الله أكبر
من كان بالله أعرف كان لله أخوف، ولا يكون الخوف من الله حاصلًا إلا بتعظيم الله جل وعلا، ومعرفة قدره، ولا يستطيع أحد أن يقدر الله حق قدره كما ينبغي له، فإن هذا لا يبلغه أحد، لكن على المسلم أن يعظم الله ويكبره بقدر استطاعته.
1 / 1
عظمة الله ﷿
الحمد لله الذي له الحمد في الأولى والآخرة، وله الشكر وإليه ترجعون، أحمده سبحانه حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، له الكبرياء في السموات والأرض وهو الخبير الحكيم، سبحانه وبحمده، هو أحق من حمد، وأعظم من ذكر، وأجل من دارت الأفكار في صفاته، وتلقت القلوب أخباره وأحكامه، أحمده جل وعلا حق حمده، لا أحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين ورب العالمين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، بعثه الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد، بالعلم والبيان، والسيف والسنان، حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن استمسك بهديه واتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله -أيها الإخوة- في هذا اللقاء الشهري الذي نتناول فيه شيئًا من هدي نبينا محمد ﷺ، الذي الخير كله في هديه، فخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهدي النبي ﷺ لا يختص بجانب من حياته، بل هديه هو طريقته ومسلكه، وهو سلوكه وعمله في قيامه وقعوده، وفي سفره وإقامته، وفي معاملته لربه، وفي معاملته للخلق، قال جل وعلا: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة﴾ [الأحزاب:٢١].
أيها الإخوة الكرام! إن موضوعنا اليوم هو موضوع كثيرًا ما يطرق الأسماع، وكثيرًا ما تلهج به الألسنة، فكم هي المرات التي نتكلم فيها بقولنا: (الله أكبر)؟ وكم هي المرات التي يطرق أسماعنا قول القائلين: (الله أكبر)؟ إن هذه الكلمة أصدق كلمة، وأعذبها، وأحلاها.
(الله أكبر) أبلغ لفظة عند العرب في تعظيم الرب جل وعلا، وتقديره حق قدره جل وعلا.
(الله أكبر) كلمة فيها الخير كله، وفيها الخبر بأن الله أكبر من كل شيء.
(الله أكبر) روى في شأنها الإمام أحمد في مسنده والترمذي ﵀ في جامعه من حديث عدي بن حاتم أن النبي ﷺ قال له: (يا عدي! ما يفرك؟ -يعني: ما يجعلك تفر من الإسلام ومما جئت به؟ - أيفرك أن يقال: لا إله إلا الله؟! فهل تعلم من إله غير الله؟ يا عدي! ما يفرك؟ أيفرك أن يقال: الله أكبر؟! فهل من شيء أكبر من الله؟)، فما كان منه ﵁ إلا أن أقر بذلك، فأقر بأنه لا إله إلا الله، وأنه لا شيء أكبر من الله، فالله أكبر من كل شيء، قال الشاعر: رأيت الله أكبر كل شيء محاولة وأكثرهم جنودًا (الله أكبر) -أيها الإخوة- كلمة يعظم بها الرب جل وعلا، عظمة لا تبلغها العبارات، ولا تفي بها القوة البشرية، وإن بالغ العبد مهما بالغ في التنزيه والتحميد والتمجيد والتقديس لرب العالمين إلا أنه لا يفي بحق ربه في التعظيم والتمجيد إلا بمثل هذه الكلمة، فلن يبقى إلا الوقف بأقدام المذلة في حضيض القصور، والاعتراف بالعجز عن القيام بحقه جل وعلا، كما قال سبحانه: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الأنعام:٩١]، ما قدر العباد ربهم حق قدره جل وعلا، وهو كما قال عن نفسه: ﴿وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [الجاثية:٣٧]، هذا ربكم الذي له تصلون، هذا ربكم الذي له تقومون وتأتون وتذهبون وتتعبدون، الله أكبر الله أكبر القائل: ﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ﴾ [البقرة:١٠٧]، من يتولاكم؟ ومن ينصركم إن خذلكم الله جل وعلا؟ (الله أكبر) -أيها الإخوة- يمسك الله جل وعلا السموات والأرض أن تزولا، يمسك هذه الطباق السبع سبحانه وبحمده بقدرته، وهو على كل شيء قدير، كما قال سبحانه: ﴿يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ [فاطر:٤١]، يعني: ما يمسكهما من أحد من بعده جل وعلا، فإذا لم يمسكهما الله، فمن يمسكهما؟! وفي الآية التنبيه على أمر مهم وهو: أن إمساك السموات والأرض من رحمته وحلمه ومغفرته، وإلا فإن العباد شرهم إليه صاعد، وخيره إليهم نازل، فهم يتقربون إليه بالسيئات والمعاصي، والله جل وعلا يتحبب إليهم بالنعم، وحق عليهم أن يؤاخذوا لولا حلم الله جل وعلا ومغفرته ورحمته.
(الله أكبر) إذا طرقت سمعك فتذكر هذه المعاني التي في قوله جل وعلا: ﴿رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾ [الرعد:٢]، تذكر هذه العظمة، وتذكر هذه الصفات عند قولك: (الله أكبر)، فإن الله ﷾ قد ملأ كتابه الحكيم بصفاته العظيمة وأفعاله الجليلة وأسمائه الحسنى؛ ليحيا تعظيمه جل وعلا في قلوب عباده، وليقفوا على شيء مما يتصف به ربهم سبحانه وبحمده، فيزدادوا له محبة وتعظيمًا، وبذلك يتحقق لهم كمال العبودية، فالعبودية لله جل وعلا تقوم على هذين القطبين: على قطب المحبة لله جل وعلا، وعلى قطب التعظيم، كما قال الشاعر: فعبادة الرحمن غاية حبه مع بر عابده هما قطبان فمن لم يكن في قلبه محبة ربه، ومن لم يكن في قلبه تعظيم ربه، فإنه لم يأت بما أمره الله جل وعلا من العبادة في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:٢١].
(الله أكبر) ﴿خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ [الأعراف:٥٤]، هذه السموات الفسيحة وما فيها من الأفلاك التي لم يقف الناس إلى يومنا هذا على منتهاها، ولم يقفوا على حقائقها، وما زالوا يبحثون، ومع عظيم ما معهم من الآلات والإمكانات لم يقفوا إلا على شيء يسير من خبرها ونبئها، خلقها ربنا جل وعلا في ستة أيام، فالله أكبر! قال سبحانه: ﴿خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الأعراف:٥٤] جل وعلا، والعرش هو ذاك المخلوق العظيم الذي خلقه الله جل وعلا، وخصه دون سائر الخلق بأن استوى عليه وارتفع جل وعلا، لا إله إلا هو الحكيم الخبير.
وقال سبحانه: ﴿مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ﴾ [يونس:٣]، فهذا هو الذي يستحق العبادة، الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام، وهو الذي خص هذا المخلوق العظيم -وهو العرش- بالاستواء، وهو الذي لا شفاعة لأحد عنده إلا بإذنه، وهو أحق من صرفت له العبادة سبحانه وبحمده، ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ﴾ [يونس:٣].
(الله أكبر) ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الملك:١]، (تبارك) تعالى وتقدس وتنزه، «الذي بيده الملك» ملك كل شيء، فكل شيء بيده، وكل شيء له، وكل شيء صائر إليه سبحانه وبحمده.
(الله أكبر) ربنا جل وعلا ملك السموات والأرض بيده، يصرف الكون كيف شاء، كما قال سبحانه: ﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [البقرة:١٠٧]، سبحانه وبحمده، وقال: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الملك:١]، وقوله جل وعلا: «بيده الملك» يدل على كمال التصرف والملك، فلا منازع له في ملكه، ولا منازع له في تصرفه، فإليه كل شيء صائر، وهو جل وعلا عنه كل شيء صادر، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، ولا ينفع ذا الجد منه الجد، سبحانه وبحمده، كما قال جل وعلا: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ [آل عمران:٢٦] سبحانك وبحمدك ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران:٢٦]، فإذا كان هذا شأنه فلماذا تمتلئ القلوب بتعظيم غيره؟! ينبغي للمسلم أن يمتلئ بهذه الأخبار العظام في صفات الرب الرءوف الكريم الذي له الأسماء الحسنى كما قال: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ [الأعراف:١٨٠]، وله الصفات العلى كما قال: ﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى﴾ [الروم:٢٧] سبحانه وبحمده، وكيف يكون في قلب العبد بعد هذا تعظيم لغير هذا الرب الكريم العظيم الذي تمتلئ القلوب بعظمته، وتُصم الآذان عن ذكر غيره؟!! فهو أحق محمود؛ ولذلك كان المدح من أحب الأشياء إليه؛ لأنه مستحقه سبحانه وبحمده.
(الله أكبر): ﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ﴾ [غافر:١٥]، «رفيع الدرجات» فهو العلي الأعلى سبحانه وبحمده، «ذو العرش» صاحب العرش جل وعلا، والله ﷾ خص العرش بالذكر؛ لأنه أعظم خلق الله جل وعلا.
قال تعالى: ﴿يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ [غافر:١٥]، الروح: ما تحيا به الأرواح وهو كتاب الله جل وعلا، وهو الذكر الحكيم والقرآن المبين، وقوله: ﴿يُلْقِي الرُّوحَ﴾ [غافر:١٥] أي: الرسالة، ﴿مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ﴾ [غافر:١٥]، فألقى الله جل وعلا على الرسل بالروح ابتداءً، وعلى من اهتدى بهديهم تباعًا، فهم أتباعهم في تلقي هذا الروح الذي تحيا به الأرواح، كما قال الله جل وعلا: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا ي
1 / 2
آية العز
(الله أكبر) كلمة أمر الله بها رسوله ﷺ، وأمر بها أهل الإيمان في آية سماها بعض أهل العلم: آية العز ألا وهي قول الله تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾ [الإسراء:١١١]، وهذه آخر آية ذكرها الله في سورة الإسراء، وهي السورة التي فيها ذكر أعظم مقامات النبي ﷺ، وهو ما أجراه الله له في تلك الليلة من الإسراء من البيت الحرام إلى المسجد الأقصى حيث قال جل وعلا: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ [الإسراء:١]، هذه الليلة هي أشرف ليلة للنبي ﷺ؛ لأنه عرج به إلى السماء السابعة، وكلم فيها رب العالمين جل وعلا، كما قال ﷾: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ [النجم:١ - ٩]، ذلك كله من رب العالمين، ﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى﴾ [النجم:٩ - ١٠]، يعني: رب العالمين، ﴿إِلَى عَبْدِهِ﴾ [النجم:١٠]، يعني: جبريل، ﴿مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى﴾ [النجم:١٠ - ١٢]، تلك الليلة هي أعظم الليالي لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، رأى فيها من آلاء الله وعظيم صنعه جل وعلا ما يبهر العقول، ومع ذلك قال: ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾ [النجم:١٧]، وذلك لعظيم جأش النبي ﷺ، وقوة قلبه، وثبات فؤاده ﷺ، ما زاغ ولا طغى بصره، بل كان بصره فيما أذن الله له أن يراه، ولم يتجاوز ذلك قيد أنمله، بأبي هو وأمي ﷺ، وختم الله تلك السورة بتقديسه وتعظيمه بهذه الآية التي سماها بعض أهل العلم بآية العز فقال جل وعلا: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ﴾ [الإسراء:١١١] يعني: لا يوالي الناس، ولا يوالي الخلق لحاجته إليهم سبحانه وبحمده، بل هو القوي الحميد، كما في حديث أبي ذر في صحيح الإمام مسلم عن النبي ﷺ عن ربه جل وعلا قال: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئًا)، فالله ﷾ هو الغني، كما قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطر:١٥]، أنتم الفقراء بمجموعكم: أولكم وآخركم، شرفاؤكم ووضعاؤكم، أنبياؤكم وأتباعهم، الملوك والمملوكون، الرعاة والرعية، الكل فقراء إلى الله جل وعلا، لا غنى لأحد من الخلق -مهما بلغ- عن ربه جل وعلا، ومن ظن أنه في غنى عنه فإنما أتى من قبل نفسه، بل هو في غاية الحاجة إليه، فقل لهذا الذي استغنى عن ربه: من الذي يجري الدماء في عروقك؟! ومن الذي يعالج النفس في صدرك؟! إنه الله الذي لا إله إلا هو، فهل يكون الإنسان بعد هذا في غنىً عن ربه جل وعلا؟
الجواب
لا، والله! بل إن كل من ادعى الغنى فقد كذب على رب العالمين، وكذب على نفسه أعظم الكذب، فالكل كما قال الله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ﴾ [فاطر:١٥].
أمر الله جل وعلا رسوله وأهل الإيمان في هذه الآية -آية العز- بأن يعظموه فقال: ﴿وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾ [الإسراء:١١١]، قال ذلك بعد أن ذكر لنا من صفاته وعظيم ما أخبر به عن نفسه ما يبعث في القلوب عظمة رب العالمين سبحانه وبحمده، فهو الذي له الحمد كله، كما قال في أول هذه الآية: ﴿َقُلِ الْحَمْدُ لله﴾ [الإسراء:١١١]، وإنما يحمد لعظيم صفاته، وعلى أسمائه، وجميع أفعاله ﷾، فإنه إنما يستحق الحمد من كانت له الأسماء الحسنى والصفات العلى والأفعال الجليلة، فإنه بهذا يستحق الحمد: ﴿َقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا﴾ [الإسراء:١١١]، فهو ليس بحاجة إلى ولد: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ﴾ [الإسراء:١١١]، فليس له مشارك في هذا الملك ينازعه أو يقاسمه: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ﴾ [الإسراء:١١١]، فلم يتول عباده، ولم يتقرب إليهم، ولم يحبهم لحاجته إليهم، بل هو الغني الحميد سبحانه وبحمده، وإنما يحبهم ليوصل إليهم إحسانه، وليبرهم جل وعلا: ﴿وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾ [الإسراء:١١١]، أي: عظمه تعظيمًا، وصفْه بأنه أعظم من كل شيء سبحانه وبحمده.
1 / 3
الكبر صفة خاصة بالله، لا يدخل الجنة من يتصف بها
(الله أكبر) -أيها الإخوة- كلمة تنخلع لها قلوب الجبابرة، وتذل لصاحبها سبحانه وبحمده الوجود، روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة وأبي سعيد ﵄ عن النبي ﷺ قال: (قال الله تعالى: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدًا منهما عذبته)، فالكبرياء رداء الله جل وعلا، خص به نفسه دون غيره؛ ولذلك كان كل من بلي بشيء من الكبر محرومًا من فضل الله ورحمته، فإن الكبر سبب مانع من دخول الجنة، ففي صحيح الإمام مسلم عن النبي ﷺ قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، فالكبر ينافي حال المؤمن العابد؛ ولذلك لا يدخل الجنة من كان في قلبه أدنى ما يوزن من الكبر، هذا معنى قوله ﷺ: (من كان في قلبه مثقال)، يعني: أدنى ما يوزن من الكبر، فإذا بلي به قلب العبد كان ذلك حائلًا مانعًا له من دخول الجنة، حتى يطهر ما في قلبه.
فـ (الله أكبر) إذا امتلئ بها قلب العبد خرج منه كل كبر وكل غرور وكل رياء وكل ارتفاع وكل علو وكل آفة، وإذا صدق في هذه الكلمة كان لها في قلب السامع أعظم الأثر.
1 / 4
التكبير يفتتح به الصلاة ويعقبها
(الله أكبر) كلمة يفتتح بها المؤمن صلاته ولقاءه بربه، يفتتح بها مناجاة الله ﷿، بل هي الكلمة التي يدعى بها إلى مناجاة الله ﷾، فإذا سمعت المنادي ينادي: (الله أكبر) (الله أكبر) علمت أن وقت المناجاة قد جاء، فتأتي مسرعًا راغبًا في لقاء ربك جل وعلا، ثم بماذا تستهل لقاء الله جل وعلا؟
الجواب
تستهله بكلمة التعظيم (الله أكبر)، فتستحضر بذلك أن الذي تقابله وتقف بين يديه أكبر من كل شيء سبحانه وبحمده، وسيقطع ذلك عنك التعلق بشيء غير الله جل وعلا، فتقبل عليه بعد ذلك، ولا تفكر: ما الذي يكون؟ وما الذي يجري؟ لأنك في مناجاة مع حبيب مقبل عليك بوجهه، ومستمع لدعائك، فإن العبد إذا قام في صلاته أقبل الله جل وعلا عليه بوجهه.
(فإن الله ينصب وجهه للمصلي حتى يفرغ) وذلك لعظيم عمل المصلي، وعظيم شأنه وفعله.
إن قولك: (الله أكبر) استحضار لعظيم الموقف، ثم إنك لا تزال تذكر هذا الذكر (الله أكبر) قائمًا وقاعدًا راكعًا وساجدًا، وكل ذلك تذكير لك حتى لا تغفل عما أنت فيه، وعمن أنت واقف بين يديه، فهو الله الذي له الهيبة الكاملة جل وعلا، الذي ذلت له الأعناق سبحانه وبحمده، فتقبل على ربك معظمًا ذاكرًا مخبتًا خاشعًا لله جل وعلا، ترجو رحمته وتخشى عذابه، وهكذا ينبغي أن يكون قولنا لهذه الكلمة على الوجه الذي ينبغي أن تقال، وأن يكون في قلب العبد معناها، لا أن تقال باللسان والقلب في كل وادٍ هائم، وفي كل تجارة مساهم، وفي كل عمل مشغول، إن القلب الذي يحصّل هذه الفائدة هو ذلك القلب الذي يدرك معنى قوله: (الله أكبر) في افتتاحه لصلاته، فيدرك أن ربه جل وعلا أكبر من كل شيء.
نُقل عن بعض العبَّاد أنه لما أراد أن يكبر في صلاته رفع يديه فقال: الله، ثم سكت، كأنه جسد بلا روح، إعظامًا لله جل وعلا، ثم أعاد الكلمة مستجمعًا قواه، فقال: (الله أكبر) فكانت لتكبيرته هيبة تنخلع منها القلوب، كما نقل ذلك أصحابه وقرناؤه، إن قلب العبد إذا عظم الله جل وعلا كان لهذه الكلمة أثر عظيم عند النطق بها في أذن من سمعها، وسيأتي توضيح ذلك بعد قليل.
أيها الإخوة الكرام! (الله أكبر) كلمة يعرف بها انقضاء صلاتنا، كما قال ابن عباس ﵁ فيما رواه البخاري عنه أنه مسلم: (قال: كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله ﷺ بالتكبير)، فالصلاة تُفتح بالتكبير، ويُعرف انتهاؤها بالتكبير، فإن النبي ﷺ كان إذا فرغ من صلاته سبح الله سبحانه وبحمده، وحمده، وكبره، فكانت صلاة رسول الله ﷺ يعلم انقضاؤها بالتكبير، وهذا يبين لنا أهمية هذا الذكر، وأنت انظر إلى الترتيب البديع في ذكر المصلي بعد الصلاة، فالذكر يبتدئ أولًا بالتسبيح ثم التحميد ثم التكبير؛ لأن الغالب أن البداهة أن تكون البداية بالتسبيح، وهكذا جاء في أكثر الأحاديث، فتقول: (سبحان الله)، ثم تقول: (الحمد لله) ثم تقول: (الله أكبر) وسر هذا الترتيب بين هذه الأذكار الثلاثة أن التسبيح فيه تنزيه الله جل وعلا عن كل عيب ونقص، فقولك: (سبحان الله) أي: أنزه الله جل وعلا، وأقدسه، وأطهره أن يكون في شأن من شئونه نقص أو عيب، ثم بعد ذلك تقول: (الحمد لله) وفيه إثبات الأسماء الحسنى والصفات العلى والأفعال الجميلة للرب جل وعلا، فذاك تخلية، وهذا تحلية، ذاك إزالة لما يمكن أن يُعتقد من نقص في الرب، ثم الحمد فيه إثبات الكمال للرب جل وعلا، وبعد ذلك هل تكون بهذا قد بلغت المنتهى، وحصَّلت المقصود؟
الجواب
لا؛ ولذلك تقول: (الله أكبر)، (الله أكبر) من قولي، (الله أكبر) من تسبيحي وتحميدي، (الله أكبر) من ثنائي وتمجيدي، فتختم ذلك بالتكبير؛ لأن الله أكبر من قولي: الله أكبر، ومن تحميدي وتسبيحي، فهو العلي الكبير، كما قال عن نفسه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى:١١]، وقال: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم:٦٥]، وقال: ﴿فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ﴾ [النحل:٧٤]، وقال: ﴿فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:٢٢]، فربنا جل وعلا له من الصفات ما لا تطيقه العقول؛ ولذلك لم يبين ربنا جل وعلا من صفاته وأسمائه إلا ما تتمكن العقول من إدراك شيء من عظمته ﷾ وبحمده.
أيها الإخوة! المصلي إذا قضى صلاته لهج بالتكبير، فهذه العبادة -وهي أجل العبادات- محاطة بالتكبير وبالدعاء في افتتحاها وفي أثنائها، وهي - أيضًا- مختتمة بالتكبير، فكان لا يعرف انقضاء صلاة رسول الله ﷺ إلا بالتكبير.
(الله أكبر) كلمة أمر الله ﷾ بها أهل الإسلام، شكرًا لله ﷿ على إحسانه، وشكرًا على رزقه وإنعامه؛ ولذلك قال ﷾ في ختام الآية التي ذكر فيها فرض الصيام: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة:١٨٥]، (لتكبروا الله) أي: لتقولوا: (الله أكبر) (عَلَى مَا هَدَاكُمْ) أي: لأجل ما هدى، فنحن نكبر الله على توفيقه لنا للهداية.
والهداية هنا هي: هداية القلوب إلى دين الإسلام، وهي هداية الإرشاد التي بها يتبين الحق من الباطل، الهداية الكبرى التي يتم بها الإنعام على العبد بأن يهديه الله إلى الصراط المستقيم، وهناك هداية قبل هذه الهداية هي هداية الدلالة والإرشاد، فإن الله ﷾ قد هدانا النجدين، وبين لنا سبيل الحق والهدى، وسبل الضلال والردى، فمن سلك سبيل الهدى فقد هداه الله هداية التوفيق، وجمع له مع الإرشاد هداية الإلهام، وهداية الإرشاد هي الهداية التي بها يستبين الحق من الباطل، وتقوم بها الحجة على جميع الناس.
1 / 5
تكبير الله وإجلاله سبب في ترك الذنوب والمعاصي
أيها الإخوة الكرام! إن هذه الكلمة (الله أكبر) إذا قالها المؤمن حقيقة، وذاق طعمها وأدرك معناها كانت حاجزًا بينه وبين التورط في المعاصي والسيئات، حاجزًا بينه وبين انتهاك الحرمات، فإنه -يا إخواني- لا يضيع ما فُرض عليه ويرتكب الكبائر إلا من قل خوفه من الله جل وعلا، وإنما يقل الخوف من الله تعالى بسبب ضعف التعظيم له جل وعلا، فالتعظيم يصدر عنه الخوف والورع، والعبد الخائف إنما يخاف عظيمًا، يخاف من امتلأ قلبه بإجلاله وتقديره، أما ذاك القلب الذي خوى من تعظيم الله سبحانه وبحمده، وخوى من إجلال الله جل وعلا، وليس عنده لربه قدر ولا عظمة، فكيف ينزجر عن المعاصي؟! وكيف ينزجر عن السيئات؟! وكيف يحفظ نفسه من انتهاك الحرمات؟! إنه لا سبيل له إلى ذلك، واستمع إلى هذا الخبر: روى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر ﵁ في نبأ ثلاثة نفر من بني إسرائيل قال: قال رسول الله ﷺ: (بينما ثلاثة نفر يمشون، أخذهم المطر، فأووا إلى غار في جبل، فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل، فانطبقت عليهم -ولم يتمكنوا من الخروج- فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالًا عملتموها صالحة فادعوا الله بها لعله يفرج عنكم بسببها) فذكر كل واحد منهم عمله، وكان منهم رجل عمله شاهد لنا في تعظيم الله جل وعلا، وكيف أن التعظيم سبب للابتعاد عن المعاصي؛ لأنه يورث التقوى، ويورث الخوف، ويعقب القلب إجلالًا لله ﷿.
(قال الثاني منهم: اللهم إنها كانت لي ابنت عم أحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء، فأردتها على نفسها، فأبت علي، حتى أحوجها الفقر، فأعطيتها عشرين ومائة دينارًا، فلما وقعت بين رجليها قالت: يا عبد الله! اتق الله، ولا تفتح الخاتم إلا بحقه) ما الذي حال بينه وبين مراده ومطلوبه، وقد بذل المال ومكنته من نفسها؟ حال بينه وبين مراده أنها قالت له: (يا عبد الله!) فذكرته بمن هو عبد له، ذكرته بالله: (يا عبد الله! اتق الله) أي: اجعل بينك وبين الله وقاية بامتثال أمره، وترك نهيه، رغبة ورهبة، (اتق الله ولا تفتح الخاتم إلا بحقه، قال: فقمت عنها، اللهم إن كنت تعلم أني فعلته ابتغاء وجهك فافرج عنا، ففرج عنهم فرجة)، فهذا -يا إخواني- ما الذي حمله على هذا الفعل؟ وما الذي كفه عن المعصية بعد أن تمكن منها؟ وما الذي منعه مما سعى له وخطط وليس بينه وبين مبتغاه حائل؟ لا مانع له إلا قيام تعظيم الله في قلبه، ما منعه إلا ما كان في قلبه من كبرياء ربه الذي أورثه خوف ربه، ومراقبته ﷾، فانتفض قائمًا لله تعالى يرجو ثوابه ويخشى عقابه، وهكذا يكون خوف الله وتعظيم الله مثمرًا للفضائل، فكل الفضائل من الخوف والمراقبة والخشية والإنابة والدموع المنهمرة والأقدام الماشية في طاعة الله إنما تكون بالتعظيم الذي يصحبه محبة لله جل وعلا.
(الله أكبر) أيها الإخوة! تحمل المؤمن على أداء الحقوق طيبة بها نفسه، فكم هم الذين شحوا في حقوق واضحة كالشمس؟ إنهم كثير مع أن النبي ﷺ قال: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه)، وقال ﷺ -كما في الصحيح-: (من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان)، تصور ذلك الموقف العظيم الذي يحشر الناس فيه حفاة عراة غرلًا أحوج ما يكونون إلى رحمة الله وفضله: (إذا اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان)، والصحابة ﵃ فهموا أن هذا في الأمور الكبيرة، في سلب أرض أو عمارة أو ملايين مملينة فقالوا: يا رسول الله! ولو عود أراك -سواك-؟ قال: (ولو عود أراك) سبحان الله العظيم! يعني: لو تأخذ من أخيك المسلم عود أراك وهو لم تطب نفسه بهذا لقيت الله رب السموات والأرض وهو عليك غضبان، فأين تعظيم الله جل وعلا من هؤلاء؟! أين تعظيم هذا الموقف في قلوب هؤلاء؟! لو أنهم أكرموا الله جل وعلا لكانوا كذاك الذي أخبرنا رسول الله ﷺ خبره، ففي صحيح الإمام البخاري من حديث أبي هريرة ﵁ قال: ذكر رسول الله ﷺ رجلًا من بني إسرائيل.
واستمع إلى قصة هذا الرجل ففيها إجلال الله وتعظيمه، مما يدل على أن من عظَّم الله فإن الله معه: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل:١٢٨]، ذكر أن رجلًا من بني إسرائيل جاء إلى رجل فطلب أن يسلفه ألف دينار، فسلفه، فقال له المسلِف -صاحب المال-: ائتني بالشهداء أشهدهم على هذا القرض، فقال له الرجل: كفى بالله شهيدًا -يكفيك شهادة الله جل وعلا- قال الرجل صاحب المال: فأتني بكفيل -يعني: ائتني بمن يضمن المال لو تعذر وفاؤه، أي: ائتني بشخص يكفلك- فقال له الرجل: كفى بالله كفيلًا، فقال له الرجل صاحب المال: صدقت.
فهذا الذي أعطى المال لولا عظمة الله في قلبه ما قبل إلا الشهادة، ولولا أن الله في قلبه عظيم ما قبل ذلك، ولكان يقول: لابد أن تأتي بشهداء وإلا ما أقبل، والمسألة إحسان، ما فيه إلزام، وليس عقدًا يلزمه فيه، إنما هو إحسان قرض، وإنما قال: صدقت، فدفع الألف دينار إلى الرجل إلى أجل مسمى، فخرج الرجل المدين إلى البحر فقضى حاجته، ثم التمس مركبًا، يعني: أناسًا يسافرون إلى الجهة التي فيها الدائن، التمس مركبًا يركبه يقصد به الرجل من أجل الأجل الذي أجله، يعني: الموعد الذي حدده بينه وبين الدائن، فلم يجد مركبًا، ولا يمكن أن يخوض البحر سابحًا إلى أن يصل إلى صاحبه، فأخذ خشبة وأدخل فيها ألف دينار -المبلغ الذي يطلبه صاحبه- وصحيفة -يعني: كتاب- كتب فيه لصاحب الدين، ثم رمى بها إلى البحر فقال: اللهم إنك تعلم أني كنت اقترضت من فلان كذا وكذا فسألني كفيلًا، فقلت: كفى بالله كفيلًا، فرضي بك -انظر الإشارة إلى التعظيم- وسألني شهيدًا، فقلت: كفى بالله شهيدًا، فرضي بك، وإني اجتهدت أن أجد مركبًا أبعث إليه بالذي له فلم أقدر، وإني استودعكها.
أي: أستودعك هذا المال، وأجعله وديعة عندك، فرمى بها في البحر ثم انصرف، وهو في ذلك يلتمس مركبًا يذهب به إلى صاحبه، يعني: ما قال: الذي بيني وبين الله انتهى، بل عاد وهو ينظر متى ييسر الله له مركبًا يركبه حتى يذهب إلى صاحبه؛ لأنه يمكن أن هذا الذي بعثه في البحر لا يصل، يقول: ثم انصرف وهو في ذلك يلتمس مركبًا يخرج إلى بلده، فخرج الدائن الذي كان أسلفه إلى البحر لعله يجد المركب الذي يقدم فيه هذا الرجل ليوفيه حقه لما جاء الأجل، فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطبًا، فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الرجل المدين إلى صاحب الدين بعد حين، وقال معتذرًا عن التأخر: إني اجتهدت في طلب مركبًا لآتيك بمالك فما وجدت مركبًا قبل الذي أتيت فيه، قال: هل كنت بعثت إلي بشيء؟! فما قال: أنا فعلت كذا وكذا؛ لأنه يتعامل مع الله جل وعلا، ولا يدري هل وصلت أو ما وصلت، وإنما غرضه إبراء ذمته، غرضه أن يقدم على الله وليس في ذمته لأحد شيء، فقال له الدائن: هل كنت بعثت إلي بشيء قبل؟! قال: أخبرك أني لم أجد مركبًا قبل الذي جئت فيه.
قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة، فانصرف بالألف دينار راشدًا، لا حاجة لي فيها، والدين الذي عليك قد أديته.
يا إخواني! هذا الخبر الذي أخبر به رسول الله ﷺ أصحابه ما غرضه وقصده؟ غرضه بيان عظمة الله جل وعلا، وأن المعاملة مع الله ﷾ لا يمكن أن يخاف صاحبها، ولا يمكن أن يخسر الداخل فيها؛ ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ كلمة بديعة نفيسة في بيان كيف يتعامل الإنسان مع الناس: (الناس إشكالاتهم كثيرة، ونواياهم مختلفة، وإيمانهم باليوم الآخر على درجات، وإيمانهم بالله وخوفهم منه على درجات، فكيف تسلم مع هؤلاء كلهم وفيهم التقي ومن دونه؟ تسلم بأن تعامل الله عنهم، ولا تعاملهم في الله) يعني: أنت في معاملتك للخلق لا تنظر إلى ما الذي يأتيك منهم، إنما انظر إلى ما الذي يعطيك ربك في معاملتك لهم، وما الذي يأمرك الله ﷿ به في معاملتك للخلق، فإذا كنت كذلك فاعلم أنك فائز في معاملتك، رابح في تجارتك، سالم من شرور الناس، فلا سلامة للإنسان من شرور الناس إلا بأن يلجئ إلى الله ﷿.
(الله أكبر) كلمة إذا قالها المؤمن صادقًا فجرت في قلبه ينابيع الحكمة، ولقي فيها ومنها خيرًا كبيرًا لا يقف منه على حد؛ ولذلك تجد التكبير مقترنًا بالتهليل لما فيهما من عظيم حق الله جل وعلا، فالعبد يثني على الله جل وعلا ويقدسه ويمجده ويذكره، ولكنه مع ذلك كله يقر بأنه لن يؤدي حق لربه جل وعلا، حتى لو أفرده بالعبادة، حتى لو لم يكن في قلبه سوى ربه جل وعلا، فإنه في كل ذلك لن يفي ربه حقه كما تقدم في ثنايا الكلمة.
أسأل الله ﷾ أن يرزقنا تعظيمه، وأن يلقي في قلوبنا محبته، وأن يجعلنا من عباده المتقين، ومن حزبه المفلحين، وأولياءه الصالحين، اللهم اجعلنا لك ذاكرين لك شاكرين إليك راغبين راحلين إليك أواهين منيبين.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك المتقين، اللهم وفقنا للبر والتقوى، اللهم خذ بنواصينا إلى ما تحب وترضى.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والرشاد والغنى.
اللهم إنا نسألك أن تصلح فساد قلوبنا، اللهم أصلح فساد قلوبنا، اللهم أصلح فساد قلوبنا.
اللهم املأ قلوبنا بمحبتك، وارزقنا تعظيمك، واحفظنا -يا رب العالمين- فيما بقي من أعمارنا، اللهم وأختم لنا بخير، وأعنا على الخير، ووفقنا إليه، وحببه إلينا يا رب العالمين! اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
1 / 6
من ثمار التكبير تعظيم شعائر الله
(الله أكبر) -أيها الإخوة- تورث قلب العبد تعظيم شعائر الله ﷾، وهذا من ثمار تعظيم الله جل وعلا، ومن ثمار هذه الكلمة أن يكون العبد معظمًا لشعائر الله، معظمًا لحرمات الله تعالى، قال الله تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج:٣٢]، أي: هذا نتاج التقوى، التي يحيا بها القلب، ويجلى بها الفؤاد، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾ [الحج:٣٠]، فالمؤمن المعظم لله تعالى، المعظم لشعائر الله تعالى، المعظم لحرماته ﷾؛ هو ذلك العبد الذي عرف قدر ربه جل وعلا، فهو قائم بأمر الله تعالى طاعة له فيما أمر، مجتنبًا ما نهى عنه وزجر، متعبدًا لله، خاشعًا له سبحانه وبحمده، هذا هو الذي قدر الله جل وعلا شيئًا من قدره، وإلا فإن العبد مهما بلغ من التقدير والتعظيم لا يبلغ حق ربه في القدر، ولا ولن يبلغ حق ربه جل وعلا في التعظيم، قال بعض أهل العلم: (لو أن العبد سجد لله منذ أن وضعته أمه إلى أن دخل في لحده لم يف لله بحقه) وصدق رسول الله ﷺ حيث قال: (واعلموا أنه لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته)، إذًا: لن يبلغ العبد قدر الله جل وعلا، ولن يبلغ إجلاله حق إجلاله، لكننا نتسابق في أداء ما فرض سبحانه وبحمده علينا، وفي أداء شيء مما أمرنا به، وفي الانتهاء عن شيء مما نهانا عنه.
1 / 7
العباد محتاجون إلى ملء قلوبهم بالتكبير والعظمة لله جل وعلا
إننا -أيها الإخوة- بحاجة إلى أن نملأ قلوبنا بمعنى هذه الكلمة، حتى تثمر ثمرتها، وحتى نجني فائدتها.
(الله أكبر) كلمة تورث في قلب العبد تعظيم الله جل وعلا، وهو الرب العظيم العلي الكبير سبحانه وبحمده الذي له ما في السموات وما في الأرض، إن هذه الكلمة إذا تأملها العبد وهو يقولها في صلاته، وهو يرددها في أذكاره، وهو يسمعها من المؤذن ويردد مع المؤذن؛ وجدها تغرس في قلبه وتصب في فؤاده تعظيم الله جل وعلا، هذه الكلمة هي أعظم وأجل القربات إلى الله سبحانه وبحمده، كيف لا، وليس شيء أعظم من الله ﷾؟! قال الله تعالى: ﴿تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا﴾ [مريم:٩٠]، أي: يتشققن من عظمة الرب جل وعلا، هذه السموات السبع الطباق العظام التي لا يدرك الخلق حقيقتها وكنهها، تكاد تتشقق من عظمة الرب جل وعلا، والله بين لنا عظيم شدتها وقوتها وإحكامها ومع ذلك تكاد تتفطر، أي: تتشقق شقوقًا، وتتحول هذه الاستقامة في هذا البناء إلى شقوق بسبب عظمة الله ﷾، ﴿تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الشورى:٥]، فالله جل وعلا عظيم، أدركت جمادات خلقه عظمته، فكيف بقلوب عباده الذي منَّ عليهم بالعقل والرشد والرأي والرسالة والوحي؟! إنهم أولى وأحرى بإدراك هذه العظمة، وإدراك جلال الله ﷾.
(الله أكبر) كيف تذهل القلوب عن عظمة ربها جل وعلا؟! وقد قال الله تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الأنعام:٩١]، ما قدر الخلق حق قدره، ثم بين لنا شيئًا من عظيم القدرة فقال: ﴿وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الزمر:٦٧]، روى مسلم من حديث ابن عمر ﵁ عن النبي ﷺ قال: (أن الله ﷾ يأخذ السموات بيمينه، ويأخذ الأرض بشماله فيقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟)، هذه عظمة ربنا، هذه السموات وهذا البناء العظيم يكون في قبضته، وقد بين رسول الله ﷺ حقيقة ذلك فاهتز في المنبر تأكيدًا لهذا، فقال وهو يشير بيده إلى عظيم قدرة الله جل وعلا: (إن الله يطوي السموات السبع بيمينه، والأرضين بالأخرى، ويقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟)، هذه عظمة ربنا جل وعلا، وقد جاء حبر من أحبار اليهود إلى النبي ﷺ -كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود ﵁ فقال: (يا محمد! إن الله يضع السماء على إصبع، والأرض على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر والأنهار على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، ثم يقول بيده: أنا الملك) يقول ابن مسعود: (فضحك النبي تصديقًا لقول الحبر)، يعني: أن ما أخبر به هو من الوحي الصحيح الذي لم يحرف في التوراة، ثم قرأ رسول الله ﷺ قول الله تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الزمر:٦٧].
الله أكبر! كيف تذهل قلوب المؤمنين عن تعظيم ربهم جل وعلا؟ الله أكبر! كيف تغفل القلوب عن تعظيم الرب جل وعلا وقد قال منكرًا على الخلق: ﴿مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا﴾ [نوح:١٣]، كيف لا تعظمون الله ﷾ حق عظمته؟! وهذا خطاب من الله لجميع الخلق، أي: مالكم؟ ما دهاكم؟ وما الذي جعلكم لا تخافون مقام الله جل وعلا، ولا ترجون وقاره ﷾، فلا توقرونه ولا تعظمونه؟! مالكم -أيها الناس- تعاملون مالككم وربكم ورازقكم وخالقكم وإلهكم الذي لا إله لكم سواه معاملة من لا يوقرونه ولا يعظمونه؟! قال ابن عباس ﵁ في تفسير هذه الآية: (ما لكم لا تعرفون لله تعالى حق عظمته؟!).
1 / 8
أثر التكبير في الجهاد
حدثنا بعض من اشتغل بمقاتلة الصرب الذين اعتدوا على إخواننا في البوسنة: أنهم كانوا إذا أتوا على المكان الذي فيه الصرب فقالوا: (الله أكبر) يقول: والله! إنه لا يبقى في القرية رجل واحد منهم، مع أن معهم سلاحًا وعتادًا، ولكن هذه الكلمة لها من الأثر ما ليس لغيرها، لكن إذا صدرت من قلب قد امتلئ بما فيها من معنى، فليس الشأن بأن نقول: (الله أكبر)، فكم هي المرات والكرات التي نقول فيها: (الله أكبر) صباحًا مساءً؟ لكنها لا تؤثر في حياتنا، وليس لها في سلوكنا أثر، وليس لها في قلوبنا أثر، فلم تأت بما حصل لأولئك القوم من نصر وظفر وعلو وصلاح حال واستقامة عمل، وما إلى ذلك مما حصله غيرنا.
1 / 9
التكبير يطرد الشيطان
أيها الإخوة! كلمة (الله أكبر) كلمة عظيمة ترتعد لها قلوب أعداء الله ﷿، وعلى رأسهم زعيمهم وكبيرهم إبليس الشيطان، أعاذنا الله منه، فهذه الكلمة لها من الأثر في هؤلاء ما لا يطيقون معه بقاءً، فهي تفرقهم وتزلزلهم وتأتي على مقاتلهم؛ ولذلك جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة ﵁ أن النبي ﷺ قال: (إن الشيطان إذا سمع النداء -أي: سمع نداء المؤذن إلى الصلاة- أدبر وله ضراط) أي: وله صوت يخرج من دبره، يريد بهذا الصوت أن يصم أذنه عن سماع ذكر الله ﷿، فإذا نادى المنادي ولى الشيطان وأدبر وله ضراط حتى لا يسمع صوت المنادي، (فإذا سكت المنادي عن ذكر الله وتكبيره وتهليله رجع فوسوس -أي: عمل في قلوب العباد ما يصرفهم عن الطاعة- فإذا سمع الإقامة ذهب حتى لا يسمع صوته، فإذا سكت رجع فوسوس) وهكذا يوسوس الشيطان في قلب العبد ما غفل عن ذكر الله جل وعلا، وكلما تذكر القلب، وارتفع اللسان بذكر الله جل وعلا، كلما كان ذلك أدعى لهروب الشيطان وفراره.
1 / 10
إطفاء التكبير للحريق
يذكر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص ﵁ أنه قال: قال رسول الله ﷺ: (إذا رأيتم الحريق فكبروا -أي: قولوا: (الله أكبر) - فإن التكبير يبطله) وهذا الحديث جاء عن عبد الله بن عمرو، وعن أنس، وعن جماعة من صحابة النبي ﷺ من طرق متعددة إلا أن طرقه ضعيفة، ولكن يستأنس باجتماع هذه الطرق في الدلالة على الحكم، فالنبي ﷺ أخبر بأن التكبير يطفئ الحريق؛ وذلك لما يوجد من المناسبة بين الشيطان وبين النار، فإن أصل خلق الشياطين من النار؛ ولذلك كان التكبير من أعظم الأسباب التي يحصل بها إطفاء النار، فالنار بطبعها تطلب العلو والفساد، والشيطان بطبعه يطلب العلو والفساد؛ فناسب أن ينخنس الشيطان، وأن تنخمد النار بذكر الله جل وعلا، فالشيطان والنار كل منهما يريد العلو في الأرض والفساد والكبرياء، والله جل وعلا هو الذي له الكبرياء في السموات والأرض؛ ولهذا كان تكبير الله جل وعلا له أثر في إطفاء الحريق، فإن كبرياء الله جل وعلا لا يقوم له شيء، فإذا قال العبد هذا القول ممتلئًا قلبه بتعظيم الله جل وعلا فإن له أثرًا بالغًا في تحقيق مطلوبه، وفي دفع الشر والفساد عنه فيما يتعلق بالشيطان وعمله.
1 / 11
تكبير الله يكون عند كل أمر عظيم
(الله أكبر) -أيها الإخوة- يعلو بها المؤمن على كل عليٍّ من الخلق؛ ولذلك شرع الله ﷿ أن يكبره العبد عند كل أمر عظيم، وعند كل أمر كبير، وعند كل حال، وعند كل لقاء بمن تعظمه وتكبره، ولماذا نكبر إذا علونا في السفر؟ ولماذا نكبر عندما تمتلئ قلوبنا فرحًا؟ نكبر الله لأجل التعظيم، كما جرى من الصحابة ﵃ لما أخبرهم النبي ﷺ بأنهم ربع أهل الجنة فكبروا، ثم أخبرهم بأنهم ثلث أهل الجنة فكبروا، ثم أخبرهم بأنهم نصف أهل الجنة فكبروا، ولماذا يكبر الإنسان في حال فرحه؟ ولماذا يكبر الإنسان عند ما يلقى أمرًا عظيمًا يدهشه؟ ولماذا يكبر الإنسان عندما تطير به الطائرة؟ يكبر الله في هذه الأحوال كلها ليملئ قلبه بكبرياء الله جل وعلا؛ وليستولي كبرياء الله ﷿ على قلبه، فإذا استولى على قلبه كبرياء الله اضمحل في قلبه كبرياء كل كبير، فيكون شرف الله جل وعلا وعلوه على كل شرف وعلى كل علو، أليس الله أكبر من كل كبير؟ الله أكبر من كل شيء جل وعلا، وأعظم من كل شيء سبحانه وبحمده.
1 / 12
حال السلف مع القرآن
من أعظم نعم الله على عباده إنزال القرآن الكريم، ولذلك فرح به السلف واحتفوا به، فنالوا بذلك الخيرية، فإنه على قدر قرب الإنسان من القرآن تكون خيريته، وقد أقبل السلف على القرآن إقبالًا عظيمًا، وتأثروا به تأثرًا بالغًا، دائمًا مثمرًا، فينبغي أن نعرف حالهم مع القرآن لنقتدي بهم.
2 / 1
نعمة إنزال القرآن
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، أحمده سبحانه وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بعثه الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واستمسك بهديه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن نعم الله جل وعلا على هذه الأمة -أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم- نعمًا عظيمة متنوعة متعددة لا حصر لها، ولا يمكن للإنسان أن يحيط بها في مجلس أو مجالس، إلا أن أعظم ما أنعم الله جل وعلا به على هذه الأمة خاصة وعلى الناس عامة الكتاب الحكيم، إنزال هذا القرآن العظيم الذي امتن الله جل وعلا بإنزاله على الناس أجمعين، فإن الله ﷾ أنزل هذا الكتاب خاتمةً للكتب، وجعله حجةً على الخلق، فهو أعظم آيات الأنبياء، وأعظم ما جاءت به الأنبياء؛ لأنه المعجزة العظيمة الباقية التي لا يحد أثرها زمان ولا مكان، بل هي آية ما تعاقب الليل والنهار، حتى إذا حيل بين الناس وبين القبول، وصرفت قلوبهم عن الإقبال على الكتاب، وتعطل الانتفاع به؛ فإن الله جل وعلا يرفعه، وذلك في آخر الزمان، فإن من تعظيم الله لكتابه وحينئذٍ أن يرفعه من المصاحف والصدور.
أيها الإخوة الكرام! بشر الله جل وعلا الناس عامة بإنزال هذا الكتاب الحكيم، فقال جل وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس:٥٧]، ثم قال ﷾ بعد هذه البشارة والبيان لما جاء به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس:٥٨] هذه البشارة -أيها المؤمنون- تلقاها رسول الله ﷺ بالفرح، فكان فرحًا بكتاب الله جل وعلا، فرحًا بنعمه ﷾، وما خصه الله به من هذا الفضل العظيم، وفرحت به الأمة من صحابة رسول الله ﷺ، فكان هذا الكتاب من أعظم النعم عليهم، وكان انقطاع الوحي بموت النبي ﷺ من أعظم ما أصيبوا به؛ لما في ذلك من انقطاع المدد من السماء، وانقطاع هذا الخير.
هذا الكتاب فرح به التابعون ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ لما فيه من الأوصاف العظيمة التي تكفل للناس سعادة الدارين، سعادة الدنيا وفوز الآخرة، فإن هذا الكتاب لا يقتصر نفعه على دار القرار -الدار الآخرة- بل يجني المؤمن ثماره في الدنيا قبل الآخرة، فهو الكتاب الذي تصلح به أمور الناس، وتستقيم به أحوالهم في الدنيا وفي الآخرة؛ ولذلك بشر الله به الناس عامة، فهو رحمة وهدى وشفاء، قال الله جل وعلا: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الإسراء:٨٢] وإنما خص المؤمنين بهذا؛ لكونهم المنتفعين من هذا القرآن، وإلا فإن القرآن رحمة لكل أحد، ففيه الهدى والنور، وفيه ترتيب شئون حياة الناس، وإصلاح دنياهم وآخرتهم؛ ولذلك فإن هذا الكتاب بهر عقول كثير من الناس حتى الذين لم يؤمنوا به، فإن ما فيه من البيان، وما فيه من الاعجاز، وما فيه من الأسرار التي لا يحيط بها عقل، ولا يدركها بيان، ولا يحيط بوصفها لسان؛ أمر يفوق الوصف، أمر يتجاوز التصور؛ وذلك لأنه كلام رب العالمين، والله جل وعلا قد قال في محكم التنزيل: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى:١١]، فليس كمثل ربنا شيء: لا في صفاته، ولا في ذاته، ولا في أفعاله، ولا فيما يجب له ﷾.
ومن جملة ما وصف الله به نفسه الكلام، فكلام الرب جل وعلا ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى:١١]، كما أن صفاته ﷾ ليس كمثلها شيء، وكما أن سائر ما يتعلق به جل وعلا ليس له نظير.
2 / 2
فرح السلف بالقرآن
أيها الإخوة الكرام! هذا الكتاب -كما ذكرت لكم- فرح به السلف فرحًا عظيمًا، وأقبلوا عليه، ولم يشبعوا من تلاوته، ولا من قراءته، ففي أحوالهم وأمورهم وما نقل عنهم مما ذكرته كتب السير من أعمالهم ما يتبين به عظيم فرحهم بهذا الكتاب، وعظيم إقبالهم عليه، وعظيم ما كانوا عليه من تعظيم لهذا الكتاب العظيم.
2 / 3
من هم السلف الصالح؟
إن السلف الصالح هم الصحابة بالدرجة الأولى، فهم الذين شهدوا التنزيل، وأخذوا عن النبي ﷺ بلا واسطة، وهم الذين اصطفاهم الله جل وعلا وخصهم بأن جعلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، هؤلاء هم السلف في الدرجة الأولى، ويليهم في الفضل من أثبت لهم الفضل رسول الله ﷺ حيث قال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، فالتابعون وتابعوهم يدخلون في مسمى السلف؛ لأنهم مِن من أثبت لهم النبي ﷺ الخيرية على سائر قرون الأمة.
2 / 4
الخيرية في هذه الأمة عامة
أيها الإخوة الكرام! إن الخيرية في هذه الأمة لا يحصرها مكان ولا زمان، بل هي باقية، فالله جل وعلا قد أثبت الخيرية لمن اتبع المهاجرين والأنصار بإحسان، فقال الله جل وعلا: ﴿وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ﴾ [التوبة:١٠٠]، فاتباع سلف الأمة بإحسان ينظمك في سلكهم، ويضمك إلى حزبهم، ولو لم تكن معهم في زمانهم، ولو افترقت عنهم في مكانهم، فإنك تشاركهم في الفضائل إذا وافقتهم في الأعمال.
2 / 5
تعظيم الله لكتابه
أيها الإخوة الكرام! إن الله جل وعلا بين شأن القرآن ووصفه بنفسه، وكفى ببيان الله بيانًا، وكفى بوصفه وصفًا، فهو الحكيم الخبير العليم الذي لا تخفى عليه خافية، ولا يبلغ الخلق -مهما أوتوا ومهما اجتمعوا- في وصف الكتاب ما وصف الله جل وعلا كتابه، قال الله جل وعلا في وصف كتابه: ﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾ [ق:١] فوصفه الله ﷾ بالمجد، والمجد في لغة العرب: السعة في أوصاف الكمال، فكل ما اتسع في أوصاف الكمال أثبت له هذا الوصف، وأطلق عليه هذا اللفظ، فالمجيد هو: الذي كمل في صفاته، واتسع في صفات الكمال والشرف، حتى بلغ منتهاها وبلغ غايتها، كيف لا وهو الروح؟ كيف لا وهو النور؟ كيف لا وهو الهدى؟ كيف لا وهو شفاء لما في الصدور؟ قال الله جل وعلا: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ﴾ [الإسراء:٨٢]، وقوله ﷾: (من القرآن) (من) هنا ليست للتبعيض، بل هي لبيان الجنس، أي: إن كل القرآن شفاء لما في الصدور، ويشفي -أيضًا- من الأمراض الحسية، ويشفي -في الأصل والأساس وفي الدرجة الأولى- من أمراض القلوب، من أمراض الشبهات من أمراض الشهوات.
2 / 6
تعامل الصحابة مع القرآن
أيها الإخوة! إن سلف الأمة أقبلوا على هذا القرآن، وإن وقفةً مع بعض أحوالهم تبين لنا ما كانوا عليه ﵏ من حسن التعامل مع هذا القرآن، وليس عجبًا؛ فإن السلف الذين نتندر بما كانوا عليه من الفضائل، ونتعجب مما كانوا عليه من السبق، كانوا ﵃ بهذه المنزلة، وبلغوا هذه المرتبة بما ارتسموه من كلام الله جل وعلا وتوجيه رسوله ﷺ.
فهذه الأمة التي هي: ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران:١١٠] إنما خرجت من بين دفتي المصحف الكريم، من بين هذا القرآن الحكيم، خرجت على ضوء توجيهات هذه الآيات المبينات، وهذا القرآن العظيم، قال الله جل وعلا في وصف هذه الأمة -وأول من يدخل فيها الصحابة ﵃: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران:١١٠]، وإنما كانت هذه الأمة على هذه الصفة وعلى هذا النحو بتمسكها بالقرآن الكريم، ولا عجب بعد هذا أن تنقل السير والسنن والكتب والدواوين عن أصحاب رسول الله ﷺ وعن التابعين وتابعيهم العجائب في التعامل مع القرآن الحكيم.
2 / 7
النموذج الأول في تعامل الصحابة مع القرآن
إن وقفة مع بعض ما حفظته السنة من تعامل الصحابة وتلقيهم الحي للقرآن العظيم يعجب منه الإنسان، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة ﵁ قال: (نزل على رسول الله ﷺ قول الله جل وعلا: ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة:٢٨٤]) هذه الآية يحفظها كثير منا، ويقرؤها كثير منا، لكنها لا تستوقف أكثرنا؛ وذلك لأننا نقرأ القرآن لا على وجه التلقي لما فيه من المعالم، وإنما نقرأ القرآن طلبًا للأجر بقراءة لفظه دون نظر إلى ما تضمنه من المعنى، صحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما أنزل الله جل وعلا على رسوله ﷺ هذه الآية التي فيها إثبات الملك لله ﷿، إثبات ما في السموات وما في الأرض له ﷾، وأنه جل وعلا يحاسب الناس على ما دار في صدورهم ونفوسهم، ولو لم يتكلموا به ولو لم يعملوا، فصحابة رسول الله ﷺ لما سمعوا هذا اشتد عليهم الأمر، فأتوا إلى رسول الله ﷺ -كما في الصحيحين- ثم بركوا على الركب -أي: جلسوا على الركب من شدة ما جاءهم في هذه الآية- فقالوا: يا رسول الله! كلفنا من العمل ما نطيق: الصلاة الصيام الجهاد الصدقة -أي: كل هذا نطيقه- وقد نزلت علينا آية لا نطيقها، فقال رسول الله ﷺ -مؤدبًا ومعلمًا لهم كيف يتلقون القرآن، وكيف يتلقون كلام رب العالمين: (أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟! قولوا: سمعنا وأطعنا)، فما كان منهم ﵃ إلا أن انقادوا إلى توجيه النبي ﷺ: ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة:٢٨٥]، فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم، وتكلموا بها وقرءوها، وقبلوها قبولًا تامًا؛ جاء التخفيف من رب العالمين، وجاء الفرج من الله جل وعلا الذي قال: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾ [النساء:١٤٧] «مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ» أي: بإلحاق المشقة بكم: «إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ»، جاء الفرج من الله جل وعلا لهذه الأمة، ونزل في كتاب الله جل وعلا تزكيتها، وبيان فضل صحابة رسول الله ﷺ؛ فقال الله جل وعلا: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة:٢٨٥ - ٢٨٦] فجاء التخفيف من رب العالمين بعد إثبات إيمانهم وقبولهم لما جاء عن الله وعن رسوله ﷺ.
أيها الإخوة! الشاهد من هذه القصة ومن هذا الحديث أن الصحابة ﵃ لم يكونوا يتقبلون القرآن ويتلقونه على أنه شيء يتلى، وتستنبط منه الأحكام، ويعرف ما فيه من المعاني فقط، بل قرءوه ﵃ على أنهم هم المخاطبون، وهم المعنيون بما فيه من المعاني؛ ولذلك شق عليهم، فراجعوا رسول الله ﷺ في الذي شق عليهم من هذا القرآن، وهذه القصة ليست الفريدة، وليست الوحيدة التي حفظتها كتب السنة من أفعال الصحابة ﵃ عندما أنزل الله جل وعلا ما وجدوا فيه مشقة وعسرًا وصعوبة.
2 / 8