المقدمة
الدولة العيلامية
الدولة الكيانية
انقراض الدولة الكيانية الفارسية
الدولة البرتية
الدولة الساسانية
الدولة البويهية الفارسية في العراق
الدولة الصفوية الأولى
الدولة الصفوية الثانية
الدولة الزندية
المأخذ
المقدمة
الدولة العيلامية
الدولة الكيانية
انقراض الدولة الكيانية الفارسية
الدولة البرتية
الدولة الساسانية
الدولة البويهية الفارسية في العراق
الدولة الصفوية الأولى
الدولة الصفوية الثانية
الدولة الزندية
المأخذ
تاريخ الدول الفارسية في العراق
تاريخ الدول الفارسية في العراق
تأليف
علي ظريف الأعظمي
المقدمة
لما كان المؤرخون - على اختلاف مللهم ونحلهم - لم يفردوا كتابا خاصا، يتضمن البحث عن الدول الفارسية التي حكمت العراق قرونا عديدة في أزمان مختلفة - قبل الميلاد وبعده - وكان تاريخ تلك الدول من أهم ما يحتاجه النشوء الجديد؛ بذلت قصارى جهدي للوصول إلى مجريات تلكم الشئون والوقوف على الحقائق الراهنة، وبعد البحث والتنقيب وتصفح الكتب التاريخية القديمة منها والحديثة، تيسر لي الاطلاع على ما كنت أبتغيه، فاقتطفت المهم من شذرات تلك الدول في قطرنا، وجئت بخلاصة ما وقفت عليه من المصادر الوثيقة التي عثرت عليها خدمة للتاريخ، راجيا من الأساتذة أن يرشدوني إلى الصواب إن وجدوا في هذا المختصر خطأ أو سهوا.
الدولة العيلامية
أو الدولة الفارسية الأولى
في العصور الواغلة في القدم كانت أمة من الفرس تعرف ب «الأمة العيلامية» أو «العيلاميين» تسكن في الإقليم المعروف الآن ب «خوزستان» المسمى قديما ب «بلاد عيلام»،
1
وكان لها يوم ذاك منزلة رفيعة بين أمم الشرق، وقد سماهم العرب ب «بني غليم»، وكانت مملكتهم محاطة ببلاد الكلدان وبلاد مادي «ميدية» وبلاد فارس، وتحتوي على عدة مدن أشهرها مدينة «شوشن» أو شوشان القديمة
2
عاصمة تلك المملكة، إلا أنها كانت أحيانا تتوسع، وأخرى تتقلص، وآونة تخضع لسيادة جارتها مملكة «أور» التي في جنوبي العراق.
ولمجاورتها لجنوب العراق كانت لها عدة روابط مع هذا القطر، ولكنها لم تكن لتطمع في جارتها القوية، حتى إذا ما ضعفت مملكة «أور» الشهيرة في التاريخ، وآنس العيلاميون في أنفسهم قوة، طمعوا بأرضها الخصبة الكثيرة الخيرات، فحملوا عليها في القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد، وبعد حروب جرت بين الأمتين استولى العيلاميون على مملكة «أور»، ودخلوا عاصمتها «أور»، وأسروا ملكها أبي سين «إيبي سبين» بن جمبل سبين آخر ملوك السلالة الثالثة
3
لملوك «أور»، وساقوه أسيرا إلى عاصمتهم «شوشن»، واستولوا على جميع مدن تلك المملكة وقرضوها بعد أن كانت مستقلة في جنوبي العراق أو صقع شمر «سومير»، ولها سطوة كبيرة وسيادة مبسوطة، وكان لعاصمتها مدينة «أور» حينذاك منزلة رفيعة عند العراقيين؛ لعظم مركزها الديني، بل إنها كانت معهدا للدين ومهدا للتجارة ومركزا للصنايع والفنون، وفيها هيكل «أنون ماخ» المرصود للإله القمر ورفيقته، الذي خرب في هذه الحادثة.
استولى العيلاميون على جنوبي العراق أو على مملكة «أور الكلدانيين» بعد حروب دامت بينهم وبين الكلدانيين في الوقت الذي كان فيه العراق منقسما إلى قسمين: القسم الجنوبي المسمى ب «مملكة أور» أو ب «بلاد الكلدان» أو «كلدو»، والقسم الشمالي المعروف ب «مملكة بابل» أو ب «بلاد بابل»، وكان كل قسم مستقل بنفسه، غير أن الجنوبي كان قد فاق الشمالي بالمدنية والعمران، واشتهر بالتجارة والزراعة والفنون.
وبعد أن تم أمر تلك الأمة الفارسية في الجنوب حاولت الاستيلاء على الشمال، ولكنها عادت بالفشل بعد أن تمكنت بهجماتها من دخول مدينة أوروق «الوركاء»، التي هي من البلاد الشمالية أو من مملكة «بابل» الراضخة لحكم السلالة السامية أو الدولة البابلية الأولى التي أسسها ساموابي سنة 2416ق.م - ويروى سنة 2460 - ونهبت كنوزها وآثارها، من جملتها تمثال الإلهة «نانا» شفيعة مدينة «أوروق»، وأرسلت الجميع إلى «شوشن»، وأودعت هذا التمثال في هيكلها.
بقي جنوبي العراق في قبضة تلك الأمة الفارسية حتى قام سادس ملوك الدولة البابلية الأولى أو الدولة السامية الملك الجليل حمورابي (2287-2232ق.م)، فحمل عليهم بجنوده وطردهم من هذا القطر، ولم يكتف بذلك بل إنه طاردهم حتى دخل عاصمتهم «شوشن»، ولم يعد إلى مقره إلا بعد أن أخضع تلك الأمة لسيادته، وأرجع تمثال الإلهة «نانا» إلى هيكل مدينة «أوروق».
4
هذا ما وقفنا عليه من بين الأبحاث التاريخية الحديثة المستندة إلى الآثار المستخرجة من مواقع المدن العراقية القديمة، غير أن المؤرخين قد اختلفوا في السنة التي استولى العيلاميون فيها على مملكة «أور»؛ فمن قائل إنهم قرضوا السلالة الثالثة التي نشأت حوالي الألف الثالث قبل الميلاد التي أسسها الملك أورانكور، وأسروا آخر ملك من تلك السلالة الملك أبي سين سنة 2150ق.م، ومن قائل إن هذه الحادثة وقعت سنة 2300ق.م، ويزعم بعضهم أنهم قرضوا تلك المملكة سنة 2285ق.م، ويقول آخرون: كانت هذه الغارة سنة 2295ق.م.
كذلك اختلفوا في اسم الملك العيلامي الذي قاد تلك الحملة؛ فبعضهم يقول إنه الملك كوتارناحونتا،
5
ويزعم بعضهم أنه الملك ريمسين.
أما الذي يظهر من سير الحوادث التاريخية، فهو أرجحية قول القائل بأنهم قرضوا تلك المملكة «مملكة أور» سنة 2295ق.م، وأن من جملة الملوك العيلاميين الذين حكموا ذلك الصقع كوتارنا حونتا وريمسين ونبورياس.
ولم تحكم الدولة العيلامية جنوبي العراق غير مدة وجيزة، فطردهم الملك حمورابي عندما قويت شوكته وملك العراق كله، ولم يقف عند ذلك الحد، بل إنه أخضعهم لسيادته - كما تقدم - وليست هذه المرة الأولى التي خضع فيها العيلاميون لملوك العراق، بل إنهم خضعوا مرارا لسيادة ملوك هذا القطر في أزمان مختلفة؛ من ذلك أن الملك سرجون الأكدي السامي الذي ملك سنة 2872ق.م، كان قد أدخلهم تحت سيادته، وأن الملك أناتوم الذي ملك سنة 3900ق.م
6
حاربهم وأخضعهم لحكمه.
7 (1) بين العهدين
بعد أن اعتز العراق دهرا طويلا في عهد الدولة البابلية الأولى التي جمعت شمله ووحدت كلمته وأعلت شأنه، انعكس الأمر عند سقوط تلك الدولة واضطربت شئون العراق وأصبحت البلاد منقسمة على نفسها؛ أي صارت عدة ممالك أو دول صغيرة عديدة كل دولة قائمة بنفسها، وكثيرا ما كانت البلاد تنتقل من سلالة إلى أخرى ومن بيت إلى آخر، ثم اشتد الخلاف بين أهل البلاد وطمع بهم أعداؤهم، فعاد العيلاميون إلى طمعهم في جارتهم وأعلنوا الحرب عدة مرات على أهل هذا القطر، وشنوا الغارة على المدن العراقية في أزمان مختلفة، ونهبوا بعض المدن وفتكوا بأهلها ، ومن تلك المدن «نبور» و«أوروق»، ومن ملوكهم الذين أغاروا على العراق الملك شتروك ناخونتا، فإنه شن الغارة على هذا القطر سنة 1190ق.م، وغنم غنائم نفيسة من البلاد، من جملتها شريعة حمورابي؛ فإنه نقلها إلى عاصمته «شوشن»، وكثيرا ما كان العيلاميون يتفقون مع بعض تلك الدول الصغيرة ويعضدون ملوكها، خصوصا الممالك التي في جنوب العراق القريبة منهم، وكانوا في بعض الأحيان يتدخلون في الأمور المهمة المتعلقة بالملوك، ويجلسون على عروش الممالك من يوافق على مصالحهم ومنافعهم، أو من يعقد معهم اتفاقية يرضونها.
ولما استحكم الشقاق بين أهل البلاد واختلفت كلمتهم، حمل عليهم الآشوريون
8
وأخضعوهم لسيادتهم، وظلوا تحت سيطرتهم قرونا جرت في خلالها حوادث خطيرة وانقلابات غريبة، حتى قامت الدولة البابلية الثانية التي أسسها نيو بلاصر ودامت (611-538ق.م)، فلمت شعث البلاد، وعاد العز والإقبال إلى هذا القطر وعلا شأنه في عهد الملك نبوكد نصر - بختنصر الثاني - غير أن شمس ذلك العز أفلت بظهور كورش الفارسي الذي قرض تلك الدولة بعد أن عاشت 73 سنة تقريبا.
الدولة الكيانية
أو الدولة الفارسية الثانية للعراق (538-331ق.م)
في أواسط القرن السادس قبل الميلاد (سنة 552 أو سنة 550)، ظهر أرمركورش الثاني الملقب بكورش الأكبر ابن قنبوسيا، فنهض بقومه الفرس وأخضع الميديين
1
والعيلاميين بعد أن دانت له فارس، فتوج ملكا وأصبح إمبراطورا على هذه الأقاليم الثلاثة: «فارس» و«ميدية» و«عيلام»، وأسس دولة الكيانين المشهورة، وعلى أثر ذلك تحالفت مملكة «بابل» و«مصر» و«لديا»
2
على هذا الفاتح، فلم يغن تلك الممالك ذلك التحالف الثلاثي؛ لأن كورش حمل بجيوشه الفارسية على الليديين أولا وقرض دولتهم سنة 546ق.م، وتوغل في آسيا الصغرى وضم إلى مملكته بلاد مستعمرة الإغريق التي كانت على شواطئ آسيا الصغرى، ثم فتح «بخارى» و«مرو» و«ديار الأفغان» و«بلوبحستاك»، ثم حول نظره إلى مملكة «بابل» فحمل عليها سنة 538ق.م بجيش جرار، فخرج للدفاع بلطشاصر ابن الملك البابلي بنو ناهيد، وبعد عدة معارك انكسرت في جميعها الجنود البابلية.
وقع بلطشاصر قتيلا في المعركة الأخيرة، وانهزمت جيوشه وتحصنت في عاصمة الملك مدينة بابل، فألقى الحصار عليها كورش بعد أن استولى في طريقه على عدة مدن، وبعد حصار طويل دافع في خلاله البابليون دفاع الأبطال، استولى كورش على «بابل» عنوة، وأسر الملك نبوناهيد وأهله وساقهم إلى «كرمان».
3
وعلى إثر سقوط مدينة «بابل» عاصمة «العراق»، سلمت جميع المدن العراقية لكورش في السنة نفسها (سنة 538ق.م)، وانقرضت الدولة البابلية الثانية أو المملكة الكلدانية على يد هذا الفاتح، بعد أن دامت 73 سنة كما تقدم. (1) كورش والبابليون
دخل كورش مدينة «بابل» - كما يقول المؤرخون - دخول منقذ مصلح، فلاقاه أهلها بالتهليل والتصفيق - شأنهم مع كل فاتح - واستقبلوه بالترحيب والسرور، وتلك عادتهم مع كل قوي؛ فأظهر لهم الولاء والرقة والرأفة، وجاملهم وعطف عليهم ووالاهم وسايرهم، وبالغ في احترام دياناتهم وعاداتهم وأميالهم، وأطلق لهم الحرية التامة في العلم والعمل والدين، وأبقى قوانين البلاد وشرائعها على حالها، واقتدى بملوكهم الأولين؛ فدخل هيكل الإله «بيل» ومسك بيده وقرب للآلهة القرابين، وقدم لهم التحف.
4
واتخذ لقب ملك بابل لنفسه، وعمل كل ما من شأنه أن يجذب إليه قلوب البابليين، ولم يخرب شيئا من بلادهم؛ لذلك لم يسقط من مدن العراق شيء، وبقيت مدنه جميعها زاهرة عامرة، من جملتها مدينة «أور» فإنها كانت في عهده عامرة زاهرة، ولكنها كانت حينذاك من أصغر المدن العراقية، ومع ذلك فإن كورش سعى لتجديد بعض هياكلها، وقام بعمل في سبيل خدمة هيكل الإله القمر - إله أور - وقد وجد النقابون أخيرا في أطلال هذه المدينة سنة 1923م آجرة كتب عليها اسم هذا الفاتح، استدلوا منها على أنه عمر وجدد هذا الهيكل، ويقول بعض المؤرخين إنه جدد عدة هياكل كانت في مدن العراق، وأرجع كلا إلى موضعه من تماثيل الآلهة التي كان قد جمعها في مدينة «بابل» الملك نبونا هيد من المدن العراقية أثناء الحرب لتنصره على كورش.
ولم يشتهر كورش بسياسته الرشيدة ومراعاته عواطف الشعوب واحترامه لدياناتهم وعاداتهم وأميالهم فحسب، بل إنه اشتهر بتنشيط التجارة وتوسيع الزراعة، كما اشتهر بالفتوحات والانتصارات؛ لذلك تمتع العراقيون في عهده بالحرية التامة، وكثرت ثروة بلادهم، واتسع نطاق الزراعة في أرضهم، بما حفره هذا الملك من الترع والأنهار، وما بثه من العدل والأمن في أنحاء البلاد؛ ومن أجل ذلك أحبوه كثيرا حتى إن أكثرهم تجندوا وقاتلوا في الحروب تحت رايته، مع إن سكان البلاد كانوا حينذاك قد قل عددهم على ما يقوله بعض المؤرخين.
وبعد أن تم أمر كورش في العراق أناب عنه نائبا فيها أحد قواده، وضرب عليها خراجا معلوما - ضريبة سنوية - وسار بجيوشه قاصدا فتح سورية، فافتتحها ثم افتتح فلسطين سنة 536ق.م، وعلى إثر فتحه فلسطين أصدر أمرا بإطلاق حرية اليهود المأسورين في «بابل» من عهد الملك بختنصر، وأذن لهم بالرجوع إلى وطنهم «أورشليم» وفي بناء الهيكل، بعد أن داموا بالأسر أعواما ذاقوا فيها أنواع المصائب وضروب النوائب، وولى على فلسطين زربابل أحد أحفاد يهوياكيم، ولقبه بلقب «بها»؛ أي الحاكم بالفارسية، فسار من العراق نحو الستين ألفا منهم إلى وطنهم، واختارت جماعة كبيرة منهم السكنى في العراق.
ومات كورش
5
ذلك الفاتح العظيم والسياسي الكبير 529ق.م، بعد أن أسس الدولة الكيانية الفارسية العظيمة، وأعلى شأن الفرس وترك لأعقابه مملكة تضم بلادا كثيرة وإمارات جسيمة، وتمتد من شواطئ البسفور غربا إلى نهر السند شرقا، وكان سبب موته أنه أراد تدويخ قلب آسيا، فجرح في معركة في محل قريب من أحد ضفتي سرداريا - نهر سيحون الذي يسميه الأقدمون يكسرتس - ومات من أثر ذلك الجرح بعد أن حكم 29 سنة. (2) ثورة البابليين الأولى
تولى عرش الدولة الكيانية بعد كورش ابنه الأكبر قمبيز
6 (529-521ق.م)، وكان سلوكه كسلوك أبيه مع البابليين، ومن أجل ذلك أحبوه كما أحبوا أباه قبله واحترموه، ولم يحدث في أيامه بالعراق ما يكدر جو السياسة، أو ما يخل بنظام البلاد وإدارتها.
فلما مات قنبيز حين عودته من مصر قاصدا بلاد «مادي» التي أجلست على سريرها برديا،
7
اضطربت شئون الدولة الفارسية وطمع بها أمراؤها، وكثرت فيها الفتن الداخلية، فاغتنم البابليون فرصة ذلك الانقلاب فثاروا على الفرس الذين في بلادهم فقتلوهم وأعلنوا الاستقلال، وملكوا عليهم أحد أعقاب الملك نبونا هيد المدعو ندين توبيل - ندين تابل - وأجلسوه على سرير «بابل»، فلقب هذا الملك نفسه «نيوكد نصر الثالث»، وأعلن الاستقلال التام واستعد للدفاع عن بلاده، غير أن ذلك الاستقلال التام لم يدم غير سنتين تقريبا (521-519ق.م)؛ لأن الفرس اجتمعت كلمتهم على دارا الأول (521-485ق.م)، فقمع الفتن الداخلية وردع الأمراء الطامعين بالملك، واستتب أمره في البلاد، ثم زحف على بلاد بابل بجيوشه الفارسية.
دارا الأول
حمل دارا على «بابل» فخرج لملاقاته ملكها ندين توبيل بجيوشه العراقية، والتقى الملكان بالقرب من «دجلة» في أراضي «آشورية»، فانكسر الجيش العراقي واضطر إلى الانسحاب، فعبر «دجلة» ونزل على ساحل «الفرات»، فلحقه دارا، وهناك حدثت حرب شديدة انخذل في آخرها البابليون، وانهزموا إلى عاصمتهم مدينة «بابل» وتحصنوا فيها، أما دارا فإنه جد بالمسير بعد ذلك النصر حتى ألقى الحصار على مدينة «بابل»، فدافع ملكها ومن معه دفاع المستميت أياما حتى عجزوا عن مقاومة الفرس؛ لكثرة عددهم وعددهم، فسقطت عاصمتهم سنة «519ق.م» ودخلها دارا ظافرا، وقتل ملكها ندين توبيل الملقب نبوكد نصر الثالث، الذي لم يملك غير سنتين تقريبا قضاهما في إعداد المعدات الحربية دفاعا عن حقه الصريح، وحفظا لاستقلال بلاده.
سقطت «بابل» فسلمت جميع المدن العراقية لدارا، وخضع الحضر والبدو له، وبعد أن نظم شئون البلاد ولى عليها حاكما عاما أحد قواده المسمى زوبيروس - زبورا - وعاد إلى مقره، ورجعت الأمور كما كانت في عهد كورش، واشتغل العراقيون بالتجارة والزراعة، وزادت ثروة بلادهم وعاشوا في بحبوحة الأمن والسعادة تحت راية دارا الأول المشهور بالعدل وحب العمران، والولوع في كل ما يرقي التجارة وينشط الزراعة ويجلب الخير والسعادة إلى رعاياه. (3) ثورة البابليين الثانية
مات دارا الأول فتولى عرش الفرس ابنه سرخس الأول (485-465ق.م)، فخضع لسلطانه البابليون بادئ بدء، ثم ثاروا عليه سنة 481ق.م، وقتلوا حاكمهم الفارسي زوبيرس الذي ولاه دارا وأعلنوا الاستقلال - غير أننا لم يصلنا سبب ثورتهم هذه، ولا اسم الملك الذي أجلسوه على عرش مملكتهم - فجهز لهم سرخس جيشا كثيفا بقيادة مغابيروس - مكامبيز - بن زوربيروس المقتول، فحمل عليهم هذا القائد ، وبعد حروب انتصر عليهم واستولى على عاصمتهم مدينة «بابل» وفتك بأهلها فتكا ذريعا، ونهب هيكل الآلهة، وأمر بهدمه، وقتل رئيس كهنته، وحمل خزائنه وتماثيله إلى خزائن «سرخس»، وأسر عددا كبيرا من ذوي الوجاهة والثروة والشرف، واستعمل منتهى الشدة والعنف، واضطهد أهل البلاد فخضعوا للقوة وظلوا خاضعين بعد تلك النكبة للفرس، ولم تبد منهم أدنى حركة أو ثورة في عهد هذا الملك،
8
وعهد خلفائه أردشير الأول (465-424)،
9
وسرخس الثاني
10 (424-423)، ودارا الثاني
11 (423-405)، وأردشير الثاني الملقب منه مون (405-358) الذي قاتله أخوه كيخسرو على الملك بمساعدة اليونان ففشلوا وعادوا إلى بلادهم، وسميت رجعتهم رجعة الاثني عشر ألفا،
12
وأردشير الثالث (358-338)،
13
ودارا الثالث (338-331ق.م) الذي سماه بعضهم «قودومان»، ولم تحركهم الاضطرابات الداخلية ولا ضعف الدولة الفارسية، خصوصا في عهد الملك الأخير دارا الثالث الذي تبوأ عرش المملكة في وقت كانت فيه الدولة الفارسية ضعيفة جدا؛ من توالي الاضطرابات والفتن فيها.
انقراض الدولة الكيانية الفارسية
وقيام الدولة اليونانية
لم يتخلص العراقيون من الاستعمار الفارسي حتى حمل الإسكندر المقدوني على مملكة الفرس في عهد دارا الثالث، الذي جلس على سرير الملك في الوقت الذي كانت فيه الدولة الفارسية في اضطراب مستمر، فزادها هذا الملك ضعفا واضطرابا لعدم كفاءته وقلة تجاربه، فانقرضت تلك الدولة العظيمة على يد بطل اليونان الإسكندر بعد ثلاثة وقائع مشهورة: الأولى وقعة الغرانيق التي حدثت سنة 334ق.م، والثانية وقعة أسوس
1
التي جرت سنة 333ق.م، والثالثة معركة أربيلا
2
التي وقعت 331ق.م، وهي التي قضت على تلك الدولة وقرضتها من العراق بعد أن فتح الإسكندر من الفرس جميع ما كان لهم من البلاد والمستعمرات، عدا بلاد فارس التي استولى عليها بعد فتح العراق، ومحى تلك الدولة من عالم الوجود.
بعد أن انقرضت الدولة الكيانية الفارسية العظيمة المجد المترامية الأطراف على يد الإسكندر، وتم الأمر في العراق لليونان بعد وقعة أربيلا ، ثم دانت لهم بلاد فارس بعد قتل دارا الثالث؛ بقي العراق تحت حكم الإسكندر، ثم انتقل إلى خلفائه السلوقيين، وكانت مدة حكم اليونان في العراق 205 سنوات 331-126ق.م، وذلك منذ أن افتتحه الإسكندر إلى انقراض الدولة السلوقية اليونانية على يد البرتيين الفرس. (1) تتمة لما سبق
كانت بلاد العراق - مملكة بابل - في عهد الدولة الكيانية مربوطة بإتاوة تدفعها للدولة الفارسية كغيرها من الولايات، وكان لها حاكم عام مطلق يدير دفة السياسة والإدارة والحرب معا، ويولي العمال على المدن، وكان لكل مدينة مجلس قضائي يسير على ما جاءت به شريعة البلاد؛ لأن هذه الدولة كانت قد أبقت قوانين البلاد وشرائعها وعاداتها على حالها، وكانت في الغالب تولي على الإيالات رجالا من العائلة المالكة وتخول لهم السلطة التامة، وكان الحاكم الذي يتولى إحدى الأقاليم يسمى ساتراب، وفي رواية أنها كانت قد جعلت في كل ولاية ومدينة هيئة عدلية مؤلفة من جماعة أكثرهم من كهنة الفرس.
أما الدين الرسمي للدولة الكيانية فهو دين زردشت أو زورواستر أو زرادشت الذي ظهر في الفرس بين القرن العاشر والسابع قبل الميلاد، وادعى النبوة وأنه مرسل من الله، وأنه جاء من عنده بكتاب سماوي. وقد جاء زردشت بقوانين دينية ونظامات سياسية ومدنية، ووضع لقومه كتابا سمي «الزاندافستا» ضمنه جميع تعاليمه وإرشاداته الدينية، وعلى توالي الأعوام أصبحت شريعته رسمية في بلاد فارس، وترك الفرس ديانتهم القديمة التي كانوا عليها منذ العصور الواغلة في القدم؛ وهي عبادة القوى الطبيعية المختلفة وخاصة الشمس. ولا يسعنا هنا ذكر ما جاءت به شريعة زردشت، وما يعتقده أتباعها، وما حدث عليها أخيرا من التغيير والتحرير والتحريف، غير أن هذا الدين لم ينتشر في العراق أيام الكيانيين؛ لأنهم لم يجبروا أحدا على اعتناقه؛ ولذا لم يعتنقه أحد من أهل هذا القطر، وظل منحصرا في الجالية الفارسية التي استوطنت البلاد، حتى جاءت الدولة اليونانية، ثم الدولة البرتية، ثم الساسانية، فكثر أتباع هذا الدين من الفرس لتوالي الدول الفارسية على هذه البلاد، فلما جاء العرب المسلمون قرضوه بالتدريج كما قرضوا البقية الباقية من ديانة البابليين «الوثنية» التي قرضتها النصرانية تقريبا قبل الفتح الإسلامي.
الدولة البرتية
أو الدولة الفارسية الثالثة في العراق 126ق.م-226 بعد الميلاد
عندما ضعفت الدولة السلوقية اليونانية التي قامت على أنقاض دولة الإسكندر الذي قرض الدولة الكيانية، اغتنم البرتيون
1
فرصة ضعفها، فنهض فيهم زعيمهم أرشك - أيشك، أرشاق - فاجتاح بقومه بلاد البرتيين سنة 250ق.م، وخرج على السلوقيين، ثم أعلن استقلاله سنة 248ق.م وأسس الدولة البرتية.
2
ومات أرشك في السنة التي أعلن استقلاله فيها،
3
وظل أعقابه يوسعون مملكتهم بما كانوا يفتحونه من بلاد الدولة السلوقية حتى أصبحت دولتهم واسعة الأطراف، ثم حملوا على العراق سنة 143ق.م، وبعد حروب استمرت أعواما بين الأمتين «البرتيون واليونان»، وجلبت على أهل هذا القطر الذي صار ميدانا لتلك الحروب حينذاك أنواع النوائب، ثم تم أمر البرتيين في العراق سنة 126ق.م في عهد ملكهم مهرداد السادس (175-126ق.م)،
4
واتخذوا مدينة «سلوقية» التي بناها سلوقس الأول اليوناني على الضفة اليمنى من «دجلة» عاصمة لهم، بعد أن فتكوا بأهلها لتحزبهم للسلوقيين، ثم ابتنوا مدينة تجاه «سلوقية» على الضفة اليسرى من «دجلة» وسموها «قطيسفون»، وجعلوها عاصمة لهم بدلا من سلوقية، فسمى العرب هذه المدينة «طيسفون»، وسماها اليونان «أكتسيفون». (1) شكل حكومة البرتيين
كان نظام الدولة البرتية يختلف باختلاف الأقوام والأقاليم، وكانت تنقسم إلى ممالك صغيرة أو مقاطعات مستقلة، ولكل واحدة منها ملك يحكم عليها ويخضع للملك البرتي المقيم في «أكتسيفون»، فهي والحالة هذه أشبه بالولايات المتحدة، ومن تلك الممالك الصغيرة التي كانت في «العراق» إمارة «ميشان» التي كانت في موقع البصرة، وإمارة «حطارا» التي كانت قرب «تكريت»، وإمارة «حدياب» التي كانت في أرض الموصل وما يجاورها، أي بين الزابين وتمتد إلى الشرقات وإلى نصيبين وقاعدتها أربيل، وإمارة «الحيرة» المشهورة التي كانت في موقع أبي صخير، وهي حكومة عربية أسسها مالك بن فهم التنوخي سنة 138م. (2) العراق في عهد البرتيين
بعد أن تم أمر الدولة البرتية في بلاد «بابل»، أطلقوا لأهلها الحرية التامة في كل شيء، وأبقوا قوانين البلاد وشرائعها على ما كانت عليه قبلا، ولم يتعرضوا بديانات أهل البلاد ولا بعاداتهم وعوائدهم، ومنحوا لبعض المدن استقلالا إداريا، ولبعضها استقلالا إداريا وسياسيا، فكان في عهدهم لكل مدينة استقلال بلدي وحق في انتخاب القضاة والمجلس الإداري، كما كان في مدن الأقطار الأخرى التي تحت حكمهم، إلا أنهم جعلوا على العراق حاكما عاما فارسيا يدير شئون تلك المدن المهمة تحت إشراف الملك البرتي المقيم في «أكتسيفون»، وفرضوا على كل مدينة ضريبة سنوية تؤديها للحكومة، وبذلك تمتع العراقيون في أكثر عهد هذه الدولة بالحرية التامة، وعمرت بلادهم وكثرت ثروتهم، خصوصا وأن البلاد كانت هادئة لم يحدث فيها حرب دينية أو فتن مذهبية، إلا ما كان يحدث أحيانا بين أهل البلاد وبين اليهود من الفتن بسبب الاختلاف الديني، مما لا علاقة له برجال الدولة؛ لأن البرتيين لم يكن عندهم فرق بين دين وآخر، ولا تعصب لدين من الأديان حتى دينهم الرزدشتي الذي كانوا عليه؛ وما كان يحدث بين هؤلاء الملوك وملوك «سورية» في الحروب التي كاد يتطاير بعض شررها على أبناء الرافدين. (3) الحروب بين البرتيين وملوك سورية
لما تم أمر البرتيين في العراق وأسسوا دولة كبيرة تضم عدة أقاليم، حاولوا التسلط على سورية - كما حاول السلوقيون ملوك سورية الذين طردوا من العراق إرجاعه إليهم - فسببت تلك المطامع حروبا دامت أعواما طوالا خسرت فيها الدولتان خسائر فادحة، وأصيب بسببها أبناء الرافدين ببعض النوائب.
فلما انقضى عهد السلوقيين من سورية سنة 64ق.م وقام فيها الرومانيون، طمعوا في العراق كما طمع البرتيون في سورية، فامتدت من أجل ذلك بينهم الحروب وأكثرها كانت تقع فيما بين النهرين، ولكنها كانت في أول الأمر سجالا بين الأمتين، ثم صار النصر حليف الرومانيين
5
وحمل طريانوس الإمبراطور الروماني سنة 114م بجيش كبير على البرتيين في أيام الملك خسرو الذي سماه بعضهم أرشاق الرابع والعشرين، فانتصروا عليهم، وتوغل الإمبراطور في بلادهم حتى استولى على سواحل «دجلة» من جبال «أرمينيا» إلى «خليج فارس» سنة 115م، واستولى على مدينة «سلوقية» و«أكتسيفون» وغيرها من مدن العراق، وزعزع أركان الدولة البرتية وكاد يقضي عليها، إلا أن الملك البرتي خسرو تمكن أخيرا من جمع جيوشه المتفرقة، وحمل على الرومانيين وأخرجهم من بلاده فعادوا بالفشل.
6
ولم تمض أعوام قليلة حتى عادت الحرب بين الدولتين سنة 164م، فانتصر الروم أيضا وتوغلوا في «العراق» وحاصروا عاصمة الملك «أكتسيفون» سنة 165م، ولم يرجعوا عنها حتى عقدوا صلحا يرضيهم، فلما دخلت سنة 195م عادت الحرب فاندحر البرتيون وتقدم الرومانيون وتوغلوا في «العراق»، وتمكنوا من الاستيلاء حربا على «أكتسيفون» فنهبوها.
وظل البرتيون تارة ينتصرون على الروم وأخرى يندحرون أمامهم، وآونة يعقدون الصلح معهم، حتى انقضت أكثر مدتهم في نزاع وحروب، هذا عدا ما كان يحدث أحيانا من الفتن الداخلية التي كانت تقوم تارة بين الأسرة المالكة لتنازعهم على الملك، وأخرى من الشعب فيختل النظام وتضطرب أمور المملكة، ويؤدي ذلك إلى خلع الملك أو قتله، وأحيانا كان الرومانيون يتدخلون في شئون الدولة بسبب تلك الفتن المتوالية حتى تحكم الضعف فيها واختل نظامها، وأخذت تنحط عاما فعاما، وزالت هيبتها وطمع بها أعداؤها، وكان آخر ملوكها أردوان الرابع (216-226م).
7 (4) انقراض الدولة البرتية
جلس أردوان الرابع على العرش في الوقت الذي كانت فيه الدولة البرتية قد أنهكتها الحروب الخارجية - التي تقدم ذكرها - والفتن الداخلية التي بدأت منذ سنة 197م، تارة بين الأسرة وتارة يثيرها الشعب على ملوكها لضعف الدولة، حتى طمع بها أعداؤها، فزادت في عهده الفتن والاضطرابات، وكثرت المشاغب في الأسرة المالكة، فاغتنم الرومانيون فرصة تلك الاضطرابات المتوالية التي أنهكت الدولة، وحمل الإمبراطور الروماني قراقلا على ما بين النهرين سنة 216، ثم عقد خلفه مرقيانوس في سنة 217م صلحا مع أردوان هذا، ولكن الدولة البرتية لم تكد تستريح من الحروب الخارجية حتى ثار الفرس سنة 224م بزعامة أردشير بن بابك من آل ساسان،
8
الذي عزم على تأسيس دولته، ونهض بقومه من الهضاب التي في غربي «إيران»، فأخضع في مدة قصيرة جميع بلاد «فارس»، وتبعه خلق كثير من الفرس الميديين ، ثم حالف جماعة كبيرة من الملوك والأمراء الذين تحت سلطة البرتيين فانحازوا إليه، وعزم على محو تلك الدولة التي حكمتهم مدة خمسة أجيال، فهم أردوان الرابع بإخماد تلك الثورة بادئ بدء، فخابت مساعيه بعد عدة معارك دارت رحاها بينه وبين أردشير، فاندحرت جيوشه وأعلن أردشير ملوكيته المستقلة في «باخترا» وسمى نفسه ملكا.
وبعد حروب دامت نحو سنتين انتصر أردشير انتصارا باهرا، ومزق جيوش الدولة البرتية، وافتتح «العراق» وغيره من الأقطار التي تحت حكمهم، ودخل عاصمة الملك «أكتسيفون» سنة 226م، واستولى على جميع ما كان لتلك الدولة من المستملكات والبلاد والأموال، وانهزم الملك البرتي أردوان الرابع إلى جبال «أرمينيا» - وقيل قتل في المعركة الأخيرة
9 - فانقرضت دولة البرتيين التي أسسها «أرشك» بعد أن دامت 474 سنة (248 قبل الميلاد-226 بعد الميلاد)، وضمت مدن «إيران» الحديثة وأكثر بلاد الأفغان، وقسما كبيرا من «تركية آسيا»، وأقاليم متسعة من أملاك «روسيا» الحالية و«العراق» وبلاد «آشور» وبلاد «مادي» التي في ضمنها «كردستان»، وملكت في بعض الأحيان بلاد ما بين النهرين - الجزيرة - لأنها كانت تارة تكون للروم وتارة لهم، ولكنها لم تحكم «العراق» إلا نحو 352 سنة (126ق.م-226 بعد الميلاد)، وعدد ملوكهم الذين حكموا العراق 20 ملكا، أولهم مهرداد السادس وآخرهم أردوان الرابع،
10
وقد وجد الباحثون من النقابين في مدينة لاكاش - لجش - قصرا من بناء هؤلاء الملوك قد شيدوه فوق هيكل أنينو الذي كان مرصودا لإله المدينة.
11 (5) تتمة لما تقدم
لقد اختلفت أقوال المؤرخين في مدة هذه الدولة وعدد ملوكها منذ نشأت حتى انقراضها؛ فمن قائل إن مدتها كانت 397 سنة، ومن قائل إنها عاشت 481 سنة، ومن قائل إنها دامت 474 سنة، ويزعم بعضهم أن عدد ملوكها 31 ملكا، ويقول آخرون 30 ملكا، وإن الذين حكموا العراق منهم عشرون ملكا أولهم مهرداد السادس، وآخرهم أردوان الرابع، ويروي البعض أن عددهم 19 ملكا. وكذلك جاءت أسماء هؤلاء الملوك مختلفة جدا؛ فمنهم من يسمى أردوان باسم أرطبان، ومنهم من يذكر أولغاش بدلا من أردوان، ومنهم من لم يذكر اسم أحد من هؤلاء الملوك إلا في سياق ذكر حادثة حربية أو فتنة داخلية. وبينما نرى تواريخ الرومانيين تذكر أربعة ملوك سموا باسم أردوان، نرى تواريخ الفرس لا تذكر غير ملكين سميا بهذا الاسم، ونرى من جهة أخرى أن بعضهم يلقب كل ملك بلقب أرشاق، ويقول إن أولهم أرشاق الأول وآخرهم أرشاق الواحد والثلاثون.
12
ورأى بعض المؤرخين أن الذي تولى بعد أرشك الأول أشكان الأول، ثم أشكان الثاني، ثم شابور، ثم بهرام، ثم بلاش، ثم هرمز، ثم نرسي، ثم فيروز، ثم بلاش الثاني، ثم خسرو، ثم بلاشان، ثم أردوان، ثم خسرو الثاني، ثم بلاش الثالث، ثم كودرز، ثم نرسي الثاني، ثم كودرز الثاني، ثم أردوان الثاني، وبه انقرضت هذه الدولة.
ويقول آخر إن الذي تولى الأمر بعد أرشك أخوه تيرداد، ثم أردوان الأول، ثم أفراسياب، ثم فرهاد، ثم مهرداد الأول الذي قاتل السلوقيين وأخذ منهم بلاد «مادي» وبلاد «آشور» وبلاد «بابل»، وأسر الملك السلوقي ده مترئيوس في الحادثة التي وقعت على ساحل «الفرات» بعد حروب هائلة. ويروي لنا غيره أن أولهم أرشاق أو أرشك ثم تسيردات الأول، ثم أرشاق الثاني، ثم أبراهاباط، ثم أبراهاط الأول، ثم ميثريدات الأول، ثم أبراهاط الثاني، ثم أرطبان الأول، ثم ميثريدات الثاني، ثم أرطبان الثاني، ثم سيناطروق، ثم أبراهاط الثالث، ثم ميثريدات الثالث، ثم أورود، ثم أبراهاط الرابع، ثم أبراهاطاس، ثم أورود الثاني، ثم أونون، ثم أرطبان الثالث، ثم تيردات الثاني، ثم وردان، ثم كوتارز «أوكورتارسن»، ثم أوجودرز، ثم أولغاش الأول، ثم باقور، ثم خوسرو، ثم برثاتسباط، ثم أولغاش الثاني، ثم أولغاش الثالث، ثم أولغاش الرابع، ثم أرطبان الرابع. وذكر بعضهم أن الذي جلس على العرش بعد أرشك هو تيراد، ثم أردوان الأول، ثم أفراسياب، ثم فرهاد الأول، ثم مهرداد الأول، ثم فرهاد الثاني، ثم هرمز، ثم فرهاد الرابع - ولم يذكر الثالث - ثم فيروز، ثم خسرو، ثم بلاش الثالث - ولم يذكر بلاش الأول ولا الثاني - ثم أردوان الخامس - ولم يذكر غير الأول قبل هذا - وبه انقرضت هذه الدولة.
وخلاصة القول: إن المؤرخين لم يتمكنوا من ضبط أسماء ملوك هذه الدولة بصورة صحيحة، ولم يتوفقوا إلى معرفة تاريخها بالضبط؛ ولذلك تناقضت أقوالهم واختلفت أخبارهم، خصوصا وأن هذه الدولة لم تترك آثارا تاريخية حتى يتوصل الباحثون إلى ما يحتاجه التاريخ، ومع ذلك فإننا قدمنا في أبحاثنا ما هو الأرجح، وذكرنا في هذا البحث ما وصلنا عن المؤرخين، ولا بد من يوم نقف فيه على ضالتنا بواسطة ما يستخرجه النقابون من أطلال المدن القديمة، ولا سيما إذا حفروا أطلال «أكتسيفون» التي كانت عاصمة هذه الدولة.
13
الدولة الساسانية
أو الدولة الفارسية الرابعة في العراق 236-637م
بعد أن استولى أردشير بن بابك على «العراق» وقرض الدولة البرتية، وأسس الدولة الساسانية، أو دولة الأكاسرة الشهيرة في التاريخ؛ نظم إدارة البلاد العراقية وولى عليها الولاة، ولم يتعرض بديانة العراقيين ولا بعاداتهم، وأقر قوانين البلاد على حالها، ولكنه اضطهد اليهود من أجل مساعدتهم للبرتيين أثناء الحروب التي قامت بينه وبين البرتيين في العراق، وأقر على الحيرة وما يليها ملكا على العرب جذيمة الوضاح، الذي كان محالفا له قبل فتح العراق ثم خضع لسيادته، وبسبب خضوعه هذا هاجر كثير من العرب ولا سيما تنوخ التابعين لحكومة الحيرة، ونزلوا بادية الشام لأنهم أبوا الرضوخ للفرس.
وبقي العراق في هدوء حتى مات أردشير سنة 241م، بعد أن حكم خمس عشرة سنة (226-241)، ومن مبانيه في «العراق» مدينة «بهرسير»، بناها على «دجلة» تجاه «أكتسيفون» في الجانب الغربي، وعدة حصون وقلاع منها قلعة كبيرة بالقرب من موقع «البصرة» عدا ما حفره من الأنهار، وما جدده من المدن منها مدينة «سلوقية»، فإنه جدد بناءها فسميت بعد حين «أرداشير».
مات هذا الفاتح والدولة الساسانية التي أسسها في دورة التأسيس، ولم يفتح بعد العراق - بعد محو البرتيين والتغلب على مملكتهم - غير بلاد ما بين النهرين التي أعلن الحرب من أجلها على الروم في عهد القيصر ألكسندر سويروس، وأخذ منه جميع تلك البلاد، ثم وسع خلفاؤه الملك بفتوحات جديدة، حتى صارت هذه الدولة من أعظم دول الأرض في تلك الأزمنة.
وتولى بعد أردشير الأول ابنه شابور الأول (241-272م) الذي أدخل القسم الأعظم من جزيرة العرب تحت حماية الفرس، وبنى في «العراق» مدينة «تكريت» التي صارت بعد حين مركزا للبعاقبة النصارى، وظهر في أيامه ماني المشهور الذي ادعى النبوة في بلاد فارس، وشابور هذا هو الذي أسر ملك الروم والريانوس قيصر وأرسله أسيرا إلى «بابل»، بعد حروب شديدة استمرت أعواما بين الدولتين، ولكنه اندحر أخيرا أمام أذينة الثاني العربي ملك «تدمر» الخاضع لسيادة الرومانيين، حتى استرد منه باسم الرومانيين جميع بلاد الجزيرة، وظل يطارده حتى دخل «العراق» وحاصر مدينة «سلوقية» سنة 261م، ثم رجع بمن معه من جيوش العرب والروم؛ لاختلال حدث في المملكة الرومانية.
وتولى بعده ابنه هرمزد - هرمز - الأول سنة 272م، ثم بهرام الأول سنة 273م، وهو الذي قتل ماني وسعى في محو مذهبه من بلاد فارس، وأعلن الحرب على الروم، فانخذل أمامهم فطاردوه إلى «العراق» واستولوا على مدينتي «سلوقية» و«أكتسيفون»، ثم رجعوا إلى ما بين النهرين. وخلفه بهرام الثاني سنة 276م، ثم بهرام الثالث سنة 293م، فلم يملك غير أربعة أشهر، فتولى في السنة نفسها نرسي بن بهرام الثاني، وهو الذي حفر في العراق بنواحي الكوفة نهر النرس الذي يأخذ من الفرات،
1
وفي أيامه جعل نهر «الخابور» حدا فاصلا بين العراق والروم، أو بين المملكة الفارسية والمملكة الرومانية، وتولى بعده هرمزد الثاني (سنة 302-309م)، وفي كل هذه المدة لم يحدث في العراق اضطراب أو اختلال داخلي. (1) شابور الثاني والعرب العراقيون
تولى شابور الثاني بعد هرمزد الثاني سنة 309م، ولصغر سنه نصب الفرس وصيا عليه ليتولى شئون المملكة، فساءت الأحوال بادئ بدء وكثرت الاضطرابات في المملكة حتى طمع العرب فيها، وجاء منهم - زيادة على من في العراق منهم - عدة قبائل من البحرين وغيرها وعبروا خليج «فارس» وأخذوا يشنون الغارات على الأطراف، وأغارت قبيلة «إياد» على سواد «العراق» ونهبت وغنمت، وظل العرب أعواما - وخصوصا إياد - معادين للفرس والفرس لا يقاتلونهم. فلما بلغ شابور السادسة عشر وتسلم زمام المملكة بدأ بأعدائه القريبين منه، وهم العرب الذين في العراق، فتعمد أذاهم وإخراجهم من بلاده، وخصوصا قبيلة إياد التي قال فيه شاعرها:
على رغم سابور بن سابور أصبحت
قباب إياد حولها الخيل والنعم
فتمكن من الفتك بالعرب، فقتل من «إياد» ومن «تميم» عددا كبيرا، وشتتت جيوشه شمل العرب، ففر بعضهم إلى «الروم» وبعضهم إلى «البحرين» وغيرها، فطارد سابور من في «البحرين »، فقطع الخليج الفارسي وفتك في «البحرين» و«اليمامة» ببني تميم، ثم سار إلى «الأحساء» و«القطيف» وفتك بالعرب الذين هناك، ثم عاد وحمل على ديار بكر وربيعة فيما بين مملكة «الفرس» و«الروم»، وفتك بهم، وكان ينزع أكتاف رؤساء العرب الذين يظفر بهم فسموه «ذا الأكتاف»، ولم يكتف سابور بما أنزله بالعرب من الفتك العظيم في أكثر الجهات، بل إنه أصدر بعد تلك الحادثة أمرا بعدم دخول العرب في عاصمته بغير إذن منه، ومن دخلها بغير إذن يقتل، وبنى مدينة «الهفة» في طرف السواد في أنحاء «البطيحة» في «العراق»، وأسكن فيها من أسره من إياد، ونهى الفرس عن مخالطتهم،
2
فأراد العرب الذي فروا إلى «الروم» أن ينتقموا منه، فاتفقوا مع الروم في عهد الملك قسطنطين الأكبر وزحفوا معهم على الجزيرة، فاتسع الخرق على الفرس وجرت بين سابور وبين الروم عدة وقائع، انهزم في آخرها الفرس، فطاردهم الروم والعرب حتى استولوا على «أكتسيفون» وغنموا ما فيها، فاضطر الملك الفارسي إلى تأليف جيش جديد فتمكن من استرداد «أكتسيفون»، وظل يقاتل المهاجمين حتى أخرجهم من «العراق» وطاردهم فحالفه النصر حتى اضطر الروم إلى مصالحته وإرجاع مدينة «نصيبين» له، ولما تولى عرش الروم يوليانوس حمل على الفرس سنة 363م، وعبر نهر دجلة وتوغل في البلاد حتى اقترب من «أكتسيفون» فلقيته جيوش شابور، وبعد معارك هائلة انكسرت الجيوش الرومانية وقتل ملكها.
ولم يكن اضطهاد شابور قاصرا على عرب البادية، بل شمل سكان المدن منهم، وهم النصارى الذين كانوا منتشرين في المدن العراقية، فإنه قتل كثيرا منهم، وأصدر أمرا بمضاعفة الجزية السنوية التي عليهم، وذلك سنة 339م، وأردفه بأمر آخر بعد سنة قضى بهدم الكنائس ثم قتل جماعة من الأساقفة، والذي حمله على ذلك انتشار الدين المسيحي في عهده في «العراق» انتشارا هائلا بين الحضر والبدو من العرب، وتحزب النصارى وتحسبهم لقياصرة الروم الذين من مذهبهم، لا سيما في عهد القيصر قسطنطين الكبير؛ ولذلك بلغ الاضطهاد أشده في أيامه، وهو أول من اضطهد النصارى من الملوك الساسانيين، وهو الذي بنى مدينة «آلوس» الواقعة في جزيرة صغيرة في وسط «الفرات» شرقي «حديثة»، وجعلها مسلحة تحفظ ما قرب من البادية، وهو الذي حفر خندقا في «برية الكوفة»، أي من «هيت» إلى «كاظمة» مما يلي موقع «البصرة» يشق طف البادية،
3
وينفذ إلى البحر، وجعل عليه القلاع والحصون ونظمه بالمسالح؛ ليكون ذلك مانعا لأهل البادية من السواد، أي ليمنع هجمات العرب،
4
وهو جدد بناء مدينة «الأنبار» التي كانت على «الفرات» في غربي موقع «بغداد» بينهما عشرة فراسخ، وهو الذي قرض دولة الضجاعمة العربية التضاعية، واستولى على مدينتها الحضر التي يسميها اليونان «أترا»، ويسميها بعضهم «حطار» الواقعة في الجزيرة في الجنوب الشرقي من «سنجار»، وهو الذي بنى القصر المشهور في مدينة «أكتسيفون»، وجعله دار الملك، وأنفق على بنائه أموالا طائلة.
5
وتولى بعده أخوه أردشير الثاني سنة 379م، ثم خلع سنة 383م وأجلس مكانه شابور الثالث، ثم بهرام الرابع سنة 388م، وفي أيامه أغار الهونيون على «أرمينيا» سنة 396م، ثم على ما بين النهرين وسورية، واستولوا على بلاد كثيرة، ثم حملوا على العراق حتى اقتربوا من «أكتسيفون»، فحمل عليهم بهرام هذا، وبعد عدة معارك انخذل الهونيون وتمزق جمعهم واسترد منهم بهرام السبايا الذين سبوهم من بلاد الروم، وكانوا نحو الثمانية عشر ألف نسمة، فأعاد بعضهم إلى بلادهم وأسكن بعضهم «العراق»، وذلك سنة 399م.
ثم تولى يزد جرد الأول الملقب بالأثيم سنة 399م، وكان يحب العرب ويكرمهم، وكان لملك «الحيرة» النعمان الأول عنده منزلة رفيعة، حتى إنه لما مرض ابنه بهرام أعطاه وهو طفل للنعمان ليربيه في الحيرة لطيب هوائها وعذوبة مائها، فرباه النعمان أحسن تربية وعلمه الكتابة والحكمة والرمي والفروسية وكل ما يلزم للملوك، وبنى له قصرا فخما وبقي عنده حتى مات أبوه. وفي عهده اضطهد الفرس النصارى، فاتخذ الروم ذلك الاضطهاد ذريعة للحرب، فتظاهروا بنصرة أبناء مذهبهم وأشهروا الحرب على الفرس، وبعد عدة وقائع اتفق الفريقان على الصلح، وأرسل ملك الروم أركاديوس وفدا إلى «العراق»، فنزل الوفد في البلاط الملوكي ب «أكتسيفون» فتم الصلح على شروط رضياها، من جملتها : رفع الاضطهاد عن النصارى الذين في المملكة الفارسية، وعقد يزد جرد معاهدة صلح لمائة سنة، وأزال الاضطهاد عن النصارى، وأذن لهم بتجديد الكنائس التي خربت في الاضطهادات، وأطلق لهم الحرية التامة.
وخلفه ابنه بهرام الخامس أو بهرام جور سنة 420م، وهو الذي رباه النعمان الأول ملك الحيرة وساعده على لبس التاج؛ لأن الفرس اختلفوا فيمن يملكون عليهم من أولاد يزدجرد الأول الذين ثارت بينهم الفتن عند موت أبيهم، فاستنجد بهرام بالنعمان، فجهز لنصرته جيشا كبيرا من العرب، وسار به إلى «أكتسيفون» وأجلس بهرام على كرسي المملكة، ومن أجل ذلك أحب هذا الملك العرب حبا جما، ورفع منزلة ملك الحيرة على سائر رجال دولته، فاعتلى شأن العرب في عهده.
وتولى بعده يزدجرد الثاني سنة 438م، ثم هرمزد الثالث سنة 457م، فنازعه أخوه الأكبر بيروزا أو فيروز على الملك واستنصر بالهياطلة،
6
فأمده ملكها بثلاثين ألف مقاتل، فحارب أخاه حتى استولى على العرش بعد أن قتل أخاه سنة 460م، فلما كانت سنة 484م قتل هذا الملك في حربه مع الروم، فخلفه بلاش باني مدينة «ساباط» بالقرب من «أكتسيفون»، فنازعه أخوه قباذ على الملك، ولكنه مات في أثناء ذلك، فصفى الجو لقباذ وجلس على العرش سنة 488م، وفي أيامه ظهر مزدك الشيوعي ونشر الشيوعية في بلاد فارس، وتبعه الملك قباذ وساعده على نشر مذهبه في المملكة الفارسية حتى كادت تسري الشيوعية إلى العراق، وأمر قباذ جميع الولاة والحكام والموظفين في خدمة الحكومة باتباع هذا المذهب، فاتبعه فريق منهم طوعا وآخرون كرها، وأبى اتباعه جماعة كبيرة منهم المنذر الثالث ملك «الحيرة»، فعزله قباذ وولى على «الحيرة» كندة الحارث بن عمرو عدو المنذر، فلما زاد تعصب قباذ للشيوعية اتفق عظماء الفرس على خلعه، فخلعوه وحبسوه سنة 499م، وأجلسوا مكانه أخاه زماسب - جامسب.
وبعد قليل فر قباذ من الحبس بمساعدة أخته، وسار ملتجئا بالهياطلة والبرابرة، وهناك استنجد بملكهم، فجهز له جيشا كبيرا وانضم إليه أتباع مزدك، فزحف قباذ على أخيه، وبعد حروب قهره وعاد إلى العرش ثانية سنة 498م، فلما عاد قباذ ورأى الفرس قد غضبوا عليه بسبب اتباعه لمذهب مزدك الشيوعي، تركه وتظاهر بالمجوسية، وهو الذي جعل الخراج بالمساحة في «العراق»، بعد أن كان أسلافه يأخذون الخراج بالمقاصمة، فضرب قباذ على الجريب الواحد من الأرض درهما وقفيزا، مهما يكن حاله من الخصب أو الجدب؛
7
فبلغت جباية «العراق» في أيامه مائة وخمسين مليون درهم في السنة، حيث كانت بلاد «العراق» حينذاك زاهية بالبساتين والحدائق والمزارع العظيمة والأنهار، خصوصا وأن هذا الملك كان قد نشط التجارة والزراعة، وحفر عدة أنهار في «العراق».
وتولى بعد قباذ ابنه كسرى أنو شروان العادل سنة 531م، فأصلح أمور الدولة ونظم جيوشها وعدل الشرائع التي وضعها أردشير الأول،
8
فزهت في أيامه المملكة الفارسية، وتقدم «العراق» نحو المدنية والعمران حتى أصبح حافلا بالعلماء من أهل البلاد الأصليين والفرس وغيرهم، ونبغ فيه جماعة من النصارى في الطب والفلسفة، وزادت ثروة أبناء الرافدين وسعدوا برقي بلادهم، فبلغت جباية «العراق» في عهده مائتين وسبعة وثمانين مليون درهم؛ لأن هذا الملك بذل جهده في إنماء ثروة البلاد، واجتهد كثيرا في تنشيط التجارة وتوسيع أمور الري والمعارف، ونشر العدل وبث الأمن، ورغب الناس في العلوم فانتشرت في أيامه الفلسفة اليونانية والعلوم المختلفة، وهو الذي حفر نهر «الفاطول» فوق «سامرا» المعروف ب «القاطول النكسروي»، الذي كان يأخذ من «دجلة» في الجانب الشرقي ويصب في «النهروان»، وحفر نهر «دن» بقرب «أكتسيفون»، وحفر غير هذا عدة أنهار وترع في «العراق»، وبنى مدينة بالقرب من «أكتسيفون» وهي مدينة «نطيخوسرو» أي أنطاكية الجديدة لأنها كانت على شكل أنطاكية الروم، فسمتها العرب «رومية المدائن»، وسماها الكلدان «ماحوزا حدثا»، أي القلعة الجديدة، وزاد في القصر الملوكي الذي أسسه شابور ذو الأكتاف ب «أكتسيفون» وأكثر من زخرفته، وأعاد المنذر الثالث ملك «الحيرة» إلى ملكه، وقتل مزدك وكثيرا من أتباعه، واجتهد في محو الشيوعية حتى أزالها من مملكته، وعدل قانون الجزية أي أنقصها عما كانت عليه أيام أسلافه ترفيها لرعاياه، واستثنى منها أهل البادية وهم عرب «العراق»، أي إن هذه الجزية أو الضريبة السنوية على أهل المدن فقط. ولما جاء الإسلام أراد عمر أن يجعلها على العرب أولا ثم عفى عنهم، فأصدر أمرا عاما ألزم به الرعية الجزية ما عدا العظماء وأهل البيوتات والجند والهرابذة والكتاب ومن بخدمة الملك، كل إنسان على قدره، فجعلها اثني عشر درهما، وثمانية دراهم، وستة دراهم، وأربعة دراهم، وعفى عمن كان عمره دون العشرين أو فوق الخمسين، وأمر أن يوضع عمن أصابت غلته جائحة - أضرار - بقدر حائجته، وبجمع الجباية في كل أربعة أشهر مرة واحدة، وبهذا التعديل خفف عن رعاياه، وفي أيامه غزت قبيلة إياد القوافل فحمل عليهم أنو شروان، وكانوا قرب مكان «الكوفة» ففتك بهم وطردهم من «العراق»، فهاجروا إلى الجزيرة، وعلى إثر ذلك جدد سور مدينة «آلوس»، ووضع فيها جنودا لصد هجمات القبائل العربية التي كانت تغير على ما قرب من السواد إلى البادية.
وجلس على سرير المملكة بعده هرمزد الرابع سنة 579م، ثم خلع على إثر فتنة قامت بينه وبين القائد العام بهرام، الذي انحازت إليه الجيوش كلها فأجلس الفرس على العرش ابنه أبرويز سنة 590م - كسرى برويز أو كسرى الثاني - حسما للنزاع وتسكينا للفتن والاضطرابات، فازداد القائد عتوا وطمع في العرش، فدارت رحى الحرب بينه وبين الملك أبرويز، وبعد عدة وقائع جرت بالنهروان في العراق، انتصر بهرام واستولى على «أكتسيفون» واغتصب العرش وأعلن نفسه ملكا، أما أبرويز فإنه فر بعد انكساره إلى «القسطنطينية» مستنجدا بالإمبراطور موريس «موريقي»، فأكرم وفادته وزوجه بابنته، ثم جهز له جيشا عرمرما وأمده بالأموال، فسار أبرويز بالجيش حتى اقترب من العراق فلاقاه بهرام، وبعد معارك هائلة دامت مدة انتصر أبرويز انتصارا باهرا، ومزق جيوش بهرام، وظل يطارده إلى «أذربيجان»، وهناك انتصر عليه انتصارا نهائيا، ففر بهرام إلى بلاد الترك، وعاد أبرويز إلى عرش الملك ودخل «أكتسيفون» باحتفال عظيم، بعد أن دامت الحروب بينه وبين بهرام أربع سنوات.
وعلى إثر هذا الفوز تنازل أبرويز للروم عن مدينتي «دارا» و«ميافارقين» اللتين أخذهما أبوه هرمزد منهم، وأرسل إلى الإمبراطور موريس هدايا نفيسة، وأجزل العطاء والصلات إلى قواد الروم الذين جاءوا لنصرته، وفرق الأموال في العساكر الرومية، فعادوا إلى مقرهم، وعقد أبرويز معاهدة الصلح مع الروم، وأصبحت الدولتان في وفاق ووداد، خصوصا وأن أبرويز أضحى صهر موريس، ولكنه ألغى تلك المعاهدة وأشهر الحرب على الروم سنة 602م، عندما خلعوا الإمبراطور موريس وقتلوه وأجلسوا مكانه «فوقا» على أثر فتنة أهلية حدثت في مملكتهم، فحمل عليهم أبرويز بجيوشه سنة 604م؛ أخذا بثار حميه مورس، ودامت الحروب بين الأمتين أعواما. وبعد أن توغل الفرس في مملكة الروم واستولوا على أكثر ممتلكاتها ومستعمراتها، وكادوا يفتحون «القسطنطينية» ويقضون على تلك المملكة، انعكس الأمر عندما تولى هراقليوس عرش الروم، وأخذوا يستردون من الفرس مدينة بعد أخرى، وظل الفرس يتقهقرون والروم يتقدمون حتى اقترب هراقليوس بجيوشه من «نينوي»، وهناك دارت رحى حرب طاحنة دارت بها الدائرة على الفرس، واستولى الروم على «نينوي» سنة 627م، ثم على «كركوك»، ثم تقدموا نحو «العراق» حتى وصلوا «الزاب الأكبر»، وهناك حدثت حرب أخرى دموية، فانكسر الفرس فيها أيضا، وأخذ الروم يتقدمون والفرس يفرون حتى وصل هراقليوس إلى الدسكرة،
9
ثم تقدم إلى «النهروان» فاختل أمر الفرس واضطربت أحوالهم، فاجتمع كبراؤهم فخلعوا أبرويز وولوا مكانه ابنه شيرويه، وذلك سنة 628م.
ففاوض الملك الجديد الروم في الصلح فأجابوه، وتم عقد الصلح بينه وبين هراقليوس على ما يرضي الروم، فعادوا إلى بلادهم، وعلى أثر ذلك قتل الملك شيرويه أباه أبرويز.
وأبرويز هذا هو الذي قتل النعمان الثالث ملك الحيرة سنة 616م، وولى بدله على الحيرة إياس بن قبيصة الطائي، وهو الذي أرسل إليه صاحب الشريعة الإسلامية
صلى الله عليه وسلم
كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام مع عبد الله بن حذافة السهمي سنة 628م الموافقة لسنة 6ه، فلما حضر عبد الله أمام أبرويز سلمه الكتاب وهذا نصه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم الفرس، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، أدعوك بدعاية الله، فإني رسول الله إلى الناس كافة، لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين، أسلم تسلم، فإن أبيت فإنما عليك إثم المجوس.»
فقرأه أبرويز فلما انتهى منه مزقه وأساء إلى حامله، وكتب إلى عامله ب «اليمن» يأمره أن يغزو المدينة ويأتيه برسول الله أسيرا، وعاد عبد الله إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
وأخبره بما فعل أبرويز، فقال: «اللهم مزق ملكه كما مزق كتابي.» فلما خلع أبرويز كتب ابنه شيرويه إلى عامله ب «اليمن» ينهاه عن مقاتلة رسول الله.
وفي عهد أبرويز حدثت المعركة الشهيرة بوقعة «ذي قار» بين الفرس والعرب التي انتصر فيها العرب انتصارا باهرا على الفرس.
ولم يملك شيرويه غير بضعة أشهر فقتل وخلفه أردشير الثالث سنة 629م، ملكه الفرس وهو طفل فجعلوا له نائبا ليقوم بأمره، وهو رئيس أصحاب المدائن - رئيس الوزراء - المدعو جسنس، فتسلم هذا زمام الأمور، ولكن الاضطرابات الداخلية كانت تزداد يوما فيوما في الوقت الذي حمل المسلمون فيه على «العراق» بقيادة خالد بن الوليد، فاختلت شئون المملكة واختلفت كلمة رجال الدولة حتى آل ذلك إلى حدوث فتنة بين رئيس القواد وبين نائب الملك، كان النصر في آخرها لرئيس القواد، فحمل بجيوشه على «أكتسيفون» وحاصرها ونصب عليها المجانيق، ثم احتلها عنوة وقتل أردشير الملك ونائبه وجماعة من رجال الدولة، واغتصب العرش ونادى بنفسه ملكا سنة 630م، ولكنه لم يلبث أكثر من أربعين يوما حتى وثبت عليه جماعة من الفرس وقتلوه، وعلى أثر ذلك اتفق رجال الدولة على تمليك بوران بنت كسرى أبرويز في السنة نفسها، فلم تملك هذه غير ستة عشر شهرا فاحتال عليها رئيس القواد بيروز وخنقها سنة 631م، فاشتد الشقاق والخلاف بين رجال الحكومة وعظمت الاضطرابات في المملكة الفارسية، وانقسم الفرس إلى ثلاثة أقسام، فبايع أهل «أكتسيفون» آزرميد وخت بنت كسرى أبرويز، وبايع أهل «خراسان» صبيا من أولاد الملوك اسمه ميهر خوسرو، وبايع أهل «اصطخر»
10
يزدجرد بن شهريار، ثم قتلت آزرميد وخت، قتلها رستم حاكم خراسان بعد أن حمل عليها بجيشه، ودخل «أكتسيفون» حربا عقب عدة معارك، ثم قتل ميهر خوسرو أيضا فسادت الفوضى في البلاد واختل النظام، والذي زاد الدولة اضطرابا وزعزع أركانها توغل العرب المسلمين في العراق، الذين جاءوا للفتح منذ أيام أردشير الثالث، أي سنة 629م بقيادة خالد بن الوليد في عهد الخليفة الأول أبي بكر.
ثم اتفق أهل «أكتسيفون» على تمليك حشنشده ابن عم أبرويز سنة 632م، فقتل هذا بعد شهر من تمليكه، وولوا مكانه فيروز بن مهران من نسل أنو شروان، فقتل بعد بضعة أيام وملك بدله سابور بن شهريزان، وكان طفلا فقام بأمره أحد كبار رجال الدولة اسمه فرخ زاد خسرو بن البنذوان، ولم يمض ثلاثة أشهر حتى قتل الملك ونائبه، وزاد أمر الدولة اديارا بسبب تلك الفتن المستمرة وطمع بها أعداؤها، فلما أدرك الفرس خطورة موقفهم اجتمعوا على تمليك يزدجرد الثالث ابن شهريار الذي أجلسه على العرش أهل «اصطخر»، فاستقدموه منها إلى «أكتسيفون»، وأجمعوا كلمتهم عليه، فحضر «أكتسيفون» سنة 632م فدانت له الفرس. (2) انقراض الدولة الساسانية
جلس يزدجرد الثالث على عرش المملكة الفارسية في الوقت الذي كانت فيه الدولة قد ضعفت من توالي الفتن الداخلية، وزادها ضعفا توغل العرب المسلمين في العراق وحروبهم الشديدة مع الفرس منذ أيام أردشير الثالث وأيام الخليفة الأول أبي بكر الصديق، فكان هذا الملك يبذل جهده في إخماد الثورات الداخلية القائمة بين قومه من جهة، ويصد هجمات العرب الذين جاءوا للفتح من جهة أخرى، حتى ارتبك عليه الأمر، ولكنه كان مع كل ذلك جلدا لا يظهر الضعف ولا يتظاهر بالعجز أمام العرب، وظل يجهز الجيوش لقتالهم، فانتصروا عليه في أكثر الوقائع وفي الأخير أصلوه حربا حامية في وقعة «القادسية» الشهيرة سنة 636م، ثم أجبروه على الهزيمة من «العراق» إلى بلاد «فارس» سنة 637م، بعد حروب عديدة في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، وقامت دولة الإسلام في «العراق» وانقرضت منه دولة «الفرس» التي حكمته 410 سنوات (226-637م). (3) تتمة لما تقدم
كان معظم سكان «العراق» في عهد الدولة الساسانية من بقايا الأراميين الأصليين - وهم الكلدان والسريان - والقبائل العربية التي منها إياد وربيعة وغيرهما، وعرب المناذرة سكان «الحيرة» وما يتبعها ، ويتخلل تلك الجموع شتات من الفرس والأكراد وغيرهم من أمم أخرى، وكان الجميع في عيش رغيد وحرية تامة، بسبب عدم تعرض هؤلاء الملوك بشرائع أهل البلاد وآدابهم وعاداتهم، وإبقائهم القوانين على ما كانت عليه قبلا، غير أنهم بدءوا باضطهاد النصارى العراقيين منذ تنصر القياصرة ملوك «رومية» بعد أن كانوا وثنيين، أي منذ أيام القيصر قسطنطين الكبير، بسبب ميل النصارى إلى القياصرة أبناء مذهبهم والتجسس لهم، خصوصا عندما كانت تقوم الحرب بين الفرس والروم، فيتجسس النصارى لأبناء دينهم، حتى إن بعض الملوك قتلوا كثيرا من رؤساء النصارى وهدموا أكثر كنائسهم، ولم يكن ذلك وحده سببا لاضطهادهم، بل إن انتشار الدين المسيحي بين عرب «العراق» من بدو وحضر، وازدياد أتباعه عاما فعاما خوف الفرس من القضاء على دينهم الزردشتي الذي اتخذوه دينا رسميا لدولتهم واجتهدوا بتقويته، خصوصا وأن الدين المسيحي كان قد صار أخيرا دينا رسميا لدولة الروم المجاورة لهم، وصار الروم ينتصرون للنصارى الذين تحت حكم الفرس، حتى إنهم كانوا يتخذون اضطهادهم في بعض الأحيان ذريعة للحرب مع الفرس، ومع ذلك كله فقد كان أهل العراق في عهد هذه الدولة سعداء بالنسبة إلى الأمم الأخرى الراضخة لحكم الأجنبي في ذلك العهد.
أما حالة «العراق» من الوجهة الاقتصادية فكانت حسنة جدا؛ لاعتناء هؤلاء الملوك بالري واهتمامهم بتوسيع نطاق الزراعة وتنشيط التجارة ورقيها، ومن أجل ذلك كان «العراق» في عهدهم غنيا جدا، وقد بلغت ثروته حينذاك مبلغا عظيما بفضل الزراعة والتجارة والصناعة، واشتغل أبناء الرافدين في أيامهم بالتجارة برا وبحرا، وتبادلوا بها مع أهل الأقطار البعيدة ك «مصر» و«سورية» و«الهند» و«فارس» وغيرها، بل إن زراعة العراق كانت في عهدهم أرقى زراعة في العالم؛ بفضل ما حفروه من الترع والأنهار،
11
وأصبحت جباية هذا القطر عظيمة خصوصا في عهد أردشير الأول ودارا الأول وقباذ وأنو شروان،
12
ولم يكن اهتمام هؤلاء الملوك قاصرا على رقي التجارة وإنماء الزراعة فحسب، بل إن أكثرهم اهتموا بنشر العلوم أيضا، فأنشئوا في العراق المدارس والمراصد والبيمارستانات، وخدموا المدنية القديمة بأنظمتهم ومؤسساتهم.
أما جباية خراج «العراق» فكانت في عهدهم بالتعديل؛ أي إنهم كانوا يأخذون خراج الأراضي بالمقاسمة، فلما تولى قباذ بن فيروز جعل الخراج بالمساحة، فضرب على الجريب الواحد درهما وقفيزا مهما يكن حاله من الخصب أو الجدب، أما الجزية فعلى ما يروى أنها لم تكن عندهم قبل أنو شروان بن قباذ، وأنه هو الذي وضعها حينما عدل قوانين دولته، وكان قد أصدر قانونا بإلزام الناس الجزية ما خلا العظماء وأهل البيوتات والجند والمرازبة والكتاب ومن في خدمة الملك، كل إنسان على قدره، فجعلها اثني عشر درهما، وثمانية دراهم، وستة دراهم، وأربعة دراهم.
وكانوا قد جعلوا في كل مدينة ديوانا خاصا بالخراج تدون فيه أعماله ودخله وخرجه، وله كتاب وجباة وعمال من أهل البلاد، وعلى كل مدينة حاكم يسوسها ويدير دفة إدارتها ويرأس جندها، وقد أطلقوا على الولاة الكبار اسم «الموهباط» من الفارسية «مه آباد»، وعلى الذي يتولى الحدود «مرزبانا» - أي حافظ الحدود - وعلى العمال الذين هم أحط منزلة اسم «الرد»، وكانوا لا يولون الولاية إلا لقائد محنك يعهدون إليه الحرب والإدارة؛ أي القيادة والولاية.
وكان هؤلاء الملوك يقيمون أيام الشتاء في مدينة «أكتسيفون المدائن» التي صارت في آخر أيامهم أعظم مدينة، ويقضون المواسم الثلاثة الباقية في مدينة «اصطخر» ب «فارس»، ثم صاروا أخيرا يقضون أكثر أيامهم في «أكتسيفون»، وقد سموا ب «الأكاسرة» منذ أيام كسرى أنو شروان بن قباذ، ومعنى «كسرى»: واسع الملك، وجمعه «أكاسرة»، وعاشت هذه الدولة 425 سنة (226-651م)، وقام فيها 28 ملكا أولهم أردشير بن بابك، وآخرهم يزدجرد الثالث الذي قتل سنة 651م الموافقة لسنة 31ه في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان، وبقتله انقرضت هذه الدولة ومحيت من عالم الوجود على يد العرب المسلمين، بعد أن كانت من أكبر دول العالم، وتشتمل على بلاد «إيران» و«الديلم» و«جورجان»، وبلاد «بابل» - العراق - وبلاد «آشور» التي في ضمنها «كردستان»، وبلاد الجزيرة - بين النهرين، وجزائر خليج «فارس»، وقسم من بلاد العرب منها بلاد «اليمن».
ولم يكن سبب انقراض هذه الدولة العظيمة المجد المترامية الأطراف غير الانقسامات التي حدثت فيها، والثورات الأهلية المتوالية، والفتن المستمرة بين الأسرة المالكة تارة وبين رجال الدولة أخرى، والحروب التي كانت تقوم بينهم وبين الروم في أزمان مختلفة، أهمها الحروب التي استعرت نارها في عهد أبرويز حتى تمكن الضعف منها فتمكن العرب المسلمون من محوها، واستولوا على جميع بلادها بالتدريج، فإنهم قرضوا دولتهم من «العراق» سنة 637م، الموافقة لسنة 16ه، ثم قرضوها من بلاد فارس سنة 651م الموافقة لسنة 31ه، وأصبحت هذه الدولة منذ ذاك في خبر كان.
ولم تقم بعد الدولة الساسانية دولة للفرس في «العراق» أعواما طوالا، بل انتقل الحكم في هذا القطر بعد انقراضهم إلى الخلفاء الراشدين، ثم إلى بني أمية، ثم إلى بني العباس، حتى إذا ما ضعف شأن الخلافة العباسية في بغداد في الوقت الذي قامت فيه دولة فارسية في بلاد «فارس» على يد بني بويه، طمع هؤلاء فحملوا على «بغداد» وأسسوا فيها دولة فارسية في سنة 334ه الموافقة لسنة 945م، ثم تلتها الدولة الصفوية بعد حين من الدهر، ثم الدولة الزندية في العهد العثماني، وسنذكر ذلك في محله.
الدولة البويهية الفارسية في العراق
أو الدولة الفارسية الخامسة في العراق 334-447ه/945-1055م (1) بدء دولة بني بويه
تمهيد: ابتدأت هذه الدولة بقيام ثلاثة إخوة: أبو الحسن علي، وأبو علي الحسن، وأبو الحسن أحمد، أولاد أبي شجاع بويه بن فناخسرو، الذي يتصل نسبه على ما قيل إلى ملوك الفرس القدماء،
1
وكان أبوهم أبو شجاج قد سكن بلاد «الديلم»،
2
ونشأ أولاده فيها ثم خرجوا مع من خرج من بلاد «الديلم» من أهل العصابات والثورة من دعاة العلويين ليفسدوا على العباسيين، فدخل الإخوة الثلاثة في جيش «ماكان بن كالي»، فلما أدبر أمر «ماكان» التحقوا بمرداويج مؤسس الدولة الزيارية في «طبرستان» و«جرجان» و«الري» و«قزبين» و«همدان» و«أصبهان» وغيرها، فتقلد كل واحد منهم ناحية من الجبل سنة 321ه الموافقة لسنة 933م، وكان أكبرهم وهو أبو الحسن علي على بلاد «الكرج» التي كانت في «العراق» العجمي بين «أصفهان» و«همذان»، وكان عالي الهمة فكثر أتباعه وأتباع أخويه، ثم حصلت بينه وبين مرداويج وحشة، فانتقض عليه وسار إلى «أصفهان» وملكها، ثم استولى على أرجان - جرجان.
وعلى أثر ذلك كاتبه أهل «شيراز» يستدعونه، فسار إليهم سنة 322ه/934م، فقاتله ياقوت عامل الخليفة، ولكنه فشل وانهزم ودخل علي «شيراز»، فدانت له بلاد «فارس» كلها واشتهر، ولما قتل مرداويج انضمت عساكره إلى علي هذا، وكان الخليفة يومئذ الراضي بالله، فكتب إليه علي وإلى وزيره علي بن مقلة يطلب تقرير البلاد عليه بألف ألف درهم - مليون - في السنة، فأجيب إلى ذلك وبعثوا إليه بالخلع واللواء، ولما قوي أمر علي أقطع أخاه الحسن «أصفهان»، وأخاه أحمد «كرمان»، وأقام هو ب «فارس» ملكا عاما إلى أن مات سنة 338ه، بعد أن أسس أكبر دولة فارسية شيعية في الشرق.
وأول غارة شنها البويهيون على «العراق» كانت في سنة 326ه الموافقة لسنة 937م، وذلك أن أبا عبد الله البريدي كان قد انهزم من «ابن رائق» و«بجكم التركي» - يحكم - المتغلبين على الخلافة ب «بغداد»، وسار إلى «اصطخر» مستنجدا بعلي بن بويه، فأرسل أخاه أحمد لأخذ «العراق»، فسار هذا بجيوشه حتى وصل «أرجان»، فلاقاه هناك «بجكم» والي مدينة «واسط»، وكان قد سار لصده، وبعد عدة معارك انهزم «بجكم» إلى «الأهواز»، فتقدم أحمد إلى عسكر مكرم وقاتل حاميتها الذين تركهم فيها «بجكم»، فهزمهم ففروا إلى «تستر»، ثم سار أحمد إلى «الأهواز» وملكها عنوة وفر «بجكم» إلى «واسط»، وعلى أثر ذلك حدث خلاف بين أحمد وبين ابن البريدي فهرب الثاني، فعلم باختلافهم «بجكم» فأرسل جيشا واسترد «الأهواز» وأكثر البلاد التي استولى عليها أحمد، فلما فشل أحمد استنجد بأخيه علي فأمده بالجيوش، فعاد واستولى على «الأهواز»، أما «بجكم» فإنه سار من «واسط» إلى «بغداد» واستولى عليها، وقلده الخليفة الراضي بالله إمارة الأمراء؛ خوفا من شره، وذلك سنة 329ه، وكان ابن البريدي بعد أن فر من أحمد قد أقام ب «البصرة»، وصار يراسل «بجكم» ويحرضه على المسير إلى «الجبل» ليرجعها من الحسن بن بويه، ثم يسير إلى «الأهواز» فيستردها من أحمد بن بويه، واتفق معه فأمده «بجكم» بخمسمائة فارس وسار هو إلى «حلوان» في انتظاره، وبقي ابن البريدي يتربص ببجكم وينتظر أن يبعد عن «بغداد» فيهجم هو عليها، فأدرك ذلك «بجكم» فرجع إلى «بغداد»، ولما عظمت الفتن في «بغداد» وتوالت الاضطرابات في «العراق»، وتولى إمارة الأمراء توزون التركي - تورون أو طوسون - كان أحمد مقيما ب «الأهواز» يراقب كل ما يجري في «بغداد» من الأعمال، ويأخذ الأخبار عن الحوادث التي تقع فيها، فاغتنم فرصة نكبة الخليفة المتقي بالله فحمل بجيشه إلى «واسط» سنة 333ه، فلاقاه توزون والخليفة المستكفي بالله بالعساكر، فرجع أحمد إلى «الأهواز» وظل يترقب الفرص، ولما اشتدت الفتن في «بغداد» وضاقت بها الجبايات على العمال، وخلا بيت المال وامتدت الأيدي إلى أموال الناس، وزاد ظلم الأتراك في «العراق»، وتقاعد الناس عن الأعمال فغلت الأسعار وقطعت الطرق، وأصبحت البلاد العراقية فوضى، واضطرب حبل الأمن، وتولى إمارة الأمراء زيرك بن شيرزاد التركي، وأخذ أهل بغداد بالجلاء عنها، خصوصا التجار خوفا من المصادرات، وضاق الأمر بالناس وسئموا تجبر الأتراك وظلمهم وغدرهم بالخلفاء؛ استغاثوا بأحمد بن بويه سرا، وكتب إليه أحد القواد الأتراك المدعو «ينال كوشه» يطمعه في «العراق» - كتب إليه لبغضه لزيرك بسبب ما كان بينهما من العداوة - فنهض أحمد مغتنما فرصة تلك الفتن المحزنة، وسار بجيوشه الديلم من «الأهواز» مسرعا، فخرج إليه زيرك بمن معه من جيوش الأتراك وقبائل الأكراد الذين جمعهم، فالتقى الفريقان، وبعد معارك هائلة انهزم زيرك بمن معه، وسار قاصدا «الموصل» بعد أن تولى الإمارة ثلاثة أشهر، واختفى الخليفة في داره ب «بغداد» وخاف خوفا شديدا واضطرب الناس.
أما أحمد بن بويه، فإنه قدم كاتبه حسن المهلبي، فلما دخل هذا «بغداد» ظهر الخليفة المستكفي ودعا المهلبي إلى داره وأظهر له السرور والفرح بانتصار أحمد وقدومه.
ثم دخل أحمد «بغداد» في شهر جمادى الأولى سنة 334ه باستقبال عظيم، وذهب إلى دار الخليفة واجتمع به، فولاه الإمارة وحلف له وخلع عليه وألبسه طوقا من الذهب وسوره بسوارين من الذهب، وفوض إليه تدبير المملكة، وعقد له لواء وأمر أن يخطب له على المنابر، ولقبه «معز الدولة»، ولقب أخاه عليا «عماد الدولة»، وأخاه الحسن «ركن الدولة»، وأمر بضرب ألقابهم على الدراهم والدنانير. (2) معز الدولة أحمد بن بويه 334-356ه
لما استتب أمر معز الدولة في «العراق» ورتب شئون البلاد، أقام ببغداد فاستأمن إليه أبو القاسم البريدي من «البصرة»، وكان حاكما عليها وضمن له «واسط» وأعمالها، فعقد له عليها في السنة نفسها (334ه)، وعلى إثر ذلك حجر معز الدولة على الخليفة، وقدر له برسم النفقة كل يوم خمسة آلاف درهم - وهو أول من فعل ذلك من البويهيين، وأول من ملك «بغداد» منهم - وبعد قليل حدثت بينه وبينه الخليفة وحشة، ورآه يسعى في إعادة حقوق الخلافة المغصوبة، فعزم على خلعه، فاجتمع به في قصر الخلافة في محفل حافل، وبينما هم جلوس دخل اثنان من كبار الديلم وتناولا يد الخليفة، فظنهما يريدان تقبيلها، فمدها فجذباه عن سريره ووضعا عمامته في عنقه، وأخذا بخناقه وساقوه ماشيا إلى دار معز الدولة في أسوأ حال، وهناك خلعوه واعتقلوه، وسملوا عينيه، وظل في دار السلطنة معتقلا حتى توفي في سنة 338ه.
أما معز الدولة فإنه لما ساق أصحابه الخليفة، نهض من دار الخلافة وسار إلى داره، فضربت البوقات والطبول، ونهب الديلم ما في قصر الخلافة من الأموال الثمينة، فاستاء الأهلون ونقموا على معز الدولة فاضطربت بغداد، فلم يبال معز الدولة بشيء، بل إنه جمع رجاله وأحضر أبا القاسم الفضل بن المقتدر فبايعه بالخلافة، وأخذ له البيعة العامة فلقبوه «المطيع لله» (334-363ه/945-973م)، ومنذ ذاك اغتصب معز الدولة ما بقي من حقوق الخلافة، ولم يبق للخليفة غير كاتب يدبر أملاكه وإقطاعه التي تركها له ليسد بها حاجاته، وأصبحت سلطة الخلافة مسلوبة تماما، ولم يبق للخليفة غير الاسم والتوقيع على المناشير، وصارت الوزارة من جهة البويهيين بعدما كانت من جهة الخلفاء.
وظل السعد يخدم معز الدولة حتى بلغ ما لم يبلغه أحد قبله في الإسلام إلا الخلفاء.
الحرب في بغداد
على أثر خلع الخليفة المستكفي ومبايعة المطيع، جهز ناصر الدولة بن حمدان - صاحب الموصل - جيشا كبيرا لقتال معز الدولة وطرده من «بغداد»؛ لأنه ساءه استيلاء معز الدولة على «بغداد» وخلعه المستكفي وسلبه حقوق الخلافة، فبلغ ذلك معز الدولة فجهز جيشا وأرسله لملاقاته بقيادة موسى بن فيادة وينال كوشه التركي، فالتقى الجيشان في «عكبرا»، فانتصر ناصر الدولة وتقدم قليلا، فاضطر معز الدولة إلى تجهيز جيش جديد قاده بنفسه وأخذ معه الخليفة، فحدثت بين الفريقين حروب شديدة، فأرسل معز الدولة في أثناء ذلك القائد زيرك بن شيرزاد التركي - الذي التحق به - بفرقة من عساكره إلى «بغداد» لخلوها من الجيوش، فاستولى عليها زيرك بغتة باسم «ناصر الدولة»، وعلى أثر ذلك توجه ناصر الدولة من «سامر» إلى «بغداد»، فانحاز إليه ينال كوشه ومن معه.
فبلغ ذلك معز الدولة، فسار ومعه الخليفة والجيوش إلى «بغداد»، فوجدوا ناصر الدولة قد دخلها، فافتتحوها فدخلوا الجانب الغربي منها، وانقسمت المدينة إلى شطرين؛ الجانب الشرقي في قبضة ناصر الدولة بن حمدان، والجانب الغربي بيد معز الدولة البويهي، فحدثت بين الفريقين عدة معارك هائلة داخل المدينة دامت أياما، نهب في أثنائها الديلم كثيرا من أموال الناس حتى قال بعضهم إنهم نهبوا ما يقدر بعشرة ملايين من الدنانير، وضاق الحال بمعز الدولة حتى إنه عزم على الانسحاب إلى «الأهواز»، فحملت جنوده حملة عنيفة نهائية فانتصرت، واضطر ناصر الدولة إلى الانسحاب، فخرج من «بغداد» وعاد إلى مقره، وذلك في محرم سنة 335ه الموافقة لسنة 946م،
3
ثم جرت بينهما مراسلات، فتم الصلح بينهما على أن يحمل ناصر الدولة إلى معز الدولة مبلغا من المال في كل سنة عن «الموصل» و«ديار بكر» و«ديار مضر» و«الجزيرة».
الاضطرابات في العراق
وفي السنة نفسها (335ه) انتفض أبو القاسم بن البريدي ب «البصرة»، فأرسل معز الدولة جيشا لقتاله، فبلغ ذلك ابن البريدي فسير جيوشه للقتال، فالتقى الجمعان في «واسط»، فدارت الدائرة على جيش ابن البريدي وبلغه خبر الهزيمة، فجهز جيشا ثانيا، فخرج معز الدولة من «بغداد» بجيش كبير ومعه الخليفة المطيع لله قاصدا طرد ابن البريدي من «البصرة»، فلما وصل إلى «الدرهمية» استأمن إليه جيش «البصرة»، فاضطر ابن البريدي إلى الهرب وفر إلى القرامطة، فدخل معز الدولة ومن معه «البصرة»، وذلك في 336ه، وبعد أن نظم شئونها ولى عليها وزيره حسن المهلبي ورجع إلى «بغداد».
ولما كانت سنة 337ه امتنع ناصر الدولة بن حمدان عن إرسال المال المقرر إرساله إلى «بغداد»، فحمل عليه معز الدولة بجيوشه الديلم، فلما اقترب من «الموصل» فر ناصر الدولة إلى «نصيبين»، فدخل معز الدولة «الموصل» بدون قتال، وبينما هو عازم على مطاردة ناصر الدولة بلغه قدوم الجيوش الخراسانية على «جرجان» و«الري» لقتال أخيه، فاضطر إلى مصالحة ناصر الدولة، فتم الصلح بينهما على أن يؤدي ابن حمدان عن بلاده مليونا من الدراهم في كل سنة، وأن يخطب لبني بويه في جميع بلاده: «الموصل» و«الجزيرة» و«سنجار» و«نصيبين» و«الرحبة» و«رأس العين» و«الخابور».
فرجع معز الدولة إلى «بغداد»، فانقطعت الاضطرابات أكثر من ثلاث سنوات في «العراق»، فحمل في سنة 341ه يوسف بن وجيه صاحب «عمان» على «البصرة» وحاصرها أياما، فقاتله أميرها حسن المهلبي حتى اضطره إلى الرجوع بالفشل.
فهدأت الأحوال إلى سنة 347ه، فامتنع ابن حمدان عن تأدية ما عليه من المال، فزحف عليه معز الدولة لأخذ بلاده، فانهزم ابن حمدان إلى حلب، وبعد مراسلات تصالحا وعاد كل منهما إلى مقره على أن يدفع ابن حمدان في كل سنة مليونين من الدراهم عن بلاده إلى معز الدولة.
ولم تمض سنة على ذلك الصلح حتى فسدت نية معز الدولة على ناصر الدولة، فحمل عليه بجيوشه ومعه وزيره المهلبي، وحجته في ذلك تأخير إرسال المال المقرر - والظاهر أنه كان يريد إضعافه أو محو حكومته؛ لئلا تكون بجانبه إمارة عربية قوية - ولما اقترب ابن بويه من «الموصل» فر ابن حمدان إلى «نصيبين»، ثم بدأت غارات بعضهم على بعض حتى ضعف أمر ابن حمدان، فاضطر إلى الهرب إلى «حلب» عند أخيه سيف الدولة، وكتب إلى معز الدولة يسأله الصلح، فأبى وحجته في ذلك أنه خالف مرة بعد مرة، فاضطر سيف الدولة إلى أن يكون ضمان البلاد التي لأخيه ناصر الدولة باسمه، وتعهد بدفع مليونين وتسعمائة ألف درهم سنويا، وأن يكون الحكم فيها لأخيه، فتم الصلح وعاد كل منهما إلى مقره، وذلك في سنة 348ه، وبعد مضي خمس سنوات امتنع ناصر الدولة عن دفع الضمان السنوي - أي المال - فعادت الحرب بين الفريقين، وحمل معز الدولة على «الموصل»، فانهزم منها ناصر الدولة إلى «نصيبين» فلحقه معز الدولة، فلما اقترب منه فر منها إلى «جزيرة ابن عمر»، وبينما معز الدولة يتتبع آثار ناصر الدولة في جزيرة «ابن عمر»، إذ حمل ناصر الدولة على «الموصل» بغتة ومعه أولاده وجيوشه، فدخلها وفتك بالديلم وأسر كبراءهم وغنم جميع ما فيها من الأموال والذخائر التي لمعز الدولة، فاضطر الأخير إلى عقد الصلح، فتم بينهما وعاد معز الدولة إلى «بغداد».
ولم تمض مدة قصيرة على هذه الحادثة حتى شغب الجند في «بغداد» على معز الدولة بسبب تأخير مرتباتهم، ولما كان المال الموجود غير كاف للجند، اضطر معز الدولة إلى أخذ أموال الناس بالباطل، فصادر بعض المثرين من أهل الوجاهة، فلم يغنه ذلك شيئا، فمد يده إلى ضياع الخلافة وضياع الملاكين وسلمها إلى قواده ليزرعوها ويأخذوا مرتباتهم من غلتها، ولم يكتف بهذه الأعمال المخالفة للعدل، بل إنه لما بنى سنة 350ه قصره المعروف ب «الدار المعزية» في محلة الشماسية - السليخ اليوم - وصرف عليه نحو مليون دينار واحتاج إلى المال، صادر جماعة من رجال الحكومة، ثم احتاج إلى المال لأمور أخرى فأعطى القضاء بالضمان - بالالتزام - فضمنه عبد الله بن الحسن بن أبي الشوارب بمائتي ألف درهم سنويا يدفعها إلى بيت المال ب «بغداد»، وسمي «قاضي قضاة بغداد» - وهو أول من ضمن القضاء في الإسلام.
4
وفي أيام معز الدولة أسست الإمارة الشاهينية ب «البطيحة» في «العراق» في سنة 338ه؛ أسسها عمران بن شاهين من أهل الجامدة،
5
بعد أن حدثت بينه وبين معز الدولة حروب عديدة، وعجز معز الدولة عن قهره حتى اضطر إلى مصالحته وتقليده إمارة البطائح،
6
ثم خرج على معز الدولة في سنة 354ه، وظلت الديلم تقاتله تحت قيادة أبي الفضل العباس بن الحسن مدة طويلة، فمات معز الدولة في سنة 356ه، فاضطر جيشه لمصالحته.
وفي أيام معز الدولة جرى في «بغداد» مأتم رسمي في يوم عاشورا على الحسين ابن الإمام علي، بأمر أصدره في سنة 352ه، قضى بإغلاق جميع الأسواق، وبمنع الطباخين من الطبخ، وبإخراج نساء يلطمن في الشوارع ويقمن العزاء للحسين، وهذا أول يوم جرى فيه مأتم رسمي على الإمام ابن الإمام، ومعز الدولة هذا أول من فعل ذلك؛ إرضاء لأبناء مذهبه الشيعة.
ومات معز الدولة ب «بغداد» في 13 ربيع الآخر سنة 356ه، وكان ولي عهده ابنه «بختيار» الملقب ب «عز الدولة»، ووزيره الحسن المهلبي، وحاجبه سبكتكين، وكاتباه أبا الفضل العباس بن الحسين وأبا الفرج محمد بن العباس. (3) عز الدولة بختيار 356-367ه
لما مات معز الدولة ب «بغداد» في 13 ربيع الآخر سنة 356ه، وكان ابنه بختيار الملقب ب «عز الدولة» ولي عهده تولى الأمر بعده، فأصدر الخليفة المطيع لله منشوره في ذلك وخلع عليه ولقبه «عز الدولة»، وأول شيء فعله عقد الصلح مع عمران بن شاهين أمير البطائح.
ولم يكن عز الدولة كأبيه في السياسة والتدبير، بل كان ضعيف الرأي، سيئ التدبير، مشغولا بالملاهي، مسيئا إلى رجال حكومته، حتى إنه طرد كبار الديلم طمعا في إقطاعاتهم، وسبب ذلك شغب الجند عليه ب «بغداد» وكانوا يومئذ طائفتين؛ الديلم والأتراك، فتوالت الفتن بسبب سوء تدبيره وقلت الأموال وكثرت حروبه مع أمراء البلاد المجاورة له ك «الموصل» و«البصرة» وغيرها، حتى زالت هيبته وطمع به أعداؤه، وانقطع عنه سبكتكين التركي لسوء سيرته، وعصى ب «البصرة» أميرها أخوه حبشي بن معز الدولة، وثار عليه في سنة 357ه، فأرسل عز الدولة وزيره أبا الفضل العباس بن الحسين فانتصر الوزير على حبشي وقبض عليه وصادر أمواله التي ب «البصرة»، وأرسله مخفورا إلى أخيه عز الدولة ب «بغداد» فحبسه.
ثم ثار في سنة 359ه أمير البطيحة عمران بن شاهين، فسار لقتاله عز الدولة حتى نزل ب «واسط»، ثم أمر وزيره أبا الفضل أن ينحدر إلى «الجامدة»، فانحدر إليها بالجيش وحاصر «البطيحة»، فطال أمد الحصار - وعز الدولة ب «واسط» ينتظر الظفر - فضجر الجيش وثار على أبي الفضل، فاضطر إلى عقد الصلح مع عمران وصالحه على مال يرسله في كل سنة إلى عز الدولة، فعاد الجميع إلى «بغداد» وذلك في سنة 361ه.
وفي هذه السنة (361ه) جاء إلى «بغداد» فريق كبير من المسلمين مستصرخين بما فعل الروم في «الجزيرة» و«نصيبين»، فثارت عامة «بغداد» تريد حرب الروم، فطلب عز الدولة من الخليفة مالا لتجهيز الجنود، فقال له الخليفة: «تلزمني النفقة على الحرب إذا كانت البلاد في يدي وتجبى إلي الأموال، أما إذا كانت حالي هذه فلا يلزمني شيء، وإنما يلزم من في يده البلاد، وليس لي إلا الخطبة، فإذا شئتم أن أعتزل فعلت.» فلم ينفع الخليفة احتجاجه، وهدده عز الدولة فخاف على نفسه من القتل ولم يكن عنده مال، فاضطر إلى بيع أنقاض داره وأثاثها وثيابه، فجمعت أربعمائة ألف درهم، فسلمها إلى عز الدولة، فشاع أن الأمير صادر الخليفة، ولما قبض عز الدولة المال صرفه على مصالحه وتقاعد عن الحرب، فانقطع حديث الناس عن الحرب.
الفتنة بين الديلم والأتراك
دخلت سنة 363ه، فسار عز الدولة إلى «الأهواز»، فحدثت هناك فتنة بين الديلم والأتراك أدت إلى حرب دموية بين الطرفين، فانتصر عز الدولة للديلم واعتقل رؤساء الأتراك، ففتك الديلم بالأتراك، وبلغ ذلك من في «البصرة» من الديلم، فنودي بالبصرة بإباحة دماء الأتراك، فقتل منهم عدد كبير، واستولى عز الدولة على إقطاع سبكتكين التركي - حاجب أبيه معز الدولة.
وبلغ ذلك سبكتكين - وهو يومئذ ببغداد - فثار بمن معه من الأتراك، ونهب دار عز الدولة، واستولى على حكومة «بغداد»، وطلب من الخليفة المطيع لله أن يخلع نفسه ويسلم الخلافة إلى ابنه عبد الكريم، وكان المطيع قد أصيب في هذه السنة (363) بالفالج، وثقل لسانه وتعذرت الحركة عليه، فخلع نفسه وبايع لابنه عبد الكريم ولقبه «الطايع لله»، فتمت له البيعة (363-381ه).
أما عز الدولة فإنه كان قد سار من «الأهواز» إلى «البصرة»، ثم سار إلى «واسط»، فبلغه ما حدث ببغداد فتوجه إليها، فلما وصلها ورأى الأتراك قد استولوا على الدولة، أخذ يدبر المكيدة على سبكتكين، فأغرى رجاله الديلم بإذاعة خبر موته ليأتي سبكتكين إلى داره للعزاء فيقبض عليه، ففعلوا ذلك، غير أن سبكتكين لم تفته هذه الحيلة، فحاصر دار عز الدولة ثم وضع النار فيها، فخرج أهلها وطلب عز الدولة الذهاب إلى «واسط» بمن معه، فأذن لهم سبكتكين، فانحدروا في «دجلة» ومعهم الخليفة الطائع - وفي الحقيقة أنه طائع - فبلغ سبكتكين خروج الخليفة معهم، فأرسل جماعة من رجال لإرجاعه فردوه إلى «بغداد»، وقوي أمر الأتراك ببغداد، وعلى أثر ذلك استولى سبكتكين على جميع ما كان لعز الدولة من الأموال المنقولة والثابتة، فتحمس الديلم الذين في «بغداد» وثاروا، فنهبوا أموال الأتراك، فحدثت من جراء ذلك فتنة عظيمة وانقسم البغداديون إلى حزبين: السنة وهم أنصار الأتراك، والشيعة وهم أنصار الديلم. وبعد قتال دام بضعة أيام في شوارع المدينة وأسواقها، انتصر السنة وأحرقوا دور الشيعة، ثم هدأت الأحوال من نفسها.
أما عز الدولة فإنه عندما وصل مدينة «واسط» استنجد بابن عمه عضد الدولة المستقل ببلاد فارس، فلما علم الثاني بضعف أمر الأول وما فعله الأتراك معه، عزم على المسير لنصرته، فسار في عساكر «فارس» سنة 364ه قاصدا «واسط»، ولما وصلها واجتمع بعز الدولة اتفقا على أن يسير عضد الدولة إلى الجانب الشرقي من «بغداد»، ويسير عز الدولة إلى الجانب الغربي منها، فيحاصراها من جميع الجهات، ثم سارا بالجيوش على تلك الخطة حتى أحاطوا بالمدينة، وكان سبكتكين قد مات قبل أن يحاصرا «بغداد»، فخرج إليهما عضد الدولة والتقوا بالقرب من «تكريت»، وبعد عدة معارك، وولى الأتراك مكانه أفتكين التركي، فتجهز هذا لصد جيوش الديلم، فلما أحاطوا ببغداد اتخذ خطة الدفاع ودافع هو ورجاله دفاعا شديدا، وفي أثناء ذلك غلت الأسعار وقلت الأقوات حتى احتاج أفتكين إلى الطعام، واضطر إلى كبس بيوت البغداديين، فكبسها وأخذ منها كل ما وجده من الطعام، فاضطرب حبل الأمن وكثر النهب والسلب في المدينة وسادت الفوضى فيها، وأخيرا اضطر أفتكين إلى منازلة عدوه خارج المدينة، فخرج إليه وقاتلت جنوده قتالا شديدا، وبعد معارك هائلة انهزم بمن معه إلى «تكريت»، واستولى عضد الدولة وعز الدولة على «بغداد».
ولما كان عضد الدولة طامعا في «العراق» وعالما بضعف عز الدولة وقلة المال عنده، أغرى الجنود على أن يثوروا عليه ويطالبوه بنفقاتهم، فشغبوا عليه وبالغوا فيه، فاحتار عز الدولة؛ لأنه كان لا يملك شيئا من المال، فأشار عليه عضد الدولة بعدم الاكتراث بهم والتظاهر بالتنازل عن الملك، فظنه عز الدولة - لضعف رأيه - أنه ناصح له ومدبر، ففعل ما أشار عليه وأغلق باب داره وصرف حجابه وكتابه، فشاع في المدينة أن عز الدولة قد تخلى عن الملك، فاجتمع رجال الحكومة والجنود حول عضد الدولة، ففرق على الجيوش الأموال، وجلب إليه قلوبهم فنودي له بالملك.
ولما نجح عضد الدولة في حيلته، اعتقل عز الدولة وإخوته وصفا له الجو ببغداد.
وعلى أثر ذلك ثار في سنة 364ه المزربان بن عز الدولة، وكان متوليا على «البصرة» من قبل أبيه، وكاتب أمراء البلاد يطلب منهم نصر أبيه، فكتب إلى ركن الدولة يخبره بما فعل ابنه عضد الدولة بأبيه، فغضب ركن الدولة لهذا الأمر وكتب إلى ابنه يأمره بأن يعيد الملك إلى عز الدولة، فأجابه يعلمه بضعف رأي عز الدولة، وأنه لا يقدر على ضبط الملك وتدبيره، وأنه إذا ترك «العراق» له ربما ضاع من بني بويه كافة، فأساء أبوه الرد عليه وحبس وزيره ابن العميد أبا القاسم، فاحتال الوزير على ركن الدولة حتى أقنعه على شرط أنه إذا أطلقه من السجن يعيد الملك إلى عز الدولة، فأطلقه على هذا الشرط، فسار إلى «بغداد» وخوف عضد الدولة من أبيه وحذره عاقبة التعنت، وصادف ذلك انتقاض بعض العمال على عضد الدولة، واتفاق الأمراء الذين راسلهم ابن عز الدولة على قتاله واجتماع كلمتهم على نصر أبيه، فخشي عضد الدولة عاقبة الأمر، فأخرج عز الدولة من السجن وأعاده إلى منصبه، وسار عن «بغداد» راجعا إلى مقره، واستلم عز الدولة زمام الأمور.
ولما مات ركن الدولة سنة 366ه وتولى ملكه ابنه عضد الدولة، كان عز الدولة يسعى في اجتذاب الأمراء إليه ليقوى بهم على عضد الدولة، حتى إنه أغرى بعضهم في الانتقاض عليه، فعلم ذلك عضد الدولة فعزم على أخذ «العراق» منه، وسار بجنوده نحوه، فخرج عز الدولة إلى «واسط» لصده، وبعد معارك شديدة اندحر عز الدولة وتحصن في «واسط» وطلب الصلح، فترددت الرسل بينهما أياما بدون فائدة، وأخيرا سار عضد الدولة إلى «بغداد» ودخلها بسلام، وكتب إلى عز الدولة يدعوه إلى الطاعة ويأمره بالخروج من «العراق» إلى أي قطر شاء إلا «الموصل»، فخرج عز الدولة من «واسط» قاصدا «سورية»، وذلك سنة 367ه الموافقة لسنة 977م. (4) عضد الدولة بن ركن الدولة (367-373)
عندما دخل عضد الدولة «بغداد» خلع عليه الخليفة الطائع، وتوجه بتاج مجوهر وطوقه وسوره بسوارين - على جري العادة - وقلده سيفا من الذهب، وعقد له لواءين، أحدهما مذهب والآخر مفضض، وكتب له عهدا قرئ بحضرته، وأمر أن يخطب له على المنابر بالملك، وأن يضرب اسمه ولقبه على الدراهم والدنانير، ولما خرج عضد الدولة من قصر الخلافة أرسل إلى الخليفة هدية فاخرة نقلها خمسون حمالا، من جملتها خمسون ألف دينار وألف ألف درهم - مليون - وخمسمائة ثوب من الحرير وثلاثين صينية مذهبة فيها المسك والعنبر والكافور والند وغير ذلك من الثياب والفرش والخيل.
أما عز الدولة فإنه لما خرج من «واسط» قاصدا «سورية» ووصل «حديثة الفرات»، وافاه أبو تغلب بن حمدان في عشرين ألف مقاتل وكان من أنصاره، فاتفق معه على قتال عضد الدولة وإخراجه من «العراق» فزحفا على «بغداد»، ودارت الدائرة على جيش ابن حمدان وانتصر عضد الدولة وأسر عز الدولة وقتله وقتل وزيره أبا طاهر محمد بن بقية بن علي الملقب «نصير الدولة»، وكانت بينه وبين عضد الدولة عداوة لأسباب طويلة أهمها أنه أغرى عز الدولة على قتال عضد الدولة، وقد طلبه عضد الدولة بعد أن ملك بغداد وقتل عز الدولة، فقبض عليه وألقاه تحت أرجل الفيلة فقتل، فأمر بصلب جثته فصلبت عند داره بباب الطاق ببغداد، وذلك سنة 367ه، فرثاه أبو الحسن محمد بن عمران الأنباري أحد العدول ببغداد، بقصيدته المشهورة التي مطلعها:
علو في الحياة وفي الممات
لحق تلك إحدى المعجزات
ويروى أن عز الدولة لما قصد «سورية» كان معه حمدان بن ناصر الدولة الحمداني، فأغراه حمدان على أخذ «الموصل» من أخيه أبي تغلب بن ناصر الدولة - وكان مغاضبا لأخيه - فلما وصل «تكريت» أوفد إليه أبو تغلب رسولا يسأله القبض على حمدان وإرساله إليه، وأنه إذا فعل ذلك سار إليه بنفسه ليقاتل عضد الدولة ويعيده إلى ملكه، فقبض بختيار على حمدان وسلمه إلى رسل أبي تغلب، فحملوه إليه فحبسه، ثم سار بختيار بعشرين ألف مقاتل واجتمع بأبي تغلب عند «حديثة»، ومن هناك زحفا على عضد الدولة وانتشبت الحرب بينهما، فانتصر عضد الدولة وأسر بختيار ثم قتله، وفر أبو تغلب بأصحابه راجعا إلى «الموصل»، فنقم عضد الدولة على أبي تغلب لخيانة العهد والولاء، وسار إلى «الموصل» فرحل عنها أبو تغلب إلى «نصيبين»، فأرسل عضد الدولة جيوشه في طلبه، فخرج أبو تغلب من «نصيبين» فتبعته جنود عضد الدولة حتى اضطر إلى الهرب إلى «أرضروم» ومنها إلى غيرها، وسار إلى «سورية» وأخيرا قتل هناك، وانقرضت دولة الحمدانيين من «الموصل» بعد أن دامت نحو أربع وسبعين سنة، أي منذ ولاية أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان في خلافة المكتفي سنة 293ه، إلى أن استولى عضد الدولة عليها سنة 367ه، وطرد أبا تغلب بن ناصر الدولة وضبط بلاده، ولما تم الأمر لعضد الدولة فيها جعل عليها أبا الوفاء طاهر بن محمد، وعاد هو إلى «بغداد».
ولما تم أمر عضد الدولة الدولة في «العراق» طمع في الاستيلاء على «البطيحة»، وأرسل جيشا بقيادة وزيره المطهر بن عبد الله، فهزمه الحسين بن عمران، ولما لم يكن المطهر هزم قبلا خاف سقوط منزلته عند عضد الدولة، فقتل نفسه، وعلى أثر ذلك صالح عضد الدولة أمير «البطيحة» الحسين على مال يأخذه منه كل عام.
وفي هذه السنة (367ه) اعتقل عضد الدولة أبا إسحق إبراهيم الصابي الكاتب المشهور ببغداد، وعزم على إلقائه تحت أيدي الفيلة، فشفعوا فيه ثم أطلقه سنة 371ه، وسبب ذلك هو أن إبراهيم كان كاتبا في ديوان الإنشاء ببغداد عن الخليفة وعن عز الدولة بختار بن معز الدولة، ثم تقلد ديوان الرسائل سنة 349ه، وكانت تصدر عنه رسائل إلى عضد الدولة بما يؤلمه فحقد عليه، ولما مات الصابي سنة 380ه رثاه الشريف الرضي بقصيدة بديعة أولها:
أرأيت من حملوا على الأعواد
أرأيت كيف خبا ضياء النادي
وبعد أن هدأت الأهوال شرع عضد الدولة في عمارة «بغداد»، فعمر جوامعها ومدارسها وأسواقها وجدد ما اندثر من الأنهار التي حولها، وذلك سنة 369ه، وكانت قد خربت المدينة من توالي الفتن والاضطرابات، ومن الغرق الذي أصابها مرارا أثناء اشتغال حكوماتها وأهلها في الحروب والثورات التي أشغلتهم عن تحكيم السداد وعن تعمير كل ما خرب.
وفتح عضد الدولة صدره للعماء وناظرهم في المسائل وأكرمهم وشجعهم على نشر العلوم والفنون، ورغب الناس في الاشتغال بذلك ونشطهم على توسيع نطاق الزراعة والتجارة، فزهت «بغداد» في أيامه وتوفرت فيها الأموال وامتلأ بيت المال، وقصدها جماعات من رجال العلم صنفوا له كتبا عديدة في علوم مختلفة، فاشتهر ببغداد في أيامه جماعة من العلماء والحكماء والأدباء والأطباء وغيرهم، وبنى في سنة 371ه مارستانا كبيرا على طرف الجسر في الجانب الغربي من «بغداد»، نقل إليه كل ما يلزم له من الأدوية والآلات، ورتب له 24 طبيبا، وفيهم الجراحون والكحالون والمجبرون، وممن كان يدرس صناعة الطب فيه الطبيب إبراهيم بن بكس، وكان رئيس هذا المارستان الشيخ أبو منصور صاعد بن بشر الطبيب، وهو أول من عالج الأمراض التي كانت تعالج بالأدوية الحارة وبالأدوية الباردة، ولما نجح في عمله عين رئيسا لهذا المارستان، وكان يسمى «المارستان العضدي»، وهو مدرسة للطب ومستشفى معا.
وفي هذه السنة 371ه أرسل عضد الدولة من «بغداد» القاضي أبا محمد بن الطيب الأشعري المعروف ب «ابن الباقلاني» سفيرا إلى قيصر الروم قسطنطين التاسع، فسافر ابن الباقلاني إلى «القسطنطينية» يحمل جواب رسالة وردت على عضد الدولة من القيصر في مسألة أدبية، وكان ابن الباقلاني هذا من أكبر رجال العلم والأدب في «العراق».
وأراد عضد الدولة أن تكون الخلافة في ولد لهم فيه نسب، فحمل الطائع على أن يتزوج بابنته، فتزوجها على صداق مائة ألف دينار، فجمع الخليفة بهذا الزواج بين بنت عضد الدولة وبنت عز الدولة التي تزوجها قبلا على مثل ذلك الصداق.
وتوفي عضد الدولة ب «بغداد» سنة 373ه بعد أن اتسع ملكه، فحمل نعشه إلى مشهد الإمام علي، وكان عاقلا فاضلا حسن السيرة والسياسة والتدبير محبا للعلوم والفنون والعمران، سعدت في أيامه بلاد «العراق»، وعاش العراقيون تحت راية عدله بهناء وسلام، وهو أول من ضرب الطبل على بابه، وأول من عقد له الخليفة لواءين، وأول من تسمى ب «ملك» في الإسلام.
وقد اشتهر عضد الدولة شهرة فائقة وملك بلادا كثيرة عدا «العراق»؛ لأن عمه أبا الحسن علي الملقب «عماد الدولة»، الذي هو زعيم هذا البيت ومؤسس دولتهم، كان قد تبناه لعدم وجود ولد له، وأحضره عنده وأكرمه وأجلسه على سرير المملكة وأمر الجنود بطاعته، وعهد إليه بالملك على «فارس» بعده، فلما توفي سنة 338ه استولى عضد الدولة على بلاد «فارس»، ثم استولى بعد قليل على «كرمان» سنة 357ه، وأقطعها لولده أبي الفوارس، ولما مات أبوه ركن الدولة 366ه استولى على ممالكه أيضا، ثم حدثت بينه وبين ابن عمه عز الدولة بختيار وحشة كما تقدم، فاستولى على «العراق» 367ه ثم حمل في السنة نفسها على «الموصل» وما يتبعها من البلاد التي كانت لبني حمدان، فاستولى عليها أيضا، ثم وقعت بينه وبين إخوته وحشة فاستولى على أكثر ما بأيديهم من البلاد حتى عظم أمره. ومن وزرائه الصاحب بن عباد الأديب الشهير، وكان مؤدب عضد الدولة العلامة أبو الفضل محمد بن العميد الملقب بالأستاذ، المتوفى سنة 360ه. (5) صمصام الدولة 373-377ه
وتولى بعد عضد الدولة ابنه صمصام الدولة أبو كاليجار، فخلع عليه الخليفة على جري العادة وخطب له على المنابر، ولكنه لم يكن كأبيه؛ فأساء السيرة مع العراقيين، وطرح عليهم كثيرا من الرسوم، حتى إن أهل «بغداد» كادوا يثورون عليه؛ فمن ذلك أنه لما احتاج إلى المال سنة 375ه ضرب ضريبة على ثياب الحرير والقطن التي تنسج في «بغداد» ونواحيها، وأمر بإحصاء ما سيجبى من تلك الضريبة، فبلغت مليون درهم في السنة، وعلى أثر صدور هذا الأمر ثار أهل «بغداد» واجتمعوا في جامع الخلفاء وعزموا على الامتناع من صلاة الجمعة، فاضطربت الأحوال واضطر صمصام الدولة إلى إلغاء هذه الضريبة.
ولما كانت سنة 373ه حدثت وحشة بين صمصام الدولة وبين أخيه شرف الدولة أبي الفوارس، وكان الثاني عالما بعدم رضاء أهل «بغداد» وجنودها على صمصام الدولة وكرههم له وشغبهم عليه لسوء تدبيره، فاغتنم فرصة ذلك الاضطراب وزحف من «الأهواز» على «العراق» بخمسة عشر ألف مقاتل من الديلم، فاستولى على «البصرة» وولى عليها أخاه أبا الحسين، ثم ولى عليها أبا طاهر بن عضد الدولة.
فبلغ ذلك صمصام الدولة، فأرسل لقتاله جيشا بقيادة الأمير أبي الحسن بن دبعش، فجهز شرف الدولة له جيشا بقيادة الأمير دبيس بن عفيف الأسدي، فانهزم جيش صمصام الدولة وأسر قائده، ثم ولى في سنة 374 حماية الكوفة أبا طريف عليان بن ثمال الخفاجي، وعلى أثر ذلك في سنة 375ه عصى بالبصرة أبو طاهر بن عضد الدولة واستقل بها، فأرسل شرف الدولة جيشا فانتصر عليه وقبض على أبي طاهر، ولما رأى صمصام الدولة قوة شرف الدولة أرسل يطلب الصلح، فاستقر بينهما على أن يخطب لشرف الدولة بالعراق قبل صمصام الدولة، ويكون صمصام الدولة نائبا عنه، فلما كانت سنة 376ه عادت الفتن بينهما، فسار شرف الدولة بجيوشه حتى وصل «واسطا» واستولى عليها.
فشغب الجند ببغداد على صمصام الدولة وأجمعوا على تسليم الملك إلى أخيه شرف الدولة، وكتبوا إليه يستقدمونه، فخاف صمصام الدولة اتساع الخرق، فسار بجماعة من رجاله إلى «واسط» ليصالح أخاه، فلما التقى به طيب قلبه وأكرمه، ولما أراد الرجوع إلى «بغداد» وخرج من منزل شرف الدولة، قبض عليه واعتقله وسار نحو «بغداد» ومعه أخوه المعتقل، فدخلها بدون حرب وذلك في رمضان سنة 377ه.
وفي أيامه قويت شوكة «باذ الكرذي الحميدي»، وكان قد استولى على «ديار بكر» و«ميافارقين» و «نصيبين»، فأرسل صمصام الدولة جيشا لقتاله، فانتصر «باذ» بعد عدة معارك ثم استولى على «الموصل» في سنة 373ه، وأقام فيها وقوي أمره حتى طمع في «بغداد»، فخافه صمصام الدولة، فأرسل جيشا كثيفا بقيادة زياد بن شهراكويه الديلمي، فدارت بينها رحى الحرب في سنة 374ه، فانكسر «باذ» وانهزم بأصحابه وعادت «الموصل» إلى البويهيين. (6) شرف الدولة 377-379ه
دخل شرف الدولة «بغداد» فركب إليه الخليفة الطائع وهنأه وعهد إليه بالسلطنة، وتوجه وألبسه سوارين وخلع عليه، وأمر فقرئ عهده وخطب له على المنابر، وصار له لقب «السلطان» بدلا من لقب «أمير الأمراء»، فأحسن شرف الدولة السيرة ووجه نظره إلى أحوال المملكة، وشرع يصلح ما أفسدته الفتن المتوالية؛ فرد الأملاك المغصوبة إلى أهلها، منها أموال النقيب أبي أحمد والد الراضي، وأموال الشريف محمد بن عمر الكوفي، وأقر على الناس مراتبهم، ثم وجه نظره إلى تشجيع العلوم والفنون ، وبنى مرصدا في طرف بستان دار المملكة ببغداد، وجمع فيه الفلكيين وأمرهم برصد الكواكب، فرصدوها له، منهم أبو سهل ويجن الكوهي وذلك سنة 379ه، وأكرم هذا السلطان العلماء وقربهم، ولم يحدث في أيامه بالعراق ما يخل بالنظام غير حادثتين وقعتا في «بغداد»: الأولى أن عساكره الذين كانوا نحو الخمسة عشر ألفا من الديلم، استطالوا على جنود الأتراك الذين كانوا في المدينة، وحدثت بينهم منازعة عن دار وإصطبل، وآلت المنازعة إلى القتال داخل «بغداد»، فانتصر الديلم لكثرتهم وانخذل الأتراك لأنهم كانوا يوم ذاك ثلاثة آلاف رجل، فنادى الديلم بإعادة صمصام الدولة إلى الملك فارتاب منهم شرف الدولة، ووكل بصمصام الدولة من يقتله إن هموا بذلك.
ولما انخذل الأتراك لقلتهم ورأوا أنفسهم غير قادرين على الانتقام من الديلم لكثرتهم، التجئوا بالأهلين من السنة، فاتفقوا معهم فانتصروا على الديلم بمساعدتهم وفتكوا بهم وشتتوهم، فاعتصموا بشرف الدولة، فأصلح بينهم وحلف بعضهم لبعض، وعلى أثر هذه الحادثة أرسل شرف الدولة أخاه صمصام الدولة مسجونا إلى بلاد «فارس»، فاعتقل هناك.
أما الثانية، فهي أن قائد الجيوش «قراتكين» الذي كان قد أفرط في الدولة حتى صار حملا ثقيلا على شرف الدولة، حدثت بينه وبين منصور بن صالحان وزير شرف الدولة وحشة، فأغرى الجنود بالشغب على الوزير، فثاروا عليه وأسمعوه ما يكره، فانبسط لهم الوزير ولاطفهم فسكنوا، فأصلح شرف الدولة بين الوزير والقائد وشرع سرا في تدبير الخلاص من القائد حتى تمكن بعد أيام قليلة من القبض عليه وعلى جماعة من أنصاره وصادر أموالهم، فشغب الجند فقتل شرف الدولة القائد وولى مكانه «طغان الحاجب»، فسكن الجيش وأخلد إلى السكون، وتوفي شرف الدولة ببغداد سنة 379ه.
وفي هذه السنة (سنة 379ه) استولى على «الموصل» أبو طاهر إبراهيم، وأبو عبد الله الحسين ابنا ناصر الدولة بن حمدان. (7) بهاء الدولة 379-403ه
وتولى الأمر بعد شرف الدولة أخوه أبو نصر بهاء الدولة بن عضد الدولة، فركب الخليفة الطائع إليه ودخل عليه يعزيه بأخيه، فقبل أبو نصر الأرض بين يدي الخليفة وأظهر له احتراما عظيما، ثم عاد الخليفة إلى قصره، فحضر عنده الوجوه والأمراء والعلماء وأبو نصر، فخلع عليه الخليفة سبع خلع وطوق عنقه بطوق كبير من ذهب، وألبسه سوارين من الذهب، ومشى الحجاب بالسيوف بين يديه، فقبل الأرض بين يدي الخليفة وجلس على كرسي أعد له، فقرئ عهده ولقبه الخليفة «بهاء الدولة».
ولما تم الأمر لبهاء الدولة استخلف على «بغداد» أبا ناصر خواشاذه، وسار هو منها إلى «جرجان» سنة 380ه وملكها، وجرت بينه وبين صمصام الدولة الذي فر من السجن بعد وفاة شرف الدولة حروب عديدة، ثم اصطلحا وعاد بهاء الدولة إلى «بغداد».
وفي أثناء غياب بهاء الدولة حدثت ببغداد فتن عديدة، تارة بين الديلم والأتراك، وأخرى بين السنة والشيعة، فلما عاد أصلح ما أفسدته تلك الفتن، وبينما هو يصلح ما فسد إذ شغب الجند عليه لتأخير مرتباتهم، فاحتاج إلى المال فأغراه أبو الحسن بن المعلم - وكان مقربا عنده - بالقبض على الخليفة الطائع وأطمعه في أمواله، وصادف أن الخليفة كان قد حبس رجلا من خواص بهاء الدولة، فاغتاظ منه وأضمر له السوء وأرسل إليه في الحضور عنده، فجلس الخليفة حسب العادة على سريره متقلدا سيفه، فجاء بهاء الدولة ومعه جماعة من حاشيته، فقبل الأرض بين يدي الخليفة وجلس على كرسيه، وكان قد أوصى بعض رجاله بالقبض على الخليفة، وبينما هم جلوس تقدم رجاله إلى الخليفة وجذبوه من سريره ولفوه في كساء وصعدوا به إلى دار السلطنة وهو يستغيث ويقول: «إنا لله وإنا إليه راجعون.» فحبسوه وأخذ بهاء الدولة كل ما كان في قصره وأنفقه على الجند، فاضطربت «بغداد» لهذه الحادثة، وكان الشريف الرضي ببغداد، فقال في ذلك أبياتا منها:
من بعد ما كان رب الملك مبتسما
إلي أدنوه في النجوى ويدنيني
أمسيت أرحم من قد كنت أغبطه
لقد تقارب بين العز والهون
ومنظر كان بالسراء يضحكني
يا قرب ما عاد بالضراء يبكيني
هيهات أغتر بالسلطان ثانية
قد ضل ولاج أبواب السلاطين
ونهب الناس بعضهم ونقموا على بهاء الدولة، ولكنه لم يبال بهم وأجبر الطائع على خلع نفسه وأشهد عليه بالخلع، وأنفذ جماعة من الوجوه إلى «البطيحة» لإحضار أبي العباس أحمد بن الأمير إسحاق بن المقتدر بالله، فأحضروه إلى «بغداد» وخرج لاستقباله بهاء الدولة والأمراء والعلماء والوجوه وأدخلوه قصر الخلافة وبايعوه ولقبوه «القادر بالله» (381-422ه)، ولما تمت البيعة حمل الطائع المخلوع إلى قصر القادر بالله، فبقي مكرما إلى أن مات.
وكان القادر هذا عالما فاضلا أديبا شاعرا؛ فتمكن بحسن سيرته وتدبيره من إرجاع بعض مجد الخلافة.
وفي عهد بهاء الدولة سنة 381ه بنى وزيره سابور بن أردشير مكتبة كبيرة على مثال بيت الحكمة الذي أنشأه هارون الرشيد، وزاد فيه عبد الله المأمون، بناها في محلة بين السورين في الجانب الغربي من «بغداد» وسماها «دار العلوم»، وجعل فيها من الكتب الخطية النفيسة أكثر من عشرة آلاف كلها بخطوط الأئمة ورجال العلم، فكانت أشهر مكتبة في «بغداد»، بل كانت مجمعا للعلماء والأدباء والفلاسفة من عراقيين وغيرهم - وقد أحرقت هذه المكتبة فيما احترق من محلات الكرخ يوم مجيء طغرل بك أول ملوك السلوجوقية إلى «بغداد» سنة 447ه.
وفي هذه السنة (سنة 381ه) استولى على «الموصل» أبو الذؤاد محمد بن المسيب أمير بني عقيل، وهو رأس دولة بني عقيل أول دولة بني المقلد أو آل المسيب في «الموصل»، ولما تم أمره فيها كتب إلى بهاء الدولة يخبره بذلك ويسأله أن ينفذ إليه من يقيم عنده من أصحابه يتولى الأمور - كنائب - فأرسل إليه قائدا من قواده، ثم استبد أبو الذؤاد بالأمور كلها، فأرسل بهاء الدولة أبا جعفر الحجاج بن هرمز بعسكر كثير لقتاله، فوصل «الموصل» وطرد أبا ذؤاد وملكها، ثم دارت بين أبي ذؤاد وبين عساكر بهاء الدولة عدة معارك انجلت بفوز البويهيين.
ولما توفي أبو الذؤاد سنة 387ه سار أخوه المقلد إلى «الموصل»، واستمال بعض الجنود الديلمية وكتب إلى بهاء الدولة يضمن منه «الموصل» وأعمالها بمليونين من الدراهم، وفي أثناء ذلك حمل على «الموصل»، فانهزم منها سرا أبو جعفر عامل بهاء الدولة وسار إلى «بغداد»، فدخلها المقلد وتم أمره فيها.
وفي الوقت نفسه كان المقلد يتولى حماية غربي الفرات من أرض «العراق»، وله عليها نائب، ولما كان بهاء الدولة مشغولا في محاربة أعوان أخيه صمصام الدولة، جرت بين نائب المقلد وبين أصحاب بهاء الدولة مشاجرة، فسار المقلد منتصرا لنائبه، فدارت رحى الحرب بين المقلد وبين جنود بهاء الدولة، فلما سمع بهاء الدولة بذلك أرسل أبا جعفر الحجاج إلى «بغداد» وأمر بمصالحة المقلد خوفا من إثارة الحرب، فراسل أبو جعفر المقلد واستقر الصلح بينهما على أن يحمل المقلد عشرة آلاف دينار إلى بهاء الدولة سنويا، وأن يخطب له في البلاد، ثم خلعت على المقلد الخلع السلطانية ولقب ب «حسام الدولة»، وأقطع «الموصل» و«الكوفة» و«القصر - قصر شيرين» و«الجامعين - الحلة»، غير أن المقلد لم يحمل من المال إلا قليلا، ثم قطعه وعظم شأنه وخافه البويهيون وغيرهم.
وفي أيامه في سنة 386ه حمل على البصرة أحد قواد صمصام الدولة البويهي اسمه «لشكرستان»، فقاتله نواب بهاء الدولة فانتصر عليهم بمعاضدة جماعة من البصريين منهم أبو الحسن بن أبي جعفر العلوي، ودخل البصرة ظافرا في هذه السنة، ولما دانت البصرة لهذا القائد شره في أموال الناس، فابتز أموال المثرين وفتك بجماعة كبيرة من البصريين، فهاجر منها عدد كبير ومكث «لشكرستان» بالبصرة أكثر من شهر، فزحف عليه أمير «البطيحة» مهذب الدولة أبو الحسن علي بن نصر، وكان تحت سيادة بهاء الدولة، فلما اقترب من البصرة فر منها «لشكرستان».
فدخلت سنة 390ه وكانت أحوال العراق هادئة، فارتأى بهاء الدولة أن يقيم في «الأهواز - خوزستان» فاستخلف على العراق ببغداد أبا علي بن جعفر المعروف ب «أستاذ هرمز» ولقبه «عميد العراق»، وسار هو من بغداد،
7
فلما كانت سنة 391ه جمع «لشكرستان» جيشا كبيرا فأعاد الكرة على «البصرة»، فدخلها عنوة وأعاد الظلم والسلب وصادر أملاك أكثر الوجهاء وقتل بعضهم، ففر كثيرون من أهلها إلى بلاد أخرى.
ولما كانت سنة 394 جهز مهذب الدولة جيشا قويا، وأرسله بقيادة أحد قواده أبي العباس بن واصل لقتال «لشكرستان» وطرده من البصرة، وبعد معارك دامت أكثر من شهرين انهزم «لشكرستان» بمن معه، فاستولى أبو العباس على البصرة وذلك في سنة 395ه، وقتل في هذه الفتنة نحو الخمسة آلاف من الفريقين، فلما استتب أمر أبي العباس بالبصرة خلع طاعة مهذب الدولة واستبد بالأمور، فأرسل مهذب الدولة لطرده منها جيشا ففشل، ثم جهز له جيشا ثانيا بقيادة أبي سعيد بن ما كولا ففشل أيضا، وقوي أمر أبي العباس فقصد «البطيحة»، وبعد قتال استولى على أكثرها، وفي أثناء ذلك اضطربت عليه البلاد فخاف على نفسه فترك «البطيحة» وعاد إلى البصرة.
كل ذلك جرى في البصرة وأطرافها وبهاء الدولة مقيم في «الأهواز»، فلما بلغته قوة أبي العباس واستبداده بالبصرة خاف عاقبة أمره، فأحضر عنده عميد الجيوش من «بغداد»، وجهز له جيشا كبيرا وسيره لقتال أبي العباس، فهزمهم أبو العباس، واستمرت الحرب بينه وبين جيوش بهاء الدولة مدة، ثم حمل عليه بهاء الدولة بخمسة عشر ألف مقاتل، فاندحر جيشه وعاد بالفشل، فطمع أبو العباس ب «الأهواز»، فحمل بجيشه عليه فدحرته جيوش بهاء الدولة وعاد بالخسران، وعلى أثر هذه الهزيمة زحف بهاء الدولة بجيوش كثيرة على «البصرة» فانتصر على أبي العباس، ثم حاصر المدينة أربعة أيام، فاستولى عليها عنوة وقبض على أبي العباس فقتله، وذلك في سنة 397ه.
ثم ولى على «البصرة» الوزير أبو غالب، وعاد هو إلى «الأهواز».
وبقي عميد العراق - ويروى عميد الجيوش - أبو علي بن جعفر ب «بغداد» نائبا عن بهاء الدولة حتى مات سنة 401ه، فولى مكانه بهاء الدولة أبا غالب ولقبه فخر الملك، فظل هذا ب «بغداد» نائبا على «العراق» حتى مات بهاء الدولة سنة 403ه ب «أرجان»، وحمل نعشه إلى «بغداد» ومنها نقل إلى مشهد الإمام علي ودفن هناك، وممن تولى ديوانه ب «بغداد» علي بن محمد الكاتب، وهو الذي صنف له المنشور البهائي، وهو نثر كتاب الحماسة. (8) سلطان الدولة ابن بهاء الدولة 403-411ه
وتولى بعد بهاء الدولة ابنه أبو شجاع سلطان الدولة، فأبقى فخر الملك ب «بغداد» نائبا على «العراق»، وولى «البصرة» جلال الدولة أبا طاهر بن بهاء الدولة، ثم غضب سلطان الدولة على فخر الملك لأنه خالفه في بعض الأمور، فأمر بالقبض عليه في سنة 406ه، فأرسل مخفورا من «بغداد» إلى «شيراز»، فقتله هناك وولى على «العراق» أبا محمد الحسن بن سهلان ولقبه «عميد الجيوش»، فبقي هذا مقيما في «بغداد» يدير أمور «العراق» إلى سنة 411ه.
وفي أيام سلطان الدولة توفي ب «بغداد» الشريف الرضي الحسن بن محمد في سنة 404ه، وكان عالما فاضلا، وشاعرا مفلقا، وكاتبا بليغا، تولى نقابة نقباء الطالبين في سنة 359ه، ثم ضمت إليه الأعمال التي كان يليها أبوه، وهي النظر في المظالم والحج بالناس، وكان له من سمو المقام ما دعاه أن يكتب إلى الخليفة القادر بالله من قصيدة طويلة:
عطفا أمير المؤمنين فإننا
في دوحة العلياء لا نتفرق
ما بيننا يوم الفخار تفاوت
أبدا كلانا في المعالي معرق
إلا الخلافة ميزتك فإنني
أنا عاطل منها وأنت مطوق
وجاء سلطان الدولة إلى «بغداد» في سنة 407ه وأقام بها أياما، ثم سار منها لقتال أخيه أبي الفوارس مشرف الدولة، ولم يرجع إلى «بغداد» إلا في سنة 411ه، بعد أن تم الصلح بينه وبين أخيه المذكور، وما كادت قدماه تستقر ب «بغداد» إلا وثارت عليه الجنود فيها، ونادوا بولاية أخيه مشرف الدولة، فأسكتهم بالمال وعزم على الذهاب إلى «واسط»، فطلبوا منه أن يستخلف مشرف الدولة على «بغداد»، فاستخلفه كرها وسار إلى «واسط»، ثم عزم على المسير إلى «خوزستان»، فاستخلفه على «العراق» كله بعد أن تحالفا أن لا يستخلف أحد منهما أبا سهلان، فلما وصل سلطان الدولة إلى ششتر استوزر بن سهلان، وسيره بالعساكر لحرب مشرف الدولة وإخراجه من «العراق»، فاغتاظ مشرف الدولة واتحد مع الأتراك وجهز جيشا جرارا مؤلفا من الأتراك والديلم، والتقى بالوزير قرب «واسط»، وبعد معارك انهزم الوزير وتحصن ب «واسط» فحاصره مشرف الدولة حتى اضطره إلى الفرار بمن معه، فدخلها مشرف الدولة وأعلن استقلاله في «العراق».
وفي أيام سلطان الدولة هذا أسست في «العراق» الدولة المزيدية في أرض الحلة في سنة 403ه، أسسها أبو الحسن علي بن مزيد من بني أسد، وتولى بعده ابنه دبيس سنة 408ه بعهد منه، ثم حدثت بينه وبين أخيه الأكبر المقلد فتنة في سنة 416ه، فانتصر بنو عقيل للمقلد وأمده جلال الدولة أيضا فانهزم، وأخيرا وقع الصلح بينه وبين جلال الدولة، وتعهد دبيس بدفع المال المقرر في ولايته واستقام أمره، ثم حدثت في سنة 424ه بينه وبين أخيه الآخر ثابت فتنة، فأمد البساسيري ثابتا، فتمكن ثابت من التغلب على ملك دبيس، ثم انتصر دبيس على ثابت بمساعدة خفاجة وعاد إلى ملكه - ولم تكن الحلة حينئذ بنيت - ثم تصالحا على أن يكون لثابت بعض الأعمال، ودامت هذه الدولة 142 سنة تقريبا، أي من 403-545ه.
وأول ملوكها أبو الحسن علي بن مزيد، وآخرهم علي بن دبيس بن صدقة - انقرضت في عهد السلطان مسعود السلجوقي. (9) مشرف الدولة بن بهاء الدولة 411-416ه
تقدم ما جرى بين سلطان الدولة وبين أخيه مشرف الدولة، وكيف استولى الثاني على «العراق» وأعلن استقلاله، ولكنه بعد انتصاره على جيوش أخيه سلطان الدولة دخل «بغداد» بجيش كبير من الديلم، فخرج الأهلون لاستقباله وهابه الناس كثيرا، فعظم أمره وعلا شأنه وخوطب بشاهنشاه - ملك الملوك - وخطب له بالملك على المنابر، واستمر ملكه على «العراق» إلى أن توفي ببغداد سنة 416ه.
وفي أول عهده ازداد استبداد قرواش في البلاد، فعزم مشرف الدولة على محو إمارته وأخذ البلاد منه - الموصل والكوفة والأنبار وغيرها - فحرك عليه بني أسد وأمدهم بالجند والمال، فساروا إلى قرواش وقاتلوه، وبعد معارك انهزم قرواش برجاله وتبعه بنو أسد حتى أدركوه وأسروه وسلموه إلى مشرف الدولة، فضبط مشرف والدلة بلاد قرواش وأسره، وبعد أيام قليلة انهزم من الأسر، ثم كتب إلى مشرف الدولة يسأله الصفح، فأبى ذلك.
ولم يحدث في أيام مشرف الدولة في «العراق» شيء يذكر غير ما تقدم. (10) جلال الدولة ابن بهاء الدولة 416-435ه
وتولى بعد شرف الدولة أخوه أبو طاهر جلال الدولة، وكان ضعيف الرأي سيئ التدبير؛ من ذلك أنه لما بويع بالملك وهو يومئذ في «البصرة» - وكان عليها منذ أيام سلطان الدولة - طلب الجيش قدومه إلى «بغداد» فامتنع، فخرجوا عن طاعته وقطعوا خطبته وخطبوا لابن أخيه «أبي كاليجار بن سلطان الدولة» الذي ملك فارس بعد أبيه، فلما علم جلال الدولة بذلك ولى على «البصرة» أبا الفتح محمد بن أردشير، وسار نحو «بغداد» فخرج إليه جيشها ليرده، فقاتله وانتصر عليهم ودخل «بغداد»، فخرج الخليفة لاستقباله وقلده السلطنة على ما جرت به العادة. ومنها أن الجيش ثار عليه ب «بغداد» سنة 419ه بسبب قطع مرتباتهم، وحصروه في داره ومنعوا عنه الماء، فاضطر إلى بيع حلي نسائه وثيابه وفرق ثمنها على الجيش، ثم ثاروا عليه ثانية سنة 422ه، وشغبوا عليه، فدخل قصره وأغلق أبوابه، فجاءت الأتراك ونهبوا قصره وسلبوا كتابه وأرباب دواوينه، فاضطر إلى الخروج من «بغداد»، فسار منها إلى «عكبرا»،
8
فخطب الأتراك للملك «أبي كاليجار بن سلطان الدولة»، وأرسلوا إليه يطلبونه وهو يومئذ ب «الأهواز» فلم يجبهم، فأعادوا خطبة جلال الدولة، وسار زعماؤهم إليه وسألوه الرجوع إلى «بغداد» واعتذروا عما فعلوه، فعاد إلى «بغداد» بعد 43 يوما.
وفي أول عهده تزلف له قرواش - ابن أبي جعفر المقلد الملقب ب «حسام الدولة» - وأخلص له فأعاده إلى ملكه، وبعد مدة استبد قرواش بالبلاد واستأثر بجبايتها ثانية، وامتنع عن مراجعة جلال الدولة في الأمور، فأثار عليه جلال الدولة بني أسد وخفاجة، وأمدهم بالجند والمال، فالتقوا بقرواش قرب «الكوفة»، وبعد عدة معارك هرب قرواش إلى «الأنبار»، فطاردوه حتى بلغ «الموصل» وتحصن فيها سنة 417ه، وفي تلك الأثناء ثارت الفتن والاضطرابات في داخلية بلاد الدولة البويهية، واشتغل البويهيون في إخمادها، فاغتنم قرواش تلك الفرصة وعاد إلى بلاده.
ولسوء تدبيره وضعف رأيه كثرت الفتن في «بغداد»، وتوالى فيها شغب الأتراك وعظم أمرهم فيها، وكثر المفسدون واللصوص، وانتشر الأعراب في البلاد فنهبوا النواحي والقرى، وقطعوا الطرق وبلغوا أطراف «بغداد» حتى وصلوا إلى جامع المنصور، وسلبوا ثياب النساء في المقابر، بل إن الفوضى عمت في أيامه جميع البلاد العراقية، وكثر السلب والنهب والقتل وضعف أمر الدولة البويهية في العراق وخصوصا بغداد، حتى حاول البغداديون ترك وطنهم لعدم الأمن وشيوع الفوضى في المدينة وما يليها، ولكنهم لم يجدوا إلى ذلك سبيلا لانقطاع الطرق وانتشار اللصوص في كل الجهات، حتى إن جماعة من الأكراد نهبوا دواب بعض الجنود ونهبوا ثمرة قراح - مزرعة - الخليفة القائم، فلم يتمكن جلال الدولة من القبض عليهم لعجزه، فعظم ذلك على الخليفة واضطر أن يهدده، فأمر القضاة والفقهاء بالإضراب عن العمل بترك القضاء والفتوى ففعلوا، فلما لم يحصل الخليفة على شيء أمر بترك الإضراب.
وحدثت في أيامه في سنة 419ه فتن عظيمة بين الديلم والأتراك في البصرة، وأخيرا انتصر الأتراك وقوي أمرهم فيها وأخرجوا الديلم منها، فلما كانت سنة 320ه أرسل «أبو كاليجار بن سلطان الدولة» جيشا بقيادة بختيار وأمره أن يأخذ «البصرة»، فاستولى عليها وطرد منها حاكمها الملك العزيز أبا منصور بن جلال الدولة، ونهب الديلم أسواق المدينة، ودام النهب سبعة أيام وصودرت أموال التجار وتلفت نفوس كثيرة، فأرسل جلالة الدولة وزيره أبا علي بن ماكولا بجيش كبير في سنة 421ه، فسار إليها أبو علي في 400 سفينة ومعه عبد الله الشرابي، وبعد قتال مع بختيار اندحر أبو علي ووقع أسيرا، فلما علم «جلال الدولة» بمصير جيشه جهز جيشا ثانيا، فانتصر جيشه واستولى على «البصرة»، وعلى أثر ذلك حدث نزاع بين عساكر «جلال الدولة» فتفرقوا، فعاد القائد بختيار إلى «البصرة» واسترجعها لأبي كاليجار، فجهز «جلال الدولة» جيشا آخر في سنة 424ه، وأرسله بقيادة ابنه الملك العزيز، وكان في تلك الأثناء على «البصرة» أبو القاسم من قبل «أبي كاليجار»، وكان قد استبد بها وعصى عليه، فلما اقتربت منه جيوش جلال الدولة سلم «البصرة» بدون حرب، ولكنه بقي كمساعد للملك العزيز في تدبير شئون «البصرة»، وبعد قليل حدث بينهما خلاف أدى إلى وقوع معارك بينهما داخل المدينة، وكانت النتيجة طرد الملك العزيز من «البصرة»، ثم أعطيت هذه المدينة بالضمان لأبي القاسم على أن يدفع في كل سنة سبعين ألف دينار إلى «أبي كاليجار».
فلما كانت سنة 430 امتنع أبو القاسم من تسليم المال إلى أبي كاليجار، وصار تارة ينحاز إلى جلال الدولة وأخرى إلى أبي كاليجار، فحمل عليه أبو كاليجار بجيش كبير في سنة 431ه، وبعد قتال حاصر «البصرة» حصارا شديدا، فاستولى عليها عنوة وأعطاها بالضمان إلى ابنه عز الملوك، على أن يدفع له سنويا مائة ألف دينار، وجعل معه مساعدا أبا الفرج بن فسانجس، وظلت «البصرة» في قبضته مدة، ثم خرجت من يد البويهيين حينما زال ملكهم من «العراق».
ومع عجز جلال الدولة وضعفه لقب في سنة 259ه ب «ملك الملوك».
وفي أيامه توفي الخليفة القادر بالله، فبويع لابنه أبي جعفر عبد الله ولقبوه «القائم بأمر الله» (422-467)، فضيق جلال الدولة على القائم بأمر الله حتى إنه أخذ منه في سنة 434ه أموالا كانت مقررة للخلفاء من ذي قبل، فحدثت بينهما وحشة دامت إلى أن مات جلال الدولة ب «بغداد» في 6 شعبان سنة 435ه، بعد أن ملك ست عشرة سنة وأحد عشر شهرا، أو كانت أيامه مشحونة بالفتن والحروب مع أبناء أعمامه منازعيه في الملك تارة ومع الأمراء أخرى. (11) أبو المنصور، وأبو كاليجار 435-440ه
لما مات جلال الدولة كان ابنه الأكبر الملك العزيز أبو المنصور في مدينة «واسط»، فبويع له ب «بغداد»، وكتبت إليه الجيوش بالبيعة والطاعة، وطلبوا منه القدوم إلى «بغداد»، وشرطوا عليه تعجيل حق البيعة - إكرامية أو بخشيش - وبلغ خبر مبايعته الملك أبا كاليجار البويهي المستولي على «فارس»، فأخذ يراسل القواد والجند ويعدهم بالأموال الكثيرة وكثرة العطاء حتى استمالهم إليه، وكان أبو المنصور قد أخر حق البيعة الذي اشترطه الجند عليه، فعدلوا عنه ومالوا إلى أبي كاليجار، وكتبوا إليه يسألونه القدوم إليهم، وقطعوا خطبة أبي المنصور وأعلنوا بيعة أبي كاليجار وخطبوا له على المنابر، فلما علم أبو المنصور بذلك خاف الغدر، فسار في سنة 345ه مستجيرا بقرواش وبنصر الدولة بن مروان، وبقي مقيما عند نصر الدولة حتى مات في «ميافارقين».
أما الملك أبو كاليجار، فإنه بعد أن استوثق من الجند واستقرت القواعد بينه وبينهم، وتيقن من البيعة له، أرسل أموالا طائلة إلى الجند وأهدى إلى الخليفة عشرة آلاف دينار مع تحف كثيرة نفيسة، ثم سار في سنة 436ه إلى «بغداد»، فدخلها بمائة فارس من أصحابه وخلع على القواد، وأجرى له الخليفة المراسم المعتادة ولقبه «محيي الدين»، وتم الأمر لأبي كاليجار في «العراق» و«فارس»، وخطب له على المنابر بالملك.
وفي أيام أبي كاليجار حدثت حرب بين قرواش وبين أخيه بدران، فصالح قرواش أخاه بدرا وأعطاه «نصيبين»، وعلى أثر ذلك حمل الأمير منيع الخفاجي على إقطاع قرواش التي على سقي «الفرات»، فضبطها منه وخطب فيها للملك أبي كاليجار، وذلك في سنة 435ه، وفي أيامه قوي أمر السلجوقيين الأتراك، وانتزعوا البلاد من بني بويه وعظم شأن زعيمهم أبي طالب محمد بن ميكائيل بن سلجوق الملقب «ركن الدين طغرل بك»، فخافه أبو كاليجار وكتب إليه يسأله الصلح في سنة 439ه، فأجابه إليه وكتب طغرل بك إلى أخيه الملك داود بعدم التعرض بمملكة أبي كاليجار، ثم استقر الحال بينهما على أن يتزوج طغرل بك بنت أبي كاليجار، ويتزوج المنصور بن أبي كاليجار بنت الملك داود أخي طغرل بك، وجرى ذلك الزفاف في السنة نفسها (439)، ولما كانت سنة 440ه، سار أبو كاليجار إلى كرمان فمات في الطريق بعد أن ملك العراق أربع سنوات وشهرين وبضعة أيام. (12) الملك الرحيم 440-447ه
هو أبو نصر بن أبي كاليجار، كان ب «بغداد» يوم مات أبوه في طريق «كرمان»، فاجتمع رجال الدولة في دار الإمارة، فبايعوه بالملك وحلف له الجيش بالطاعة، فأرسل أبو نصر إلى الخليفة القائم يطلب منه الخطبة وتلقيبه ب «الملك الرحيم»، فأجابه الخليفة إلى ما طلب إلا اللقب؛ فإنه امتنع من إجابته عليه قائلا: «لا يجوز أن يلقب بأخص صفات الله.» فترددت الرسل والرسائل بينهما من أجل ذلك، وأصر الخليفة على رفض اللقب، فلقبه أصحابه به رغم إرادة الخليفة، وظل هذا اللقب عليه ودانت له بلاد العراق وخوزستان «الأهواز».
وهو الذي أقطع الأمير دبيس بن علي بن مزيد حماية نهر الصلة ونهر الفضل في سنة 441ه، وكانت من إقطاع جند «واسط»، فغضبوا وزحفوا على دبيس، فانتصر عليهم وفتك بهم وغنم أموالهم، فانهزموا راجعين إلى «واسط».
9
وفي أيامه عصى أبو علي بن أبي كاليجار أمير «البصرة»، فحمل عليه «الملك الرحيم» في سنة 445ه وحاربه فانتصر عليه، وتحصن أبو علي في «البصرة»، وكان البصريون قد كرهوه لسوء سيرته وتجبره وظلمه، فانحازوا إلى «الملك الرحيم» وثاروا على الأمير، فطردوه وسلموا المدينة إلى «الملك الرحيم» في سنة 446ه، وبعد أن دبر شئونها ولى عليها البساسيري.
وفي أيامه حدثت ببغداد فتن كثيرة بين السنة والشيعة، قتل فيها خلق كثير من الطرفين، ولم تتمكن الحكومة من قمع تلك الفتن، بل إنها لم تتمكن من قمع الفتن التي كانت تقوم تارة من أجل المناصب، وأخرى بسبب الاختلاف المذهبي الذي هو من أكبر أسباب انقراض هذه الدولة، ولم تنته الفتن بين السنة والشيعة حتى قامت بينهما فتنة كبيرة في سنة 443ه، قتل فيها من الطرفين عدد كثير فيهم مدرس الحنفية أبو سعيد الرحبي، واحترقت في هذه الفتنة المحزنة دور الفقهاء، وضريح الإمام موسى بن جعفر الصادق، وقبر زبيدة زوجة هارون الرشيد، وقبور الخلفاء، وقبور ملوك بني بويه.
وأخذت دولة بني بويه في عهد هذا الملك تزداد ضعفا على ضعف، وانحلت أمور الدولة ب «بغداد» وغيرها، وبينما كانت هذه الدولة تنحط يوما فيوما، كانت دولة السلجوقيين تتوسع وتقوى يوما فيوما، وكان رجالها قد استولوا على بلاد كثيرة محادة شرقي «العراق» في الوقت الذي كان العراقيون قد سئموا حكم البويهيين وملوا سياستهم وتمنوا زوال ملكهم.
وعلى أثر ذلك الانحلال والضعف طمع طغرل بك السلجوقي في الاستيلاء على «العراق»، فتقدم نحو «بغداد» بعد أن فتح بلادا كثيرة في الوقت الذي كانت الفوضى فيه ضاربة أطنابها في «العراق»، والحكومة عاجزة عن كل شيء، وقد انحل أمرها وليس لديها من الجند ما تستطيع به الدفاع عن بلادها، ولا عندها مال تجهز به الجيوش.
وكانت النتيجة أن حمل طغرل بك السلجوقي على «العراق» بجيش كبير من الأتراك، فاستولى على «بغداد» مقر الدولة البويهية والخلافة العباسية، وحدثت يوم دخوله «بغداد» فتنة عظيمة احترقت فيها بعض المحلات وكثر النهب والقتل، وذلك في سنة 447ه، وانقرضت هذه الدولة من «العراق» بعد أن ملكته مائة وثلاث عشرة سنة من تاريخ استيلاء معز الدولة أحمد على «بغداد»، إلى آخر أيام «الملك الرحيم» الذي أسره طغرل بك، وعدد هؤلاء الملوك الذين ملكوا «العراق» أحد عشر ملكا.
وانتقل الحكم في «العراق» بعدهم إلى السلاجقة، ثم إلى الخلفاء العباسيين الذين أعادوا حقهم ونفوذهم، ثم حمل هولاكو المغولي بجيوشه وقرض الخلافة العباسية، فظل «العراق» ينتقل من دولة إلى أخرى، حتى حمل الشاه إسماعيل الصفوي على السلطان مراد بن يعقوب آخر ملوك دولة الخروف الأبيض التركمانية، وطرده من «العراق»، وسيأتي ذكر ذلك.
الدولة الصفوية الأولى
الدولة الفارسية السادسة في «العراق» 914-941ه
تمهيد
أسس الدولة الصفوية في «إيران» إسماعيل بن حيدر بن جنيد بن الشيخ صفي الدين الأردبيلي الصوفي، وسميت بهذا الاسم؛ نسبة إلى صفي الدين المذكور، وليس لهذا البيت قرابة مع إحدى العائلات المالكة في إيران ولا في غيرها، ولا كانت تعرف هذه السلالة بغير رئاسة التصوف بادئ بدء، ثم قوي أمرها على عهد جنيد وكثر أتباعها واشتهرت، وظل أبناؤها يتدرجون في الزعامة على أتباعهم شيئا فشيئا حتى عظم شأن حيدر بن جنيد، ولما مات نهض ابنه إسماعيل وجمع الجموع - وكان حازما عالي الهمة - فحمل على «أذربيجان» 905ه واستولى عليها، ثم على «شيروان» 906ه، ثم على «ما وراء النهر»، فبلاد «فارس»، ف «خراسان»، ف «العراق العجمي»، ف «كردستان»، ف «ديار بكر». وأسس مملكة واسعة الأطراف، وهو أول ملوك الدولة الصفوية، وأول ملوك «فارس» الذين تلقبوا بالشاهات - أي السلاطين. (1) استيلاء الشاه إسماعيل على «العراق»
دخلت سنة 914ه، فطمع الشاه إسماعيل في «العراق» وصاحبه يومئذ السلطان مراد - أو مراد بك - ابن يعقوب آخر ملوك دولة الخروف الأبيض «آق قويونلي» التركمانية،
1
وكان قد أناب عنه على «العراق» أحد رجاله الأمير مبارك - بارك - فحمل الشاه على «العراق» قاصدا «بغداد»، وأرسل في مقدمته أحد قواده المدعو «لا لاحسن»، فحاصر «بغداد» وعجز أميرها عن الدفاع، وانتصر القائد الفارسي على حامية المدينة واحتلها عنوة في السنة نفسها، وعلى أثر ذلك توجه الشاه إسماعيل إلى «بغداد»، فلما دخلها فتك بأهلها من السنة والنصارى، ثم سار عنها واستناب عنه نائبا فيها، وترك قسما من جنوده لحماية المدينة وعاد إلى مقره بعد أن زار العتبات المقدسة، وخضعت له أكثر المدن العراقية.
أما السلطان مراد فإنه فر مستجيرا بالملوك والأمراء، فأمدوه بالجيوش والأموال، فألف جيشا كبيرا وسار به لاسترداد «بغداد»، فتمكن في سنة 916ه من طرد جيوش الشاه منها، فعادت إليه هي وما يتبعها، بعد أن ملكها الفرس نحوا من سنتين - أي سنة وبضعة أشهر - وكان الشاه إذ ذاك مشغولا في حروب «خراسان»، فلما انتهى منها تهيأ لأخذ «بغداد» ثانية وحمل عليها بجيش عرمرم وقاتل السلطان مراد حتى قهره وطرده، واستولى على «بغداد» عنوة سنة 920ه - وهي المرة الثانية - فانقرضت دولة الخروف الأبيض التركمانية من «العراق» بعد أن ملكته 44 سنة تقريبا، منها نحو الأربعين (سنة 874-914ه) قبل إغارة الشاه الأولى، ونحو الأربع سنوات قبل الغارة الثانية، وأول ملوك تلك الدولة حسن بك المعروف ب «حسن الطويل»، وآخرهم السلطان مراد أو مراد بك هذا، وهي التي قامت في «العراق» على أنقاض دولة الخروف الأسود «قره قوبونلي» التركمانية.
2
ولما دخل الشاه إسماعيل «بغداد» ثانية، أعاد القتل وأعمل السيف بالسنة والنصارى وفتك بهم، ولم يمس اليهود بسوء لأنهم تجسسوا له قبل دخوله «بغداد » وبعده، وغالى في الانتصار لمذهب الشيعة وأتباعه، وأعلن المذهب الشيعي رسميا في مملكته، وبالغ في اضطهاد من بقي من السنة، حتى إنه أجبر كثيرين منهم على التشيع.
وبعد أن استتب أمر الشاه في «العراق» - بغداد والبصرة والموصل وما يتبع ذلك - ولى على «العراق» ب «بغداد» أحد رجاله «إبراهيم خان» وعاد إلى مقره، ثم أمر فأعيد بناء حرم الكاظمين والقبة التي على الضريحين سنة 926ه،
3
وأمر بكري النهر الذي كان قد احتفره علاء الدين عطاء الملك حاكم «العراق» من قبل هوكو، وجره من «الفرات» إلى مدينة «النجف»؛ لأن الرمال كانت قد تراكمت فيه وسدت مجراه فسمي ب «النهر الشاهي».
4 (2) الشاه طهماسب الأول وذو الفقار الكردي
ولما مات الشاه إسماعيل (905-930) وجلس مكانه ابنه طهماسب الأول، طمع في «العراق» الأمير ذو الفقار بن نخود سلطان رئيس قبيلة موصلو من عشيرة كلهور الكردية، الذي كان مستوليا على أطراف «لورستان»،
5
فحمل بالكلهوريين على «بغداد» وحاصرها أربعين يوما، فاستولى عليها في سنة 930،
6
وأسس بها دولة كردية، وأحسن السيرة والتدبير حتى ملك «العراق» كله تقريبا، وخاف من طهماسب الأول، فاحتمى بالسلطان سليمان القانوني العثماني، وخطب له على المنابر وضرب باسمه السكة، وأرسل له وفدا لعرض خضوعه والدخول تحت سيادته، ولكنه لم يكد يستريح حتى حمل عليه الشاه طهماسب الأول سنة 936ه الموافقة لسنة 1530م، فاستعد له ذو الفقار وتحصن في «بغداد»، فحاصرها الشاه أياما حتى عجز عن استردادها لحصانة أسوارها، فاضطر لاستعمال الحيل والخداع حتى تمكن من إغراء أخوي ذي الفقار وأطمعهما بالمناصب والأموال، فاغتالا أخاهما وقتلاه - وقيل مات مسموما - وفتحا أبواب المدينة، فدخلها الشاه في السنة نفسها (936ه)، وانقرضت الدولة الكردية التي لم تدم إلا نحو ست سنوات.
دخل الشاه طهماسب «بغداد»، فسلمت له المدن العراقية كلها تقريبا، فأعاد أعمال أبيه في دار السلام من اضطهاد السنة والفتك بهم، ثم ولى على «بغداد» «بكلو محمد خان» وفوض إليه شئون البلاد العراقية، وسار هو عائدا إلى مقره، وظل رجاله في «العراق» يضطهدون أبناء السنة ويحكمون بما تشتهيه نفوسهم؛ مما حمل السلطان سليمان القانوني على الانتقام من الفرس؛ انتصارا لأبناء مذهبه السنة، فصمم على فتح «العراق» وأخذه منهم. (3) خروج «العراق» من يد الفرس
دخلت سنة 940ه الموافقة لسنة 1535م، فعزم السلطان سليمان القانوني على أخذ «العراق» من الفرس، فأرسل إبراهيم باشا الصدر الأعظم والقائد العام بجيش كبير لقتال الشاه طهماسب الأول، وسار هو في إثره بجيش آخر، فدخل إبراهيم باشا «تبريز» أولا بالأمان، ثم سار منها قاصدا «بغداد»، فلما اقترب منها هرب حاكمها الفارسي «بكلو محمد خان» بجيوشه؛ خوفا من الأسر، فسلمت المدينة وفتحت أبوابها للقائد العثماني، فدخلها باستقبال عظيم في شهر جمادى الآخرة سنة 941ه، وبعد أيام قليلة وصل السلطان إلى «بغداد»، ودخلها بين التهليل والترحيب والتقديس على حسب عادة العراقيين مع كل فاتح. ثم فتحت الجيوش العثمانية مدينة «الموصل» في السنة نفسها، ودانت المدن العراقية كلها للعثمانيين، وزالت دولة الصفويين بعد أن حكموا «العراق» 25 سنة تقريبا، منها نحو سنتين بعد الغارة الأولى التي كانت في سنة 914ه، وما بقي فهو بعد الغارة الثانية التي حدثت في سنة 920ه.
أما «البصرة» فإنها كانت يوم مجيء السلطان سليمان تابعة للفرس، وكان عليها حاكم فارسي اسمه راشد خان، وكان قد بلغه سقوط «بغداد» وغيرها، فخاف على نفسه ومنصبه، فسار إلى «بغداد» للمثول بين يدي السلطان وعرض الطاعة والخضوع، فرق له السلطان فأقره على «البصرة»، على شرط أن تكون الخطبة والنقود باسم السلطان، وأن يكون ممتثلا لأوامر ولاة «بغداد» الأتراك في المسائل الهامة، فعاد راشد خان إلى منصبه، ولكنه بعد قليل استبد بالأمور كأن لم تكن له رابطة بالعثمانيين، فاضطروا إلى إرسال جيش تحت قيادة الوزير إياس باشا لطرد راشد من «البصرة»، فلما قرب الجيش انهزم منها راشد ودخلها الجيش العثماني، وذلك في سنة 953ه. «وظلت هذه المدينة في قبضة الأتراك إلى سنة 1005ه، فاستقل بها أمراؤها ثم أعادها الأتراك إليهم في سنة 1078ه، ثم تغلب عليها أمير «الحويزة» فرج الله خان في سنة 1109ه، فطرده الأتراك في سنة 1111ه، وبقيت في قبضتهم إلى أن تغلب عليها كريم خان الزندي في سنة 1190ه، ثم عادت للأتراك في سنة 1193ه، وبقيت تحت حكمهم حتى قامت الحرب العامة، فاستولى البريطانيون عليها في سنة 1333ه.»
وبقي «العراق» في قبضة العثمانيين 91 سنة تقريبا (948-1032ه)، ثم عاد للصفويين، ثم للأتراك.
الدولة الصفوية الثانية
أو الدولة الفارسية السابعة في «العراق» 1032-1048ه
كانت الدولة العثمانية قد وجهت إيالة «العراق» إلى الوزير يوسف باشا في سنة 1025ه، وكان هذا الوزير ضعيف الرأي، فحدثت بينه وبين رئيس شرطة «بغداد» بكر أغا فتنة في سنة 1028ه في عهد السلطان عثمان الثاني، وكان بكر أغا قد جلب الأهلين إليه وكثرت أتباعه واستولى على جميع شئون الحكومة العراقية، من إدارية وعسكرية، حتى لم يبق للوزير غير الاسم، وآلت تلك الفتنة إلى الحروب في نفس «بغداد»، فقتل يوسف باشا واستولى بكر أغا على الولاية، وكتب إلى السلطان يطلب تثبيته فيها، فوجهت الإيالة إلى غيره، فانتقض على الدولة وأعلن استقلاله في «العراق»، فما كان من السلطان إلا أن أرسل الجيوش إلى قتاله، فلما حوصرت «بغداد» وضاق الحال ببكر أغا، استنجد بالشاه عباس الأول الذي تولى عرش إيران سنة 995ه الموافقة لسنة 1586م، ووعده بالدخول تحت سيادته على أن يكون الحكم له والخطبة والسكة باسم الشاه، فوافق على ذلك الشاه وأنجده.
وفي أثناء ذلك اصطلح بكر أغا مع القائد العثماني حافظ أحمد باشا، ووجهت إليه الإيالة ورفع الحصار عن «بغداد»، ورجعت عساكر السلطان، غير أن الجيش الفارسي الذي جاء لنجدة بكر أغا كان قد اقترب من بغداد بعد أن أبرم بكر أغا معاهدة الصلح مع القائد العثماني، فكتب بكر أغا إلى قواد الفرس يطلب منهم الرجوع ويخبرهم بما تم من أمر الصلح، فأبوا عليه ذلك وأصروا على دخول بغداد حسب أمر الشاه، وبعد مخابرات حاولت الجيوش الفارسية دخول «بغداد» فمنعها بكر أغا، فحدثت بين الطرفين عدة معارك انتصر في آخرها بكر أغا، وظل يطارد الفرس حتى أخرجهم من ديار «العراق».
فلما علم الشاه بذلك استشاط غضبا وزحف بنفسه على «بغداد» في سنة 1032ه، وهو يقود جيشا كبيرا حتى اقترب منها، وكتب إلى بكر أغا يطلب منه تسليم المدينة، فأبى بكر أغا عملا بمعاهدة الصلح التي من شروطها ألا يدع الفرس يدخلون «بغداد».
وعندها حمل الشاه على المدينة وحاصرها حصارا شديدا، وضيق عليها من كل الجهات، ودام الحصار ثلاثة أشهر، كان فيها بكر أغا مدافعا دفاع الأبطال حتى ضاق به الحال وخارت قوى عساكره، واشتد القحط في المدينة.
أما الشاه فإنه لما عجز عن فتح «بغداد» حربا، عمد إلى الحيلة والخداع وراسل سرا محمد أغا بن بكر أغا - وكان محافظا على قلعة «بغداد» - فوعده بالمناصب والأموال حتى خدعه ففتح له أبواب المدينة ليلا، فدخلتها جيوش الشاه على حين غفلة من بكر أغا والأهلين، فانهزم المدافعون واختفى الناس في بيوتهم واشتغل كل في نفسه، فما أصبح الصباح إلا والشاه قد دخل «بغداد» بمن معه، وذلك في 9 شوال سنة 1032ه الموافقة سنة 1623م.
دخل الشاه عباس الأول بغداد، فقتل أكثر رجال الحكومة التركية من عسكريين وإداريين حتى رجال الدين، منهم القاضي نوري أفندي، وخطيب الجامع الكبير محمد أفندي وغيرهما، وفتك بالسنة فتكا ذريعا، وصادر أموال المثرين منهم، وارتكبت جنوده أنواع المنكرات من قتل وسلب ونهب وتخريب، أما بكر أغا فإن الشاه قتله أشنع قتلة، ثم قتل أخاه عمر أغا أيضا، وفعل هذا الشاه أفعالا لا تأتلف مع ما كان عليه من الحكمة وحسن السيرة وحب التقدم والعمران.
وبعد أن هدأت «بغداد» أرسل الشاه وزيره قاسم خان بجيش كبير لفتح «الموصل»، فافتتح هذا القائد في طريقه «كركوك»، ثم توجه إلى «الموصل»، وعليها إذ ذاك وال تركي اسمه حسين باشا، فدافع عنها أياما ثم عجز واضطر إلى تسليمها، فدخلها الفرس واضطهدوا أهلها وفتكوا بهم كما فتكوا بأهل «بغداد»، وكان الشاه يومئذ مقيما في «بغداد»، وقد تم أمره في «العراق» - إلا البصرة - في مدة شهرين بعد فتح «بغداد»، ثم ذهب إلى «كربلاء» ثم «النجف»، ومنها عاد إلى «بغداد»، وجعل لحمايتها خمسة آلاف جندي فارسي بقيادة صفي قلى خان، وولى الحكم فيها لرجل من خاصته اسمه «صاري خان»، وكتب إلى رؤساء القبائل العربية بلزوم السكينة والطاعة، ثم عاد إلى مقره.
فلما كانت سنة 1036ه أمر الشاه قائده صفي قلي خان بالزحف على البصرة، فحمل عليها من «بغداد»، فحاصرها حصارا شديدا، وكانت حينذاك في قبضة أمرائها المستقلين بها،
1
وبينما صفى قلي خان يهاجم «البصرة» إذ فاجأه نعي الشاه - عباس الأول الصفوي - فترك الحصار وعاد إلى مقره.
وبقيت المدن العراقية في قبضة الصفويين - عدا البصرة - ست عشرة سنة تقريبا (1032-1048ه)، ثم أخرجهم منها السلطان مراد خان الرابع العثماني في سنة 1048ه الموافقة لسنة 1638م، بعد حروب استمرت أعواما خسر فيها الفريقان - الأتراك والفرس - خسائر عظيمة، وعادت للعثمانيين في عهد الشاه صفي الدين خان الثاني المدعو «سام ميرزا» حفيد الشاه عباس الأول. (1) حملات الفرس على العراق
لما تولى عرش «إيران» الشاه طهماسب الثاني وآنس في نفسه قوة، طلب من الدولة العثمانية أن تعيد إلى مملكته جميع البلاد التي أخذتها من أسلافه، وأنفذ عنه مندوبا إلى «الأستانة» للمفاوضة مع رجال الحكومة في هذا الطلب، وذلك سنة 1142ه، فلما لم تجبه الدولة بشيء، حمل بجيوشه الفارسية على «تبريز» فاستولى عليها، ثم على «همدان» ثم «كرمنشاه»، فحدثت من أجل ذلك فتنة عظيمة في عاصمة آل عثمان، ثار الجيش فيها على رجال الدولة، ناسبا هذا الحادث إلى خيانتهم، فقتل عددا منهم، ثم امتدت الفتنة إلى السلطان أحمد الثالث فخلع سنة 1143ه، وبويع السلطان محمود الأول ابن السلطان مصطفى الثاني، فجهز هذا الجيوش لقتال الفرس، وكان الشاه قد توجه نحو «العراق» واجتاز بجيوشه الحدود ونهب القرى، ثم قصد «بغداد» سنة 1143ه وحدثت بينه وبين أحمد باشا أمير «العراق» عدة حروب كانت سجالا، وفي أثناء ذلك استرد الأتراك «تبريز»، فلما علم الشاه بذلك أوقف الحرب وانسحب من «العراق» وطلب الصلح، وكادت تقرر شروطه لولا نادر خان القائد الأكبر للجيوش الفارسية الذي عارض في تلك المعاهدة، وحمل بجيوشه على «العراق»، فعادت الحرب بين الدولتين فانتصر الفرس وتقدموا حتى حاصروا «بغداد»، فاستنجد أحمد باشا بالسلطان، وظل مدافعا حتى جاءته النجدات بقيادة الصدر الأعظم عثمان باشا الأعرج سنة 1144ه، والتقت بالفرس، وبعد معارك دموية انتصر الأتراك قرب «بغداد » وانسحب الفرس، وعلى أثر ذلك سار عثمان باشا بجيوشه قاصدا «الموصل»، فلحقه الفرس بعد أن لموا شعثهم فالتقوا به وعادت الحرب، فقتل عثمان باشا وانهزمت جيوشه، فتقدم الفرس حتى مدينة «الزور»، وعندها طلب الشاه الصلح فتقررت شروطه على أن تعاد «همدان» و«تبريز» للفرس، وتبقى «روان - أريوان» و«شروان» و«العراق» للأتراك، وتم الصلح في منتصف جمادى الأولى 1149ه.
2 (2) حملة نادر خان الأولى على العراق
ولما مات الشاه طهماسب الثاني سنة 1151ه، وخلفه ابنه الشاه عباس الثالث، تولى الوكالة عنه القائد نادر خان، فطمع ب «العراق» وحمل عليه حتى اقترب من «بغداد» وحاصرها في عهد الوزير أحمد باشا الذي تولى إيالة «العراق» سنة 1149ه،
3
فأرسلت الدولة العثمانية جيشا كبيرا لقتال الفرس، وبعد عدة وقائع اندحر الجيش الفارسي وجرح نادر خان، ولكنه بعد قليل لم شعثه وأعاد الكرة على «العراق» وانتصر على الأتراك، فوجهت الدولة العثمانية جيشا آخر سنة 1152ه، فانتصر عليه نادر خان، وعلى أثر ذلك تقررت المعاهدة الصلحية بين الدولتين على اعتبار الحدود التي كانت على عهد السلطان مراد خان الرابع فاتح «بغداد»، وعادت جميع البلاد التي كان الأتراك قد افتتحوها من الفرس إلى أهلها - الفرس - عدا «العراق». (3) حملة نادر شاه الثانية على العراق
عندما خلع الفرس الشاه عباس الثالث وتوصل نادر خان إلى الجلوس على عرش «إيران»، وقرض الدولة الصفوية وأعلن نفسه ملكا وسمي «نادر شاه»، ولقب ب «طهماسب الثالث»، طمعت نفسه ب «العراق» فطلب سنة 1156ه من الدولة العثمانية أن تعترف بالمذهب الشيعي وتعتبره مذهبا خامسا، وتخصص له ركنا في الحرم الشريف «الكعبة» - وهو يعلم أن سياسة الأتراك تخالف هذا الطلب، وأنهم بالطبع يرفضونه - فرفضت الدولة العثمانية طلبه، فاتخذ ذلك الرفض ذريعة للحرب، فحمل على «العراق» وأغار على «البصرة» و«القرنة» وذلك سنة 1156ه، وتوغل في البلاد الفراتية حتى وصل «الحلة»، ثم حاصر «بغداد» وظل يتهددها برمي القنابل أياما دافع في أثنائها الوزير أحمد باشا دفاع الأبطال، حتى عجز نادر شاه عن فتحها وسار عنها إلى «كركوك» فافتتحها، ثم توجه نحو «الموصل» فاستولى على جميع القرى المجاورة لها، ثم حاصر «الموصل» أياما، فساقت الدولة العثمانية جيشا كبيرا لقتاله، وبعد حروب كانت سجالا بين الفريقين انسحب الفرس عن «الموصل» وساروا إلى جزيرة ابن عمر، فاسترد الأتراك «كركوك»، وفي أثناء ذلك أعاد الكرة نادر شاه على «الموصل»، فرده أهلها بالخسران؛ لمناعة أسوارها التي كانت عونا لهم على الدفاع، فلما بلغ الأتراك ذلك حملوا على نادر شاه ثم ضيقوا عليه قرب «روان»، ولكنهم دحروا، وبعد ذلك وتوجه نادر شاه إلى جهة «أرضروم»، وكتب إلى السلطان محمود الأول يطلب تسليم إيالات «وان» و«الموصل» و«بغداد»، فلم يجبه السلطان بغير إرسال الجنود لقتاله، فخاف نادر شاه عاقبة التوغل في البلاد العثمانية فعدل عن طلبه، وبعد مفاوضات طويلة تم الصلح معه على اعتبار الحدود القديمة، وذلك سنة 1159ه.
الدولة الزندية
أو الدولة الفارسية الثامنة في «العراق» 1190-1193ه
كانت «البصرة» في قبضة العثمانيين منذ أرسل السلطان محمد الرابع وزيره قره مصطفى باشا بجيش كبير في سنة 1078ه، ثم تغلب عليها أمير «الجويزة» فرج الله خان ابن مطلب في سنة 1109ه، فطرده الأتراك في سنة 1111ه، وظلت في قبضتهم إلى سنة 1190ه.
وكانت الدولة العثمانية قد أهملت شئون «البصرة»، فقامت فيها الفتن بين ذوي المطالع، في الوقت الذي كان فيه كريم خان الزندي قد تغلب على مملكة «إيران»، فاغتنم فرصة الاضطراب فأعلن الحرب على العثمانيين وأرسل أخاه صادق خان بجيش كبير في أواخر سنة 1188ه، فحاصر «البصرة» في سنة 1189ه ومعه عشيرة بني كعب العربية، ودام الحصار ثلاثة عشر شهرا حتى اضطرها إلى التسليم في سنة 1190ه في عهد السلطان عبد الحميد الأول، وأسر الفرس متسلم «البصرة» سليمان بك وجماعة من الأشراف والوجوه والتجار، وأرسلهم صادق خان مخفورين إلى «شيراز» عاصمة كريم خان.
ولما استتب أمر صادق خان ب «البصرة» حدثته نفسه بالاستيلاء على بلاد «المنتفك»، فأرسل في سنة 1192ه أخاه محمد علي خان بجيش كبير لغزو «المنتفك»، فاستعد المنتفكيون لقتالهم واجتمعوا ب «الفصيلة» قرب «الفرات»، فالتقى الفرس بهم هناك واشتبكوا معهم بالقتال فاستمرت الحرب يوما وليلة، فانجلت عن هزيمة الفرس وقتل عدد كبير منهم، فلحقهم فرسان العرب فغرق من الفرس في «الفرات» عدد كثير، وغنم العرب أموالهم وخيولهم وعادوا إلى مواطنهم ظافرين، فلما كانت سنة 1193ه جهز صادق خان مرة أخرى جيشا فارسيا للاستيلاء على «المنتفك» بقيادة أخيه محمد علي خان أيضا وأرسل معه عشيرة بني كعب العربية، واستنجد بأخيه عبد الكريم خان فأمده بالجنود الكثيرة، فسارت الحملة والتقت بالمنتفكين في «أبي حلانة» وعليهم يومئذ الأميران ثامر بن سعدون وبويني بن عبد الله، فلما رأى العرب كثرة الفرس واستعدادهم خافوا الفشل، فطلبوا الصلح، فشرط عليهم القائد محمد علي خان شروطا أبتها نفوسهم، فاختاروا الموت على الحياة بالذل، ورفضوا تلك الشروط واستعدوا للحرب، فحدثت بين الفريقين حرب دموية هائلة استمات فيها العرب، فهجموا هجمات شديدة لم يسمع بمثلها، فانتهت المعركة بتمزيق الفرس، وقتل القائد محمد علي خان وأخيه مهدي خان، فانهزم من بقي من الفرس فلحقهم المنتفكيون وقتلوا منهم عددا كبيرا وغنموا أموالا وسلاحا وخيلا، وظلوا يطاردونهم إلى «البصرة»، وهناك حاصروهم فيها وضيقوا عليهم الخناق، وصادف في أثناء ذلك موت عبد الكريم خان، فخاف صادق خان على نفسه من أن يمد والي العراق المنتفكين الذين حاصروه فيقع في الأسر، وقد أصبح بعد موت أخيه وحيدا لا ناصر له، فانهزم ليلا بمن معه من «البصرة» في السنة نفسها (سنة 1193ه)، فدخلها المنتفكيون وكتبوا بذلك إلى حكومة «بغداد»، فأرسلت متسلما إلى «البصرة» نعمان بك، وأفل الحكم الفارسي من «البصرة» بعد أن دام في هذه المرة نحوا من ثلاث سنوات، وعلى أثر وصول المتسلم إلى المدينة أطلق الفرس الأسراء ومن جملتهم المتسلم سليمان بك، فأرجعته الدولة العثمانية إلى منصبه بعد أيام قليلة، ثم وجهت إليه بعد أشهر ولاية «العراق»، وهو الذي عرف أخيرا ب «الوزير سليمان باشا الكبير».
وبقيت المدن العراقية كلها بعد هذه الحادثة خاضعة للعثمانيين إلى أن قامت الحرب العامة المشئومة، فانسلخت منها البلاد العراقية الواحدة تلو الأخرى، بعد حروب طال أمدها وجلبت على أهل البلاد أنواع المصائب وضروب النوائب، وكان سقوط «البصرة » أو «مفتاح العراق» في سنة 1333ه، وسقوط «بغداد» عاصمة «العراق» في سنة 1335ه، وقامت بعد الحكم العثماني حكومة الاحتلال البريطاني، ثم قامت الحكومة العراقية العربية بعد حوادث يطول ذكرها. (1) تتمة لما مر
لا يخفى على القارئ الكريم أن الأمة الفارسية من أقدم أمم العالم وأشدها شوكة، وهم من الشعوب الآرية؛ أعني إخوان الأوربيين من الرومان أو اليونان وغيرهم، وقد نزلوا بلاد إيران منذ أقدم الأزمنة، وكان لهم استعداد فطري لأسباب التمدن وذكاء وتعقل، فأنشئوا الدول ووضعوا الأحكام وساسوا الأمم، ونبغ منهم ملوك عظام مثل كورش ودارا الأكبر وكسرى أنو شروان، وظهر من بينهم طوائف عديدة في أزمان مختلفة من العلماء والفلاسفة والأدباء والخطباء والكتاب والأطباء، واعتنوا بالطب وعلم الفلك والطبيعيات والرياضيات، وترجموا العلوم والفلسفة، وبنوا المدن الكبيرة والمراصد والمدارس والمستشفيات، واعتنوا بالري اعتناء كثيرا، واشتهرت فيهم بيوتات شريفة وقواد محنكون.
وهم أقدم من خالط العرب من الأمم الغريبة، بل من أقدم من ساد على العرب، ومن أجل ذلك كانت بين الأمتين منافسة، خصوصا في أيام الدولة الساسانية التي كان ملوكها يخرجون العرب في أكثر الأحيان من بلادهم بالسيف، فيقابلهم العرب بالغارات على مدن الفرس وينتقمون منهم، على أنهم كانوا يستخدمون العرب في دواوينهم للكتابة والترجمة، وكان أكثر ملوكهم يتقنون العربية، وبعضهم كان ينظم الشعر العربي، ومنهم من قرب العرب وأعلا شأنهم واتخذهم عضدا ونصيرا.
ولم يشتركوا مع العرب في دين واحد إلا عند ظهور الإسلام؛ إذ كانوا في العصور الواغلة في القدم ممن يعبدون القوى الطبيعية المختلفة وخاصة الشمس، ثم دخلوا في دين زردشت الذي ظهر بين القرن العاشر والسابع قبل الميلاد، وعلى توالي الأعوام حرفوا تلك الشريعة وأدخلوا فيها عبادة النار - أي صاروا مجوسا - وظلوا على المجوسية حتى جاء الإسلام فاعتنقوه بعد فتح بلادهم بالتدريج، ثم صاروا بعد حين من الدهر فرقا إسلامية ينتسبون إلى المذهب الجعفري؛ نسبة إلى الإمام جعفر الصادق، مثل ما عليه كثير من القبائل العراقية اليوم.
مدة حكم الفرس في العراق.
مدة الحكم
اسم الدولة
8
الدولة العيلامية ، في جنوبي العراق (2295-2287ق.م)
207
الدولة الكيانية، في العراق كله (538-331ق.م)
352
الدولة البرتية، في العراق كله (126ق.م-226 بعد الميلاد)
411
الدولة الساسانية، في العراق كله (226-637 بعد الميلاد)
110
الدولة البويهية، في العراق كله (945-1055 بعد الميلاد)
33
الدولة الصفوية الأولى، في العراق كله (1502-1535 بعد الميلاد)
17
الدولة الصفوية الثانية، في العراق كله (1620-1638 بعد الميلاد)
03
الدولة الزندية في البصرة، في العراق كله (1768-1771 بعد الميلاد)
1141
المجموع
أما الذين ملكوا في العراق من غير الفرس كالمغول والأكراد واليونان والأتراك، فمدتهم على الوجه الآتي:
مدة الحكم
اسم الدولة
4584
السومريون، المغول، مع أهل البلاد (7000-2416ق.م)
564
الدولةالكوشية، الكردية، مع أهل البلاد (1714-1150ق.م)
118
سيادة الآشوريين، الساميين أو العرب (729-611ق.م)
205
الدولة اليونانية، الإسكندر والسلوقيون (331-126ق.م)
224
المغول التتر، والتركمان (1258-1502 بعد الميلاد)
85
الدولة العثمانية الأولى (1535-1620 بعد الميلاد)
280
الدولة العثمانية الثانية (1638-1917 بعد الميلاد)
6060
المجموع
أما حكم العرب من أهل البلاد وغيرهم فمدتهم على الوجه الآتي:
مدة الحكم
اسم الدولة
442
الدولة البابلية الأولى «السامية أو العربية» (2460-2018ق.م)
368
أهل البلاد «الكلدان أو البابليون» (2018-1714ق.م)
421
أهل البلاد «الكلدان أو البابليون» (1150-729ق.م)
73
الدولة البابلية الثانية «عراقية سامية» (611-538ق.م)
114
العرب المسلمون «الخلفاء الراشدون وابن الزبير والأمويون» (637-750 بعد الميلاد)
195
الخلفاء العباسيون «الدورة الأولى» (750-945 بعد الميلاد)
103
الخلفاء العباسيون «الدورة الثانية» (1155-1258 بعد الميلاد)
1716
المجموع
وعلى هذا تكون مدة الدول التي حكمت العراق منذ سنة 7000ق.م إلى سنة 1911 على الوجه الآتي:
1141
مجموع مدة الفرس
1716
العرب قبل الإسلام وبعده
6060
المغول والأكراد والتركمان واليونان والأتراك
8917
المجموع
المأخذ
الكامل لابن الأثير.
معجم البلدان لياقوت الحموي.
الطبري.
أبو الفدا.
كتاب الدعاة لوجيه فارس.
عنوان المجد لإبراهيم فصيح الحيدري.
الأخبار الطوال.
وفيات الأعيان لابن خلكان.
التمدن الإسلامي لجرجي زيدان.
العرب قبل الإسلام.
طبقات الأمم.
نزهة المشتاق ليوسف غنيمة.
خلاصة تاريخ العراق للأب انستاس.
الفوز بالمراد.
تاريخ الأمير أحمد حيدر.
تاريخ الإسلام لرزق الله.
دائرة المعارف لفريد وجدي.
مطالع السعود للشيخ أمين المدني الحلواني.
طبقات الأمم للقاضي صاعد بن أحمد الأندلسي.
تلخيص التاريخ العثماني تعريب شاكر أفندي.
قرة العين لرشد السعدي.
تاريخ البصرة للنبهاني.
التاريخ العام لجميل نخلة المدور.
تاريخ بابل وآشور لرئيس أساقفة سعردادي شير.
تاريخ مصر لعمر الإسكندري.
تاريخ مراد التركي.
تاريخ علي رشاد.
تاريخ أحمد رفيق.
تاريخ نعيما.
عدا المقالات التاريخية التي نشرت في دار السلام للأب انستاس، وفي المقتطف ليوسف أفندي غنيمة، وفي جريدة العراق ومرآة العراق البصرية وغيرها بقلم جماعة من الكتاب، والمحاضرات التي ألقاها المستر ثميث عن الحفريات.
صفحة غير معروفة