فتح غوته عينيه على النور وهو هزيل البدن ضعيف البنية، كما ولد فولتير من قبله، وكما ولد هيكو من بعد، وقد خيف عليه يومئذ أن لا يكون من أبناء الحياة، كما خيف على فولتير وهيكو كذلك، ولكنه تغلب على ضعفه وهزاله، وكفولتير وهيكو جاوز من العمر الثمانين.
جاء إلى العالم حاملا ثقل وراثتين، فأخذ عن أبيه الحزم والعزم، وعن أمه المرح والروح الشعرية، فتعلم الموسيقى والرسم والتاريخ الطبيعي وسبعا من اللغات.
وحمل القلم وهو في العاشرة، وكان واسع الخيال، بعيد مطارح الفكر ومرامي التصور. وأول كتبه «آلام فرتر» انتهى منه في الخامسة والعشرين، فكان أول بشائر النجاح في الأدب.
وقد وجد الحب مرتعا خصبا في فؤاده، فتعددت شموسه المشرقة، حتى إنه أحب شقيقته كالشاعر الإنكليزي بيرون، ولكن بيرون كان أبعد مدى وأكثر تطرفا.
وهذه الشموس المشرقة في سمائه كانت ترسل أشعة الوحي حول قلمه، فجاءت صورة مرغريت في «فوست» للمرة الأولى، كما كانت الفتاة «كروتشن» أولى معشوقاته، ثم تبدلت عندما أحب «فردريك» التي كان يجتمع إليها في الكنيسة؛ ولهذا تتعدد مشاهد الكنيسة في فوست. وكل ما عرفه من أخلاق فردريك ونبلها تجسم في سطور كتابه. ولا ريب أن هذا التقلب في تأثيراته كان يزيد في خبرته، وكلما طلعت الحياة عليه بتعليم جديد أضافه إلى تعاليمه السابقة. وما أكثر هذه التعاليم والتأثيرات بعدما تعرف إلى شارلوت وليلي ومدام شتاين وبيتا برانتو ومينا هرزليب وغيرهن!
وكان غيورا في حبه متكبرا، يحب ويترك فجأة من أحب، كأن فيه شيطانا يأبى عليه أن يستقر على حال.
وكان من إقبال الناس على كتابه «آلام فرتر» أن تعرف إلى دوق فيار، واستحكمت عرى الصداقة بينهما، فنزل إلى ميدان السياسة واستلم دفة الحكم وأنشأ ملعبا للتمثيل.
وقد أصابه في شبابه داء مستعص توصل الدكتور متز إلى شفائه منه بملح عجيب لم يبح بسره، فحبب ذلك إلى غوته درس الكيمياء وما وراء الطبيعة، وأصبح مخدعه بما حوى من الأدوات والأنابيب والأنابيق والدخان المتكاثف في جوه يذكر الداخل إليه بعهد كاليوستر الساحر ومسمر المنوم المغناطيسي.
وكان يتألم من الدوار والضجيج، ويكره منظر اللحوم المعلقة عند الجزارين؛ فسعى إلى معالجة نفسه بنفسه، فحارب الضجيج بمرافقة الجيش في غدواته، والمشي إلى جانب الطبل ليألف صوته، وحارب الدوار بالصعود إلى قمة جرس الكنيسة، يطل منها على الفضاء الواسع، ويجيل نظره في الأفق المترامي ، متغلبا على ما كان يشعر به من الزعج والقلق، وحارب نفوره الفطري من منظر اللحوم بتعلمه التشريح واشتراكه فيه.
وأحس ذات يوم أنه تعب من الناس، ومل حياة المجتمع والسياسة والمسرح، وفي رأسه مخدرات معان آن أن يطلع النهار عليها، فسافر إلى إيطاليا، وكان سفره أشبه بالهرب؛ فلم يعلم به صديقه الدوق ولا عشيقته مدام شتاين. وفي إيطاليا انفتحت أمامه آفاق جديدة للفكر والعمل، حتى إذا عاد منها عاد بهمة جديدة، وانصرف إلى البحث والتنقيب في الفيزياء والنبات والتشريح، ودفع إلى المطبعة كتبا مسرحية. وتعرف في أثناء ذلك إلى خرستين، وهي أصغر من مدام شتاين بعشرين سنة، فتعلق بها تعلقا غريبا أفضى به أخيرا إلى الزواج، وأتاحت له الأيام صديقا جديدا هو الشاعر شلر، مؤلف «اللصوص» و«الخداع والحب»، فكان لهذا التعارف أثر عميق في كتاباته.
صفحة غير معروفة