موقف النبي ﵊ من الدنيا
ومما يعيننا على تحقيق ذلك؛ أن نتلمس ترجمة هذا الحديث في هدي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإن النبي ﷺ أنزل الله جل وعلا عليه القرآن؛ ليبينه للناس، فكان فعله ﷺ وهديه ترجمة لما في القرآن، وكان هديه وفعله ﷺ ترجمة لما أمره الله به، فهو السباق إلى الخيرات، ما أمره الله بأمر إلا وبادر إليه، ولا نهاه عن نهي إلا كان أول المنتهين عنه ﷺ، فما موقف رسول الله ﷺ من الدنيا؟ روى الإمام أحمد في مسنده، والترمذي في جامعه، وابن ماجة في سننه أن عبد الله بن مسعود ﵁ دخل على رسول الله ﷺ يومًا من الأيام، فكان رسول الله ﷺ متكئًا على حصير، فلما قام رسول الله ﷺ بدا أثر الحصير في جنبه ﷺ، فقال ابن مسعود لرسول الله ﷺ: هلا أمرتنا فنعد لك مكانًا، فقال رسول الله ﷺ: (مالي وللدنيا! مالي وللدنيا!) يعني: أي شيء يحملني على التعلق بها؟ مالي وللدنيا! ثم بين رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم هديه وسمته وطريقته فقال: (إنما أنا كراكب استظل -يعني: شأني شأن الراكب السائر في طريقه، القاصد إلى جهة من الجهات- إنما أنا كراكب قال في ظل شجرة -وفي رواية: استظل- ثم راح وتركها)، هذه حال رسول الله ﷺ في هذه الدنيا، وهذا الحديث يبين لنا بيانًا واضحًا أن الحياة قليلة مهما كانت في الغاية من السعادة، فرسول الله كما قدمنا قبل قليل أسعد الخلق، أسعد الناس، أسعد بني آدم، ومع ذلك فرسول الله ﷺ يعد هذه الدنيا كالظل الذي يستظل به السائر في طريقه، يحتمي به من الشمس ثم يخرج بعد أن قال واستراح لمواصلة سيره، وهذا يبين لنا -أيها الإخوة- أن الدنيا مهما طابت فهي سريعة الرحيل، سريعة الزوال، هي دار قليلة المكث، فالواجب على من نصح نفسه أن يجتهد في مرضاة ربه، وأن يبالغ في تحقيق العبودية لله ﷿ جهده وطاقته على وفق سنة رسول الله ﷺ وهديه، وقد وصف رسول الله ﷺ الدنيا وما فيها، مهما بلغت من النعيم، ومهما كان فيها من البهرج بقوله ﷺ -كما في صحيح مسلم من حديث المستورد بن شداد -: (والله! ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع!)، هذه هي الدنيا بما فيها من الملذات، وما فيها من أنواع التنعمات، شأنها شأن الذي وقف على اليم ثم غمس يده في اليم وأخرجها، فما الذي يعلق في يده مقارنة بما بقي في اليم؟! لا يذكر، وهذا وصف لما يمكن أن يحصله الإنسان في هذه الدنيا من النعيم الذي يفوته في الآخرة إذا كان ممن حصل لهم الغاية في التنعم في هذه الدنيا.
أيها الإخوة الكرام! إن رسول الله ﷺ هديه ترجمة لما في القرآن، وبيان لما حواه كتاب الله ﷿، بل الله جل وعلا قال في كتابه: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل:٤٤]، فنزل الله ﷿ هذا القرآن على رسوله ليبينه للناس لعلهم يتفكرون، لعلهم يحصل منهم التفكر والتذكر، وإذا نظرنا إلى هذه السيرة لا نستغربها إذا علمنا أن القرآن مملوء بالتزهيد في الدنيا، وبيان حقارتها وخستها وانقطاعها، وأنها دار زائلة، وطيف زائل، وخيال عما قليل عابر، وأن الآخرة هي دار القرار، وأنها هي المستقر لكل أحد.
3 / 6