وكان يحب نابليون الإمبراطور ويعجب به، ويعشق النبوغ أينما وجد. وهذا الإعجاب الذي كان يملأ نفسه وتعشق كل ما هو جميل وعظيم دفعاه إلى دراسة الصين والفرس، فأحب حافظ الشيرازي، وحاول درس العربية للاطلاع على أحوال فلسطين والأرض المقدسة.
هكذا كانت حياة غوته في شبابه تلم بكل مناحي الحياة والفكر من سياسة وأدب وفلسفة وصبابة، وقد تعددت تآليفه فيها، غير أن غوته الحقيقي لم يظهر إلا في الشيخوخة. والواقع أن الشيخوخة فن، وقليل من اهتدى سبيله. خذ هيكو مثلا؛ فإنه لم يكن في شيخوخته أعظم منه في كهولته. أما غوته فقد كانت الشيخوخة له مجالا جديدا لحياة جديدة. لا أقول إنه في هذه المرحلة من العمر طلق الشهوات، فقد أحب في العشرين السنة الأخيرة ثلاث مرات حبا شديدا، ولكنه كان يعرف أن يجمع بين لهب الحب ورماد التضحية. وآخر من أحب فتاة في الثامنة عشرة كان من قبل قد أحب أمها وجدتها، فكان حبه سلسلة اتصلت حلقاتها بثلاثة أجيال.
وكانت داره في فيمار ملتقى العظماء يفدون عليه من كل صوب، وينحنون أمام عظمته، ويستمعون إلى أحاديثه، وهو في جو فلسفة عالمية واسعة الأطراف يتصل بها كل ما يجري في العالم، فلا يغيب عنه شيء مما يخص الدين والسياسة والعلم والكيمياء والإنسانية. وقد حافظ في هذا الدور من العمر على رباطة جأشه، وسكينة فكره، وإشراق نفسه، على الرغم من الأحزان والهموم، وتداعي الأشخاص والأشياء من حوله.
ومن أحاديثه في هذه الاجتماعات المتعددة المباحث كلام عن الشعر، أحب أن أنقله لشعراء هذا العصر الذين ينكرون شعر المناسبات، قال:
العالم واسع غني، والحياة كثيرة المظاهر؛ فلا تحرم الإنسان من موضوع شعري، ولكن يجب أن يكون الشعر شعر مناسبات؛ أي أن يكون الواقع هو الدافع إليه. كل موضوع خاص يصير عاما، ويرتدي طابعا شعريا متى استلمه شاعر. كل أشعاري هي أشعار مناسبات؛ لأنها وليدة الحياة الواقعية، وإليها تستند. أما الشعر الهوائي فلا أحبه، والشاعر من عرف أن يستخرج من الحوادث العادية شيئا يكون من ورائه لذة وفائدة.
وأشهر كتب غوته هو «فوست»، وقد سلخ في تحبيره ستين عاما، ولم ينشر القسم الثاني منه إلا بعد موته. إن عمل غوته وحيد في نوعه؛ فلم يذكر التاريخ غير غوته رجلا أقدم على درس مأساة البشرية في مجموعها، وعلى تمثيلها في آن واحد على مختلف المسارح، للحياة الإنسانية ولحياة ما وراء الطبيعة. ولم يبلغ مؤلفو اليونان ولا دانتي ولا شكسبير ما بلغه غوته؛ فعند اليونان أبطال يتصارع بعضهم مع بعض، أو مع الآلهة، وعند دانتي تتغلب لاهوتية الشاعر وحقد المتألم، كما تتغلب في شكسبير العاطفة وما تخلقه الغرائز والأميال والأحلام من العلائق بين الأشخاص.
ولكن عند غوته تتكتل كل هذه العناصر في فوست، فصراع الآلهة والشرائع، وتدخل دائم للأهواء والحب، وأصوات من العالم القديم والحديث والقرون الوسطى. ويضع غوته الرجل وجها لوجه أمام هذه الطبائع المختلفة الألوان، والرموز الحية التي تحيط بنا وتسير خطانا، وتؤثر فينا أبعد تأثير، وعلينا أن نقبلها أو ندفعها حسب الأحوال وما نتفهمه من مصيرنا ومن الأقدار.
هذه كلمة مقتضبة عن فوست وصورة مصغرة لمؤلفه الذي ترك في عالم الأدب والفكر الأوروبي أثرا عميقا، وكان له في العلوم الطبيعية والفلسفية شأن بعيد. وقد حارب في شعره في سبيل الجمال والشرف اللذين لا يختصان ببلد أو بأمة؛ فكان كالنسر المحلق يجوب البلدان، ولا يهمه أن يعرف أن الأرنب الذي ينقض عليه هو ألماني أو سكسوني. وكان يقول: أي شيء أعظم من وطنية الشاعر الذي يقضي حياته في محاربة الأوهام والتقاليد الفاسدة، وتنوير الأذهان، وتطهير الذوق، ورفع مستوى الشعب شعورا وتفكيرا ... •••
بلغ غوته من العمر عتيا، ولم يواله الزمان في أيامه الأخيرة، فاتسعت الوحشة من حوله بعد من سلبه إياه الموت من الأحباب والمعارف، ولكنه بقي مع ذلك صبيح الوجه، حاضر النكتة، متوقد الذهن إلى أن دقت ساعته، فأغمض عينيه عن هذا الوجود، بعد أن أطل على عالم الخلود.
رنان
صفحة غير معروفة