عندما خلع الفرس الشاه عباس الثالث وتوصل نادر خان إلى الجلوس على عرش «إيران»، وقرض الدولة الصفوية وأعلن نفسه ملكا وسمي «نادر شاه»، ولقب ب «طهماسب الثالث»، طمعت نفسه ب «العراق» فطلب سنة 1156ه من الدولة العثمانية أن تعترف بالمذهب الشيعي وتعتبره مذهبا خامسا، وتخصص له ركنا في الحرم الشريف «الكعبة» - وهو يعلم أن سياسة الأتراك تخالف هذا الطلب، وأنهم بالطبع يرفضونه - فرفضت الدولة العثمانية طلبه، فاتخذ ذلك الرفض ذريعة للحرب، فحمل على «العراق» وأغار على «البصرة» و«القرنة» وذلك سنة 1156ه، وتوغل في البلاد الفراتية حتى وصل «الحلة»، ثم حاصر «بغداد» وظل يتهددها برمي القنابل أياما دافع في أثنائها الوزير أحمد باشا دفاع الأبطال، حتى عجز نادر شاه عن فتحها وسار عنها إلى «كركوك» فافتتحها، ثم توجه نحو «الموصل» فاستولى على جميع القرى المجاورة لها، ثم حاصر «الموصل» أياما، فساقت الدولة العثمانية جيشا كبيرا لقتاله، وبعد حروب كانت سجالا بين الفريقين انسحب الفرس عن «الموصل» وساروا إلى جزيرة ابن عمر، فاسترد الأتراك «كركوك»، وفي أثناء ذلك أعاد الكرة نادر شاه على «الموصل»، فرده أهلها بالخسران؛ لمناعة أسوارها التي كانت عونا لهم على الدفاع، فلما بلغ الأتراك ذلك حملوا على نادر شاه ثم ضيقوا عليه قرب «روان»، ولكنهم دحروا، وبعد ذلك وتوجه نادر شاه إلى جهة «أرضروم»، وكتب إلى السلطان محمود الأول يطلب تسليم إيالات «وان» و«الموصل» و«بغداد»، فلم يجبه السلطان بغير إرسال الجنود لقتاله، فخاف نادر شاه عاقبة التوغل في البلاد العثمانية فعدل عن طلبه، وبعد مفاوضات طويلة تم الصلح معه على اعتبار الحدود القديمة، وذلك سنة 1159ه.
الدولة الزندية
أو الدولة الفارسية الثامنة في «العراق» 1190-1193ه
كانت «البصرة» في قبضة العثمانيين منذ أرسل السلطان محمد الرابع وزيره قره مصطفى باشا بجيش كبير في سنة 1078ه، ثم تغلب عليها أمير «الجويزة» فرج الله خان ابن مطلب في سنة 1109ه، فطرده الأتراك في سنة 1111ه، وظلت في قبضتهم إلى سنة 1190ه.
وكانت الدولة العثمانية قد أهملت شئون «البصرة»، فقامت فيها الفتن بين ذوي المطالع، في الوقت الذي كان فيه كريم خان الزندي قد تغلب على مملكة «إيران»، فاغتنم فرصة الاضطراب فأعلن الحرب على العثمانيين وأرسل أخاه صادق خان بجيش كبير في أواخر سنة 1188ه، فحاصر «البصرة» في سنة 1189ه ومعه عشيرة بني كعب العربية، ودام الحصار ثلاثة عشر شهرا حتى اضطرها إلى التسليم في سنة 1190ه في عهد السلطان عبد الحميد الأول، وأسر الفرس متسلم «البصرة» سليمان بك وجماعة من الأشراف والوجوه والتجار، وأرسلهم صادق خان مخفورين إلى «شيراز» عاصمة كريم خان.
ولما استتب أمر صادق خان ب «البصرة» حدثته نفسه بالاستيلاء على بلاد «المنتفك»، فأرسل في سنة 1192ه أخاه محمد علي خان بجيش كبير لغزو «المنتفك»، فاستعد المنتفكيون لقتالهم واجتمعوا ب «الفصيلة» قرب «الفرات»، فالتقى الفرس بهم هناك واشتبكوا معهم بالقتال فاستمرت الحرب يوما وليلة، فانجلت عن هزيمة الفرس وقتل عدد كبير منهم، فلحقهم فرسان العرب فغرق من الفرس في «الفرات» عدد كثير، وغنم العرب أموالهم وخيولهم وعادوا إلى مواطنهم ظافرين، فلما كانت سنة 1193ه جهز صادق خان مرة أخرى جيشا فارسيا للاستيلاء على «المنتفك» بقيادة أخيه محمد علي خان أيضا وأرسل معه عشيرة بني كعب العربية، واستنجد بأخيه عبد الكريم خان فأمده بالجنود الكثيرة، فسارت الحملة والتقت بالمنتفكين في «أبي حلانة» وعليهم يومئذ الأميران ثامر بن سعدون وبويني بن عبد الله، فلما رأى العرب كثرة الفرس واستعدادهم خافوا الفشل، فطلبوا الصلح، فشرط عليهم القائد محمد علي خان شروطا أبتها نفوسهم، فاختاروا الموت على الحياة بالذل، ورفضوا تلك الشروط واستعدوا للحرب، فحدثت بين الفريقين حرب دموية هائلة استمات فيها العرب، فهجموا هجمات شديدة لم يسمع بمثلها، فانتهت المعركة بتمزيق الفرس، وقتل القائد محمد علي خان وأخيه مهدي خان، فانهزم من بقي من الفرس فلحقهم المنتفكيون وقتلوا منهم عددا كبيرا وغنموا أموالا وسلاحا وخيلا، وظلوا يطاردونهم إلى «البصرة»، وهناك حاصروهم فيها وضيقوا عليهم الخناق، وصادف في أثناء ذلك موت عبد الكريم خان، فخاف صادق خان على نفسه من أن يمد والي العراق المنتفكين الذين حاصروه فيقع في الأسر، وقد أصبح بعد موت أخيه وحيدا لا ناصر له، فانهزم ليلا بمن معه من «البصرة» في السنة نفسها (سنة 1193ه)، فدخلها المنتفكيون وكتبوا بذلك إلى حكومة «بغداد»، فأرسلت متسلما إلى «البصرة» نعمان بك، وأفل الحكم الفارسي من «البصرة» بعد أن دام في هذه المرة نحوا من ثلاث سنوات، وعلى أثر وصول المتسلم إلى المدينة أطلق الفرس الأسراء ومن جملتهم المتسلم سليمان بك، فأرجعته الدولة العثمانية إلى منصبه بعد أيام قليلة، ثم وجهت إليه بعد أشهر ولاية «العراق»، وهو الذي عرف أخيرا ب «الوزير سليمان باشا الكبير».
وبقيت المدن العراقية كلها بعد هذه الحادثة خاضعة للعثمانيين إلى أن قامت الحرب العامة المشئومة، فانسلخت منها البلاد العراقية الواحدة تلو الأخرى، بعد حروب طال أمدها وجلبت على أهل البلاد أنواع المصائب وضروب النوائب، وكان سقوط «البصرة » أو «مفتاح العراق» في سنة 1333ه، وسقوط «بغداد» عاصمة «العراق» في سنة 1335ه، وقامت بعد الحكم العثماني حكومة الاحتلال البريطاني، ثم قامت الحكومة العراقية العربية بعد حوادث يطول ذكرها. (1) تتمة لما مر
لا يخفى على القارئ الكريم أن الأمة الفارسية من أقدم أمم العالم وأشدها شوكة، وهم من الشعوب الآرية؛ أعني إخوان الأوربيين من الرومان أو اليونان وغيرهم، وقد نزلوا بلاد إيران منذ أقدم الأزمنة، وكان لهم استعداد فطري لأسباب التمدن وذكاء وتعقل، فأنشئوا الدول ووضعوا الأحكام وساسوا الأمم، ونبغ منهم ملوك عظام مثل كورش ودارا الأكبر وكسرى أنو شروان، وظهر من بينهم طوائف عديدة في أزمان مختلفة من العلماء والفلاسفة والأدباء والخطباء والكتاب والأطباء، واعتنوا بالطب وعلم الفلك والطبيعيات والرياضيات، وترجموا العلوم والفلسفة، وبنوا المدن الكبيرة والمراصد والمدارس والمستشفيات، واعتنوا بالري اعتناء كثيرا، واشتهرت فيهم بيوتات شريفة وقواد محنكون.
وهم أقدم من خالط العرب من الأمم الغريبة، بل من أقدم من ساد على العرب، ومن أجل ذلك كانت بين الأمتين منافسة، خصوصا في أيام الدولة الساسانية التي كان ملوكها يخرجون العرب في أكثر الأحيان من بلادهم بالسيف، فيقابلهم العرب بالغارات على مدن الفرس وينتقمون منهم، على أنهم كانوا يستخدمون العرب في دواوينهم للكتابة والترجمة، وكان أكثر ملوكهم يتقنون العربية، وبعضهم كان ينظم الشعر العربي، ومنهم من قرب العرب وأعلا شأنهم واتخذهم عضدا ونصيرا.
ولم يشتركوا مع العرب في دين واحد إلا عند ظهور الإسلام؛ إذ كانوا في العصور الواغلة في القدم ممن يعبدون القوى الطبيعية المختلفة وخاصة الشمس، ثم دخلوا في دين زردشت الذي ظهر بين القرن العاشر والسابع قبل الميلاد، وعلى توالي الأعوام حرفوا تلك الشريعة وأدخلوا فيها عبادة النار - أي صاروا مجوسا - وظلوا على المجوسية حتى جاء الإسلام فاعتنقوه بعد فتح بلادهم بالتدريج، ثم صاروا بعد حين من الدهر فرقا إسلامية ينتسبون إلى المذهب الجعفري؛ نسبة إلى الإمام جعفر الصادق، مثل ما عليه كثير من القبائل العراقية اليوم.
صفحة غير معروفة