لا ريب أن القرن السادس قبل المسيح كان عصرا خصبا من عصور الفلسفة البشرية؛ ففي الصين كونفوشيوس، وفي الهند بوذا، وفي اليونان كان طاليس لا يزال حيا، وفيثاغور في أوج شهرته، وسولون في إبان شبابه، وسقراط على عتبة الدنيا يتمخض به الغد القريب، وقد مر بنا أن الصين كانت لذلك العهد في الذروة من حضارتها، وكان كونفوشيوس قد بلغ الخامسة والخمسين من عمره، بعد أن أكب منذ الصغر على درس كتب الأجداد، واستخلص منها تلك المبادئ العملية النافعة للحياة، وطبق عليها عاداته، فأصبح السيد المطاع، يشغل أسمى مناصب الدولة، ويتولى إدارة الأشغال العامة والقضاء، فكان في آن واحد المؤرخ والمشترع والوزير الأول.
وقد سبق القول: إن الصين كانت منقسمة إلى دويلات، فكان من نجاح دولة «لو» وازدهارها ما حرك الحسد في قلوب الجيران؛ فحاول ملك «تسي» إفساد ملكها بالهدايا، فأرسل إليه ثمانين فتاة من أجمل حظاياه، وجوقا من المغنين، وجيشا من الطهاة البارعين، ومائة وعشرين جوادا أصيلا، فاستسلم هذا الأخير إلى اللهو والملذات غير عابئ بنصائح وزيره، ضاربا بتعاليمه عرض الحائط، فلم يبق لكونفوشيوس سوى الاعتزال، فانسحب من مملكته مودعا آماله فيها وابتعد عنها وهو يتألم.
وبما أنه لم يكن يفكر بغير سعادة الشعب، فقد كان الفقر أسرع شيء إليه. ورأى الناس حينئذ، ويا له من مشهد محزن، هذا الرجل الحكيم شريدا طريدا، لا مأوى له ولا قوت ولا راحة، معرضا لإهانة الكبراء، واحتقار الشعب الذي قلما يحفظ الجميل، ورفع يوما أحد الأمراء سيفه عليه فلم يطأطئ رأسه بل قال: إذا كانت السماء ترعاني فما يهمني بغض الرجل القوي، فكأنه قضي على كل من يتطوع لخدمة هذه الإنسانية أن يتجرع كأس الآلام حتى الثمالة، كأنما هو يكفر بهذا العذاب عما أوتيه من المواهب السامية لأداء رسالته الإلهية على الأرض.
ومات كونفوشيوس في الثانية والسبعين، فكانت حياته ثلاثة أدوار؛ الدور الأول: درس واستعداد، والثاني: حكم وإرشاد، والثالث: عزلة واستشهاد، على أن الموت كان أعظم منصف له. وكما يقع للرجال العظام الذين تنكر أقدارهم وهم في الحياة فقد عاد نجمه إلى الإشراق بعد أفوله ، فأقيمت له الهياكل، وشيدت باسمه المدارس، فكان الأمير أو الحاكم إذا مر من أمام عتبتها يترجل احتراما، وصار الانتماء إليه أكبر شرف يحمله الحكماء والقضاة، وأرباب القلم والصولجان، وأصبحت أعظم مكافأة يحلم بها المتفوقون هي أن يلقبوا بتلاميذ كونفوشيوس، وعادت الكرامة لذويه، وأصبح الشرف إرثا في ذريته، وكتب الإمبراطور «بون» براءة يقول فيها: «إني أحترم كونفوشيوس، فالملوك هم سادة الشعب، وهو سيد الملوك.»
والحق أنه إذا كانت قيمة الإنسان وقوة تعاليمه على قدر ما يترك من التأثير في الناس، فقد جاز لنا أن نقول مع الصينيين: إن كونفوشيوس أعظم مهذب للجنس البشري أنتجته العصور. أما تعاليمه ففي الغاية من البساطة، وهي عملية مبنية على طبيعة الإنسان، تتناول كل حالات الحياة والصلات الاجتماعية، وتتلخص باستقامة القلب وحب الإنسان قريبه كنفسه. ليس فيها تحليق في الفكر ولا شيء من البطولة ولكن كثير من الحكمة؛ فهي أدب أكثر مما هي فلسفة، أدب يدرب العواطف، جاعلا من البر بالوالدين أساس الطاعة التي تمتد سلطتها إلى أبعد من العائلة، إلى الإمبراطور والحكومة والأمة.
والغاية القصوى التي تهدف إليها تعاليمه هي الكمال، الكمال الفردي أولا، وكمال المجتمع بعد ذلك؛ فيبدأ الإنسان بإصلاح ذاته وتحسين نفسه ثم ينتهي إلى إصلاح الآخرين وتحسينهم. ولا يستطيع الإنسان إصلاح غيره قبل إصلاح نفسه، وكلما تقدم المرء في الوجاهة وعلو الكلمة في قومه كانت واجباته أوسع وأعظم في السعي نحو هذا الكمال. وقد علمه درس التاريخ والقلب البشري أن السلطة تفسد على الإنسان نفسه، فينتفخ كبرا، ويزيد صلفا وعنادا، فكان لا يفتأ يذكر الحكام بواجباتهم، ملقيا عليهم كل تبعة، خيرا كانت أم شرا، غنى أم فقرا.
هذه الصبغة المادية لتعاليمه هي التي جعلتها طويلة العمر؛ لأنها بسيطة خالية من التعقيد، قريبة التناول من الأذهان. لقد فهم كونفوشيوس روح معاصريه حق الفهم؛ فكان ماديا في شعب لا يعرف غير فوائد المادة، شيوعيا بين قوم قوتهم قائمة على الاشتراك، مستبدا في مملكة تتمتع بأحسن نظام للشرطة. وسأجتزئ هنا بإيراد بعض الأمثلة من حكمه ؛ فهي تعطينا صورة جلية عن جمال تعاليمه، قال: ثلاثة على الحكيم احترامها: شرائع الطبيعة، وعظماء الرجال، وأهل الصلاح، وقال: أوصي الشعب باحترام الشرائع قبل درس العلوم، وقال: خمس قواعد لحكم العالم: العدالة التي تربط الحاكم بالمحكوم، والحب الذي يربط الآباء بالبنين، والعلاقة بين الزوجين، وخضوع الصغير للكبير، والصدق في الصداقة. كونوا أيها الحكام مثال الاستقامة والعدل؛ فلا يتجرأ أحد على العصيان أو التذمر. أيها الحاكم، إن أردت أن تدير ملكك فجرب ذلك أولا في داخل بيتك؛ فالعائلة هي المملكة الصغيرة.
وقال أيضا: الفقير الذي لا يتزلف إلى الناس، والغني الذي لا يصعر خديه خيلاء يستحقان الثناء، ولكني أفضل عليهما الفقير الذي يرى نفسه سعيدا في فقره، والغني الذي يعرف أن عليه واجبات نحو غيره. الشجاعة النادرة أن لا يخجل الإنسان من لباسه الزري، وأطماره البالية أمام صديق يلبس الخز والديباج. التقوى الحقيقية أن تحب الناس جميعا، والحكمة أن تفهمهم. تعلم أن تعيش مكرما لتموت مكرما. يمكن التغلب على قائد يحميه جيش كامل، ولا يمكن سلخ الحرية عن أضعف الناس، وقال أيضا: أربعة شروط للرجل الكامل وأراني مقصرا فيها:
أولا:
لا أستطيع أن أطيع أبي كما يطيعني أولادي.
صفحة غير معروفة