه معتبر، وهذا أمر بين فيما كتبه الشافعي في الرسالة، فكأنها طريقة توافقية بين طريقة الكوفيين من أهل الرأي وطريقة أهل الحديث.
ولاسيما أن الشافعي لاحظ -كما هو موجود في تاريخ بغداد وغيره- أن بعض أهل الحديث شددوا في ذم أهل الرأي، وبعض هذا الذم قد لا يكون محققًا، كما أن بعضه قد يكون محققًا حينما يكون الذم بمعنى الدعوة إلى التمسك بالنصوص، فإن هذه أمور بأس بها، وهي من العلم المقبول، لكن أحيانًا يزيد الأمر على ذلك، فكأن الشافعي لم يكن راضيًا عن بعض هذا الذم، وأراد أن يبين أن الأمر فيه قدر واسع من التقارب، ولهذا يعتبر أصل الذي كتبه الشافعي من أصدق الصيغ العلمية لدراسة فقه الشريعة، سواء ما كتبه في رسالته، أو في المحاورات التي تكلم فيها عن كثير من الفروع في رسالته أو في كتاب الأم، وأقول: فيما كتب الشافعي، وليس بالضرورة أن يكون ذلك في كل ما كتبه الشافعية من بعده ولاسيما المتأخرين منهم، فمن أراد أن يصطبغ بصبغة فقهية متميزة فليقرأ في تأسيسه: الأم والرسالة للإمام الشافعي ﵀.
إذًا: هذا من حيث التعيين، أن هناك أدلة يختلفون في تعيينها، وأدلة يتفقون في تعيينها.
2 / 4
درجة الدليل في الحجية
ذكرنا أن العلماء اتفقوا في الجملة على القياس، وسواء قيل: إن العلماء اتفقوا في الجملة على القياس، أو قيل: إن القائلين به هم الجمهور فقط؛ فإن هذا ليس هو مقصودنا الآن، إنما المقصود: أنهم لما عينوا القياس أو المعينون للقياس -لو فرضنا أنهم الجمهور فقط- يختلفون في درجة حجيته، فهم قد اتفقوا على حجيته لكنهم اختلفوا في درجة حجيته، وهذا الخلاف من أكثر المسببات للخلاف الفقهي.
أن هناك الآثار بعد النبي ﷺ بمفهومها الواسع، القياس بمفهومه الواسع، لما تأخذ القياس وآثار الصحابة رضي الله تعالى عنهم بمفهومها الواسع، وما سلكه بعض المحدثين من اعتبار آثار التابعين؛ لأن بعض المحدثين التزم حتى بآثار التابعين وقدمها على القياس أحيانًا، وهذا قد لا يكون له ذلك التبرير في سائر الصور ..
المهم وهذا الاختلاف بين قدماء الفقهاء في درجة الحجية بين هذين الأصلين هو الذي تولد عنه كثير من الخلاف أحيانًا، هذا إذا كان الخلاف راجعًا إلى القياس أو إلى أقوال الصحابة.
ولو رجعنا إلى كلام الإمام الشافعي ﵀ لوجدنا أنه نظر إلى أن الإشكال الذي قد يتطور ليس هو أن هؤلاء يقدمون كثيرًا من القياس على كثير من الآثار غير النبوية، أو أن هؤلاء يقدمون كثيرًا من آثار الصحابة أو حتى بعض آثار التابعين على كثير من القياس، وفعلًا هذا ليس هو الإشكال، إنما الذي حاول الشافعي أن يطوقه هو فرض التمانع بين القياس وآثار الصحابة أو آثار التابعين، وهذا هو الذي تولد فيما بعد عند مدرسة المتأخرين من الأحناف -مثلًا- الذين زادوا في مسألة القياس زيادةً بينة، قد لا تكون هناك مدرسة فقهية انتظمت؛ لأن أكبر الممثلين لمذهب أهل الحديث هو الإمام أحمد كمذهب فقهي، ومع ذلك فإن المذهب انصبغ بالصبغة الفقهية، لكن ربما يوجد بعض الفروق بين بعض الصور التي جاءت في التاريخ أو في هذا العصر كأحوال لبعض أهل الحديث الذين أرادوا الاستمساك بالنصوص وبآثار الصحابة مباشرة، فصار هناك تباين بين المدرستين، ولذلك فإن ما قصده الإمام الشافعي قديمًا ينبغي أن يكون مقصودًا للناس من أهل العلم والنظر والفقه اليوم، وهو أن فرض التمانع بين أقوال الصحابة والقياس ليس منهجًا حكيمًا، والمنهج الذي درج عليه عامة السلف من المحدثين والفقهاء هو اعتبار القبول للقياس ولأقوال الصحابة.
لكن متى يقدم القياس على قول الصحابي، أو قول الصحابي على القياس؟ هذه مسألة ليست من المسائل الشائكة المشكلة، ولا بأس أن يقع فيها الخلاف؛ لأنه إذا رجعنا إلى آثار الصحابة أنفسهم وجدنا أن اختلاف الصحابة في الجملة يرجع إلى وجه من القياس، فهذا ألحق المسألة بوجه من القياس فرأى رأيًا، والآخر ألحقها بوجه من القياس في الشريعة فرأى رأيًا آخر، هذا إذا لم يُلتزم في مسألة القياس بالحد الأصولي المتأخر، ومن المعلوم أنه في المنطق يذكرون قياس الشمول وقياس التمثيل، فإذا أُخذ القياس بمفهومه الواسع فهو يؤثر في أكثر الخلاف حتى عند الصحابة أنفسهم، وإن كان مصطلح القياس لم يكن ظاهرًا في ذلك الوقت.
2 / 5
ثبوت الدليل
-المعتبر الثالث: ثبوت الدليل:
قد يكون الدليل معينًا، ودرجة الحجية ثابتة، لكنهم يختلفون في ثبوت الدليل، وهذا محله في الغالب النصوص النبوية، ولك أن تقول: إن محله في سائر الموارد هو الآثار؛ سواء كانت آثار النبي ﷺ أو آثار الصحابة؛ لأنه من المعلوم أن القرآن قد انتهى أمره بحفظ الله ﷾ له، فلا جدل في هذا المقام، أي: من حيث ثبوت القرآن، وإنما الخلاف في ثبوت الأحاديث، أو ثبوت بعض آثار الصحابة، أو ثبوت الإجماع، وهذا الاختلاف في ثبوت الدليل ينتج عنه أيضًا كثير من الخلاف.
وأكثر الأسباب التي ذكرها ابن تيمية هنا تتعلق بهذا المعتبر وهو: ثبوت الدليل.
ومن المعلوم أن المحدثين في باب الثبوت أكثر امتيازًا؛ لأنهم أهل علم بالسنن والآثار، بخلاف الفقهاء من أهل الكوفة، فإنهم لم يكونوا على درجة كبيرة من العلم بالنصوص والآثار، وقد اصطبغ هذا عند كثير من الفقهاء المتأخرين، حتى عند متأخري فقهاء الحنابلة والمالكية، مع أن الإمام أحمد والإمام مالكًا ﵏ كانوا من كبار المحدثين، هذا فضلًا عن الشافعية والحنفية، فقد قل العلم بالآثار، أي: من حيث الصحة والضعف، وأحيانًا من حيث العلم، أي: عدم العلم ببعض الآثار والسنن، ومعلوم أن أبا حنيفة ﵁ ورحمه كان قليل العلم بالحديث، أي: بطرق المحدثين، وليس معنى ذلك أنه لم يكن لديه علم أصلًا، فإن هذا أمر مستحيل، لكنه لم يكن واسع العلم بالحديث، ولم يكن من الحفاظ الكبار، وقد تكلم بعض المتقدمين كـ البخاري وغيره في حفظ أبي حنيفة بما هو معروف، لكنه كان فقيهًا، ومعه كثير من السنن التي أجرى فيها - مع القرآن وما معه من الأصول- فقهه المعروف.
وهنا ينبه إلى أنه من الحكمة أن ينتظم طالب العلم على فقه واحد، حتى لا تكون نتيجته الأخيرة فيها اضطراب، ولذلك نجد أن أهل الحديث انتظم فقههم، بغض النظر عن الراحج والمرجوح في هذه المرحلة.
2 / 6
شرح رسالة رفع الملام عن الأئمة الأعلام [٣]
من الأسباب التي يقع بسببها الخلاف بين الفقهاء:
جهة المدلول، أي: الدلالة المستفادة من الدليل، ومنها: جهة المستدل، وهو المجتهد أو الفقيه الذي ينظر في الأدلة ويستنبط منها الدلالة.
3 / 1
الجهة الثانية: جهة المدلول
ويقصد بالمدلول: الدلالة، فالكتاب والسنة والإجماع، هذه جهة متعلقة بالدليل، لكن إذا جئنا لتحصيل المدلول من الدليل فإن هذا أيضًا ينتج عنه كثير من الخلاف.
وهناك ما عرف عند الأصوليين بأوجه الدلالات، ومن المعلوم أن في كتب الأصوليين -كالمستصفى لـ أبي حامد الغزالي وغيره- نشرًا واسعًا لأوجه الدلالات، ومنها مثلًا: دلالات المنطوق، ودلالات المفهوم، وما يتعلق بأقسامها، ومنها: ما يتعلق بدلالات النص والظاهر، ودلالات الإيماء، ودلالات الإشارة، والدلالات في التقسيم المنطقي العقلي الضروري تنقسم إلى: دلالة بينة، ودلالة لسيت بينة، ويدخل في الدلالة البينة دلالة النص والظاهر، ويدخل في عدم البينة ما يسميه أهل الأصول بدلالات الإيماء مثلًا، والدلالات البينة لم تكن محل خلاف عند قدماء الفقهاء، إنما اختلفوا في الدلالات التي هي في درجة بعد البينة.
وحينما نقول: إن الدلالات -كتقسيم عام- تنقسم إلى: دلالات بينة، ودلالات ليست بينة، والدلالات البينة لا يختلف فيها، والدلالات غير البينة يختلف فيها، فهنا أمران:
الأمر الأول: ما التزمه كثير من أهل الأصول في إعطاء مذهبية لحكم الدلالات هل هو التزام صحيح مطرد؟ نقول: إن بعضه -بل كثيرًا منه- من حيث الالتزام ليس صحيحًا، فمثلًا: هل الأحناف يعملون بدلالة الإيماء والإشارة أم لا؟ وكذلك حينما يُفرض أن بعض المذاهب عملت بمفهوم المخالفة وبعض المذاهب لم تعمل به، فإن هذه الإطلاقات ليست نصوصًا ولا استقراء يمكن أن يشاهد -إن صح التعبير- مشاهدة بينة في فقه أبي حنيفة والشافعي، أو من قبل هؤلاء؛ بل هي محاولة في الاقتباس العلمي وصلوا بها إلى هذه النتائج.
ولذلك فلا أرى أن من الحكمة أن يلتزم طالب العلم تحت هذه المذهبيات في أنواع الدلالات؛ بل المعتبر العام هو بيان الدلالة، ومن المعلوم أن الصحابة والأئمة لم يكن عندهم هذا التقسيم، وهذا لا ينبغي أن يكون أمرًا مشكلًا؛ لإنه اصطلاح، والاصطلاح لا مشاحة فيه، لكن بالقطع أن الدلالات منها ما هو بين ومنها ما ليس ببين، ولكن من هو الذي يعين أن هذه الدلالة بينة أو غير بينة؟
الحقيقة العلمية أن التعيين يقع بتقابل ذهن الفقيه مع الكلمة أو الجملة، والحالة التي عليها الفقيه -وهو المستدل- هي التي تحكم أن هذه الدلالة عنده بينة أو ليست بينة.
فمثلًا: حديث أبي سعيد الخدري ﵁ في الصحيحين أن النبي ﷺ قال: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) فالفقيه أو الناظر- وقد لا يكون بدرجة فقيه، فقد يكون من طلاب العلم الذين يفتون الناس ولم يصل إلى درجة فقيه حتى يكون مجتهدًا، ومن هنا فلابد من القول بأن الأمة تقوم بطلاب العلم، وليس بالضرورة أنها لا تقوم إلا بالمجتهدين، مع ضرورة وجود المجتهدين، لكن السعة التي في الأمة تحتاج إلى سائر الدرجات، ومن المعلوم أنه ليس كل الذين كتبوا في الفقه من أهل الاجتهاد، وقد يكتب ويؤلف الإمام والعالم مع أنه لم يكن قد وصل إلى درجة الاجتهاد، ومما يلاحظ هنا أن هناك ألقابًا منحت لأسماء بطريقة فيها توسع.
نعود إلى حديث: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) فهل هذا من دلالة النص والظاهر، أم من دلالة أقل من ذلك كالإيماء والإشارة إلى وجوب غسل الجمعة؟ كثير من الفقهاء بل جماهير الفقهاء لا يرون فيه دلالة نص ولا ظاهر، ولا ربما أقل من ذلك؛ بل يرون أن الحديث لا يتكلم عن الوجوب بالمعنى الاصطلاحي، وقد يقول البعض: إن في الحديث دلالة صريحة، بل ربما قال: دلالة ظاهرة، والدلالة الصريحة والظاهرة معتبرة عند عامة أهل العلم، فيبدأ يرتب الحكم ترتيبًا أصوليًا، ويظن بعض طلاب العلم أنه قد حل المسألة بمعنى الكلمة؛ لأنه نظمها تحت مصطلحات -إن صح التعبير- بارقة، وهذا ليس ذمًا لها، فإنها في حقيقتها مصطلحات بارقة.
والذي نريد أن نصل إليه أن تعيين الدلالة لا يرتبط بالنص فقط، وهذا النص من حيث هو لا يعطي دلالة معينة؛ لأنه إذا أعطى دلالة معينة صار نصًا قطعيًا، وهذا لا يختلف فيه، وما دام أن النص قد اختلف في دلالته فمعناه أن النص من حيث هو لم يصرح تصريحًا قطعيًا بالدلالة، واختلاف التحصيل هنا يرجع إلى المستدل، وفقهه لهذه الدلالة.
إذًا: مسألة دلالة الإيماء أو الإشارة ونحو ذلك هل هي حجة أو ليست بحجة؟ هذا طرف من الخلاف، وليس هو جوهر الخلاف؛ لأن الأهم منه هو: متى نقول عن هذه الدلالة في النص: إنها إيماء، أو إشارة، أو نص أو ظاهر؟ لا نستطيع أن نقول: إنها نص؛ إذ كيف نقول: إنها نص، والجماهير المتقدمون لم يعتبروها؟ مع أن الحديث لا نستطيع أن نقول: إنه لم يبلغهم؛ فهو حديث مشهور في كتبهم وسننهم ومسانيدهم، ومع ذلك لم يعتبروا دلالته على الوجوب.
ومسألة تعيين الدلالة وهل تفيد أو لا تفيد؟ هذه لا تندرج تحت مصطلحات معينة، فليس هناك رمز معين لدلالة الإيماء يتفق عليه، أو رمز معين لدلالة الإشارة يتفق عليه، حتى مسألة الصيغ حينما يقولون مثلًا: صيغ العموم ونحوها، هذه أحوال تقرِّب، لكن أحيانًا يقف الفقيه مترددًا في هل هذا العام عام محفوظ، أم أنه عام مخصوص، أم أنه عام أريد به الخصوص؟ ونحو ذلك، وهذه صور مبثوثة في كتب أصول الفقه.
3 / 2
الجهة الثالثة: المستدل
هذه الجهة في نظري هي أهم الجهات؛ لأن حقيقة الاختلاف أنه ينشأ من الناظر في النص، وقد ذكرنا أن المستدل مؤثر حتى في تعيين الدليل، وفي تعيين الدلالة، وفي درجة حجية الدليل، وفي الثبوت أيضًا، فنجد أن الأمور تعود للمستدل كثيرًا، والمستدل فيه أربعة معتبرات:
3 / 3
المجموع العلمي للمستدل
- المعتبر الأول: المجموع العلمي:
ومنه ما يذكره الأصوليون في شروط المجتهد: من جهة سعة علمه باللغة والآثار، والحلال والحرام، والناسخ والمنسوخ ..
إلخ، ويعتبر المجموع العلمي عند المستدل من أكثر المكونات في السببية الخلافية الفقهية، بمعنى: أن المجموع العلمي يؤثر إذا كان المستدل واسع العلم أو قاصر العلم، ومن المعلوم أن علوم الشريعة متعددة؛ كعلم الإسناد وعلم الرواية، وعلم الفقه، وعلم الأصول، وعلم التفسير، وعلم العربية وأوجه كلام العرب ..
ونحو ذلك، بل إن كل علم يشمل علومًا متعددة، فالتفسير مثلًا يوجد فيه علوم منهجية دقيقة، كأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، وتفسير القرآن بالقرآن، وتفسير القرآن بالسنة، ونحو ذلك، وكذلك علم الحديث فيه علم المشكل، والمختلف، وشروط صحة الحديث، وشروط ترك العمل بالحديث، ونحو ذلك، فهذه علوم دقيقة داخل علوم -إن صح التعبير- ومثل ذلك أيضًا في الفقه وفي أصول الفقه، وغير ذلك من العلوم المعروفة.
إذا كان كذلك فالمجموع العلمي أمر واسع، ولذلك فإن من كان على كثرة اتصال بكلمات الفقهاء وآرائهم، أو على كثرة اتصال بالرأي، فإنه في الغالب ينتج عنه فقه يناسب ذلك، وهذه سنة ماضية، وقد برزت في الكوفة في صدر التاريخ الإسلامي، ومن كان كثير الاشتغال بالرواية وتصحيح الأسانيد، وبيان الصحيح من الضعيف؛ فإن هذا ربما شغله عن كثير من النظر في الفقه، وقواعد الفقه وأصوله، فيؤثر ذلك في فقهه، ومن غلب عليه العناية بمسألة التقعيد والتأصيل، فإن هذا أيضًا يؤثر في فقهه.
فالمجموع العلمي يؤثر في الفقه، ولو نظرنا إلى الأئمة الأربعة لوجدنا هذا التأثير في فقههم، فنجد أثر الآثار في فقه الإمام أحمد وأجوبته، ونجد أثر الفقه لقواعد الشريعة ومقاصدها، وفقه لسان العرب ودلالات الكلام في كلام الإمام الشافعي، وكذلك ما يتعلق بالاستمساك بالهدي النبوي قبل أن ينتشر الخلاف، هذا اتجاه بين عند الإمام مالك، حتى إنه لما بلغه حديث: (من صام رمضان وأتبعه ستًا من شوال فكأنما صام الدهر) قال: أدركنا أهل العلم لا يصومون هذه الأيام ولا يعرفون هذا.
ومن هنا يكون عنده وعند جملة من أولئك الفقهاء في المدينة أن عمل أهل المدينة حجة؛ لأنهم يرون أن هذا هو الهدي المأثور عن النبي ﷺ، فما توارد أئمة المدينة عليه فإنه في حقيقته متلقى عن النبي ﷺ، وهذا وجه من الاستمساك بعمل أهل المدينة.
كذلك نجد أن مسألة الرأي والقياس وما إلى ذلك أثرت في نتائج فقه الإمام أبي حنيفة كما هو بين.
وهذا التأثير للمجموع العلمي في فقه الأئمة يعتبر تأثيرًا إيجابيًا -إن صح التعبير- وليس معنى ذلك أننا نود أنهم اختفلوا ولم يتفقوا، لكن المقصود أنه منهج علمي مقبول، ولذلك فمن وقع فيما بعد على مثل هذه المعتبرات فكان سبب الخلاف تحت مثل هذه الأسباب، فهذه أحوال يجب أن لا يتصادم بعضها مع بعض، وهذا ليس هو الخلاف المذموم، بل إنه خلاف مقبول، وقد لا نقول: إنه خلاف محمود، فإن هذه الكلمة قد تعني معنى أخص، لكن نقول: إنه خلاف مقبول مادام أنه تحت هذه السببيات.
وبالمقابل فهناك اتفاق بينهم، كما ذكر المصنف أنه لا أحد منهم يرد حديثًا أو يكذب بحديث، لكن هذه الأصول مؤثرة.
وقد يقول قائل: لماذا نعتبر المجموع الكلي؟ هذه أمور نظرية، من حيث الواقع التطبيقي لما انتشر العلم، وانتشرت الرواية، واختلف التفسير لكلام النبي ﷺ والفقه فيه، أصبح المجموع الكلي فيه تعذر، فلن يأتي اليوم فقيه ونفترض فيه أنه جمع الفقه الكلي، بمعنى: جمع ما يتعلق بمبدأ القياس، مع العلم المطلق بالآثار، مع العلم بالهدي الأول، وما إلى ذلك، فإن هذه افتراضات جيدة من حيث هي، لكنها غير ممكنة التطبيق ففيها تعذر.
ولذلك فإن بقاء التعدد الفقهي بهذه المناهج التي تقصد إلى السنة وهدي النبي ﵌، هذا ليس مشكلة من حيث هو، وقد ذكرنا المجموع لأن له تأثيرًا في فقه الفقهاء الأربعة، فقد ذكرنا أن عناية الشافعي بقواعد العربية وفقه الشريعة وأصولها أثرت في فقهه، وأن علم أحمد بالرواية والآثار أثر في فقهه، وأن علم مالك بآثار المدنيين أثر في فقهه، وكذلك علم أبي حنيفة بالقياس ونحوه له أثر في فقهه.
وإذا قيل هذا في حق أولئك الأئمة؛ فإنه يقال اليوم في الذين يفتون أو يجيبون من طلاب العلم أو من الفقهاء أو من قد يسمى بمجتهد الأمة اليوم مثلًا، فإن هذا أيضًا لابد أن يكون المجموع العلمي بينًا في حقه، وليس المقصود بالمجموع العلمي أننا نفترض ضرورة الجمع أو إيجاد مجموع علمي متكامل، فإن هذا -كما ذكرنا- أمر متعذر، لكن لنصل إلى نتيجة، وهي أن افتراض اختصاص عالم اليوم أو فقيه بالنتائج الفقهية الصحيحة، أصدق ما يمكن أن نقول عنه: إنه وهم، مع أن هذه الكلمة قد تكون شديدة بعض الشيء، لكن هذا هو الصحيح، أن هذا فيه قدر من الوهم، وذلك حينما نفترض في فقيه معين اليوم أنه هو المحدث للأمة بالأقوال الصحيحة الراجحة، حتى لو كان هذا الفقيه -مثلًا- إنما رجح شأنه عند قوم لسعة علمه بالآثار، فإن هذه جهة شريفة وجهة عالية لكنها ليست وحدها هي التي تحكم الرأي الفقهي، فهي جهة مؤثرة وجهة كبيرة، كما كانت مؤثرة عند الإمام أحمد، لكن حتى الإمام أحمد يقول: "ما عرفنا الناسخ والمنسوخ إلا عندما جالسنا الشافعي "، وكان الشافعي يقول للإمام أحمد: "إذا صح عندكم الحديث فأخبرني به".
إذًا: فوجود بعض الفقهاء في هذا العصر الذين يمتازون بالرواية أو بالعناية بالصحيح والضعيف، هذه جهة شريفة، لكنها ليست وحدها الحاكمة، فقد يوجد فقيه آخر سأمتن فقهًا في بعض المسائل من ذلك الفقيه المحدث وإن كان ليس بدرجته في علم الحديث، وقد يقال عن بعض الفقهاء أحيانًا: هؤلاء لا يعتبر رأيهم؛ لأنه ليس عندهم علم بالحديث، وإطلاق هذه الكلمة بعمومها (ليس عندهم علم بالحديث)، أي: لا يعرفون الحديث مطلقًا، هذا غير صحيح، أما أنهم ليسوا من أهل الاختصاص في الصحيح والضعيف والاشتغال بذلك، فإن هذا موجود، وهذا الكلام موجود من قديم، فإن الإمام أبا حنيفة لم يكن من أهل الاشتغال بهذا الفن، فما دام أنه نتج فقه متميز عن أبي حنيفة مع أنه لم يكن محدثًا بالمعنى الدقيق، فما المانع أن ينتج الفقيه اليوم -ولو من باب التقليد- في كثير من المسائل رأيًا جيدًا، وإن لم يكن متخصصًا في التصحيح والتضعيف.
وبالمقابل كما أنه نتج عن بعض المحدثين فقه متميز، وإن لم يكونوا من أهل الاشتغال بكثير من أوجه الرأي والقياس ومعاني العربية ونحو ذلك، فلا يوجد هناك مانع من أن ينتج من بعض أصحاب الرواية والاشتغال بالإسناد اليوم فقه متميز.
3 / 4
البيئة الخاصة للمستدل
- المعتبر الثاني: البيئة الخاصة:
المقصود بالبيئة الخاصة هنا: البيئة التي تربى فيها هذا المستدل، فإن المستدل يبدأ كطالب علم، ثم يتدرج إلى أن يصبح له شأن، وهكذا سار الناس، إلا من نزل عليه الوحي من الله ﷾ وهم الأنبياء.
وما دام أنه نشأ في بيئة فما طبيعة هذه البيئة؟ أحيانًا ينشأ بعض الفقهاء في بيئة حنبلية أو شافعية أو حنفية، ويصطبغ بهذه البيئة على طريقة المتأخرين من الأحناف أو الحنابلة أو الشافعية، ويقبل على حفظ مختصراتهم، فيحفظ عند الحنابلة -مثلًا- الإقناع أو المقنع أو غير ذلك، ويعنى بتحصيل المذهب، وتخريج آراء الإمام أحمد الصحيحة، والنظر في الأصول والفروع، وما هو المذهب؟ وما هو الراجح من المذهب؟ وهذا نوع من الفقه، فهذه بيئة نشأ فيها البعض في القديم، واليوم قد ينشأ البعض في بيئة -أي: في تربية- قد لا تعتمد مبدأ المذهب الفقهي؛ بل قد تنطلق من باب العناية بالحديث والدليل والنص والأثر، وهداية الأمة إلى النصوص، وهذا المنهج من حيث الأصل منهج صحيح، لكن إذا بولغ فيه فهو من جنس مبالغة أصحاب التمذهب الفقهي في الالتزام بالمذاهب، ومن المعلوم أن المبالغة والغلو في فهم الآية من القرآن، أو في محبة النبي ﷺ، مع أنها من أصول الدين، إلا أن الغلو فيها يجعلها بدعة.
ومن أوجه الغلو عند بعض المشتغلين بالحديث مثلًا قولهم: إن أصحاب المذاهب الفقهية ليسوا على شيء، وليسوا من أهل العلم بالسنة، وليسوا متبعين لهدي النبي ﷺ، وليسوا على طريقة السلف ..
فإن هذا كلام فيه تكلف، وبالمقابل فإن التعصب الفقهي، وافتراض أنه لا تعرف الشريعة إلا بانتظام فقهي معين على طريقة متأخرة، هذا أيضًا فيه إغلاق للعلم.
والبيئة الخاصة ليست خاصة ببيئة معينة، بمعنى أن يقال: إن البيئة الفاضلة هي كذا وكذا؛ بل من نشأ في بيئة شافعية فلا بأس أن يؤسس فقهه على المذهب الشافعي، ومن نشأ في بيئة حنبلية فلا بأس أن يؤسس فقهه على المذهب الحنبلي، وهكذا في المذهب المالكي والحنفي، وهذا ليس كلامًا نفترضه اليوم؛ بل لقد كان يقوله القدماء، فقد كان الإمام مالك ينهى بعض الذين يأتون إلى العراق للحج فيمرون بالمدينة النبوية، كان ينهاهم أن يفتوا ببعض الآراء التي يعرفها مالك لكن العامة من أهل المدينة لا يعرفونها، حتى إنه زجر رجلًا لما بلغه أنه جلس بالمسجد النبوي يجيب بمثل هذا الرأي، فقال له مالك: من أين أنت؟ قال: من أهل العراق، قال: أين خلفت الأدب؟ فلما قال له الرجل: إن هذا قاله زيد بن ثابت، قال: قد كنا نعلم ذلك، ولكن الناس عندنا لا يعلمون إلا قول عمر.
وليس معنى هذا أن مالكًا يريد أن يطبع التقليد أو التعصب؛ ولذلك فإن من لطيف فقه مالك أنه مرة ذكر له رجل الخلاف، فرأى أن في كلام الرجل تضييقًا للخلاف، فقال له: (يا هذا! هذا رحمة)، فسمى الإمام مالك ﵀ الخلاف رحمة، ولما سمع رجلًا يوسع في الخلاف قال له: (يا هذا! إنما هو الخطأ والصواب).
فقد يبالغ بعض الناس أحيانًا في مسألة (أن الخلاف رحمة)، حتى كأنه ليس أمام الأمة إلا أن تختار الأذوق، أو ليس أمام الإنسان إلا أن يختار بذوقه، فإذا صار الأمر هكذا فإن هذا ليس معناه أنه رحمة؛ بل إن الخلاف فيه حق وباطل، وفيه صواب وخطأ، والخلاف منه راحج ومنه مرجوح، ولا بد من قصد هدي النبي ﷺ، ولكن من يضيق المسألة بالمقابل يقال له هذه الكلمة.
إذًا: البيئة الخاصة مؤثرة في تكوين الفقيه.
وليس المنهج الصحيح هنا أن يُلزم بإحدى البيئات الفقهية المعروفة، إنما المنهج الصحيح أن يكون هناك شروط علمية صحيحة للتعامل مع ذلك، فمثلًا: البيئات الفقهية الأربع (المذاهب الفقهية) هذه بيئات معتبرة ولا بأس بها، وكذلك البيئة الأثرية أيضًا هي بيئة معتبرة ولا بأس بها، إنما الذي ينهى عنه الناس هو التعصب، فمن تعصب لشيء من هذه البيئات، فإن هذا التعصب هو الأمر المذموم، أما من نشأ على بيئة مألوفة عند علماء المسلمين وفقهائهم، فإن هذا من حيث هو ليس مشكلًا، ولا يدخل في دائرة الذم والإنكار.
3 / 5
البيئة العامة للمستدل
- المعتبر الثالث: البيئة العامة:
من المعلوم أن بيئات المسلمين اليوم تختلف من بلد إلى آخر، وكذلك تختلف بيئة المسلمين عن غير المسلمين، والفقيه أو المستدل قد يوجد مثلًا في بيئة لم يدخلها الاستعمار، فستكون هناك أمور متعددة حافظ عليها الناس، فتجد أن الرأي الفقهي عنده يتسم بسمات معينة، إضافة إلى المؤثرات الأخرى، كالتفقه على مذهب معين، فإن هذه أمور مؤثرة، لكن من المؤثرات أيضًا: البيئة العامة، والمجتمع العام، وقد تكون هذه البيئة إقليمًا أو بلدًا واسعًا، وقد تكون أوسع من ذلك.
ولعل من الأمثلة على ذلك: الإمام الشافعي ﵀، فإنه عندما ذهب إلى مصر تغير مذهبه الذي نسجه وانتظم له في العراق كثيرًا، حتى قالوا: إن للإمام الشافعي مذهبًا جديدًا ومذهبًا قديمًا، وليس بالضرورة أن تكون البيئة المصرية قد انقلبت رأسًا على عقب على البيئة العراقية، لكن الانتقال من بيئة إلى بيئة أخرى تختلف عن البيئة الأولى ولو شيئًا يسيرًا هذا له تأثير، وأحيانًا عوارض التكليف تختلف من بيئة إلى أخرى، كذلك العلم الذي يبلغه في بيئة قد لا يبلغه في بيئة أخرى، فأثر البيئة يعتبر من أخص المؤثرات في الخلاف الفقهي وفي اعتباره.
كذلك البيئات التي طرقها الاستعمار نجد أن الفقهاء أو الذين يفتون فيها لهم أحيانًا بعض المواقف الخاصة من بعض القضايا تختلف عمن لم يقع تحت هذا التأثير، وليس بالضرورة أن نقول هنا: إن الذين لم يصبهم الاستعمار دائمًا هم الصادقون وأولئك ليسوا كذلك؛ بل بالعكس أحيانًا بعض الأمور قد لا تقدر إلا من خلال العلم المفصل بها.
والذين يعيشون مثلًا في الغرب ليسوا كالذين يعيشون في البلاد الإسلامية، والذي يعيش في مدينة ليس كالذي يعيش في نظام قرية مغلقة معينة، فإن هذه البيئات من حيث المنطق العقلي الصحيح مؤثرة؛ لأن الفقه أحيانًا ليس هو الفتوى في أمور سابقة معينة، كالفتوى في مسألة: هل لحم الإبل ينقض الوضوء أم لا ينقض الوضوء؟ بل الفقه أحيانًا يكون في قضايا جدت ونزلت، فيكون التقدير هنا يختلف.
كذلك الذي يتكلم أمام أهل مدينة ليس مثل الذي يتكلم بآراء فقهية أمام الملايين في الفضائيات؛ بل يجب أن يختلف، وإذا لم يختلف هذا نقص في فقهه، وإذا لم يختلف ذاك نقص في فقهه، وليس معنى ذلك أنه يغير الفتوى، فإذا كان في المدينة قال: هذا حلال، وإذا طلع في الفضائيات قال: هذا حرام، لكن المقصود أن هناك آراء يترتب عليها تطبيقات، فمثلًا حينما يقرر رأي فقهي فيقال: إن تارك الصلاة كافر، وترتب بعد ذلك أحكام، كما يذكر بعض الفقهاء أنه إن مات وهو تارك للصلاة أو لبعض الصلوات -على بعض الآراء- فلا يغسل، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين ..
إلخ، فإن هذا الرأي عندما يتداول في بيئة خاصة، أو على منبر جمعة ويسمعه أهل الجماعة في هذا البلد، ليس كأن يؤخذ هذا الرأي فيطلق في منبر فضائي مثلًا، فيقال: الصحيح أن من ترك صلاة واحدة حتى خرج وقتها متعمدًا فهو كافر، لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين ..
لأن هذا الرأي تحته تطبيق، والذي يسمعه قد يذهب ويطبقه.
ومن المعلوم أنه ينتشر في كثير من البيئات التي غاب عنها الإسلام زمانًا، كبعض الجمهوريات الموجودة في روسيا أو في أوروبا، وأحيانًا بعض البيئات الإسلامية -ينتشر فيها ترك كثير للصلاة؛ بل إن ابن تيمية يقول: وكثير من المسلمين في أكثر الأمصار يصلون تارة ويدعون تارة.
وليس المقصود هنا: أنه أمام الفضائيات لا يقال: إن تارك الصلاة كافر، لكن المقصود أن الإنسان لا يجوز له أن يطلق الأحكام العامة على مستوى الأمة إلا وقد اطمئن إليها اطمئنانًا محكمًا، ولا يغلق الخلاف المشهور في منبر عالمي مثل النظم الفضائية اليوم، فإن إغلاق الخلاف المشهور في مثل هذه الصور أمر غير سائع.
وأحيانًا قد يكون عند الشخص رأي يراه، لكن قد يحدث به قومًا ولا يحدث به آخرين؛ لأنه كما قال علي ﵁: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟!)، وهناك انفصال بين الحكم بأن هذا الشيء كفر، وبين تطبيق حكم الردة، ولذلك يقول ابن تيمية: "ومن أغلاط كثير من الفقهاء أنهم ظنوا أن هناك تلازمًا بين الردة وبين تطبيق أحكامها"، فأحيانًا قد يكون بعض الناس كافرًا، لكن ليس هناك إمكان شرعي مصلحي لتطبيق الحكم عليه، فقد يكون عنده تأويل وشبهة ما وصلت إليك، ومن هنا فإن مراعاة التأثير العام لابد من الانتباه له.
وقولنا: إن البيئة العامة تؤثر في الرأي الفقهي، ليس معناه أنها هي التي تحكمه، ولكن الفقه يعتبر بمصالح الناس؛ لأن الشريعة جاءت بحفظ المصالح ودرء المفاسد، ولذلك فإن كل من توسع فقهه وعرف الأحوال أكثر من غيره نجد أنه صار لا يراعي في فقهه وفتواه أهل بلده فقط؛ بل يراعي أهل هذه المدينة والمدينة التي تليها والمدينة التي هي أبعد منها
وهكذا، وإنما نذكر هذا الكلام لأننا لا نتكلم هنا عن المجتهدين فقط؛ بل عمن قد يسمى مجتهدًا أو فقيهًا أو طالب علم، ولذلك أوصي طلاب العلم أن يتنبهوا لهذا الأمر، فليس كل ما يصلح لبلد بالضرورة أن يصلح لبلد آخر، وليس كل ما يصلح لطلاب العلم يصلح للجماهير والعامة من الناس، وقول علي ﵁: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟!) يعتبر قولًا جامعًا.
ومن المعلوم أن النبي ﷺ ترك بعض الفعل مخافة أن تنكر قلوب الناس ذلك الفعل.
3 / 6
الطبيعة والتكوين الذاتي للمستدل
-المعتبر الرابع: الطبيعة والتكوين الذاتي:
إن الله ﷾ خلق الناس متفاوتين، فبعض الناس أعطاه الله ﷾ سعة في الفقه، وبعض الناس أوتي حفظًا ولم يؤت فقهًا، وبعض الناس أوتي فقهًا ولم يؤت حفظًا، فمثلًا: لو قارنا ابن المديني بـ أبي حنيفة رحمهما الله، فسنجد أن ابن المديني لا يصل إلى درجة أبي حنيفة في الفقه، وأن أبا حنيفة لا يصل إلى درجة ابن المديني في الحفظ، مع أنهم أئمة سابقون، وهذا كمثال بسيط بين الإدراك.
وكذلك اليوم لابد من اعتبار هذا الأمر في طالب العلم أو الفقيه أو من هو فوقه، ولذلك فإن من عقل الإنسان واعتداله مع نفسه أن ينظر فيما آتاه الله، فإن كان لم يؤت فقهًا وحكمة، بل يرى في طبيعته العجلة والاصطدام مع نفسه كثيرًا، ومع أسرته، ومع من حوله، ويرى في طبيعته قدرًا من النقص البين، لكنه ربما أوتي حفظًا، فالأولى له أن ينصرف في مسار معين من العلم، فإن بعض الناس مثل الوعاء الذي يحفظ الماء، فيشرب منه الناس وينتفعون به، فإن الأمة بحاجة ولا تزال بحاجة إلى أنواع شتى من العلوم والمعارف، ومن السوء ما أثير من قضية التمانع بين الحفظ والفهم، فهؤلاء يحفظون ولا يفقهون، وهؤلاء يقولون: الفقه أهم، مع أن الإسلام ليس فيه حفظ فقط أو فقه فقط؛ بل إنهما متلازمان، وإذا لم يكن طالب العلم يحفظ كثيرًا من النصوص فمن أين يفقه؟ فإن الفقه فقه النصوص، وكذلك ليس في الإسلام حفظ فقط؛ لأن من حفظ وهو لا يدري ماذا حفظ بمنزلة الأعجمي الذي حفظ كلامًا وهو لا يدري ما معناه.
إذا كان كذلك فلابد أن نلاحظ أمورًا:
أولًا: إذا اتجه الإنسان لطلب العلم فلابد أن يختار ما أعطاه الله، ولا يتمانع مع طبيعته، فإنه ليس من الذكاء ولا من الحكمة أن يتمانع الإنسان مع طبيعته، وقد جاء في الحديث: (الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف).
ثانيًا: لابد أن يُنظر في طبيعة من يجيب، سواء كان طالب علم أو فوق ذلك، ولذلك من أنواع التعصب اليوم: أن أصحاب المزاج الحار أو الذين عندهم ردة فعل من شيء معين -سواء كان هذا الشيء علميًا أو غير ذلك- تجد أنهم يعشقون طلاب علم أصحاب مزاج حار مثلهم، فيلتقي معه ويتتلمذ على يديه ويشيخه وما إلى ذلك، وبالعكس فإن بعض الناس أصحاب النفوس الباردة -إن صح التعبير- أو المجاملة نجد أنه ينضوي تحت رجل على هذه الطبيعة، وقد يكون أصل هذا التوافق فطريًا؛ ولا يقال: إن هذا نوع من الشذوذ في طبائع الناس، لكن المقصود أن الطبيعة لا تهيمن على الدين؛ بل إن الدين هو الذي يهيمن على الطبيعة البشرية؛ ليجعلها متوافقة مع مقاصده وتعاليمه.
ولنضرب لذلك مثلًا: أفضل رجلين في الإسلام -بعد النبي ﷺ هما: أبو بكر وعمر ﵄، إذا نظرنا في طبائعهما وجدنا أنهما يتفقان في أمور كثيرة، ولكن أبو بكر يغلب عليه اللين، ويغلب عليه الصفح والعفو والهدوء والتسامح، وليس معنى ذلك أن عمر ليس عنده هذه الصفات، بل إن هذه الصفات موجودة عند عمر ﵁، ولكن يغلب عليه طبيعة القوة والعزم والحزم في بعض الأمور والصراحة، وعدم تفويت أي مقام على بعض الناس، وهذه كلها لها مقامات معلومة، فمتى قام أبو بكر ﵁ بالسيف وقال: يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق؟ فإن هذه أحوال إذا بحثنا عنها قد نجدها شبه نادرة، لكن عمر ﵁ كان هذا الأمر ظاهرًا في طبيعته وشخصيته.
فمثلًا: في مسألة أسارى بدر، أول مسألة لم ينزل على النبي ﷺ فيها وحي، فاستشار فيها استشارة صريحة، فدعا أبا بكر وعمر وقال: (ما ترون في شأن هؤلاء الأسرى؟)، فقال أبو بكر: يا رسول الله! هم -أي: الأسرى- بنو العم والعشيرة.
انظر إلى الكلمات وإلى الطبيعة عند أبي بكر، وقد نسميها كلمة تخفيف عن أولئك الأسرى، قال: هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار، فأسأل الله أن يهديهم إلى الإسلام.
ثم قال النبي ﷺ: (ما ترى يا ابن الخطاب؟) فقال: كلا والله يا رسول الله! -هذا أول الإجابة- ما أرى الذي رأى أبو بكر.
وانظر إلى العزم عند عمر، فلم يقل: أرى أن يقتلوا؛ بل قال: ولكن أرى أن تمكنني من فلان -وهو نسيب لـ عمر - فاضرب عنقه، وتمكن عليًا - مع أن عليًا ما حضر المجلس، ومع أنه رأى أن النبي ﷺ تأثر في شأن عقيل؛ لأن عقيلًا ابن عمه- وتمكن عليًا من عقيل فيضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها.
هكذا خلق الله النفوس متفاوتة، وفي كلٍ خير، والسؤال هنا: هل تكلم أبو بكر وعمر من باب الطبيعة والمزاج؟ والجواب: لا، بل إن الشريعة مهيمنة على كليهما، فإن مناطات أبي بكر مناطات شرعية معتبرة في الشريعة؛ فإن الفدية تكون قوة للمسلمين على الكفار، وهذا مناط شرعي صحيح، وكذلك قوله: عسى الله أن يهديهم للإسلام، هذا مناط شرعي صحيح، فمناطاته الشرعية صحيحة توافقت مع طبيعته.
كذلك عمر ﵁ لم تحركه طبيعته ومزاجه، فلم يقل: أرى أن تمكننا منهم فإن سفك الدم فخر أمام العرب، ولو قال ذلك لأصبحت الطبيعة مهيمنة، لكنه قال: إن هؤلاء أئمة الكفر، فهو ينطلق من مبدأ الولاء والبراء، فإن قوله: هؤلاء أئمة الكفر، مناط شرعي صحيح، فلم يقل: حتى تفخر بنا العرب، كما قال أبو جهل: لنبلغن بدرًا ونشرب الخمر، فإن هذا مناط طبيعة أبي جهل الخامرة الطاغية.
ومن هنا فإن نزع الطبيعة من الإنسان أمر مستحيل، لكن المهم هو أن تكون الشريعة مهيمنة على الطبيعة، وإذا هيمنت الشريعة على الطبيعة فإن هذا هو تحقيق ﴿لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ﴾ [المائدة:٤٨]؛ لأن الإسلام كما هو بحاجة للقوي فهو بحاجة للين.
ولذلك فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا نجد فيهم الطبائع الخاصة، بل نجد أن عندهم توازنًا في الطبائع، فنبي هذه الأمة يوصف بالرحمة ويوصف بالقوة، وهو نبي الملحمة ونبي الرحمة، والملحمة هي السيف والقتال، ويقول ﵊: (بعثت بالسيف)، ويقول الله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً﴾ [الأنبياء:١٠٧] ونحو ذلك، لكن الناس من بعد الأنبياء ليسوا مثلهم في توازن الطبائع، والعاقل الفاضل الحكيم هو الذي يعرف مجال كل طبيعة ونسبتها من الشريعة.
والخطأ والانحراف إنما ينشأ حينما تهيمن الطبيعة عند بعض الناس على الشريعة، فيطوع الشريعة لذوقه، فالحار لا ينتج إلا رأيًا حارًا، والحاد لا ينتج إلا رأيًا حادًا، والمجامل أو المتميع كما يصطلحون -مع أني لست ممن يعشق كثرة المصطلحات والتصنيفات- لا ينتج إلا رأيًا كذلك.
إذًا: من أدق الأمور التي ينظر الإنسان فيها لنفسه أن ينظر فيمن يلزم غرزه، وليس من الحكمة ولا من العقل أن يختص الإنسان بشخص على مثل هذا الوجه، ويقول: الأرواح جنود مجندة؛ فإن هذا ليس من الحكمة؛ بل الحكمة أن يلتمس الإنسان العلم في أهله، وأن يعود نفسه ويروضها -كما كان الصحابة- على أن تكون الشريعة هي الحاكمة للطبيعة، وإذا وصل الإنسان إلى هذا فقد وصل إلى خير كثير.
3 / 7
وضع المسألة بحسب رتبتها من الشريعة
أخيرًا: يجب على المستدل أن يضع المسألة بحسب رتبتها من الشريعة، وبحسب مقامها في نظم الشريعة، وهذا الأمر يتفاوت فيه الفقهاء، وله مؤثرات في جملة قواعد، منها: قاعدة الأمر والنهي، هل الأصل في الأمر الوجوب أم لا؟ وفعل النبي ﷺ المفسر لأمره هل يدل على الوجوب أم لا يدل على الوجوب؟ ومن تطبيقها البين كمثال: في بعض أعمال الحج، فنجد أن من العلماء من يقول: إن المبيت بمزدلفة واجب، ومنهم من يقول: إنه سنة، كذلك البقاء بعرفة إلى غروب الشمس، نجد أن منهم من يجعله داخلًا في الواجب، ومنهم من يقول: إنه سنة.
ومسألة الرتب تتعلق بما لم ينص عليه الشارع نصًا صريحًا، وإذا اختلفت الرتب اختلف أثر المسألة المستدل عليها، ومن ثم يفرق بين العبادات والمعاملات، وأثر ذلك في تنزيل الأحكام.
3 / 8